الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَسورة الأنفال الآية رقم 1
الأنفال, هي: الغنائم, التي ينفلها اللّه لهذه الأمة, من أموال الكفار.
وكانت هذه الآيات في هذه السورة, قد نزلت في قصة " بدر " أول غنيمة كبيرة غنمها المسلون من المشركين.
فحصل بين بعض المسلمين فيها نزاع.
فسألوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عنها, فأنزل اللّه " يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ " كيف تقسم وعلى من تقسم؟ " قُلْ " لهم " الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ " يضعانها حيث شاءا, فلا اعتراض لكم على حكم اللّه ورسوله.
بل عليكم إذا حكم اللّه ورسوله, أن ترضوا بحكمهما, وتسلموا الأمر لهما.
وذلك داخل في قوله " فَاتَّقُوا اللَّهَ " بامتثال أوامره, واجتناب نواهيه.
" وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ " أي: أصلحوا ما بينكم من التشاحن, والتقاطع, والتدابر, بالتوادد, والتحاب, والتواصل.
فبذلك تجتمع كلمتكم, ويزول ما يحصل - بسبب التقاطع - من التخاصم, والتشاجر والتنازع.
ويدخل في إصلاح ذات البين, تحسين الخلق لهم, والعفو عن المسيئين منهم فإنه - بذلك - يزول كثير مما يكون في القلوب من البغضاء, والتدابر.
والأمر الجامع لذلك كله قوله " وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ " .
فإن الإيمان يدعو إلى طاعة اللّه ورسوله.
كما أن من لم يطع اللّه ورسوله, فليس بمؤمن.
ومن نقصت طاعته للّه ورسوله, فذلك لنقص إيمانه.
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَسورة الأنفال الآية رقم 2
ولما كان الإيمان قسمين, إيمانا كاملا يترتب عليه المدح والثناء, والفوز التام, وإيمانا, دون ذلك - ذكر الإيمان الكامل فقال: " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ " الألف واللام للاستغراق لشرائع الإيمان.
" الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ " أي: خافت ورهبت, فأوجبت لهم, خشية اللّه تعالى, الانكفاف عن المحارم, فإن خوف اللّه تعالى, أكبر علاماته أن يحجز صاحبه عن الذنوب.
" وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا " .
ووجه ذلك, أنهم يلقون له السمع, ويحضرون قلوبهم لتدبره فعند ذلك, يزيد إيمانهم.
لأن التدبر من أعمال القلوب, ولأنه لا بد أن يبين لهم معنى, كانوا يجهلونه, ويتذكرون ما كانوا نسوه.
أو يحدث في قلوبهم رغبة في الخير, واشتياقا إلى كرامة ربهم.
أو وجلا من العقوبات, وازدجارا عن المعاصي, وكل هذا مما يزداد به الإيمان.
" وَعَلَى رَبِّهِمْ " وحده, لا شريك له " يَتَوَكَّلُونَ " أي: يعتمدون في قلوبهم على ربهم, في جلب مصالحهم, ودفع مضارهم الدينية, والدنيوية, ويثقون بأن اللّه تعالى, سيفعل ذلك.
والتوكل, هو, الحامل للأعمال كلها, فلا توجد ولا تكمل, إلا به.
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَسورة الأنفال الآية رقم 3
" الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ " من فرائض, ونوافل, بأعمالها الظاهرة والباطنة, كحضور القلب فيها, الذي هو روح الصلاة ولبها.
" وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ " النفقات الواجبة, كالزكوات, والكفارات, والنفقة على الزوجات والأقارب, وما ملكت أيمانهم.
والمستحبة كالصدقة في جميع طرق الخير.
أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌسورة الأنفال الآية رقم 4
" أُولَئِكَ " الذين اتصفوا بتلك الصفات " هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا " لأنهم جمعوا بين الإسلام والإيمان, بين الأعمال الباطنة, والأعمال الظاهرة, بين العلم والعمل, بين أداء حقوق اللّه, وحقوق عباده.
وقدم تعالى أعمال القلوب, لأنها أصل لأعمال الجوارح, وأفضل منها.
وفيها دليل على أن الإيمان, يزيد وينقص, فيزيد بفعل الطاعة, وينقص بضدها.
وأنه ينبغي للعبد, أن يتعاهد إيمانه وينميه.
وأن أولى ما يحصل به ذلك, تدبر كتاب اللّه تعالى, والتأمل لمعانيه.
ثم ذكر ثواب المؤمنين حقا فقال: " لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ " أي: عالية بحسب علو أعمالهم.
" وَمَغْفِرَةٌ " لذنوبهم " وَرِزْقٌ كَرِيمٌ " وهو ما أعد اللّه لهم في دار كرامته, مما لا عين رأت: ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر.
ودل هذا, على أن من يصل إلى درجتهم في الإيمان - وإن دخل الجنة - فلن ينال ما نالوا, من كرامة اللّه التامة.
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَسورة الأنفال الآية رقم 5
قدم تعالى - أمام هذه الغزوة الكبرى المباركة - الصفات التي على المؤمنين أن يقوموا بها, لأن من قام بها, استقامت أحواله, وصلحت أعماله, التي من أكبرها, الجهاد في سبيله.
فكما أن إيمانهم, هو الإيمان الحقيقي, وجزاءهم هو الحق الذي وعدهم اللّه به.
كذلك أخرج اللّه رسوله صلى الله عليه وسلم, من بيته إلى لقاء المشركين في " بدر " بالحق الذي يحبه اللّه تعالى, وقد قدره وقضاه.
وإن كان المؤمنون لم يخطر ببالهم في ذلك الخروج, أنه يكون بينهم وبين عدوهم قتال.
فحين تبين لهم أن ذلك واقع, جعل فريق من المؤمنين, يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم, في ذلك, ويكرهون لقاء عدوهم, كأنما يساقون إلى الموت, وهم ينظرون.
والحال أن هذا, لا ينبغي منهم, خصوصا بعد ما تبين لهم أن خروجهم بالحق, ومما أمر اللّه به, ورضيه.
فهذه الحال, ليس للجدال فيها محل, لأن الجدال, محله وفائدته, عند اشتباه الحق, والتباس الأمر.
فأما إذا وضح وبان, فليس إلا الانقياد والإذعان.
هذا, وكثير من المؤمنين, لم يجر منهم من هذه المجادلة شيء, ولا كرهوا لقاء عدوهم.
وكذلك الذين عاتبهم اللّه, انقادوا للجهاد أشد الانقياد, وثبتهم اللّه, وقيض لهم من الأسباب, ما تطمئن به قلوبهم كما سيأتي ذكر بعضها.
وكان أصل خروجهم ليتعرضوا لعير, خرجت مع أبي سفيان بن حرب لقريش إلى الشام, قافلة كبيرة.
فلما سمعوا برجوعها من الشام, ندب النبي صلى الله عليه وسلم, الناس.
فخرج معه, ثلثمائة, وبضعة عشر رجلا, معهم سبعون بعيرا, يعتقبون عليها, ويحملون عليها متاعهم.
فسمع بخبرهم قريش, فخرجوا لمنع عيرهم, في عدد كثير وعُدَدٍ وافرة, من السلاح, والخيل, والرجال, يبلغ عددهم قريبا من الألف.
يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَسورة الأنفال الآية رقم 6
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَسورة الأنفال الآية رقم 7
فوعد اللّه المؤمنين, إحدى الطائفتين, إما أن يظفروا بالعير, أو بالنفير.
فأحبوا العير لقلة ذات يد المسلمين, ولأنها غير ذات الشوكة.
ولكن اللّه تعالى, أحب لهم, وأراد أمرا, أعلى مما أحبوا.
أراد أن يظفروا بالنفير, الذي خرج فيه كبراء المشركين وصناديدهم.
" وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ " فينصر أهله " وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ " .
أي يستأصل أهل الباطل, ويُرِيَ عباده من نصرة للحق أمرا لم يكن يخطر ببالهم.
لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَسورة الأنفال الآية رقم 8
" لِيُحِقَّ الْحَقَّ " بما يظهر من الشواهد والبراهين على صحته وصدقه.
" وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ " بما يقيم من الأدلة والشواهد على بطلانه " وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ " فلا يبالي اللّه بهم.
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَسورة الأنفال الآية رقم 9
أي: اذكروا نعمة اللّه عليكم, لما قارب التقاؤكم بعدوكم, استغثتم بربكم, وطلبتم منه أن يعينكم وينصركم " فَاسْتَجَابَ لَكُمْ " وأغاثكم بعدة أمور.
منها أن اللّه أمدكم " بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ " أي: يردف بعضهم بعضا.
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌسورة الأنفال الآية رقم 10
" وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ " أي إنزال الملائكة " إِلَّا بُشْرَى " أي: لتستبشر بذلك نفوسكم.
" وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ " وإلا فالنصر بيد اللّه, ليس بكثرة عدد, ولا عُدَدٍ.
" إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ " لا يغالبه مغالب, بل هو القهار, الذي يخذل من بلغوا من الكثرة, ومن العدد والآلات, ما بلغوا.
" حَكِيمٌ " حيث قدر الأمور بأسبابها, ووضع الأشياء مواضعها.
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَسورة الأنفال الآية رقم 11
ومن نصره واستجابته لدعائكم, أن أنزل عليكم نعاسا " يُغَشِّيكُمُ " أي: فيذهب ما في قلوبكم من الخوف والوجل, ويكون " أَمَنَةً " لكم, وعلامة على النصر والطمأنينة.
ومن ذلك أنه أنزل عليكم من السماء مطرا, ليطهركم به من الحدث والخبث, وليطهركم من وساوس الشيطان, ورجزه.
" وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ " أي: يثبتها فإن ثبات القلب, أصل ثبات البدن.
" وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ " فإن الأرض كانت سهلة دهسة فلما نزل عليها المطر, تلبدت, وثبتت به الأقدام.
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍسورة الأنفال الآية رقم 12
ومن ذلك أن اللّه أوحى إلى الملائكة " أَنِّي مَعَكُمْ " بالعون والنصر والتأييد.
" فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا " أي: ألقوا في قلوبهم, وألهموم الجراءة على عدوهم, ورغبوهم في الجهاد وفضله.
" سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ " الذي هو أعظم جند لكم عليهم.
فإن اللّه إذا ثبت المؤمنين, وألقى الرعب في قلوب الكافرين, لم يقدر الكافرون على الثبات لهم, ومنحهم اللّه أكتافهم.
" فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ " أي: على الرقاب " وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ " .
أي: مفصل.
وهذا خطاب, إما للملائكة الذين أوحى إليهم أن يثبتوا الذين آمنوا, فيكون في ذلك دليل, أنهم باشروا القتال يوم بدر.
أو للمؤمنين يشجعهم اللّه, ويعلمهم كيف يقتلون المشركين, وأنهم لا يرحمونهم.
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِسورة الأنفال الآية رقم 13
" ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ " أي: حاربوهما, وبارزوهما بالعداوة.
" وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ " ومن عقابه تسليط أوليائه على أعدائه, وتقتيلهم.
ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِسورة الأنفال الآية رقم 14
" ذَلِكُمْ " العذاب المذكور " فَذُوقُوهُ " أيها المشاققون للّه ورسوله عذابا معجلا.
" وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ " .
وفي هذه القصة من آيات اللّه العظيمة, ما يدل على أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم, رسول اللّه حقا.
منها: أن اللّه وعدهم وعدا, فأنجزهموه.
ومنها: ما قال اللّه تعالى " قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ " الآية.
ومنها: إجابة دعوة اللّه للمؤمنين, لما استغاثوه, بما ذكره من الأسباب.
وفيها الاعتناء العظيم, بحال عباده المؤمنين, وتقييض الأسباب, التي بها ثبت إيمانهم, ثبتت أقدامهم, وزال عنهم المكروه والوساوس الشيطانية.
ومنها: أن من لطف اللّه بعبده, أن يسهل عليه طاعته, وييسرها بأسباب داخلية وخارجية.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَسورة الأنفال الآية رقم 15
أمر اللّه تعالى عباده المؤمنين, بالشجاعة الإيمانية, والقوة في أمره, والسعي في جلب الأسباب المقوية للقلوب والأبدان.
ونهاهم عن الفرار, إذا التقى الزحفان فقال: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا " أي: صف القتال, وتزاحف الرجال, واقتراب بعضهم من بعض.
" فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ " , بل اثبتوا لقتالهم, واصبروا على جلادهم, فإن في ذلك, نصرة لدين اللّه, وقوة لقلوب المؤمنين, وإرهابا للكافرين.
وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُسورة الأنفال الآية رقم 16
" وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ " أي: رجع " بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ " أي مقره " جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ " .
وهذا يدل على أن الفرار من الزحف, من غير عذر, من أكبر الكبائر, كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة وكما نص هنا على وعيده بهذا الوعيد الشديد.
ومفهوم الآية: أن المتحرف للقتال, وهو الذي ينحرف من جهة إلى أخرى, ليكون أمكن له في القتال, وأنكى لعدوه, فإنه لا بأس بذلك, لأنه لم يول دبره فارا, وإنما ولى دبره, ليستعلى على عدوه, أو يأتيه من محل يصيب فيه غرته, أو ليخدعه بذلك, أو غير ذلك من مقاصد المحاربين, وأن المتحيز إلى فئة تمنعه وتعينه على قتال الكفار, فإن ذلك جائز.
فإن كانت الفئة في العسكر, فالأمر في هذا واضح.
وإن كانت الفئة في غير محل المعركة كانهزام المسلمين بين يدي الكافرين والتجائهم إلى بلد من بلدان المسلمين أو إلى عسكر آخر من عسكر المسلمين, فقد ورد من آثار الصحابة ما يدل على أن هذا جائز.
ولعل هذا يقيد بما إذا ظن المسلمون, أن الانهزام أحمد عاقبة, وأبقى عليهم.
أما إذا ظنوا غلبتهم للكفار في ثباتهم لقتالهم, فيبعد - في هذه الحال - أن تكون من الأحوال المرخص فيها, لأنه - على هذا - لا يتصور الفرار المنهي عنه.
وهذه الآية مطلقة, وسيأتي في آخر السورة تقييدها بالعدد.
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌسورة الأنفال الآية رقم 17
يقول تعالى - لما انهزم المشركون يوم بدر, وقتلهم المسلمون.
" فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ " بحولكم وقوتكم " وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ " حيث أعانكم على ذلك بما تقدم ذكره.
" وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى " .
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم, وقت القتال, دخل العريش, وجعل يدعو اللّه, ويناشده في نصرته.
ثم خرج منه, فأخذ حفنة من تراب, فرماها في وجوه المشركين, فأوصلها اللّه إلى وجوههم.
فما بقي منهم واحد إلا وقد أصاب وجهه, وفمه, وعينيه منها.
فحينئذ انكسر حدهم, وفتر زندهم, وبان فيهم الفشل والضعف, فانهزموا.
يقول تعالى لنبيه: لست بقوتك - حين رميت التراب - أوصلته إلى أعينهم, وإنما أوصلناه إليهم, بقوتنا واقتدارنا.
" وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا " أي: إن اللّه تعالى, قادر على انتصار المؤمنين من الكافرين, من دون مباشرة قتال.
ولكن اللّه أراد أن يمتحن المؤمنين, ويوصلهم بالجهاد, إلى أعلى الدرجات, وأرفع المقامات, ويعطيهم أجرا حسنا, وثوابا جزيلا.
" إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " يسمع تعالى, ما أسر به العبد, وما أعلن, ويعلم ما في قلبه, من النيات الصالحة وضدها.
فيقدر على العباد أقدارا, موافقة لعلمه وحكمته, ومصلحة عباده, ويجزي كلا بحسب نيته وعمله.
ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَسورة الأنفال الآية رقم 18
" ذَلِكُمْ " النصر, من اللّه لكم " وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ " أي: مضعف كل مكر وكيد, يكيدون به الإسلام وأهله, وجاعل مكرهم محيقا بهم.
إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَسورة الأنفال الآية رقم 19
" إِنْ تَسْتَفْتِحُوا " أيها المشركون, أي: تطلبون من اللّه أن يوقع بأسه وعذابه.
على المعتدين الظالمين.
" فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ " حين أوقع اللّه بكم من عقابه, ما كان نكالا لكم, وعبرة للمتقين " وَإِنْ تَنْتَهُوا " عن الاستفتاح " فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ " لأنه ربما أمهلكم, ولم يعجل لكم النقمة.
" وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ " أي: أعوانكم وأنصاركم, الذين تحاربون وتقاتلون, معتمدين عليهم " شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ " ومن كان اللّه معه فهو المنصور وإن كان ضعيفا قليلا عدده.
وهذه المعية التي أخبر اللّه أنه يؤيد بها المؤمنين, تكون بحسب ما قاموا به من أعمال الإيمان.
فإذا أديل العدو على المؤمنين في بعض الأوقات, فليس ذلك إلا تفريطا من المؤمنين وعدم قيام بواجب الإيمان ومقتضاه, وإلا فلو قاموا بما أمر اللّه به من كل وجه.
لما انهزمت لهم راية انهزاما مستقرا ولا أديل عليهم عدوهم أبدا.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَسورة الأنفال الآية رقم 20
لما أخبر تعالى أنه مع المؤمنين, أمرهم أن يقوموا بمقتضى الإيمان الذي يدركون معيته فقال: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ " بامتثال أمرهما واجتناب نهيهما.
" وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ " أي: عن هذا الأمر الذي هو طاعة اللّه, وطاعة رسوله.
" وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ " ما يتلى عليكم من كتاب اللّه, وأوامره, ووصاياه, ونصائحه.
فتوليكم, في هذه الحال, من أقبح الأحوال.
وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَسورة الأنفال الآية رقم 21
" وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ " أي: لا تكتفوا بمجرد الدعوى الخالية, التي لا حقيقة لها, فإنها حالة, لا يرضاها اللّه ولا رسوله.
فليس الإيمان بالتمني والتحلي, ولكنه ما وقر في القلوب, وصدقته الأعمال.
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَسورة الأنفال الآية رقم 22
يقول تعالى: " إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ " من لم تفد فيهم الآيات والنذر.
وهم " الصُّمُّ " عن استماع الحق " الْبُكْمُ " عن النطق به.
" الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ " ما ينفعهم, ويؤثرونه على ما يضرهم.
فهؤلاء, شر عند اللّه, من شرار الدواب, لأن اللّه أعطاهم, أسماعا وأبصارا, وأفئدة, ليستعملوها في طاعة اللّه, فاستعملوها في معاصيه, وعدموا - بذلك - الخير الكثير.
فإنهم كانوا, بصدد أن يكونوا من خيار البرية, فأبوا هذا الطريق, واختاروا لأنفسهم, أن يكونوا من شر البرية.
والسمع الذين نفاه اللّه عنهم, سمع المعنى المؤثر في القلب.
وأما سمع الحجة, فقد قامت حجة اللّه تعالى عليهم, بما سمعوه من آياته.
وإنما لم يسمعهم السماع النافع, لأنه لم يعلم فيهم خيرا يصلحون به لسماع آياته.
وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَّهُم مُّعْرِضُونَسورة الأنفال الآية رقم 23
" وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ " على الفرض والتقدير " لَتَوَلَّوْا " عن الطاعة " وَهُمْ مُعْرِضُونَ " لا التفات لهم إلى الحق, بوجه من الوجوه.
وهذا دليل على أن اللّه تعالى, لا يمنع الإيمان والخير, إلا عمن لا خير فيه, والذي لا يزكو لديه, ولا يثمر عنده.
وله الحمد تعالى والحكمة, في هذا.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَسورة الأنفال الآية رقم 24
يأمر تعالى, عباده المؤمنين, بما يقتضيه الإيمان منهم, وهو: الاستجابة للّه وللرسول, أي: الانقياد لما أمر به, والمبادرة إلى ذلك, والدعوة إليه, والاجتناب لما نهيا عنه, والانكفاف عنه, والنهي عنه.
وقوله " إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ " وصف ملازم, لكل ما دعا اللّه ورسوله إليه, وبيان لفائدته وحكمته, فإن حياة القلب والروح, بعبودية اللّه تعالى, ولزوم طاعته, وطاعة رسوله, على الدوام.
ثم حذر عن عدم الاستجابة للّه وللرسول فقال: " وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ " فإياكم أن تردوا أمر اللّه, أول ما يأتيكم, فيحال بينكم وبينه, إذا أردتموه بعد ذلك, وتختلف قلوبكم فإن اللّه يحول بين المرء وقلبه, يقلب القلوب حيث شاء, ويصرفها, أنى شاء.
فليكثر العبد من قول " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " يا مصرف القلوب, اصرف قلبي إلى طاعتك.
" وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ " أي: تجمعون ليوم لا ريب فيه, فيجازي المحسن بإحسانه, والمسيء بعصيانه.
وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِسورة الأنفال الآية رقم 25
" وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً " بل تصيب فاعل الظلم وغيره.
وذلك إذا ظهر الظلم فلم يغير, فإن عقوبته, تعم الفاعل وغيره.
وتُتَّقَى هذه الفتنة, بالنهي عن المنكر, وقمع أهل الشر والفساد, وأن لا يمكنوا من المعاصي والظلم, مهما أمكن.
" وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ " لمن تعرض لمساخطه, وجانب رضاه.
وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَسورة الأنفال الآية رقم 26
يقول تعالى - ممتنا على عباده, في نصرهم بعد الذلة, وتكثيرهم بعد القله, وإغنائهم بعد العيلة.
" وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ " أي: مقهورون تحت حكم غيركم " تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ " أي: يأخذوكم.
" فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ " فجعل لكم بلدا تأوون إليه, وانتصر من أعدائكم على أيديكم, وغنمتم من أموالهم, ما كنتم به أغنياء.
" لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ " اللّه على منته العظيمة, وإحسانه التام, بأن تعبدوه, ولا تشركوا به شيئا.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَسورة الأنفال الآية رقم 27
يأمر تعالى, عباده المؤمنين, أن يؤدوا ما ائتمنهم اللّه عليه, من أوامره, ونواهيه.
فإن الأمانة قد عرضها اللّه على السماوات والأرض والجبال, فأبين أن يحملنها وأشفقن منها, وحملها الإنسان, إنه كان ظلوما جهولا.
فمن أدى الأمانة, استحق من اللّه الثواب الجزيل, ومن لم يؤدها بل خانها, استحق العقاب الوبيل, وصار خائنا للّه وللرسول ولأمانته, منقصا لنفسه بكونه اتصفت نفسه بأخس الصفات, وأقبح الشيات, وهي الخيانة, مفوتا لها أكمل الصفات وأتمها, وهي: الأمانة.
وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌسورة الأنفال الآية رقم 28
ولما كان العبد ممتحنا بأمواله وأولاده, فربما حملته محبته ذلك, على تقديم هوى نفسه, على أداء أمانته, أخبر اللّه تعالى أن الأموال والأولاد, فتنة يبتلى اللّه بهما عبادة, وأنهما عارية, ستؤدى لمن أعطاها, وترد لمن استودعها " وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ " .
فإن كان لكم عقل ورَأْيٌ, فآثروا فضله العظيم على لذة صغيرة فانية مضمحلة.
فالعاقل يوازن بين الأشياء, ويؤثر أولاها بالإيثار, وأحقها بالتقديم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِسورة الأنفال الآية رقم 29
امتثال العبد لتقوى ربه, عنوان السعادة, وعلامة الفلاح.
وقد رتب اللّه على التقوى من خير الدنيا والآخرة, شيئا كثيرا.
فذكر هنا, أن من اتقى اللّه, حصل له أربعة أشياء, كل واحد منها خير من الدنيا وما فيها: الأول: الفرقان, وهو: العلم والهدى, الذي يفرق به صاحبه بين الهدى والضلال, والحق والباطل, والحلال والحرام, وأهل السعادة من أهل الشقاوة.
الثاني والثالث, تكفير السيئات, ومغفرة الذنوب.
وكل واحد منها داخل في الآخر, عند الإطلاق, وعند الاجتماع.
يفسر تكفير السيئات بالذنوب الصغائر, ومغفرة الذنوب, بتكفير الكبائر.
الرابع: الأجر العظيم, والثواب الجزيل, لمن اتقاه, وآثر رضاه على هوى نفسه.
" وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ " .
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَسورة الأنفال الآية رقم 30
أي وأذكر, أيها الرسول, ما منَّ اللّه به عليك.
" وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا " حين تشاور المشركون في دار الندوة, فيما يصنعون بالنبي صلى الله عليه وسلم, إما أن يثبتوه عندهم بالحبس, ويوثقوه.
وإما أن يقتلوه فيستريحوا - بزعمهم - من دعوته.
وإما أن يخرجوه ويجلوه من ديارهم.
فكلُّ أبدى من هذه الآراء رأيا رآه.
فاتفق رأيهم, على رأي رآه شريرهم, أبو جهل, لعنه اللّه.
وهو أن يأخذ من كل قبيلة من قبائل قريش, فتى, ويعطوه سيفا صارما, ويقتله الجميع قتلة رجل واحد, ليتفرق دمه في القبائل.
فيرضى بنو هاشم ثَمَّ بديته, فلا يقدرون على مقاومة جميع قريش.
فترصدوا للنبي صلى الله عليه وسلم, في الليل, ليوقعوا به, إذا قام من فراشه.
فجاء الوحي من السماء, وخرج عليهم, فذرَّ على رءوسهم التراب وخرج, وأعمى اللّه أبصارهم عنه.
حتى إذا استبطأوه, جاءهم آت وقال: خيبكم اللّه, قد خرج محمد, وذَرَّ على رءوسكم التراب.
فنفض كل منهم التراب عن رأسه.
ومنع اللّه رسوله منهم, وأذن له في الهجرة إلى المدينة.
فهاجر إليها, وأيده اللّه بأصحابه المهاجرين والأنصار.
ولم يزل أمره يعلو, حتى دخل مكة عنوة, وقهر أهلها.
فأذعنوا له, وصاروا تحت حكمه, بعد أن خرج مستخفيا منهم, خائفا على نفسه.
فسبحان اللطيف بعباده الذي لا يغالبه مغالب.
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3