الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5الصفحة 6
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًاسورة النساء الآية رقم 1
افتتح تعالى هذه السورة, بالأمر بتقواه, والحث على عبادته, والأمر بصلة الأرحام, والحث على ذلك.
وبين السبب الداعي, الموجب لكل من ذلك, وأن الموجب لتقواه أنه " رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ " ورزقكم, ورباكم بنعمه العظيمة, التي من جملتها خلقكم " مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا " ليناسبها, فيسكن إليها, وتتم بذلك النعمة, ويحصل به السرور.
وكذلك, من الموجب الداعي لتقواه, تساؤلكم به, وتعظيمكم.
حتى إنكم إذا أردتم قضاء حاجاتكم ومآربكم, توسلتم بها, بالسؤال.
فيقول من يريد ذلك لغيره: أسألك بالله, أن تفعل الأمر الفلاني.
لعلمه بما قام في قلبه, من تعظيم الله الداعي, أن لا يرد من سأله بالله.
فكما عظمتموه بذلك, فلتعظموه بعبادته وتقواه.
وكذلك الإخبار بأنه رقيب, أي: مطلع على العباد, في حال حركاتهم وسكونهم, وسرهم وعلنهم, وجميع الأحوال, مراقبا لهم فيها, مما يوجب مراقبته, وشدة الحياء منه, بلزوم تقواه.
وفي الإخبار بأنه خلقهم من نفس واحدة, وأنه بثهم في أقطار الأرض, مع رجوعهم إلى أصل واحد - ليعطف بعضهم على بعض, ويرقق بعضهم على بعض.
وقرن الأمر بتقواه, بالأمر ببر الأرحام, والنهي عن قطيعتها, ليؤكد هذا الحق.
وأنه كما يلزم القيام بحق الله, كذلك يجب القيام بحقوق الخلق, خصوصا الأقربين منهم, بل القيام بحقوقهم, هو من حق الله الذي أمر به.
وتأمل كيف افتتح هذه السورة, بالأمر بالتقوى, وصلة الأرحام والأزواج عموما.
ثم بعد ذلك, فصل هذه الأمور أتم تفصيل, من أول السورة إلى آخرها.
فكأنها مبنية على هذه الأمور المذكورة, مفصلة لما أجمل منها, موضحة لما أبهم.
وفي قوله " وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا " تنبيه على مراعاة حق الأزواج والزوجات والقيام به, لكون الزوجات مخلوقات من الأزواج.
فبينهم وبينهن, أقرب نسب, وأشد اتصال وأوثق علاقة.
وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًاسورة النساء الآية رقم 2
وقوله تعالى: " وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ " الآية.
هذا أول ما أوصى به من حقوق الخلق في هذه السورة.
وهم اليتامى, الذين فقدوا آباءهم, الكافلين لهم, وهم صغار ضعاف, لا يقومون بمصالحهم.
فأمر الرءوف الرحيم عباده, أن يحسنوا إليهم, وأن لا يقربوا أموالهم إلا بالتي هي أحسن, وأن يؤتوهم أموالهم, إذا بلغوا, ورشدوا, كاملة موفرة.
وأن لا " تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ " الذي هو أكل مال اليتيم بغير حق.
" بِالطَّيِّبِ " وهو الحلال, الذي ما فيه حرج ولا تبعة.
" وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ " أي: مع أموالكم.
ففيه تنبيه لقبح أكل مالهم, بهذه الحالة, التي هي قد استغنى بها الإنسان, بما جعل الله له, من الرزق في ماله.
فمن تجرأ على هذه الحالة, فقد أتى " حُوبًا كَبِيرًا " أي: إثما عظيما, ووزرا جسيما.
ومن استبدال الخبيث بالطيب, أن يأخذ الولي, من مال اليتيم, النفيس, ويجعل بدله من ماله, الخسيس.
وفيه الولاية على اليتيم, لأن من لازم إيتاء اليتيم ماله, ثبوت ولاية المؤتي على ماله.
وفيه الأمر بإصلاح مال اليتيم, لأن تمام إيتائه ماله, حفظه, والقيام به بما يصلحه وينميه, وعدم تعريضه للمخاوف والأخطار.
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْسورة النساء الآية رقم 3
أي: وإن خفتم ألا تعدلوا في يتامى النساء, التي تحت حجوركم وولايتكم, وخفتم أن لا تقوموا بحقهن, لعدم محبتكم إياهن - فاعدلوا إلى غيرهن, وانكحوا " مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ " أي: ما وقع عليهن اختياركم, من ذوات الدين, والمال, والجمال, والحسب, والنسب, وغير ذلك من الصفات الداعية لنكاحهن, فاختاروا على نظركم.
ومن أحسن ما يختار من ذلك, صفه الدين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " تنكح المرأة لأربع: لمالها, ولجمالها, ولحسبها, ولدينها, فاظفر بذات الدين تَرِبَتْ يمينك " .
وفي هذه الآية - أنه ينبغي للإنسان, أن يختار قبل النكاح.
بل قد أباح له الشارع, النظر إلى من يريد تزوجها, ليكون على بصيرة من أمره.
ثم ذكر العدد الذي أباحه من النساء فقال: " مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ " أي: من أحب أن يأخذ اثنتين فليفعل, أو ثلاثا فليفعل, أو أربعا فليفعل, ولا يزيد عليها, لأن الآية سيقت لبيان الامتنان.
فلا يحوز الزيادة على غير ما سمى الله تعالى إجماعا.
وذلك لأن الرجل قد لا تندفع شهوته بالواحدة, فأبيح له واحدة بعد واحدة, حتى تبلغ أربعا, لأن في الأربع, غنية لكل أحد, إلا ما ندر.
ومع هذا, فإنما يباح له ذلك إذا أمن على نفسه الجور والظلم, ووثق بالقيام بحقوقهن.
فإن خاف شيئا من هذا, فليقتصر على واحدة, أو على ملك يمينه.
فإنه لا يجب عليه القسم, في ملك اليمين.
" ذَلِكَ " أي: الاقتصار على واحدة, أو ما ملكت اليمين " أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا " أي: تظلموا.
وفي هذا, إن تعرض العبد للأمر الذي يخاف منه الجور والظلم, وعدم القيام بالواجب - ولو كان مباحا - أنه لا ينبغي له أن يتعرض له, بل يلزم السعة والعافية, فإن العافية خير ما أعطي العبد.
وَآتُواْ النِّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًاسورة النساء الآية رقم 4
ولما كان كثير من الناس, يظلمون النساء, ويهضمونهن حقوقهن - خصوصا الصداق, الذي يكون شيئا كثيرا, ودفعة واحدة, يشق دفعه للزوجة - أمرهم وحثهم على إيتاء النساء " صَدُقَاتِهِنَّ " أي: مهورهن " نِحْلَةً " أي: عن طيب نفس, وحال طمأنينة, فلا تمطلوهن, أو تبخسوا منه شيئا.
وفيه: أن المهر يدفع إلى المرأة, إذا كانت مكلفة, وأنها تملكه بالعقد, لأنه أضافه إليها, والإضافة تقتضي التمليك.
" فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ " أي: من الصداق " نَفْسًا " بأن سمحن لكم عن رضا واختيار, بإسقاط شيء منه, أو تأخيره أو المعاوضة عنه.
" فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا " أي: لا حرج عليكم في ذلك ولا تبعة.
وفيه دليل على أن للمرأة, التصرف في مالها - ولو بالتبرع - إذا كانت رشيدة, فإن لم تكن كذلك, فليس لعطيتها حكم.
وأنه ليس لوليها من الصداق شيء, غير ما طابت به.
وفي قوله " فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ " دليل على أن نكاح الخبيثة, غير مأمور به, بل منهي عنه, كالمشركة, وكالفاجرة, كما قال تعالى: " وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ " وقال " وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ " .
وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًاسورة النساء الآية رقم 5
السفهاء, جمع " سفيه " وهو: من لا يحسن التصرف في المال.
إما لعدم عقله, كالمجنون والمعتوه, ونحوهما.
وإما لعدم رشده, كالصغير وغير الرشيد.
فنهى الله الأولياء, أن يؤتوا هؤلاء أموالهم, خشية إفسادها وإتلافها.
لأن الله جعل الأموال, قياما لعباده, في مصالح دينهم ودنياهم.
وهؤلاء لا يحسنون القيام عليها وحفظها.
فأمر الله الولي أن لا يؤتيهم إياها بل يرزقهم منها, ويكسوهم, ويبذل منها, ما يتعلق بضروراتهم وحاجاتهم الدينية والدنيوية, وأن يقولوا لهم قولا معروفا, بأن يعدوهم - إذا طلبوها - أنهم سيدفعونها لهم بعد رشدهم, ونحو ذلك, ويلطفوا لهم في الأقوال, جبرا لخواطرهم.
وفي إضافته تعالى, الأموال إلى الأولياء, إشارة إلى أنه يجب عليهم أن يعملوا في أموال السفهاء, ما يفعلونه في أموالهم, من الحفظ, والتصرف, وعدم التعرض للأخطار.
وفي الآية دليل على أن نفقة المجنون والصغير والسفيه, في مالهم, إذا كان لهم مال, لقوله " وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ " .
وفيه دليل على أن قول الولي مقبول فيما يدعيه, في النفقة الممكنة, والكسوة.
لأن الله جعله مؤتمنا على مالهم, فلزم قبول قول الأمين.
وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًاسورة النساء الآية رقم 6
الابتلاء هو: الاختبار والامتحان.
وذلك بأن يدفع لليتيم المقارب للرشد, الممكن رشده, شيئا من ماله, ويتصرف فيه التصرف اللائق بحاله, فيتبين بذلك رشده من سفهه.
فإن استمر غير محسن للتصرف, لم يدفع إليه ماله, بل هو باق على سفهه, ولو بلغ عمرا كثيرا.
فإن تبين رشده وصلاحه في ماله وبلغ النكاح " فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ " كاملة موفرة.
" وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا " أي مجاوزة للحد الحلال الذي أباحه الله لكم, من أموالكم إلى الحرام الذي حرمه الله عليكم من أموالهم.
" وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا " أي: ولا تأكلوها, في حال صغرهم, التي لا يمكنهم فيها أخذها منكم, ولا منعكم من أكلها, تبادرون بذلك أن يكبروا, فيأخذوها منكم ويمنعوكم منها.
وهذا من الأمور الواقعة, من كثير من الأولياء, الذين ليس عندهم خوف من الله, ولا رحمة ومحبة للمولى عليهم.
يرون هذه الحال, حال فرصة, فيغتنمونها, ويتعجلون ما حرم الله عليهم.
فنهى الله تعالى, عن هذه الحالة بخصوصها.
لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًاسورة النساء الآية رقم 7
كان العرب في الجاهلية - من جبروتهم وقسوتهم, لا يورثون الضعفاء, كالنساء والصبيان, ويجعلون الميراث للرجال الأقوياء.
لأنهم - بزعمهم - أهل الحرب والقتال, والنهب والسلب.
فأراد الرب الرحيم الحكيم, أن يشرع لعباده شرعا, يستوي فيه رجالهم ونساؤهم, وأقوياؤهم وضعفاؤهم.
وقدم بين يدي ذلك, أمرا مجملا, لتتوطَّن على ذلك النفوس.
فيأتي التفصيل بعد الإجمال, قد تشوفت له النفوس, وزالت الوحشة, التي منشأها, العادات القبيحة فقال: " لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ " أي: قسط وحصة " مِمَّا تَرَكَ " أي: خلف " الْوَالِدَانِ " أي: الأب والأم " وَالْأَقْرَبُونَ " عموما بعد خصوص " وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ " .
فكأنه قيل: هل ذلك النصيب, راجع إلى العرف والعادة, وأن يرضخوا لهم ما يشاءون؟ أو شيئا مقدرا؟ فقال تعالى " نَصِيبًا مَفْرُوضًا " أي: قدره العليم الحكيم.
وسيأتي - إن شاء الله - تقدير ذلك.
وأيضا, فهنا توهم آخر, لعل أحدا يتوهم أن النساء والوالدين, ليس لهم نصيب, إلا من المال الكثير, فأزال ذلك بقوله, " مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ " فتبارك الله أحسن الحاكمين.
وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًاسورة النساء الآية رقم 8
وهذا من أحكام الله الحسنة الجليلة, الجابرة للقلوب فقال: " وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ " أي: قسمة المواريث " أُولُو الْقُرْبَى " أي: الأقارب غير الوارثين, بقرينة قوله " الْقِسْمَةَ " لأن الوارثين من المقسوم عليهم.
" وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ " أي: المستحقون من الفقراء.
" فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ " أي: أعطوهم ما تيسر من هذا المال, الذي جاءكم بغير كد ولا تعب, ولا عناء, ولا نَصَب, فإن نفوسهم متشوفة إليه, وقلوبهم متطلعة.
فاجبروا خواطرهم, بما لا يضركم, وهو نافعهم.
ويؤخذ من المعنى, أن كل من له تطلع وتشوف إلى ما حضر بين يدي الإنسان, ينبغي له أن يعطيه منه, ما تيسر كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا جاء أحدكم خادمه بطعامه, فليجلسه معه, فإن لم يجلسه معه, فليناوله لقمة أو لقمتين " أو كما قال: وكان الصحابة رضي الله عنهم - إذا بدأت باكورة أشجارهم - أتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فبرَّك عليها, ونظر إلى أصغر وليد عنده, فأعطاه ذلك, علما منه بشدة تشوفه إلى ذلك, وهذا كله, مع إمكان الإعطاء.
فإن لم يمكن ذلك - لكونه حق سفهاء, أو ثَمَّ أهم من ذلك - فليقولوا لهم " قَوْلًا مَعْرُوفًا " يردونهم ردا جميلا, بقول حسن, غير فاحش, ولا قبيح.
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًاسورة النساء الآية رقم 9
قيل: إن هذا خطاب لمن يحضر, من حضره الموت وأجنف في وصيته, أن يأمره بالعدل في وصيته, والمساواة فيها بدليل قوله.
" وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا " أي: سدادا, موافقا للقسط والمعروف.
وأنهم يأمرون من يريد الوصية على أولاده, بما يحبون معاملة أولادهم بعدهم.
وقيل: إن المراد بذلك, أولياء السفهاء, من المجانين, والصغار, والضعاف, أن يعاملوهم في مصالحهم الدينية والدنيوية, بما يحبون أن يعامل به من بعدهم, من ذريتهم الضعاف.
" فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ " في ولايتهم لغيرهم, أي: يعاملونهم بما فيه تقوى الله, من عدم إهانتهم, والقيام عليهم, وإلزامهم لتقوى الله.
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًاسورة النساء الآية رقم 10
ولما أمرهم بذلك, زجرهم عن أكل أموال اليتامى, وتوعد فقال: على ذلك أشد العذاب " إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا " أي: بغير حق.
وهذا القيد, يخرج به ما تقدم, من جواز الأكل للفقير بالمعروف, ومن جواز خلط طعامهم بطعام اليتامى.
فمن أكلها ظلما, فإنما " يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا " أي: فإن الذي أكلوه, نار تتأجج من أجوافهم وهم الذين أدخلوه في بطونهم.
" وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا " أي: نارا محرقة متوقدة.
وهذا أعظم وعيد ورد في الذنوب, يدل على شناعة أكل أموال اليتامى وقبحها, وأنها موجِبَة لدخول النار.
فدل ذلك, أنها من أكبر الكبائر.
نسأل الله العافية.
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًاسورة النساء الآية رقم 11
(أحكام المواريث - بيان أصحابها) هذه الآيات, والآية التي هي آخر السورة من آيات المواريث المتضمنة لها.
فإنها - مع حديث عبد الله بن عباس, الثابت في صحيح البخاري " ألحقوا الفرائض بأهلها, فما بقي, فلأولى رجل ذكر " - مشتملات على جلّ أحكام الفرائض, بل على جميعها, كما سترى ذلك, إلا ميراث الجدات, فإنه غير مذكور في ذلك.
لكنه قد ثبت في السنن, عن المغيرة بن شعبة, ومحمد بن مسلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الجدة السدس, مع إجماع العلماء على ذلك.
(بيان ميراث الأولاد) " يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ " أي: أولادكم - يا معشر الوالدين - عندكم ودائع قد وصاكم الله عليهم, لتقوموا بمصالحهم الدينية والدنيوية.
فتعلمونهم وتؤدبونهم, وتكفونهم عن المفاسد, وتأمرونهم بطاعة الله, وملازمة التقوى على الدوام كما قال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ " فالأولاد - عند والديهم - موصى بهم.
فإما أن يقوموا بتلك الوصية, فلهم جزيل الثواب.
وإما أن يضيعوها, فيستحقوا بذلك الوعيد والعقاب.
وهذا مما يدل على أن الله تعالى أرحم بعباده من الوالدين, حيث أوصى الوالدين - مع كمال شفقتهما, عليهم.
ثم ذكر كيفية إرثهم فقال " لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ " أي: الأولاد للصلب, والأولاد للابن, للذكر مثل حظ الأنثيين, إن لم يكن معهم صاحب فرض, أو ما أبقت الفروض, يقتسمونه كذلك.
وقد أجمع العلماء على ذلك, وأنه - مع وجود أولاد الصلب - فالميراث لهم.
وليس لأولاد الابن شيء, حيث كان أولاد الصلب, ذكورا وإناثا.
هذا مع اجتماع الذكور والإناث.
وهنا حالتان: انفراد الذكور, وسيأتي حكمها.
وانفراد الإناث, وقد ذكره بقوله.
(أحكام البنات في الميراث) " فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ " أي: بنات صلب, أو بنات ابن, ثلاثا فأكثر " فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً " أي: بنتا, أو بنت ابن " فَلَهَا النِّصْفُ " وهذا إجماع.
بقي أن يقال: من أين يستفاد أن للابنتين الثنتين, الثلثين بعد الإجماع على ذلك؟ فالجواب أنه يستفاد من قوله " وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ " .
فمفهوم ذلك, أنه إن زادت على الواحدة, انتقل الفرض عن النصف, ولا ثَمَّ بعده إلا الثلثان.
وأيضا, فقوله " لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ " إذا خلف ابنا وبنتا, فإن الابن, له الثلثان, وقد أخبر الله, أنه مثل حظ الأنثيين.
فدل ذلك, على أن للبنتين الثلثين.
وأيضا فإن البنت إذا أخذت الثلث مع أخيها - وهو أزيد ضررا عليها من أختها - فأخذها له - مع أختها - من باب أَوْلَى وأحرى.
وأيضا فإن قوله تعالى في الأختين " فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ " نص في الأختين الثنتين.
فإذا كان الأختان الثنتان - مع بعدهما - يأخذان الثلثين, فالابنتان - مع قربهما - من باب أَوْلَى وأحرى.
وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم, ابنتي سعد, الثلثين كما في الصحيح.
بقي أن يقال: فما الفائدة في قوله " فَوْقَ اثْنَتَيْنِ " ؟ قيل: الفائدة في ذلك - والله أعلم - أنه ليعلم أن الفرض الذي هو الثلثان, لا يزيد بزيادتهن على الثنتين, بل من الثنتين فصاعدا.
ودلت الآية الكريمة, أنه إذا وجد بنت صلب واحدة, وبنت ابن أو بنات ابن, فإن لبنت الصلب, النصف, ويبقى من الثلثين اللذين فرضهما الله للبنات, أو بنات الابن, السدس, فيعطى بنت الابن, أو بنات الابن, ولهذا يسمى هذا السدس, تكملة الثلثين.
ومثل ذلك, بنت الابن, مع بنات الابن, اللاتي أنزل منها.
وتدل الآية, أنه متى استغرق البنات أو بنات الابن الثلثين, أنه يسقط من دونهن, من بنات الابن, لأن الله لم يفرض لهن, إلا الثلثين, وقد تم.
فلو لم يسقطن, لزم من ذلك أن يفرض لهن, أزيد من الثلثين, وهو خلاف النص.
وكل هذه الأحكام, مجمع عليها بين العلماء, ولله الحمد.
ودل قوله " مِمَّا تَرَكَ " أن الوارثين, يرثون كل ما خلف الميت, من عقار, وأثاث, وذهب, وفضة, وغير ذلك, حتى الدية, التي لم تجب إلا بعد موته, وحتى الديون التي في الذمة.
(أحكام الأبوين في الميراث) ثم ذكر ميراث الأبوين فقال: " وَلِأَبَوَيْهِ " , أي أبوه وأمه " لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ " أي: ولد صلب, أو ولد ابن, ذكرا كان أو أنثى, واحدا أو متعددا.
فأما الأم, فلا تزيد على السدس مع أحد من الأولاد.
(أحكام الأب في الميراث) وأما الأب, فمع الذكور منهم, لا يستحق أزيد من السدس.
فإن كان الولد أنثى أو إناثا, ولم يبق بعد الفرض شيء, كأبوين وابنتين, لم يبق له تعصيب.
وإن بقي بعد فرض البنت أو البنات شيء, أخذ الأب السدس فرضا, والباقي تعصيبا.
لأننا ألحقنا الفروض بأهلها, فما بقي, فلأولى رجل ذكر, وهو أولى من الأخ والعم, وغيرهما.
" فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ " أي: والباقي للأب, لأنه أضاف المال إلى الأب والأم, إضافة واحدة, ثم قدر نصيب الأم, فدل ذلك, على أن الباقي للأب.
وعلم من ذلك, أن الأب - مع عدم الأولاد - لا فرض له, بل يرث - تعصيبا - المال كله, أو ما أبقت الفروض.
ولكن لو وجد مع الأبوين, أحد الزوجين - ويعبر عنهما بالعمريتين - فإن الزوج أو الزوجة, يأخذ فرضه, ثم تأخذ الأم ثلث الباقي, والأب الباقي.
وقد دل على ذلك قوله " وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ " ثلث ما ورثه الأبوان.
وهو في هاتين الصورتين, إما سدس في زوج وأم وأب, وإما ربع في زوجة وأم وأب.
فلم تدل الآية على إرث الأم, ثلث المال كاملا, مع عدم الأولاد.
حتى يقال: إن هاتين الصورتين, قد استثنيتا من هذا.
ويوضح ذلك, أن الذي يأخذه الزوج أو الزوجة, بمنزلة ما يأخذه الغرماء.
فيكون من رأس المال, والباقي, بين الأبوين.
ولأنا لو أعطينا الأم ثلث المال, لزم زيادتها على الأب, في مسألة الزوج, أو أخذ الأب في مسألة الزوجة, زيادة عنها نصف السدس, وهذا لا نظير له.
فإن المعهود مساواتها للأب, أو أخذه ضعف ما تأخذه الأم.
" فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ " أشقاء, أو لأب, أو لأم, ذكورا أو إناثا, وارثين, أو محجوبين بالأب, أو الجد.
لكن قد يقال: ليس ظاهرُ قولهِ " فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ " شاملا لغير الوارثين, بدليل عدم تناولها للمحجوب بالنصف.
فعلى هذا, لا يحجبها عن الثلث من الإخوة, إلا الإخوة الوارثون.
ويؤيده أن الحكمة في حجبهم لها عن الثلث, لأجل أن يتوفر لهم شيء من المال, وهو معدوم.
والله أعلم.
ولكن يشرط كونهم اثنين فأكثر.
ويشكل على ذلك, إتيان لفظ " الإخوة " بلفظ الجمع.
وأجيب عن ذلك, بأن المقصود, مجرد التعدد لا الجمع, ويصدق ذلك باثنين.
وقد يطلق الجمع, ويراد به الاثنان كما في قوله تعالى عن داود وسليمان " وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ " وقال في الإخوة للأم: " وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ " .
فأطلق لفظ الجمع, والمراد به, اثنان فأكثر, بالإجماع.
فعلى هذا, لو خلف أما وأبا وإخوة, كان للأم السدس, والباقي للأب, فحجبوها عن الثلث, مع حجب الأب إياهم, إلا على الاحتمال الآخر, فإن للأم الثلث, والباقي للأب.
ثم قال تعالى " مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ " أي هذه الفروض والأنصباء, والمواريث, إنما ترد وتستحق, بعد نزع الديون التي على الميت لله, أو للآدميين, وبعد الوصايا, التي قد أوصى الميت بها بعد موته, فالباقي عن ذلك, هو التركة, التي يستحقها الورثة.
وقدم الوصية - مع أنها مؤخرة عن الدين - للاهتمام بشأنها, لكون إخراجها, شاقا على الورثة, وإلا, فالديون مقدمة عليها, وتكون من رأس المال.
وأما الوصية فإنها تصح من الثلث فأقل, للأجنبي الذي هو غير وارث.
وأما غير ذلك, فلا ينفذ, إلا بإجازة الورثة, قال تعالى: " آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا " .
فلو رد تقدير الإرث إلى عقولكم واختياركم, لحصل من الضرر, ما الله به عليم, لنقص العقول, وعدم معرفتها بما هو اللائق والأحسن, في كل زمان ومكان.
فلا يدرون أي الأولاد, أو الوالدين, أنفع لهم وأقرب, لحصول مقاصدهم الدينية والدنيوية.
" فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا " أي: فرضها الله الذي قد أحاط بكل شيء علما, وأحكم ما شرعه, وقدر ما قدره, على أحسن تقدير, لا تستطيع العقول أن تقترح مثل أحكامه الصالحة الموافقة, لكل زمان, ومكان, وحال.
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌسورة النساء الآية رقم 12
(حكم الزوج والزوجات في الميراث) ثم قال تعالى: " وَلَكُمْ " أيها الأزواج " نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ " .
ويدخل في مسمى الولد, المشروط وجوده أو عدمه, ولد الصلب أو ولد الابن الذكر والأنثى, الواحد والمتعدد, الذي من الزوج, أو من غيره, ويخرج عنه, ولد البنات إجماعا.
(بيان معنى (الكلالة) ونصيبها في الميراث) ثم قال تعالى " وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ " أي: من أم, كما هي في بعض القراءات.
وأجمع العلماء على أن المراد بالإخوة - هنا - الإخوة للأم.
فإذا كان يورث كلالة أي: ليس للميت والد ولا ولد, أي: لا أب, ولا جد, ولا ابن, ولا ابن ابن, ولا بنت, ولا بنت ابن وإن نزلوا.
وهذه هي: الكلالة, كما فسرها بذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه, وقد حصل على ذلك, الاتفاق, ولله الحمد.
" فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا " أي: من الأخ والأخت " السُّدُسُ " .
" فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ " أي: من واحد " فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ " أي: لا يزيدون على الثلث, ولو زادوا عن اثنين.
ودل قوله " فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ " أن ذكرهم وأنثاهم سواء, لأن لفظ " الشريك " يقتضي التسوية.
ودل لفظ " الْكَلَالَةِ " على أن الفروع وإن نزلوا, والأصول الذكور وإن علوا, يسقطون أولاد الأم, لأن الله لم يورثهم إلا في الكلالة, فلو لم يكن يورث كلالة, لم يرثوا منه شيئا, اتفاقا.
ودل قوله " فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ " أن الإخوة الأشقاء, يسقطون في المسألة المسماة بالحمارية.
وهى: زوج, وأم, وإخوة أشقاء.
.
وللزوج, النصف.
وللأم, السدس.
وللأخوة للأم: الثلث.
ويسقط الأشقاء, لأن الله أضاف الثلث للإخوة من الأم.
فلو شاركهم الأشقاء, لكان جمعا, لما فرق الله حكمه.
وأيضا, فإن الإخوة للأم, أصحاب فروض, والأشقاء, عصبات.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " ألحقوا الفرائض بأهلها, فما بقي, فلأولى رجل ذكر " .
وأهل الفروض هم: الذين قدَّر الله أنصباءهم.
ففي هذه المسألة, لا يبقى بعدهم شيء, فيسقط الأشقاء, وهذا هو الصواب في ذلك.
وأما ميراث الإخوة والأخوات الأشقاء, أو لأب, فمذكور في قوله: " يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ " الآية.
فالأخت الواحدة, شقيقة, أو لأب, لها النصف.
والثنتان, لهما الثلثان.
والشقيقة الواحدة مع الأخت للأب, أو الأخوات, تأخذ النصف والباقي من الثلثين, للأخت, أو الأخوات لأب, وهو السدس, تكملة الثلثين.
وإذ استغرقت الشقيقات الثلثين, تسقط الأخوات للأب, كما تقدم في البنات, وبنات الابن.
وإن كان الإخوة, رجالا ونساء, فللذكر مثل حظ الأنثيين.
(حكم القاتل واختلاف دين الميت وأقربائه) فإن قيل: فهل يستفاد حكم ميراث القاتل, والرقيق, والمخالف في في الدين, والمبعض والخنثى, والجد مع الإخوة لغير أم, والعول, والرد وذوي الأرحام, وبقية العصبة, والأخوات لغير أم, مع البنات, أو بنات الابن, من القرآن أم لا؟ قيل: نعم, فيه تنبيهات وإشارات دقيقة, يعسر فهمها على غير المتأمل, تدل على جميع المذكورات.
فأما (القاتل والمخالف في الدين) فيعرف أنهما غير وارثين من بيان الحكمة الإلهية, في توزيع المال على الورثة, بحسب قربهم, ونفعهم الديني والدنيوي.
وقد أشار تعالى إلى هذه الحكمة بقوله " لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا " .
وقد علم أن القاتل, قد سعى لمورثه بأعظم الضرر, فلا ينتهض ما فيه, من موجب الإرث, أن يقاوم ضرر القتل, الذي هو ضد النفع الذي رتب عليه الإرث.
فعلم من ذلك, أن القتل أكبر مانع يمنع من الميراث, ويقطع الرحم الذي قال الله فيه: " وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ " .
مع أنه قد استقرت القاعدة الشرعية, أن " من استعجل شيئا قبل أوانه, عوقب بحرمانه " .
وبهذا ونحوه, يعرف أن المخالف لدين الموروث لا إرث له.
وذلك أنه قد تعارض الموجب, الذي هو: اتصال النسب, الموجب للإرث, والمانع الذي, هو المخالفة في الدين, الموجبة للمباينة من كل وجه.
فقوي المانع, ومنع موجب الإرث, الذي هو النسب.
فلم يعمل الموجب لقيام المانع.
يوضح ذلك أن الله تعالى قد جعل حقوق المسلمين, أولى من حقوق الأقارب الكفار الدنيوية.
فإذا مات المسلم, انتقل ماله إلى من هو أولى وأحق به.
فيكون قوله تعالى: " وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ " إذا اتفقت أديانهم.
وأما مع تباينهم, فالأخوة الدينية, مقدمة على الأخوة النسبية المجردة.
قال ابن القيم في " جلاء الأفهام " : " وتأمل هذا المعنى من آية المواريث,: وتعليقه سبحانه التوارث فيها بلفظ الزوجة, دون المرأة كما في قوله تعالى " وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ " .
ففيه إيذان بأن هذا التوارث, إنما وقع بالزوجية, المقتضية للتشاكل والتناسب.
والمؤمن والكافر, لا تشاكل بينهما, ولا تناسب, فلا يقع بينهما التوارث.
وأسرار مفردات القرآن ومركباته, فوق عقول العاقلين " انتهى.
(حكم الرقيق في الميراث) وأما (الرقيق), فإنه لا يرث ولا يورث.
أما كونه لا يورث فواضح, لأنه ليس له مال يورث عنه, بل كل ما معه, فهو لسيده.
وأما كونه لا يرث, فلأنه لا يملك, فإنه لو ملك, لكان لسيده, وهو أجنبي من الميت, فيكون مثل قوله تعالى: " لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ " , " وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ " " فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ " ونحوها, لمن يتأتى منه التملك.
وأما الرقيق, فلا يتأتى منه ذلك, فعلم أنه لا ميراث له.
وأما من بعضه حر, وبعضه رقيق, فإنه تتبعض أحكامه.
فما فيه من الحرية, يستحق بها ما رتبه الله في المواريث, لكون ما فيه من الحرية, قابلا للتملك, وما فيه من الرق, فليس بقابل لذلك.
فإذًا يكون المبعض, يرث ويورث, ويحجب بقدر ما فيه من الحرية.
وإذا كان العبد يكون محمودا ومذموما, مثابا ومعاقبا, بقدر ما فيه من موجبات ذلك, فهذا كذلك.
(حكم الخنثى والمشكل في الميراث) وأما (الخنثى) فلا يخلو, إما أن يكون واضحا ذكوريته أو أنوثيته, أو مشكلا.
فإن كان واضحا, فالأمر فيه واضح.
إن كان ذكرا, فله حكم الذكور, ويشمله النص الوارد فيهم.
وإن كانت أنثى, فلها حكم الإناث, ويشملها النص الوارد فيهن.
وإن كان مشكلا, فإن كان الذكر والأنثى لا يختلف إرثهما - كالإخوة للأم - فالأمر فيه واضح.
وإن كان يختلف إرثه, بتقدير ذكوريته, وبتقدير أنوثيته, ولم يبق لنا طريق إلى العلم بذلك, لم نعطه أكثر التقديرين, لاحتمال ظلم من معه من الورثة, ولم نعطه الأقل, لاحتمال ظلمنا إياه.
فوجب التوسط بين الأمرين, وسلوك أعدل الطريقين, قال تعالى: " اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى " .
فليس لنا طريق إلى العدل في مثل هذا, أكثر من هذا الطريق المذكور.
" لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا " " فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ " .
(ميراث الجد) وأما (ميراث الجد) مع الإخوة الأشقاء, أو لأب, وهل يرثون معه أم لا؟.
فقد دل كتاب الله, على قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه, أن الجد يحجب الإخوة, أشقاء, أو لأب, أو لأم, كما يحجبهم الأب.
وبيان ذلك: أن الجد: أب في غير موضع من القرآن كقوله تعالى: " إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ " الآية.
وقال يوسف عليه السلام " وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ " .
فسمى الله الجد, وجد الأب: أبا.
فدل ذلك, على أن الجد, بمنزلة الأب, يرث ما يرثه الأب, ويحجب من يحجبه (أي: عند عدمه).
وإذا كان العلماء, قد أجمعوا على أن الجد, حكمه حكم الأب عند عدمه في ميراثه مع الأولاد وغيرهم, من بين الإخوة والأعمام وبنيهم, وسائر أحكام المواريث - فينبغي أيضا, أن يكون حكمه حكمه, في حجب الإخوة لغير أم.
وإذا كان ابن الأب بمنزلة ابن الصلب, فلم لا يكون الجد بمنزلة الأب؟ وإذا كان جد الأب, مع ابن الأخ, قد اتفق العلماء على أنه يحجبه.
فلم لا يحجب جد الميت أخاه؟ فليس مع من يورث الإخوة مع الجد, نص ولا إشارة, ولا تنبيه, ولا قياس صحيح.
(العول وأحكامه) وأما مسائل (العول) فإنه يستفاد حكمها من القرآن.
وذلك أن الله تعالى, قد فرض, وقدر لأهل المواريث أنصباء.
وهم بين حالتين.
إما أن يحجب بعضهم بعضا, أو لا.
فإن حجب بعضهم بعضا, فالمحجوب ساقط, لا يزاحم, ولا يستحق شيئا وإن لم يحجب بعضهم بعضا, فلا يخلو.
إما أن لا تستغرق الفروض التركة, أو تستغرقها من غير زيادة ولا نقص أو تزيد الفروض على التركة.
ففي الحالتين الأوليين, كل يأخذ فرضه كاملا.
وفي الحالة الأخيرة وهي - ما إذا زادت الفروض على التركة - فلا يخلو من حالين.
إما أن ننقص بعض الورثة عن فرضه الذي فرضه الله له, ونكمل للباقين منهم فروضهم, وهذا ترجيح بغير مرجح, وليس نقصان أحدهم بأولى من الآخر.
فتعينت الحال الثانية, وهو: أننا نعطي كل واحد منهم نصيبه, بقدر الإمكان, ونحاصص بينهم, كديون الغرماء الزائدة على مال الغريم.
ولا طريق موصل إلى ذلك إلا بالعول.
فعلم من هذا, أن العول في الفرائض, قد بينه الله في كتابه.
(بيان أحكام الرد على أصحاب الفرائض) وبعكس هذه الطريقة بعينها, يعلم (الرد).
فإن أهل الفروض - إذا لم تستغرق فروضهم التركة, وبقي شيء ليس له مستحق, من عاصب قريب ولا بعيد, فإن رده على أحدهم, ترجيح بغير مرجح, وإعطاؤه غيرهم, ممن ليس بقريب للميت, جنف وميل, ومعارضة لقوله " وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ " .
فتعين أن يرد على أهل الفروض, بقدر فروضهم.
(حكم الرد على الزوجين في الميراث) ولما كان الزوجان, ليسا من القرابة, لم يستحقا الزيادة على فرضهم المقدر عند القائلين, بعدم الرد عليهما.
وأما على القول الصحيح أن حكم الزوجين, حكم باقي الورثة في الرد, فالدليل المذكور, شامل للجميع, كما شملهم دليل العول.
(حكم ذوي الأرحام في الميراث) وبهذا يعلم أيضا, ميراث ذوي الأرحام.
فإن الميت إذا لم يخلف صاحب فرض, ولا عاصبا, وبقي الأمر دائرا بين كون ماله يكون لبيت المال, لمنافع الأجانب, وبين كون ماله يرجع إلى أقربائه المدلين بالورثة, المجمع عليهم, تعين الثاني.
ويدل على ذلك قوله تعالى: " وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ " .
فصرفه لغيرهم, ترك لمن هو أولى من غيره, فتعين توريث ذوي الأرحام.
وإذا تعين توريثهم, فقد علم أنه ليس لهم نصيب مقدر بأعيانهم في كتاب الله.
وأن بينهم وبين الميت وسائط, صاروا - بسببها - من الأقارب.
فينزلون منزلة من أدلوا به من تلك الوسائط.
والله أعلم.
(بيان من هم عصبة الميت وحكمهم في الميراث) وأما (ميراث بقية العصبة) كالبنوة والأخوة وبنيهم والأعمام وبنيهم إلخ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ألحقوا الفرائض بأهلها, فما بقي فلأولى رجل ذكر " .
وقال تعالى: " وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ " .
فإذا ألحقنا الفروض بأهلها, ولم يبق شيء, لم يستحق العاصب شيئا.
وإن بقي شيء, أخذة أولي العصبة, بحسب جهاتهم, ودرجاتهم.
(جهات العصبة) فإن جهات العصوبة خمس: البنوة, ثم الأبوة ثم الأخوة وبنوهم, ثم العمومة وبنوهم, ثم الولاء, ويقدم منهم الأقرب جهة.
فإن كانوا في جهة واحدة, فالأقرب منزلة.
فإن كانوا بمنزلة واحدة, فالأقوى, وهو الشقيق.
فإن تساووا من كل وجه, اشتركوا.
والله أعلم.
وأما كون الأخوات لغير أم, مع البنات, أو بنات الابن عصبات, يأخذن ما فضل عن فروضهن, فلأنه ليس في القرآن, ما يدل على أن الأخوات يسقطن بالبنات.
فإذا كان الأمر كذلك, وبقي شيء بعد أخذ البنات فرضهن, فإنه يعطى للأخوات, ولا يعدل عنهن إلى عصبة أبعد منهن, كابن الأخ والعم, ومن هو أبعد منهم.
والله أعلم.
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُسورة النساء الآية رقم 13
أي: تلك التفاصيل التي ذكرها في المواريث, حدود الله, التي يجب الوقوف معها, وعدم مجاوزتها, ولا القصور عنها.
وفي ذلك دليل, على أن الوصية للوارث منسوخة, بتقديره تعالى أنصباء الوارثين.
ثم قوله تعالى " تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا " فالوصية للوارث, بزيادة على حقه, يدخل في هذا التعدي, مع قوله صلى الله عليه وسلم " لا وصية لوارث " .
ثم ذكر طاعة الله ورسوله, ومعصيتهما, عموما, ليدخل في العموم, لزوم حدوده في الفرائض, أو ترك ذلك فقال: " وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ " بامتثال أمرهما, الذي أعظمه, طاعتهما في التوحيد, ثم الأوامر على اختلاف درجاتها, واجتناب نهيهما, الذي أعظمه الشرك بالله, ثم المعاصي على اختلاف طبقاتها " يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا " .
فمن أدى الأوامر, واجتنب النواهي, فلا بد له من دخول الجنة, والنجاة من النار.
" وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ " الذي حصل به النجاة, من سخطه وعذابه, والفوز بثوابه ورضوانه, بالنعيم المقيم, الذي لا يصفه الواصفون.
وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌسورة النساء الآية رقم 14
" وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ " .
إلخ ويدخل في اسم المعصية, الكفر فما دونه من المعاصي.
فلا يكون فيها شبهة للخوارج, القائلين بكفر أهل المعاصي.
فإن الله تعالى رتب دخول الجنة, على طاعته, وطاعة رسوله.
ورتب دخول النار, على معصيته ومعصية رسوله.
فمن أطاعه طاعة تامة, دخل الجنة بلا عذاب.
ومن عصى الله ورسوله, معصية تامة, يدخل فيها الشرك, فما دونه, دخل النار وخلد فيها.
ومن اجتمع فيه معصية وطاعة, كان فيه من موجب الثواب والعقاب بحسب ما فيه من الطاعة والمعصية.
وقد دلت النصوص المتواترة, على أن الموحدين, الذين معهم طاعة التوحيد, غير مخلدين في النار.
فما معهم من التوحيد, مانع لهم من الخلود فيها.
وَالَّلاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاًسورة النساء الآية رقم 15
أي: النساء اللاتي " يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ " أي: الزنا.
فوصفها بالفاحشة, لشناعتها وقبحها.
" فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ " أي: من رجالكم المؤمنين العدول.
" فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ " احبسوهن عن الخروج الموجب للريبة.
وأيضا, فإن الحبس, من جملة العقوبات.
" حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ " أي: هذا منتهى الحبس.
" أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا " أي: طريقا غير الحبس في البيوت.
فهذه الآية ليست منسوخة, فإنما هي, مغياة إلى ذلك الوقت.
فكان الأمر في أول الإسلام كذلك, حتى جعل الله لهن سبيلا, وهو رجم المحصن والمحصنة وجلد غير المحصن والمحصنة.
وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًاسورة النساء الآية رقم 16
وكذلك اللذان " يَأْتِيَانِهَا " أي: الفاحشة " مِنْكُمْ " من الرجال والنساء " فَآذُوهُمَا " بالقول والتوبيخ والتعيير, والضرب الرادع عن هذه الفاحشة.
فعلى هذا يكون الرجال إذا فعلوا الفاحشة يؤذون, والنساء يحبسن ويؤذين.
فالحبس غايته للموت, والأذية نهايتها إلى التوبة والإصلاح.
ولهذا قال " فَإِنْ تَابَا " أي: رجعا عن الذنب الذي فعلاه, وندما عليه, وعزما أن لا يعودا " وَأَصْلَحَا " العمل الدال على صدق التوبة " فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا " أي: عن أذاهما " إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا " أي: كثير التوبة على المذنبين الخطائين, عظيم الرحمة والإحسان, الذي - من إحسانه - وفقهم للتوبة, وقبلها منهم, وسامحهم عن ما صدر منهم.
ويؤخذ من هاتين الآيتين, أن بينة الزنا, أن تكون أربعة رجال مؤمنين.
ومن باب أولى وأحرى, اشتراط عدالتهم.
لأن الله تعالى, شدد في أمر هذه الفاحشة, سترا لعباده.
حتى إنه, لا يقبل فيها النساء منفردات, ولا مع الرجل, ولا مع دون أربعة.
ولابد من التصريح بالشهادة, كما دلت على ذلك, الأحاديث الصحيحة وتومئ إليه هذه الآية لما قال " فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ " .
لم يكتف بذلك حتى قال " فَإِنْ شَهِدُوا " أي: لا بد من شهادة صريحة عن أمر يشاهد عيانا, من غير تعريض, ولا كناية.
ويؤخذ منهما, أن الأذية بالقول والفعل, والحبس, قد شرعه الله, تعزيرا لجنس المعصية, الذي يحصل به الزجر.
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًاسورة النساء الآية رقم 17
توبة الله على عباده نوعان: توفيق منه للتوبة, وقبول لها, بعد وجودها من العبد.
فأخبر هنا - أن التوبة المستحقة على الله, حق أحقه على نفسه, كرما منه وجودا, لمن عمل السوء أي: المعاصي " بِجَهَالَةٍ " أي: جهالة منه لعاقبتها, وإيجابها لسخط الله وعقابه, وجهل منه, لنظر الله ومراقبته له, وجهل منه, بما تئول إليه من نقص الإيمان أو إعدامه.
فكل عاص لله, فهو جاهل بهذا الاعتبار, وإن كان عالما بالتحريم.
بل العلم بالتحريم, شرط لكونها معصية, معاقبا عليها.
" ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ " يحتمل أن يكون المعنى: ثم يتوبون قبل معاينة الموت.
فإن الله يقبل توبة العبد, إذا تاب قبل معاينة الموت والعذاب, قطعا.
وأما بعد حضور الموت, فلا يقبل من العاصين توبتهم, ولا من الكفار رجوع, كما قال تعالى عن فرعون: " حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ " الآية.
وقال تعالى: " فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ " وقال هنا:
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًاسورة النساء الآية رقم 18
" وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ " أي: المعاصي فيما دون الكفر.
" حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا " .
وذلك, أن التوبة في هذه الحال توبة اضطرار, لا تنفع صاحبها.
إنما تنفع توبة الاختيار.
ويحتمل أن يكون معنى قوله " من قريب " أي: قريب من فعلهم الذنب, الموجب للتوبة.
فيكون المعنى: من بادر إلى الإقلاع من حين صدور الذنب, وأناب إلى الله, وندم عليه فإن الله يتوب عليه.
بخلاف من استمر على ذنبه, وأصر على عيوبه, حتى صارت فيه صفات راسخة, فإنه يعسر عليه إيجاد التوبة التامة.
والغالب أنه لا يرفق للتوبة, ولا ييسر لأسبابها.
كالذي يعمل السوء على علم قائم, ويقين متهاون بنظر الله إليه, فإنه يسد على نفسه, باب الرحمة.
نعم قد يوفق الله عبده المصر على الذنوب, على عمد ويقين, للتوبة النافعة, التي يمحو بها ما سلف من سيئاته, وما تقدم من جناياته ولكن الرحمة والتوفيق للأول, أقرب.
ولهذا ختم الآية الأولى بقوله " وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا " .
فمن علمه أنه يعلم صادق التوبة وكاذبها, فيجازي كلا منهما, بحسب ما استحق بحكمته.
ومن حكمته, أن يوفق من اقتضت حكمته ورحمته, توفيقه للتوبة.
ويخذل من اقتضت حكمته وعدله, عدم توفيقه.
والله أعلم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًاسورة النساء الآية رقم 19
كانوا في الجاهلية إذا مات أحدهم عن زوجته, رأى قريبه, كأخيه, وابن عمه ونحوهما, أنه أحق بزوجته من كل أحد, وحماها عن غيره, أحبت أو كرهت.
فإن أحبها, تزوجها على صداق, يحبه دونها.
وإن لم يرضها, عضلها, فلا يزوجها إلا من يختاره هو.
وربما امتنع من تزويجها, حتى تبذل له شيئا من ميراث قريبه, أو من صداقها.
وكان الرجل أيضا, يعضل زوجته التي يكون يكرهها ليذهب ببعض ما آتاها, فنهى الله المؤمنين عن جميع هذه الأحوال إلا حالتين: إذا رضيت, واختارت نكاح قريب زوجها الأول, كما هو مفهوم قوله " كَرْهًا " .
وإذا أتين بفاحشة مبينة, كالزنا, والكلام الفاحش, وأذيتها لزوجها, فإنه في هذه الحال, يجوز له أن يعضلها, عقوبة لها على فعلها, لتفتدي منه إذا كان عضلا بالعدل.
ثم قال " وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ " وهذا يشمل المعاشرة القولية والفعلية.
فعلى الزوج أن يعاشر زوجته بالمعروف, من الصحبة الجميلة, وكف الأذى, وبذل الإحسان, وحسن المعاملة, ويدخل في ذلك النفقة, والكسوة ونحوهما.
فيجب على الزوج لزوجته, المعروف, من مثله لمثلها, في ذلك الزمان والمكان.
وهذا يتفاوت بتفاوت الأحوال.
" فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا " .
أي: ينبغي لكم - أيها الأزواج - أن تمسكوا زوجاتكم مع الكراهة لهن, فإن في ذلك, خيرا كثيرا.
من ذلك, امتثال أمر الله, وقبول وصيته التي فيها سعادة الدنيا والآخرة.
ومنها أن إجباره نفسه - مع عدم محبته لها - فيه مجاهدة النفس, والتخلق بالأخلاق الجميلة.
وربما أن الكراهة تزول, وتخلفها المحبة, كما هو الواقع في ذلك.
وربما رزق منها ولدا صالحا, نفع والديه في الدنيا والآخرة.
وهذا كله, مع الإمكان في الإمساك, وعدم المحذور.
فإذا كان لا بد من الفراق, وليس للإمساك محل, فليس الإمساك بلازم.
وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًاسورة النساء الآية رقم 20
بل متى " أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ " أي: تطليق زوجة, وتزوج أخرى.
أي: فلا جناح عليكم في ذلك ولا حرج.
ولكن إذا " وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ " أي: المفارقة, أو التي تزوجها " قِنْطَارًا " أي: مالا كثيرا.
" فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا " بل.
وفروه لهن, ولا تمطلوا بهن.
وفي هذه الآية, دلالة على تحريم كثرة المهر, مع أن الأفضل واللائق, الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في تخفيف المهر.
ووجه الدلالة, أن الله أخبر عن أمر يقع منهم, ولم ينكره عليهم.
فدل على عدم تحريمه.
لكن قد ينهي عن كثرة الصداق, إذا تضمن مفسدة دينية, وعدم مصلحة تقاوم.
ثم قال: " أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا " فإن هذا لا يحل, ولو تحيلتم عليه بأنواع الحيل, فإن إثمه واضح.
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًاسورة النساء الآية رقم 21
وقد بين تعالى حكمة ذلك بقوله: " وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا " .
وبيان ذلك: أن الزوجة قبل عقد النكاح, محرمة على الزوج, ولم ترض بحلها له إلا بذلك المهر, الذي يدفعه لها.
فإذا دخل بها, وأفضى إليها, وباشرها المباشرة التي كانت حراما قبل ذلك, والتي لم ترض ببذلها إلا بذلك العوض, فإنه قد استوفى المعوض, فثبت عليه العوض.
فكيف يستوفي المعوض, ثم بعد ذلك يرجع في العوض؟ هذا من أعظم الظلم والجور.
وكذلك أخذ الله على الأزواج, ميثاقا غليظا, بالعقد, والقيام بحقوقها.
وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاًسورة النساء الآية رقم 22
أي: لا تتزوجوا من النساء, ما تزوجهن آباؤكم, أي: الأب وإن علا.
" إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً " أي: أمرا قبيحا يفحش ويعظم قبحه " وَمَقْتًا " من الله لكم ومن الخلق, بل يمقت بسبب ذلك الابن أباه, والأب ابنه, مع الأمر ببره.
" وَسَاءَ سَبِيلًا " أي: بئس الطريق طريقا لمن سلكه, لأن هذا من عوائد الجاهلية, التي جاء الإسلام بالتنزه عنها, والبراءة منها.
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ الَّلاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ الَّلاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ الَّلاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًاسورة النساء الآية رقم 23
هذه الآيات الكريمات, مشتملات على المحرمات بالنسب, والمحرمات بالصهر, والمحرمات بالجمع, وعلى المحللات من النساء.
فأما المحرمات في النسب, فهن السبع اللاتي ذكرهن الله.
الأم, يدخل فيها, كل من لها عليك ولادة, وإن بعدت.
ويدخل في البنت كل من لك عليها ولادة, والأخوات الشقيقات, أو لأب أو لأم.
والعمة كل: أخت لأبيك, أو لجدك, وإن علا.
والخالة: كل أخت لأمك, أو جدتك وإن علت, وارثة أم لا.
وبنات الأخ, وبنات الأخت, أي: وإن نزلت.
فهؤلاء هن المحرمات من النسب, بإجماع العلماء, كما هو نص الآية الكريمة, وما عداهن فيدخل في قوله: " وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ " , وذلك كبنت العمة والعم, وبنت الخال والخالة.
وأما المحرمات بالرضاع, فقد ذكر الله منهن, الأم, والأخت.
وفي ذلك تحريم الأم مع أن اللبن ليس لها, إنما هو لصاحب اللبن.
دل بتنبيهه على أن صاحب اللبن, يكون أبا للمرتضع.
فإذا ثبتت الأبوة والأمومة, ثبت ما هو فرع عنهما, كأخوتهما, وأصولهما, وفروعهما.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم " يحرم من الرضاع, ما يحرم من النسب " .
فينتشر التحريم من جهة المرضعة, ومن له اللبن, كما ينتشر في الأقارب, وفي الطفل المرتضع, إلى ذريته فقط.
لكن بشرط أن يكون الرضاع, خمس رضعات في الحويين, كما بينت السنة.
وأما المحرمات بالصهر, فهن أربع.
حلائل الآباء وإن علوا, وحلائل الأبناء, وإن نزلوا, وارثين, أو محجوبين.
وأمهات الزوجة, وإن علون.
فهؤلاء الثلاث يحرمن بمجرد العقد.
والرابعة: الربيبة, وهي بنت زوجته وإن نزلت, فهذه لا تحرم حتى يدخل بزوجته كما قال هنا " وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ " الآية.
وقد قال الجمهور: إن قوله " اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ " قيد خرج بمخرج الغالب, لا مفهوم له.
فإن الربيبة تحرم, ولو لم تكن في حجره, ولكن للتقييد بذلك فائدتان: إحداهما: التنبيه على الحكمة في تحريم الربيبة, وأنها كانت بمنزلة البنت, فمن المستقبح إباحتها.
والثانية: فيه دلالة على جواز الخلوة بالربيبة, وأنها بمنزلة من هي في حجره من بناته ونحوهن.
والله أعلم.
وأما المحرمات بالجمع, فقد ذكر الله, الجمع بين الأختين, وحرمه.
وحرم النبي صلى الله عليه وسلم الجمع بين المرأة وعمتها, أو خالتها.
فكل امرأتين بينهما رحم محرم, لو قدر إحداهما ذكرًا, والأخرى أنثى, حرمت عليه, فإنه يحرم الجمع بينهما, وذلك لما في ذلك من أسباب التقاطع بين الأرحام.
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًاسورة النساء الآية رقم 24
ومن المحرمات في النكاح " وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ " أي: ذوات الأزواج.
فإنه يحرم نكاحهن ما دمن في ذمة الزوج, حتى تطلق, وتنقضي عدتها.
و " إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ " أي: بالسبي.
فإذا سبيت الكافرة ذات الزوج, حلت للمسلمين, بعد أن تستبرأ.
وأما إذا بيعت الأمة المزوجة, أو وهبت, فإنه لا ينفسخ نكاحها لأن المالك الثاني, نزل منزلة الأول, ولقصة بريرة, حين خيرها النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله " كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ " أي: الزموه واهتدوا به, فإن فيه الشفاء والنور, وفيه تفصيل الحلال من الحرام.
ودخل في قوله: " وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ " كل ما لم يذكر في هذه الآية, فإنه حلال طيب.
فالحرام محصور, والحلال ليس له حد ولا حصر, لطفا من الله, ورحمة, وتيسيرا للعباد.
وقوله " أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ " أي.
تطلبوا من وقع عليه نظركم واختياركم, من اللاتي أباحهن الله لكم حالة كونكم " مُحْصِنِينَ " أي: مستعفين عن الزنا, ومعفين نساءكم.
" غَيْرَ مُسَافِحِينَ " والسفح: سفح الماء في الحلال والحرام, فإن الفاعل لذلك, لا يحصن زوجته, لكونه وضع شهوته في الحرام, فتضعف داعيته للحلال, فلا يبقى محصنا لزوجته.
وفيها دلالة على أنه لا يزوج غير العفيف, لقوله تعالى: " الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ " .
" فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ " أي: من تزوجتموها " فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ " أي الأجور, في مقابلة الاستمتاع.
ولهذا إذا دخل الزوج بزوجته, تقرر عليه صداقها.
" فَرِيضَةً " أي إتيانكم إياهن أجورهن, فرض فرضه الله عليكم, ليس بمنزلة التبرع, الذي إن شاء أمضاه, وإن شاء رده.
أو معنى قوله فريضة: أي مقدرة قد قدرتموها, فوجبت عليكم, فلا تنقصوا منها شيئا.
" وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ " أي: بزيادة من الزوج, أو إسقاط من الزوجة عن رضا وطيب نفس, هذا قول كثير من المفسرين.
وقال كثير منهم: إنها نزلت في متعة النساء التي كانت حلالا في أول الإسلام, ثم حرمها النبي صلى الله عليه وسلم, وأنه يؤمر بتوقيتها, وأجرها, ثم إذا انقضى الأمد الذي بينهما, فتراضيا بعد الفريضة, فلا حرج عليهما, والله أعلم.
" إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا " أي: كامل العلم واسعه, كامل الحكمة.
فمن علمه وحكمته, شرع لكم هذه الشرائع, وحد لكم هذه الحدود الفاصلة بين الحلال والحرام.
وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌسورة النساء الآية رقم 25
ثم قال تعالى " وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا " الآية.
أي: ومن لم يستطع الطول الذي هو المهر لنكاح المحصنات, أي: الحرائر المؤمنات, وخاف على نفسه العَنَت, أي: الزنا والمشقة الكثيرة, فيجوز له نكاح الإماء المملوكات المؤمنات.
وهذا بحسب ما يظهر, وإلا, فالله أعلم بالمؤمن الصادق من غيره.
فأمور الدنيا مبنية على ظواهر الأمور, وأحكام الآخرة مبنية على ما في البواطن.
" فَانْكِحُوهُنَّ " أي: المملوكات " بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ " أي: سيدهن, واحدا, أو متعددا.
" وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ " أي: ولو كن إماء, فإنه كما يجب المهر للحرة, فكذلك يجب للأمة.
ولكن لا يجوز نكاح الإماء, إلا إذا كن " مُحْصَنَاتٍ " أي: عفيفات عن الزنا.
" غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ " أي: زانيات علانية.
" وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ " أي: أخلاء في السر.
فالحاصل, أنه لا يجوز للحر المسلم, نكاح أمة, إلا بأربعة شروط ذكرها الله: إيمانهن, والعفة ظاهرا, وباطنا, وعدم استطاعة طول الحرة, وخوف العنت.
فإذا تمت هذه الشروط, جاز له نكاحهن.
ومع هذا, فالصبر عن نكاحهن أفضل, لما فيه من تعريض الأولاد للرق, ولما فيه من الدناءة والعيب.
وهذا إذا أمكن الصبر, فإن لم يمكن الصبر عن الحرام, إلا بنكاحهن, وجب ذلك.
ولهذا قال " وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ " .
وقوله " فَإِذَا أُحْصِنَّ " أي: تزوجن أو أسلمن, أي الإماء " فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ " أي: الحرائر " مِنَ الْعَذَابِ " .
وذلك الذي يمكن تنصيفه, وهو: الجلد, فيكون عليهن خمسون جلدة.
وأما الرجم, فليس على الإماء رجم, لأنه لا يتنصف.
فعلى القول الأول, إذا لم يتزوجن, فليس عليهن حد, إنما عليهن تعزير يردعهن عن فعل الفاحشة.
وعلى القول الثاني: إن الإماء غير المسلمات.
, إذا فعلن فاحشة أيضا عزرن.
وختم هذه الآية بهذين الاسمين الكريمين " الغفور الرحيم " لكون هذه الأحكام, رحمة بالعباد, وكرما, وإحسانا إليهم, فلم يضيق عليهم, بل وسع غاية السعة.
ولعل في ذكر المغفرة بعد ذكر الحد, إشارة إلى أن الحدود كفارات, يغفر الله بها ذنوب عباده, كما ورد بذلك الحديث.
وحكم العبد الذكر في الحد المذكور, حكم الأمة, لعدم الفارق بينهما.
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌسورة النساء الآية رقم 26
يخبر تعالى, بمنته العظيمة, ومنحته الجسيمة, وحسن تربيته لعباده المؤمنين, وسهولة دينه فقال: " يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ " أي: جميع ما تحتاجون إلى بيانه, من الحق والباطل, والحلال والحرام.
" وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ " أي: الذين أنعم الله عليهم, من النبيين وأتباعهم, في سيرهم الحميدة, وأفعالهم السديدة, وشمائلهم الكاملة, وتوفيقهم التام.
فلذلك نفذ ما أراده, ووضح لكم, وبين بيانا, كما بين لمن قبلكم, وهداكم هداية عظيمة في العلم والعمل.
" وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ " أي: يلطف لكم في أحوالكم, وما شرعه لكم, حتى تتمكنوا من الوقوف على ما حده الله, والاكتفاء بما أحله, فتقل ذنوبكم, بسبب ما يسر الله عليكم, فهذا من توبته على عباده.
ومن توبته عليهم, أنهم إذا أذنبوا, فتح لهم أبواب الرحمة, وأوزع قلوبهم الإنابة إليه, والتذلل بين يديه, ثم يتوب عليهم, بقبول ما وفقهم له.
فله الحمد والشكر, على ذلك.
وقوله " وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ " أي: كامل الحكمة, فمن علمه أن علمكم ما لم تكونوا تعلمون.
ومنها هذه الأشياء والحدود.
ومن حكمته, أنه يتوب على من اقتضت حكمته ورحمته, التوبة عليه.
ويخذل من اقتضت حكمته وعدله, من لا يصلح للتوبة.
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًاسورة النساء الآية رقم 27
وقوله " وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ " أي: توبة تلم شعثكم, وتجمع متفرقكم, وتقرب بعيدكم.
" وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ " أي: يميلون معها حيث مالت, ويقدمونها على ما فيه رضا محبوبهم, ويعبدون أهواءهم, من أصناف الكفرة والعاصين, المقدمين لأهوائهم على طاعة ربهم.
فهؤلاء يريدون " أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا " أي: تنحرفوا عن الصراط المستقيم, إلى صراط المغضوب عليهم والضالين.
يريدون أن يصرفوكم عن طاعة الرحمن, إلى طاعة الشيطان, وعن التزام حدود من السعادة كلها, في امتثال أوامره, إلى مَنْ الشقاوة كلها في اتباعه.
فإذا عرفتم أن الله تعالى, يأمركم بما فيه صلاحكم وفلاحكم, وسعادتكم, وأن هؤلاء المتبعين لشهواتهم, يأمرونكم, بما فيه غاية الخسار والشقاء, فاختاروا لأنفسكم أولى الداعيين, وتخيروا أحسن الطريقتين.
يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًاسورة النساء الآية رقم 28
" يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ " أي: بسهولة ما أمركم به, ونهاكم عنه.
ثم مع حصول المشقة في بعض الشرائع, أباح لكم ما تقتضيه حاجتكم, كالميتة والدم ونحوهما, للمضطر, وكتزوج الأمة للحر, بتلك الشروط السابقة.
وذلك لرحمته التامة, وإحسانه الشامل, وعلمه وحكمته بضعف الإنسان, من جميع الوجوه, ضعف البنية, وضعف الإرادة وضعف العزيمة, وضف الإيمان, وضعف الصبر.
فناسب ذلك, أن يخفف الله عنه, ما يضعف عنه, وما لا يطيقه إيمانه, وصبره, وقوته.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًاسورة النساء الآية رقم 29
ينهى تعالى, عباده المؤمنين, أن يأكلوا أموالهم بينهم بالباطل.
وهذا يشمل أكلها بالغصوب, والسرقات, وأخذها بالقمار, والمكاسب الرديئة.
بل لعله يدخل في ذلك, أكل مال نفسك على وجه البطر والإسراف, لأن هذا من الباطل, وليس من الحق.
ثم إنه - لما حرم أكلها بالباطل - أباح لهم أكلها بالتجارات, والمكاسب الخالية من الموانع, المشتملة على الشروط, من التراضي وغيره.
" وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ " أي: لا يقتل بعضكم بعضا, ولا يقتل الإنسان نفسه.
ويدخل في ذلك, الإلقاء بالنفس إلى التهلكة, وفعل الأخطار المفضية إلى التلف والهلاك.
" إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا " ومن رحمته, أن صان نفوسكم وأموالكم, ونهاكم عن إضاعتها وإتلافها, ورتب على ذلك, ما رتبه من الحدود.
وتأمل هذا الإيجاز والجمع, في قوله " لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ " " وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ " كيف شمل أموال غيرك, ومال نفسك, وقتل نفسك, وقتل غيرك, بعبارة أخصر من قوله " لا يأكل بعضكم مال بعض " و " لا يقتل بعضكم بعضا " مع قصور هذه العبارة على مال الغير, ونفس الغير.
مع أن إضافة الأموال والأنفس إلى عموم المؤمنين, فيه دلالة على أن المؤمنين, في توادهم, وتراحمهم, وتعاطفهم, ومصالحهم, كالجسد الواحد, حيث كان الإيمان يجمعهم, على مصالحهم الدينية والدنيوية.
ولما نهى عن أكل الأموال بالباطل, التي فيها غاية الضرر عليهم, على الأكل; ومن أخذ ماله - أباح لهم, ما فيه مصلحتهم من أنواع المكاسب والتجارات, وأنواع الحرف والإجارات فقال: " إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ " أي: فإنها مباحة لكم.
وشرط التراضي - مع كونها تجارة - لدلالة أنه يشترط أن يكون العقد غير عقد ربا, لأن الربا ليس من التجارة, بل مخالف لمقصودها, وأنه لابد أن يرضى كل من المتعاقدين, ويأتي به اختيارا.
ومن تمام الرضا, أن يكون المعقود عليه, معلوما, لأنه إذا لم يكن كذلك, لا يتصور الرضا مقدورا على تسليمه, لأن غير المقدور عليه, شبيه ببيع القمار.
فبيع الغرر بجميع أنواعه, خال من الرضا, فلا ينفذ عقده.
وفيها أنه تنعقد العقود, بما دل عليها, من قول أو فعل, لأن الله شرط الرضا, فبأي طريق حصل الرضا, انعقد به العقد.
ثم ختم الآية بقوله " إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا " ومن رحمته, أن عصم دماءكم وأموالكم, وصانها, ونهاكم عن انتهاكها.
وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًاسورة النساء الآية رقم 30
ثم قال " وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ " أي: أكل الأموال بالباطل, وقتل النفوس " عُدْوَانًا وَظُلْمًا " أي: لا جهلا ونسيانا " فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا " أي: عظيمة كما يفيده التنكير " وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا " .
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5الصفحة 6