الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3
سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَسورة النور الآية رقم 1
أي: هذه " سُورَةٌ " عظيمة القدر " أَنْزَلْنَاهَا " رحمة منا بالعباد.
وحفظناها من كل شيطان " وَفَرَضْنَاهَا " أي: قدرنا فيها ما قدرنا, من الحدود والشهادات وغيرها.
" وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ " أي: أحكاما جليلة, وأوامر, وزواجر وحكما عظيمة " لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ " حين نبين لكم, ونعلمكم ما لم تكونوا تعلمون.
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَسورة النور الآية رقم 2
ثم شرع في بيان تلك الأحكام, المشار إليها, فقال: " الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي " إلى " مِنَ الْمُؤْمِنِينَ " .
هذا الحكم, في الزاني والزانية البكرين, أنهما يجلد كل منهما مائة جلدة.
وأما الثيب, فقد دلت السنة الصحيحة المشهورة, أن حده الرجم.
ونهانا تعالى أن تأخذنا رأفة بهما, في دين الله, تمنعنا من إقامة الحد عليهما, سواء رأفة طبيعية أو لأجل قرابة أو صداقة أو غير ذلك, وأن الإيمان, موجب لانتفاء هذه الرأفة المانعة, من إقامة أمر الله.
فرحمته حقيقة, بإقامة الحد عليه.
فنحن وإن رحمناه, لجريان القدر عليه, فلا نرحمه من هذا الجانب.
وأمر تعالى أن يحضر عذاب الزانيين, طائفة, أو جماعة من المؤمنين ليشتهر, ويحصل بذلك, الخزي والارتداع, وليشاهدوا الحد فعلا, فإن مشاهدة أحكام الشرع بالفعل, مما يقوى به العلم, ويستقر به الفهم, ويكون أقرب لإصابة الصواب, فلا يزاد فيه, ولا ينقص.
والله أعلم.
الزَّانِي لا يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَسورة النور الآية رقم 3
هذا بيان لرذيلة الزنا, وأنه يدنس عرض صاحبه, وعرض من قارنه ومازجه, ما لا يفعله بقية الذنوب.
فأخبر أن الزاني لا يقدم على نكاحه من النساء, إلا أنثى زانية, تناسب حاله حالها, أو مشركة بالله, لا تؤمن ببعث ولا جزاء, ولا تلتزم أمر الله.
والزانية كذلك, لا ينكحها إلا زان أو مشرك " وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ " أي: حرم عليهم أن ينكحوا زانيا, أو ينكحوا زانية.
ومعنى الآية: أن من اتصف بالزنا, من رجل أو امرأة, ولم يتب من ذلك, أن المقدم على نكاحه, مع تحريم الله لذلك, لا يخلو إما أن لا يكون ملتزما لحكم الله ورسوله, فذاك لا يكون إلا مشركا.
وإما أن يكون ملتزما لحكم الله ورسوله, فأقدم على نكاحه مع علمه بزناه, فإن هذا النكاح زنا, والناكح زان مسافح.
فلو كان مؤمنا بالله حقا, لم يقدم على ذلك.
وهذا دليل صريح على تحريم نكاح الزانية, حتى تتوب, وكذلك نكاح الزاني حتى يتوب.
فإن مقارنة الزوج لزوجته, والزوجة لزوجها, أشد الاقترانات, والازدواجات.
وقد قال تعالى: " احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ " أي: قرناءهم.
فحرم الله ذلك, لما فيه من الشر العظيم.
وفيه من قلة الغيرة, وإلحاق الأولاد, الذين ليسوا من الزوج, وكون الزاني لا يعفها بسبب اشتغاله بغيرها, مما بعضه كاف في التحريم.
وفي هذا دليل, على أن الزاني ليس مؤمنا, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " فهو وإن لم يكن مشركا, فلا يطلق عليه اسم المدح, الذي هو الإيمان المطلق.
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَسورة النور الآية رقم 4
لما عظم تعالى أمر الزاني بوجوب جلده وكذا رجمه, إن كان محصنا, وأنه لا تجوز مقارنته, ولا مخالطته على وجه لا يسلم فيه العبد من الشر, بين تعالى, تعظيم الإقدام على الأعراض بالرمي بالزنا فقال: " وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ " أي: النساء الحرائر العفائف, وكذلك الرجال, لا فرق بين الأمرين.
والمراد بالرمي الرمي بالزنا, بدليل السياق.
" ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا " على ما رموا له " بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ " أي: رجال عدول, يشهدون بذلك صريحا.
" فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً " بسوط متوسط, يؤلم فيه, ولا يبالغ بذلك, حتى يتلفه, لأن القصد, التأديب, لا الإتلاف.
وفي هذا تقرير حد القذف.
ولكن بشرط, أن يكون المقذوف كما قال تعالى محصنا مؤمنا.
وأما قذف غير المحصن, فإنه يوجب التعزير.
" وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا " أي: لهم عقوبة أخرى, وهو أن شهادة القاذف, غير مقبولة, ولو حد على القذف, حتى يتوب كما يأتي.
" وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ " أي: الخارجون عن طاعة الله, الذين قد كثر شرهم.
وذلك لانتهاك ما حرم الله, وانتهاك عرض أخيه, وتسليط الناس على الكلام بما تكلم به وإزالة الأخوة التي عقدها الله بين أهل الإيمان, ومحبة أن تشيع الفاحشة, في الذين آمنوا.
وهذا دليل, على أن القذف من كبائر الذنوب.
إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌسورة النور الآية رقم 5
وقوله " إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ " فالتوبة في هذا الموضع, أن يكذب القاذف نفسه, ويقر أنه كاذب فيما قال, وهو واجب عليه, أن يكذب نفسه ولو تيقن وقوعه, حيث لم يأت بأربعة شهداء.
فإذا تاب القاذف وأصلح عمله, وبدل إساءته إحسانا, زال عنه الفسق, وكذلك تقبل شهادته على الصحيح.
فإن الله غفور رحيم يغفر الذنوب جميعا, لمن تاب وأناب.
وإنما يجلد القاذف, إذا لم يأت بأربعة شهداء إذا لم يكن زوجا.
فإن كان زوجا, فقد ذكر بقوله: " وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ " إلى " تَوَّابٌ حَكِيمٌ " .
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَسورة النور الآية رقم 6
وإنما كانت شهادات الزوج على زوجته, دارئة عنه الحد, لأن الغالب, أن الزوج لا يقدم على رمي زوجته, التي يدنسه ما يدنسها إلا إذا كان صادقا.
ولأن له في ذلك حقا, وخوفا من إلحاق أولاد, ليسوا منه به, ولغير ذلك من الحكم المفقودة في غيره فقال: " وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ " أي الحرائر لا المملوكات.
" وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ " على رميهم بذلك " شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ " بأن لم يقيموا شهداء, على ما رموهن به " فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ " .
سماها شهادة, لأنها نائبة مناب الشهود, بأن يقول " أشهد بالله, إني لمن الصادقين, فيما رميتها به " .
وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَسورة النور الآية رقم 7
" وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ " أي: يزيد في الخامسة مع الشهادة المذكورة, مؤكدا تلك الشهادات, بأن يدعو على نفسه, باللعنة إن كان كاذبا.
فإذا تم لعانه, سقط عنه حد القذف.
وظاهر الآيات, ولو سمى الرجل الذي رماها به, فإنه يسقط حقه, تبعا لها.
وهل يقام عليها الحد بمجرد لعان الرجل ونكولها أم تحبس؟ فيه قولان للعلماء.
الذي يدل عليه الدليل أنه يقام عليه الحد بدليل قوله " وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ " إلى آخره.
فلولا أن العذاب وهو الحد قد وجب بلعانه, لم يكن لعانها دارئا له.
وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَسورة النور الآية رقم 8
ويدرأ عنها, أي: يدفع عنها العذاب, إذا قابلت شهادات الزوج, بشهادات من جنسها.
" أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ " وتزيد في الخامسة, مؤكدة لذلك, أن تدعو على نفسها بالغضب.
فإذا تم اللعان بينهما, فرق بينهما إلى الأبد, وانتفى الولد الملاعن عنه.
وظاهر الآيات يدل على اشتراط هذه الألفاظ عند اللعان, منه ومنها.
واشتراط الترتيب فيها, وأن لا ينقص منها شيء, ولا يبدل شيء بشيء.
وأن اللعان مختص بالزوج إذا رمى امرأته, لا بالعكس وأن الشبه في الولد مع اللعان لا عبرة به, كما لا يعتبر مع الفراش.
وإنما يعتبر الشبه حيث لا مرجح, إلا هو.
وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَسورة النور الآية رقم 9
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌسورة النور الآية رقم 10
" وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ " وجواب الشرط محذوف, يدل عليه سياق الكلام أي: لأحل بأحد المتلاعنين الكاذب منهما, ما دعا به على نفسه.
ومن رحمته وفضله, ثبوت هذا الحكم الخاص بالزوجين, لشدة الحاجة إليه, وأن بين لكم شدة الزنا وفظاعته, وفظاعة القذف به, وأن شرع التوبة من هذه الكبائر وغيرها.
إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌسورة النور الآية رقم 11
لما ذكر فيما تقدم تعظيم, الرمي بالزنا عموما, صار ذلك كأنه مقدمة لهذة القصة, التي وقعت على أشرف النساء, أم المؤمنين رضي الله عنها.
وهذه الآيات, نزلت في قصة الإفك المشهورة, الثابتة في الصحيح والسنن والمسانيد.
وحاصلها أن النبي صلى الله عليه وسلم, في بعض غزواته, ومعه زوجته عائشة الصديقة, بنت الصديق.
فانقطع عقدها فانحبست في طلبه ورحلوا جملها وهودجها, فلم يفقدوها ثم استقل الجيش راحلا, وجاءت مكانهم, وعلمت أنهم إذا فقدوها, رجعوا إليها فاستمروا في مسيرهم.
وكان صفوان بن المعطل السلمي, من أفاضل الصحابة رضي الله عنه, قد عرس في أخريات القوم, ونام.
فرأى عائشة رضي الله عنها, فعرفها, فأناخ راحلته, فركبتها من دون أن يكلمها أو تكلمه, ثم جاء يقود بها, بعد ما نزل الجيش في الظهيرة.
فلما رأى بعض المنافقين, الذين في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم, في ذلك السفر, مجيء صفوان بها في هذه الحال أشاع ما أشاع, وفشا الحديث, وتلقفته الألسن, حتى اغتر بذلك بعض المؤمنين, وصاروا يتناقلون هذا الكلام, وانحبس الوحي مدة طويلة عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
وبلغ الخبر عائشة بعد ذلك بمدة, فحزنت حزنا شديدا.
فأنزل الله براءتها في هذه الآيات.
ووعظ الله المؤمنين, وأعظم ذلك, ووصاهم بالوصايا النافعة فقوله تعالى: " إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ " أي: الكذب الشنيع, وهو رمي أم المؤمنين " عُصْبَةٌ مِنْكُمْ " أي: جماعة منتسبون إليكم يا معشر المؤمنين, منهم المؤمن الصادق في إيمانه, لكنه اغتر بترويج المنافقين, ومنهم المنافق.
" لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ " لما تضمن ذلك من تبرئة أم المؤمنين ونزاهتها, والتنويه بذكرها, حتى تناول عموم المدح سائر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم.
ولما تضمن من بيان الآيات المضطر إليها العباد, التي ما زال العمل بها إلى يوم القيامة فكل هذا خير عظيم, لولا مقالة أهل الإفك لم يحصل ذلك.
وإذا أراد الله أمرا جعل له سببا, ولذلك جعل الخطاب عاما مع المؤمنين كلهم.
وأخبر أن قدح بعضهم ببعض, كقدح في أنفسهم.
ففيه أن المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم, واجتماعهم على مصالحهم, كالجسد الواحد, والمؤمن للمؤمن, كالبنيان يشد بعضه بعضا.
فكما أنه يكره أن يقدح أحد في عرضه, فليكره من كل أحد, أن يقدح في أخيه المؤمن, الذي بمنزلة نفسه, وما لم يصل العبد إلى هذه الحالة, فإنه من نقص إيمانه, وعدم نصحه.
" لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ " وهذا وعيد للذين جاءوا بالإفك, وأنهم سيعاقبون على ما قالوا من ذلك, وقد حد النبي صلى الله عليه وسلم منهم جماعة.
" وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ " أي: معظم الإفك, وهو المنافق الخبيث, عبد الله بن أبي, ابن سلول, لعنه الله " لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ " ألا وهو الخلود في الدرك الأسفل من النار.
لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌسورة النور الآية رقم 12
ثم أرشد الله عباده عند سماع مثل هذا الكلام فقال: " لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا " أي: ظن المؤمنون بعضهم ببعض خيرا, وهو السلام مما رموا به, وأن ما معهم من الإيمان المعلوم, يدفع ما قيل فيهم من الإفك الباطل.
" وَقَالُوا " بسبب ذلك الظن " سُبْحَانَكَ " أي: تنزيها لك من كل سوء وعن أن تبتلي أصفياءك بالأمور الشنيعة.
" هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ " أي: كذب وبهت, من أعظم الأشياء, وأبينها.
فهذا من الظن الواجب, حين سماع المؤمن عن أخيه المؤمن, مثل هذا الكلام, أن يبرئه بلسانه, ويكذب القائل لذلك.
لَوْلا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُولَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَسورة النور الآية رقم 13
" لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ " أي: هلا جاء الرامون على ما رموا به, بأربعة شهداء أي: عدول مرضيين.
" فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ " وإن كانوا في أنفسهم قد تيقنوا ذلك, فإنهم كاذبون في حكم الله, لأنه حرم عليهم التكلم بذلك, من دون أربعة شهود.
ولهذا قال: " فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ " , ولم يقل " فأولئك الكاذبون " وهذا كله, من تعظيم حرمة عرض المسلم, بحيث لا يجوز الإقدام على رميه, من دون نصاب الشهادة بالصدق.
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌسورة النور الآية رقم 14
" وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ " بحيث شملكم إحسانه فيهما, في أمر دينكم ودنياكم.
" لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ " أي: خضتم " فِيهِ " من شأن الإفك " عَذَابٌ عَظِيمٌ " لاستحقاقكم ذلك بما قلتم.
ولكن من فضل الله عليكم ورحمته, أن شرع لكم التوبة, وجعل العقوبة مطهرة للذنوب.
إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌسورة النور الآية رقم 15
" إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ " أي: تتلقفونه, ويلقيه بعضكم إلى بعض وتستوشون حديثه, وهو قول باطل.
" وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ " والأمران محظوران, التكلم بالباطل, والقول بلا علم.
" وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا " فلذلك أقدم عليه, من أقدم, من المؤمنين, الذين تابوا منه, وتطهروا بعد ذلك.
" وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ " وهذا فيه الزجر البليغ, عن تعاطي بعض الذنوب على وجه التهاون بها.
فإن العبد لا يفيده حسبانه شيئا, ولا يخفف من عقوبته, الذنب.
بل يضاعف الذنب, ويسهل عليه مواقعته, مرة أخرى.
وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌسورة النور الآية رقم 16
" لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ " أي: وهلا إذ سمعتم - أيها المؤمنون - كلام أهل الإفك.
" قُلْتُمْ " منكرين لذلك, معظمين لأمره: " مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا " أي: ما ينبغي لنا, وما يليق بنا الكلام, بهذا الإفك المبين, لأن المؤمن يمنعه إيمانه من ارتكاب القبائح " هَذَا بُهْتَانٌ " أي كذب عظيم.
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَسورة النور الآية رقم 17
" يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ " أي: لنظيره, من رمي المؤمنين بالفجور.
فالله يعظكم, وينصحكم عن ذلك, ونعم المواعظ والنصائح, من ربنا فيجب علينا مقابلتها, بالقبول والإذعان, والتسليم والشكر له, على ما بين لنا " إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ " .
" إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ " دل ذلك على أن الإيمان الصادق, يمنع صاحبه من الإقدام على المحرمات.
وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌسورة النور الآية رقم 18
" وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ " المشتملة, على بيان الأحكام, والوعظ, والزجر, والترغيب, والترهيب, يوضحها لكم توضيحا جليا.
" وَاللَّهُ عَلِيمٌ " أي: كامل العلم " حَكِيمٌ " كامل الحكمة.
فمن علمه وحكمته, أن علمكم من علمه, وإن كان ذلك, راجعا لمصالحكم في كل وقت.
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَسورة النور الآية رقم 19
" إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ " أي: الأمور الشنيعة المستقبحة, فيحبون أن تشتهر الفاحشة " فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " أي: موجع للقلب والبدن, وذلك لغشه لإخوانه المسلمين, ومحبة الشر لهم, وجراءته على أعراضهم.
فإذا كان هذا الوعيد, لمجرد محبة أن تشيع الفاحشة, واستحلاء ذلك بالقلب, فكيف بما هو أعظم من ذلك, من إظهاره, ونقله؟!! وسواء كانت الفاحشة, صادرة, أو غير صادرة.
وكل هذا, من رحمة الله لعباده المؤمنين, وصيانة أعراضهم, كما صان دماءهم وأموالهم, وأمرهم بما يقتضي المصافاة, وأن يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه, ويكره له, ما يكره لنفسه.
" وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ " فلذلك علمكم, وبين لكم ما تجهلونه.
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَؤُوفٌ رَحِيمٌسورة النور الآية رقم 20
" وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ " قد أحاط بكم من كل جانب " وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ " لما بين لكم هذه الأحكام والمواعظ, والحكم الجليلة, ولما أمهل من خالف أمره.
ولكن فضله ورحمته, وأن ذلك وصفه اللازم آثر لكم من الخير الدنيوي والأخروي, ما لن تحصوه, أو تعدوه.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌسورة النور الآية رقم 21
ولما نهى عن هذا الذنب بخصوصه, نهى عن الذنوب عموما فقال: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ " أي طرقه ووساوسه.
وخطوات الشيطان, يدخل فيها سائر المعاصي المتعلقة بالقلب, واللسان والبدن.
ومن حكمته تعالى, أن بين الحكم, وهو: النهي عن اتباع خطوات الشيطان.
والحكمة وهو بيان ما في المنهي عنه, من الشر المقتضي, والداعي لتركه فقال: " وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ " أي: الشيطان " يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ " أي: ما تستفحشه العقول والشرائع, من الذنوب العظيمة, مع ميل بعض النفوس إليه.
" وَالْمُنْكَرِ " وهو: ما تنكره العقول ولا تعرفه.
فالمعاصي التي هي خطوات الشيطان, لا تخرج عن ذلك.
فنهى الله عنها العباد, نعمة منه عليهم, أن يشكروه ويذكروه, لأن ذلك, صيانة لهم عن التدنس بالرذائل والقبائح.
فمن إحسانه عليهم, أن نهاهم عنها, كما نهاهم عن أكل السموم القاتلة ونحوها.
" وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا " أي: ما تطهر من اتباع خطوات الشيطان, لأن الشيطان يسعى, هو وجنده, في الدعوة إليها وتحسينها, والنفس ميالة إلى السوء, أمارة به, والنقص مستول على العبد, من جميع جهاته, والإيمان غير قوي.
فلو خلي وهذه الدواعي, ما زكى أحد بالتطهر من الذنوب, والسيئات, والنماء بفعل الحسنات, فإن الزكاء يتضمن الطهارة والنماء.
ولكن فضله ورحمته أوجبا, أن يتزكى منكم, من تزكى.
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم آت نفسي تقواها, وزكها أنت خير من زكاها, أنت وليها ومولاها " ولهذا قال: " وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ " من يعلم منه أن يتزكى بالتزكية, ولهذا قال: " وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " .
وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌسورة النور الآية رقم 22
" وَلَا يَأْتَلِ " أي: لا يحلف " أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا " .
كان من جملة الخائضين في الإفك " مسطح بن أثاثة " وهو قريب لأبي بكر الصديق رضي الله عنه, وكان مسطح فقيرا من المهاجرين في سبيل الله.
فحلف أبو بكر أن لا ينفق عليه, لقوله الذي قال.
فنزلت هذه الآية, ينهاهم عن هذا الحلف المتضمن لقطع النفقة عنه, ويحثه على العفو والصفح, ويعده بمغفرة الله, إن غفر له فقال: " أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ " إذا عاملتم عبيده, بالعفو والصفح, عاملكم بذلك, فقال أبو بكر - لما سمع هذه الآية-: بلى, والله إني لأحب أن يغفر الله لي, فرجع النفقة إلى مسطح.
وفي هذه الآية دليل على النفقة على القريب, وأنه لا تترك النفقة والإحسان بمعصية الإنسان, والحث على العفو والصفح, ولو جرى منه ما جرى من أهل الجرائم.
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌسورة النور الآية رقم 23
ثم ذكر الوعيد الشديد على رمي المحصنات فقال: " إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ " أي: العفائف عن الفجور " الْغَافِلَاتِ " اللاتي لم يخطر ذلك بقلوبهن " الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ " واللعنة, لا تكون إلا على ذنب كبير.
وأكد اللعنة بأنها متواصلة عليهم في الدارين.
" وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ " وهذا زيادة على اللعنة, أبعدهم عن رحمته, وأحل بهم شدة نقمته.
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَسورة النور الآية رقم 24
وذلك العذاب يوم القيامة " يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " فكل جارحة تشهد عليه بما عملته, ينطقها الذي أنطق كل شيء, فلا يمكنه الإنكار.
ولقد عدل في العباد, من جعل شهودهم من أنفسهم.
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُسورة النور الآية رقم 25
" يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ " أي: جزاءهم على أعمالهم, الجزاء الحق, الذي بالعدل والقسط, يجدون جزاءهم موفرا, لم يفقدوا منها شيئا.
" وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا " ويعلمون في ذلك الموقف العظيم, أن الله هو الحق المبين فيعلمون انحصار الحق المبين في الله تعالى.
فأوصافه العظيمة حق, وأفعاله هي الحق, وعبادته هي الحق, ولقاؤه حق, ووعيده حق, وحكمه الديني والجزائي حق, ورسله حق, فلا ثم حق, إلا في الله, وما من الله.
الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌسورة النور الآية رقم 26
" الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ " أي: كل خبيث من الرجال والنساء, والكلمات والأفعال, مناسب للخبيث, وموافق له, ومقترن به, ومشاكل له.
وكل طيب من الرجال والنساء, والكلمات, والأفعال, مناسب للطيب, وموافق له, ومقترن به, ومشاكل له.
فهذه كلمة عامة وحصر, لا يخرج منه شيء, من أعظم مفرداته, أن الأنبياء, خصوصا أولي العزم منهم, خصوصا سيدهم محمد صلى الله عليه وسلم, الذي هو أفضل الطيبين من الخلق, على الإطلاق, لا يناسبهم إلا كل طيب من النساء.
فالقدح في عائشة رضي الله عنها بهذا الأمر, قدح في النبي صلى الله عليه وسلم, وهو المقصود بهذا الإفك, من قصد المنافقين.
فمجرد كونها زوجة للرسول صلى الله عليه وسلم, يعلم أنها لا تكون إلا طيبة طاهرة, من هذا الأمر القبيح.
فكيف وهي ما هي؟!! صديقة النساء, وأفضلهن, وأعلمهن, وأطيبهن, حبيبة رسول رب العالمين, التي لم ينزل الوحي عليه, وهو في لحاف زوجة من زوجاته, غيرها؟!!.
ثم صرح بذلك, بحيث لا يبقى لمبطل مقالا, ولا لشك وشبهة مجالا فقال: " أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ " والإشارة إلى عاثشة رضي الله عنها أصلا, وللمؤمنات المحصنات الغافلات, تبعا لها.
" لَهُمْ مَغْفِرَةٌ " تستغرق الذنوب " وَرِزْقٌ كَرِيمٌ " في الجنة صادر من الرب الكريم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَسورة النور الآية رقم 27
يرشد الباري عباده المؤمنين, أن لا يدخلوا بيوتا غير بيوتهم بغير استئذان.
فإن في ذلك عدة مفاسد: منها ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم, حيث قال " إنما جعل الاستئذان من أجل البصر " .
فبسبب الإخلال به, يقع البصر على العورات, التي داخل البيوت.
فإن البيت للإنسان, في ستر عورة ما وراءه بمنزلة الثوب في ستر عورة جسده.
ومنها: أن ذلك, يوجب الريبة من الداخل, ويتهم بالشر, سرقة أو غيرها, لأن الدخول خفية, يدل على الشر.
ومنع الله المؤمنين من دخول غير بيوتهم " حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا " أي.
تستأذنوا.
سمي الاستئذان استئناسا, لأن به يحصل الاستئناس, وبعدمه تحصل الوحشة.
" وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا " .
وصفة ذلك, ما جاء في الحديث " السلام عليكم, أأدخل " ؟.
" ذَلِكُمْ " أي الاستئذان المذكور " خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ " لاشتماله على عدة مصالح, وهو من مكارم الأخلاق الواجبة, فإن أذن, دخل المستأذن.
فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌسورة النور الآية رقم 28
" فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا " أي: فلا تمتنعوا من الرجوع, ولا تغضبوا منه.
فإن صاحب المنزل, لم يمنعكم حقا واجبا لكم, وإنما هو متبرع, فإن شاء أذن, أو منع.
فأنتم لا يأخذ أحدكم الكبر والاشمئزاز, من هذه الحال.
" هُوَ أَزْكَى لَكُمْ " أي: أشد لتطهيركم من السيئات, وتنميتكم بالحسنات.
" وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ " فيجازي كل عامل بعمله, من كثرة وقلة, وحسن, وعدمه.
هذا الحكم, في البيوت المسكونة, سواء كان فيها متاع للإنسان, أم لا, وفي البيوت غير المسكونة, التي لا متاع فيها للإنسان.
لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَسورة النور الآية رقم 29
وأما البيوت التي ليس فيها أهلها, وفيها متاع الإنسان المحتاج للدخول إليه, وليس فيها أحد يتمكن من استئذانه, وذلك كبيوت الكراء وغيرها, فقد ذكرها بقوله: " لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ " أي: حرج وإثم, دل على أن الدخول من غير استئذان في البيوت السابقة, أنه محرم, وفيه حرج " أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ " وهذا من احترازات القرآن العجيبة, فإن قوله " لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ " لفظ عام في كل بيت ليس ملكا للإنسان, أخرج منه تعالى البيوت التي ليست ملكه, وفيها متاعه, وليس فيها مساكن, فأسقط الحرج في الدخول إليها.
" وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ " أحوالكم الظاهرة والخفية, وعلم مصالحكم, فلذلك شرع لكم ما تحتاجون إليه وتضطرون, من الأحكام الشرعية.
قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَسورة النور الآية رقم 30
أي: أرشد المؤمنين, وقل لهم, الذين معهم إيمان, يمنعهم من وقوع ما يخل بالإيمان: " يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ " عن النظر إلى العورات وإلى النساء الأجنبيات, وإلى المردان, الذين يخاف بالنظر إليهم الفتنة, وإلى زينة الدنيا التي تفتن, وتوقع في المحذور.
" وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ " عن الوطء الحرام, في قبل أو دبر, أو ما دون ذلك, وعن التمكين من مسها, والنظر إليها.
" ذَلِكَ " الحفظ للأبصار والفروج " أَزْكَى لَهُمْ " أطهر, وأطيب, وأنمى لأعمالهم, فإن من حفظ فرجه وبصره, طهر من الخبث الذي يتدنس به أهل الفواحش, وزكت أعماله, بسبب ترك المحرم, الذي تطمع إليه النفس وتدعو إليه.
فمن ترك شيئا لله, عوضه الله خيرا منه, ومن غض بصره, أنار الله بصيرته ولأن العبد إذا حفظ فرجه وبصره عن الحرام ومقدماته, مع دواعي الشهوة, كان حفظه لغيره أبلغ, ولهذا سماه الله حفظا.
فالشيء المحفوظ إن لم يجتهد حافظه في مراقبته وحفظه, وعمل الأسباب الموجبة لحفظه, لم ينحفظ.
كذلك البصر والفرج, إن لم يجتهد العبد في حفظهما, أوقعاه في بلايا ومحن.
وتأمل كيف أمر بحفظ الفرج مطلقا لأنه لا يباح في حالة من الأحوال وأما البصر فقال: " يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ " بأداة " من " الدالة على التبعيض.
فإنه يجوز النظر في بعض الأحوال, لحاجة كنظر الشاهد والعامل والخاطب, ونحو ذلك.
ثم ذكرهم بعلمه بأعمالهم, ليجتهدوا في حفظ أنفسهم من المحرمات.
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3