الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍسورة هود الآية رقم 1
يقول تعالى: هذا " كِتَابٌ " عظيم, ونزل كريم.
" أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ " أي: أتقنت وأحسنت, صادقة أخبارها, عادلة أوامرها ونواهيها, فصيحة ألفاظه بهية معانيه.
" ثُمَّ فُصِّلَتْ " أي: ميزت, وبينت بيانا, في أعلى أنواع البيان.
" مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ " يضع الأشياء مواضعها, وينزلها منالها.
لا يأمر, ولا ينهى, إلا بما تقتضيه حكمته.
" خَبِيرٌ " مطلع على الظواهر والبواطن.
فإذا كان إحكامه وتفصيله من عند الله الحكيم الخبير, فلا تسأل بعد هذا, عن عظمته وجلالته, واشتماله على كمال الحكمة, وسعة الرحمة.
أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌسورة هود الآية رقم 2
وإنما أنزل الله كتابه لأجل " أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ " أي: لأجل إخلاص الدين كله لله, وأن لا يشرك به أحد من خلقه.
" إِنَّنِي لَكُمْ " أيها الناس " مِنْهُ " أي: من الله ربكم " نَذِيرٍ " لمن تجرأ على المعاصي, بعقاب الدنيا والآخرة.
" وَبَشِيرٌ " للمطيعين لله, بثواب الدنيا والآخرة.
وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍسورة هود الآية رقم 3
" وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ " عن ما صدر منكم من الذنوب " ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ " فيما تستقبلون من أعماركم, بالرجوع إليه, بالإنابة والرجوع, عما يكرهه الله إلى ما يحبه ويرضاه.
ثم ذكر ما يترتب على الاستغفار والتوبة فقال: " يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا " أي: يعطيكم من رزقه, ما تتمتعون به, وتنتفعون.
" إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى " أي: إلى وقت وفاتكم " وَيُؤْتِ " منكم " كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ " أي: يعطي أهل الإحسان والبر, من فضله وبره, ما هو جزاء لإحسانهم, من حصول ما يحبون, ودفع ما يكرهون.
" وَإِنْ تَوَلَّوْا " عن ما دعوتكم إليه, بل أعرضتم عنه, وربما كذبتم به " فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ " وهو يوم القيامة, الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين.
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌسورة هود الآية رقم 4
" إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ " ليجازيهم بأعمالهم, إن خيرا فخير, وإن شرا فشر.
وفي قوله: " وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " كالدليل على إحياء الله الموتى, فإنه على كل شيء قدير, ومن جملة الأشياء إحياء الموتى, وقد أخبر بذلك وهو أصدق القائلين, فيجب وقوع ذلك عقلا ونقلا.
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِسورة هود الآية رقم 5
يخبر تعالى عن جهل المشركين, وشدة ضلالهم أنهم " يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ " أي: يميلونها " لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ " أي: من الله, فتقع صدورهم حاجبة لعلم الله, بأحوالهم, وبصره لهيئاتهم.
قال تعالى - مبينا خطأهم في هذا الظن - " أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ " أي يتغطون بها, يعلمهم في تلك الحال, التي هي من أخفى الأشياء.
بل " يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ " من الأقوال والأفعال " وَمَا يُعْلِنُونَ " منها.
بل ما هو أبلغ من ذلك وهو " إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ " أي: بما فيها من الإرادات, والوساوس, والأفكار, التي لم ينطقوا بها, سرا ولا جهرا.
فكيف تخفى عليه حالكم, إذا ثنيتم صدوركم لتستخفوا منه.
ويحتمل أن المعنى في هذا, أن الله يذكر إعراض المكذبين للرسول, الغافلين عن دعوته, أنهم - من شدة إعراضهم - يثنون صدورهم, أي: يحدودبون, حين يرون الرسول, لئلا يراهم, ويسمعهم دعوته, ويعظهم بما ينفعهم.
فهل فوق هذا الإعراض شيء؟!! ثم توعدهم بعلمه تعالى بجميع أحوالهم, وأنهم لا يخفون عليه, وسيجازيهم بصنيعهم.
" وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ "
أي: جميع ما دب على وجه الأرض, من آدمي, وحيوان, بري, أو بحري, فالله تعالى قد تكفل بأرزاقهم وأقواتهم, فرزقهم على الله.
" وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا " أي: يعلم مستقر هذه الدواب, وهو: المكان الذي تقيم فيه, وتستقر فيه, وتأوى إليه, ومستودعها: المكان الذي تنتقل إليه في ذهابها ومجيئها, وعوارض أحوالها.
" كُلِّ " من تفاصيل أحوالها " فِي كِتَابٍ مُبِينٍ " أي: في اللوح المحفوظ المحتوي على جميع الحوادث الواقعة, والتي تقع في السماوات والأرض.
الجميع قد أحاط بها علم الله, وجرى بها قلمه, ونفذت فيها مشيئته, ووسعها رزقه.
فلتطمئن القلوب إلى كفاية من تكفل بأرزاقها, وأحاط علما بذواتها, وصفاتها
وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍسورة هود الآية رقم 6
وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌسورة هود الآية رقم 7
يخبر تعالى, أنه " خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ " أولها: يوم الأحد, وآخرها يوم الجمعة.
وحين خلق السماوات والأرض " وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ " فوق السماء السابعة.
فبعد أن خلق السماوات والأرض, استوى على عرشه, يدبر الأمور, ويصرفها كيف شاء, من الأحكام القدرية, والأحكام الشرعية.
ولهذا قال " لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا " أي: ليمتحنكم, إذ خلق لكم ما في السماوات والأرض, بأمره ونهيه, فينظر أيكم أحسن عملا.
قال الفضيل بن عباس رحمه الله " دين الله أخلصه وأصوبه " .
قيل, يا أبا علي " ما أخلصه وأصوبه " ؟.
فقال: إن العمل إذا كان خالصا, ولم يكن صوابا, لم يقبل.
وإذا كان صوابا, ولم يكن خالصا لم يقبل, حتى يكون خالصا صوابا.
والخالص: أن يكون لوجه الله, والصواب: أن يكون متبعا فيه الشرع والسنة.
وهذا كما قال تعالى " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ " .
وقال تعالى: " اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا " .
فالله تعالى خلق الخلق لعبادته, ومعرفته بأسمائه وصفاته, وأمرهم بذلك.
فمن انقاد, وأدى ما أمر به, فهو من المفلحين, ومن أعرض عن ذلك, فأولئك هم الخاسرون.
ولا بد أن يجمعهم في دار, يجازيهم فيها على ما أمرهم به ونهاهم.
ولهذا ذكر الله تكذيب المشركين بالجزاء, فقال: " وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ " .
أي: ولئن قلت لهؤلاء, وأخبرتهم بالبعث بعد الموت, لم يصدقوك, بل كذبوك أشد التكذيب, وقدحوا فيما جئت به, وقالوا: " إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ " ألا وهو الحق المبين.
وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَسورة هود الآية رقم 8
" وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ " أي: إلى وقت مقدر فاستبطأوه, لقالوا من جهلهم وظلمهم " مَا يَحْبِسُهُ " .
ومضمون هذا, تكذيبهم به, فإنهم يستدلون بعدم وقوعه بهم عاجلا, على كذب الرسول, المخبر بوقوع العذاب, فما أبعد هذا الاستدلال!!.
" أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ " فيتمكنون من النظر في أمرهم.
" وَحَاقَ بِهِمْ " أي: أحاط بهم ونزل " مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ " من العذاب, حيث تهاونوا به, حتى جزموا بكذب من جاء به.
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌسورة هود الآية رقم 9
يخبر تعالى عن طبيعة الإنسان, أنه جاهل ظالم, بأن الله إذا أذاقه منه رحمة, كالصحة, والرزق, والأولاد, ونحو ذلك, ثم نزعها منه, فإنه يستسلم لليأس, وينقاد للقنوط, فلا يرجو ثواب الله, ولا يخطر بباله أن الله سيردها, أو مثلها, أو خيرا منها.
عليه.
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌسورة هود الآية رقم 10
وأنه إذا أذاقه رحمة من بعد ضراء مسته, أنه يفرح ويبطر, ويظن أنه سيدوم له ذلك الخير ويقول: " ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ " أي: يفرح بما أوتي مما يوافق هوى نفسه, فخور بنعم الله على عباد الله.
وذلك يحمله على الأشر والبطر والإعجاب بالنفس, والتكبر على الخلق, واحتقارهم, وازدرائهم.
وأي عيب أشد من هذا؟!!
إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌسورة هود الآية رقم 11
وهذه طبيعة الإنسان من حيث هو, إلا من وفقه الله, وأخرجه من هذا الخلق الذميم إلى ضده, وهم الذين صبروا أنفسهم عند الضراء, فلم ييأسوا, وعند السراء, فلم يبطروا, وعملوا الصالحات من واجبات ومستحبات.
" أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ " لذنوبهم, يزول بها عنهم كل محذور.
" وَأَجْرٌ كَبِيرٌ " وهو: الفوز بجنات النعيم, التي فيها, ما تشتهيه الأنفس, وتلذ الأعين.
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌسورة هود الآية رقم 12
يقول تعالى - مسليا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم, عن تكذيب المكذبين: " فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ " .
أي: لا ينبغي هذا لمثلك, أن قولهم لم يؤثر فيك, ويصدك عما أنت عليه, فتترك بعض ما يوحى إليك, ويضيق صدرك, لتعنتهم بقولهم: " لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ " .
فإن هذا القول, ناشئ من تعنت, وظلم, وعناد, وضلال, وجهل بمواقع الحجج والأدلة.
فامض على أمرك, ولا تصدك هذه الأقوال الركيكة, التي لا تصدر إلا من سفيه ولا يضق لذلك صدرك.
فهل أوردوا عليك حجة, لا تستطيع حلها؟ أم قدحوا ببعض ما جئت به قدحا, يؤثر فيه, وينقص قدره, فيضيق صدرك لذلك؟!.
أم عليك حسابهم, ومطالب بهدايتهم جبرا؟.
و " إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ " فهو الوكيل عليهم, يحفظ أعمالهم, ويجازيهم بها أتم الجزاء.
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَسورة هود الآية رقم 13
" أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ " أي: افترى محمد هذا القرآن؟.
فأجابهم بقوله: " قُلْ " لهم " فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " .
أي: إن كان قد افتراه, فإنه لا فرق بينكم وبينه في الفصاحة والبلاغة, وأنتم الأعداء حقا, الحريصون بغاية ما يمكنكم, على إبطال دعوته.
فإن كنتم صادقين, فأتوا بعشر سور مثله مفتريات.
فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَسورة هود الآية رقم 14
" فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ " على شيء من ذلكم " فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ " من عند الله, لقيام الدليل والمقتضى, وانتفاء المعارض.
" وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ " أي: واعلموا " أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ " أي: هو المستحق للألوهية والعبادة.
" فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ " أي: منقادون لألوهيته, مستسلمون لعبوديته.
وفي هذه الآيات, إرشاد إلى أنه لا ينبغي للداعي إلى الله, أن يصده اعتراض المعترضين, ولا قدح القادحين.
خصوصا, إذا كان القدح لا مستند له, ولا يقدح فيما دعا إليه, وأنه لا يضيق صدره, بل يطمئن بذلك, ماضيا على أمره, مقبلا على شأنه.
وأنه لا يجب إجابة اقتراحات المقترحين, للأدلة التي يختارونها.
بل يكفي إقامة الدليل, السالم عن المعارض, على جميع المسائل والمطالب.
وفيها أن هذا القرآن, معجز بنفسه, لا يقدر أحد من البشر, أن يأتي بمثله, ولا بعشر سور مثله, بل ولا سورة من مثله.
لأن الأعداء البلغاء الفصحاء, تحداهم الله بذلك, فلم يعارضوه, لعلمهم أنهم لا قدرة فيهم على ذلك.
وفيها: أن مما يطلب فيه العلم, ولا يكفي غلبة الظن, علم القرآن, وعلم التوحيد.
لقوله تعالى: " فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ " .
مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَسورة هود الآية رقم 15
يقول تعالى " مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا " .
أي: كل إرادته, مقصورة على الحياة الدنيا, وعلى زينتها, من النساء, والبنين, والقناطير المقنطرة, من الذهب, والفضة, والخيل المسومة, والأنعام والحرث.
قد صرف رغبته, وسعيه, وعمله, في هذه الأشياء, ولم يجعل لدار القرار من إرادته, شيئا.
فهذا لا يكون إلا كافرا, لأنه لو كان مؤمنا, لكان ما معه من الإيمان, ما يمنعه أن تكون جميع إرادته للدار الدنيا.
بل نفس إيمانه وما تيسر له من الأعمال, أثر من آثار إرادته الدار الآخرة.
ولكن هذا الشقي, الذي كأنه خلق للدنيا وحدها " نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا " أي: نعطيهم ما قسم لهم, في أم الكتاب من ثواب الدنيا.
" وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ " أي: لا ينقصون شيئا, مما قدر لهم, ولكن هذا منتهى نعيمهم.
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَسورة هود الآية رقم 16
" أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ " خالدين فيها أبدا, لا يفتر عنهم العذاب, وقد حرموا جزيل الثواب.
" وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا " أي: في الدنيا, أي, بطل واضمحل ما عملوه مما يكيدون به الحق وأهله, وما عملوه من أعمال الخير, التي لا أساس لها, ولا وجود لشرطها, وهو الإيمان.
أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَسورة هود الآية رقم 17
يذكر تعالى, حال رسوله محمد صلى الله عليه وسلم, ومن قام مقامه, من ورثته القائمين بدينه, وحججه الموقنين بذلك, وأنهم لا يوصف بهم غيرهم ولا يكون أحد مثلهم فقال: " أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ " بالوحي الذي أنزل الله فيه المسائل المهمة, ودلائلها الظاهرة, فتيقن تلك البينة.
" وَيَتْلُوهُ " أي: يتلو هذه البينة والبرهان, برهان آخر " شَاهِدٌ مِنْهُ " وهو شاهد الفطرة المستقيمة, والعقل الصحيح حين شهد حقيقة, ما أوحاه الله وشرعه, وعلم بعقله حسنه, فازداد بذلك, إيمانا إلى إيمانه.
ثم شاهد ثالث " وَمِنْ قَبْلِهِ " وهو " كِتَابُ مُوسَى " التوراة, التي جعلها الله " إِمَامًا " للناس " وَرَحْمَةٌ " لهم, يشهد لهذا القرآن بالصدق, ويوافقه فيما جاء به من الحق.
أي: أفمن كان بهذا الوصف, قد تواردت عليه شواهد الإيمان, وقامت لديه, أدلة اليقين, كمن هو في الظلمات والجهالات, ليس بخارج منها؟!.
لا يستوون عند الله, ولا عند عباد الله.
" أُولَئِكَ " أي: الذين وفقوا لقيام الأدلة عندهم.
" يُؤْمِنُونَ بِهِ " أي: بالقرآن خقيقة, فيثمر لهم إيمانهم, كل خير في الدنيا والآخرة.
" وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ " أي: سائر طوائف أهل الأرض, لمتحزبة على رد الحق.
" فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ " لا بد, من وروده إليها " فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ " .
أي: في أدنى شك " مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ " .
إما جهلا منهم, وضلالا.
وإما ظلما وعنادا, وبغيا.
وإلا, فمن كان قصده حسنا, وفهمه مستقيما, فلا بد أن يؤمن به, لأنه يرى, ما يدعوه إلى الإيمان من كل وجه.
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَسورة هود الآية رقم 18
يخبر تعالى, أنه لا أحد " أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا " ويدخل في هذا, كل من كذب على الله, بنسبة شريك له, أو وصفه بما لا يليق بجلاله, أو الإخبار عنه, بما لم يقل, أو ادعاء النبوة, أو غير ذلك, من الكذب على الله.
فهؤلاء أعظم الناس ظلما " أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ " ليجازيهم بظلمهم.
فعندما يحكم عليهم بالعقاب الشديد " وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ " أي: الذين شهدوا عليهم بافترائهم وكذبهم: " هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ " .
أي: لعنة لا تنقطع, لأن ظلمهم صار وصفا لهم ملازما, لا يقبل التخفيف.
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَسورة هود الآية رقم 19
ثم وصف ظلمهم فقال " الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ " فصدوا بأنفسهم عن سبيل الله, وهي سبيل الرسل, التي دعوا الناس إليها, وصدوا غيرهم عنها, فصاروا أئمة يدعون إلى النار.
" وَيَبْغُونَهَا " أي: سبيل الله " عِوَجًا " أي: يجتهدون في ميلها, وتشيينها, وتهجينها, لتصير عند الناس, غير مستقيمة, فيحسنون الباطل ويقبحون الحق, قبحهم الله " وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ " .
" أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ " أي: ليسوا فائتين الله, لأنهم تحت قبضته, وفي سلطانه.
أُوْلَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَسورة هود الآية رقم 20
" وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ " فيدفعوا عنهم المكروه, أو يحصلوا لهم ما ينفعهم, بل تقطعت بهم الأسباب.
" يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ " أي: يغلظ ويزداد, لأنهم ضلوا بأنفسهم, وأضلوا غيرهم.
" مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ " أي: من بغضهم للحق, ونفورهم عنه, ما كانوا يستطيعون, أن يسمعوا آيات الله, سماعا ينتفعون به " فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ " .
" وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ " أي: ينظرون نظر عبرة وتفكر, فيما ينفعهم.
وإنما هم كالصم البكم, الذين لا يعقلون.
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَسورة هود الآية رقم 21
" أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ " حيث فوتوها, أعظم الثواب, واستحقوا أشد العذاب.
" وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ " أي: اضمحل دينهم, الذي يدعون إليه ويحسنونه, ولم تغن عنهم آلهتم, التي يعبدون من دون الله, لما جاء أمر ربك.
لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَسورة هود الآية رقم 22
" لَا جَرَمَ " أي: حقا وصدقا " أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ " .
حصر الخسار فيهم, بل جعل لهم منه أشده, لشدة حسرتهم وحرمانهم وما يعانون من المشقة والعذاب.
فنستجير بالله من حالهم.
ولما ذكر حال الأشقياء, ذكر أوصاف السعداء, وما لهم عند الله من الثواب.
فقال: " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا " إلى قوله " أَفَلَا تَذَكَّرُونَ " .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَسورة هود الآية رقم 23
يقول تعالى " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا " بقلوبهم, أي صدقوا واعترفوا, لما أمر الله بالإيمان به, من أصول الدين وقواعده.
" وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ " المشتملة على أعمال القلوب والجوارح, وأقوال اللسان.
" وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ " أي: خضعوا له, واستكانوا لعظمته, وذلوا لسلطانه, وأنابوا إليه بمحبته, وخوفه, ورجائه, والتضرع إليه.
" أُولَئِكَ " الذين جمعوا تلك الصفات " أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " .
لأنهم لم يتركوا من الخير مطلبا, إلا أدركوه, ولا خيرا, إلا سبقوا إليه.
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَسورة هود الآية رقم 24
" مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ " أي: فريق الأشقياء, وفريق السعداء.
" كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ " هؤلاء الأشقياء.
" وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ " مثل السعداء.
" هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا " لا يستوون مثلا, بل بينهما من الفرق, ما لا يأتي عليه الوصف.
" أَفَلَا تَذَكَّرُونَ " الأعمال, التي تنفعكم, فتفعلونها, والأعمال التي تضركم, فتتركونها.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌسورة هود الآية رقم 25
أي: " وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا " أول المرسلين " إِلَى قَوْمِهِ " يدعوهم إلى الله وينهاهم عن الشرك فقال: " إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ " أي: بينت لكم ما أنذرتكم به, بيانا زال به الإشكال.
أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍسورة هود الآية رقم 26
" أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ " أي: أخلصوا العبادة لله وحده, واتركوا كل ما يعبد من دون الله.
" إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ " إن لم تقوموا بتوحيد الله, وتطيعوني.
فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَسورة هود الآية رقم 27
" فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ " أي: الأشراف والرؤساء, رادين لدعوة نوح عليه السلام, كما جرت العادة لأمثالهم, أنهم أول من رد دعوة المرسلين: " مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا " وهذا مانع - يزعمهم - عن اتباعه, مع أنه - في نفس الأمر - هو الصواب, الذي لا ينبغي غيره, لأن البشر, يتمكن البشر, أن يتلقوا عنه, ويراجعوه في كل أمر, بخلاف الملائكة.
" وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا " أي: ما نرى اتبعك منا, إلا الأراذل والسفلة, بزعمهم.
وهم - في الحقيقة - الأشراف, وأهل العقول, الذين انقادوا للحق, ولم يكونوا كالأراذل, الذين يقال لهم الملأ, الذين اتبعوا كل شيطان مريد, واتخذوا آلهة من الحجر والشجر, يتقربون إليها ويسجدون.
فهل ترى أرذل من هؤلاء وأخس؟.
وقولهم: " بَادِيَ الرَّأْيِ " أي.
إنما اتبعوك من غير تفكر وروية, بل بمجرد ما دعوتهم, اتبعوك.
يعنون بذلك, أنهم ليسوا على بصيرة من أمرهم, ولم يعلموا أن الحق المبين, تدعو إليه بداهة العقول, وبمجرد ما يصل إلى أولي الألباب, يعرفونه ويتحققونه.
لا كالأمور الخفية, التي تحتاج إلى تأمل, وفكر طويل.
" وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ " أي: لستم أفضل منا فننقاد لكم.
" بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ " وكذبوا في قولهم هذا, فإنهم رأوا من الآيات, التي جعلها الله مؤيدة لنوح, ما يوجب لهم الجزم التام على صدقه.
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَسورة هود الآية رقم 28
ولهذا " قَالَ " لهم نوح مجاوبا " يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي " أي: على يقين وجزم, يعني, وهو الرسول الكامل القدوة, الذي ينقاد له أولو الألباب, وتضمحل في جنب عقله, عقول الفحول من الرجال, وهو الصادق حقا.
فإذا قال: إني على بينة من ربي, فحسبك بهذا القول, شهادة له وتصديقا.
" وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ " أي: أوحى إلي وأرسلني, ومن علي بالهداية.
" فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ " أي: خفيت عليكم, وبها تثاقلتم.
" أَنُلْزِمُكُمُوهَا " أي: أنكرهكم على ما تحققناه, وشككتم أنتم فيه؟ " وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ " حتى حرصتم على رد ما جئت به, ليس ذلك ضارنا, وليس بقادح من يقيننا فيه, ولا قولكم وافتراؤكم علينا, صادا لنا عما كنا عليه.
وإنما غايته, أن يكون صادا لكم أنتم, وموجبا لعدم انقيادكم للحق, تزعمون أنه باطل.
فإذا وصلت الحال إلى هذه الغاية, فلا تقدر على إكراهكم, على ما أمر الله, ولا إلزامكم, ما نفرتم عنه, ولهذا قال: " أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ " .
وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَسورة هود الآية رقم 29
" وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ " أي: على دعوتي إياكم " مَا لَا " فستستثقلون المغرم.
" إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ " وكأنهم طلبوا منه طرد المؤمنين الضعفاء.
فقال لهم " وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا " أي: ما ينبغي لي, ولا يليق ذلك, بل أتلقاهم بالرحب والإكرام, والإعزاز والإعظام " إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ " فمثيبهم على إيمانهم وتقواهم بجنات النعيم.
" وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ " حيث تأمرونني, بطرد أولياء الله, وإبعادهم عني.
وحيث رددتم الحق, لأنهم أتباعه, وحيث استدللتم على بطلان الحق بقولكم " إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ " وإنه ليس لنا عليكم من فضل.
وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَسورة هود الآية رقم 30
" وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ " أي: من يمنعني من عذابه, فإن طردهم, موجب للعذاب والنكال, الذي لا يمنعه من دون الله مانع.
" أَفَلَا تَذَكَّرُونَ " ما هو الأنفع لكم والأصلح, وتدبرون الأمور.
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5