الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5
بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَسورة التوبة الآية رقم 1
فَصْل فِي أَسْمَائِهَا

قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : سَأَلْت اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَنْ سُورَة بَرَاءَة فَقَالَ : تِلْكَ الْفَاضِحَة مَا زَالَ يَنْزِل : وَمِنْهُمْ وَمِنْهُمْ حَتَّى خِفْنَا أَلَّا تَدَع أَحَدًا . قَالَ الْقُشَيْرِيّ أَبُو نَصْر عَبْد الْحَمِيد : هَذِهِ السُّورَة نَزَلَتْ فِي غَزْوَة تَبُوك وَنَزَلَتْ بَعْدهَا . وَفِي أَوَّلهَا نَبْذ عُهُود الْكُفَّار إِلَيْهِمْ . وَفِي السُّورَة كَشْف أَسْرَار الْمُنَافِقِينَ . وَتُسَمَّى الْفَاضِحَة وَالْبَحُوث , لِأَنَّهَا تَبْحَث عَنْ أَسْرَار الْمُنَافِقِينَ وَتُسَمَّى الْمُبَعْثِرَة , وَالْبَعْثَرَة : الْبَحْث .

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي سَبَب سُقُوط الْبَسْمَلَة مِنْ أَوَّل هَذِهِ السُّورَة عَلَى أَقْوَال خَمْسَة : [ الْأَوَّل ] أَنَّهُ قِيلَ كَانَ مِنْ شَأْن الْعَرَب فِي زَمَانهَا فِي الْجَاهِلِيَّة إِذَا كَانَ بَيْنهمْ وَبَيْن قَوْم عَهْد فَإِذَا أَرَادُوا نَقْضه كَتَبُوا إِلَيْهِمْ كِتَابًا وَلَمْ يَكْتُبُوا فِيهِ بَسْمَلَة فَلَمَّا نَزَلَتْ سُورَة بَرَاءَة بِنَقْضِ الْعَهْد الَّذِي كَانَ بَيْن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُشْرِكِينَ بَعَثَ بِهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَقَرَأَهَا عَلَيْهِمْ فِي الْمَوْسِم وَلَمْ يُبَسْمِل فِي ذَلِكَ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَتهمْ فِي نَقْض الْعَهْد مِنْ تَرْك الْبَسْمَلَة .

[ وَقَوْل ثَانٍ ] رَوَى النَّسَائِيّ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمُثَنَّى عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد قَالَ حَدَّثَنَا عَوْف قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيد الرَّقَاشِيّ قَالَ : قَالَ لَنَا اِبْن عَبَّاس : قُلْت لِعُثْمَان مَا حَمَلَكُمْ إِلَى أَنْ عَمَدْتُمْ إِلَى [ الْأَنْفَال ] وَهِيَ مِنْ الْمَثَانِي وَإِلَى [ بَرَاءَة ] وَهِيَ مِنْ الْمِئِين فَقَرَنْتُمْ بَيْنهمَا وَلَمْ تَكْتُبُوا سَطْر بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم وَوَضَعْتُمُوهَا فِي السَّبْع الطُّوَل فَمَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ ؟ قَالَ عُثْمَان : إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الشَّيْء يَدْعُو بَعْض مَنْ يَكْتُب عِنْده فَيَقُول : ( ضَعُوا هَذَا فِي السُّورَة الَّتِي فِيهَا كَذَا وَكَذَا ) . وَتَنْزِل عَلَيْهِ الْآيَات فَيَقُول : ( ضَعُوا هَذِهِ الْآيَات فِي السُّورَة الَّتِي يُذْكَر فِيهَا كَذَا وَكَذَا ) . وَكَانَتْ [ الْأَنْفَال ] مِنْ أَوَائِل مَا أُنْزِلَ , وَ [ بَرَاءَة ] مِنْ آخِر الْقُرْآن وَكَانَتْ قِصَّتهَا شَبِيهَة بِقِصَّتِهَا وَقُبِضَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّن لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا فَظَنَنْت أَنَّهَا مِنْهَا فَمِنْ ثَمَّ قَرَنْت بَيْنهمَا وَلَمْ أَكْتُب بَيْنهمَا سَطْر بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم . وَخَرَّجَهُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ وَقَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن .

[ وَقَوْل ثَالِث ] رُوِيَ عَنْ عُثْمَان أَيْضًا . وَقَالَ مَالِك فِيمَا رَوَاهُ اِبْن وَهْب وَابْن الْقَاسِم وَابْن عَبْد الْحَكَم : إِنَّهُ لَمَّا سَقَطَ أَوَّلهَا سَقَطَ بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم مَعَهُ . وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ اِبْن عَجْلَان أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ سُورَة [ بَرَاءَة ] كَانَتْ تَعْدِل الْبَقَرَة أَوْ قُرْبهَا فَذَهَبَ مِنْهَا فَلِذَلِكَ لَمْ يُكْتَب بَيْنهمَا بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : كَانَتْ مِثْل سُورَة الْبَقَرَة .

[ وَقَوْل رَابِع ] قَالَهُ خَارِجَة وَأَبُو عِصْمَة وَغَيْرهمَا . قَالُوا : لَمَّا كَتَبُوا الْمُصْحَف فِي خِلَافَة عُثْمَان اِخْتَلَفَ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ بَعْضهمْ : بَرَاءَة وَالْأَنْفَال سُورَة وَاحِدَة . وَقَالَ بَعْضهمْ : هُمَا سُورَتَانِ . فَتُرِكَتْ بَيْنهمَا فُرْجَة لِقَوْلِ مَنْ قَالَ أَنَّهُمَا سُورَتَانِ وَتُرِكَتْ بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم لِقَوْلِ مَنْ قَالَ هُمَا سُورَة وَاحِدَة فَرَضِيَ الْفَرِيقَانِ مَعًا وَثَبَتَتْ حُجَّتهمَا فِي الْمُصْحَف .

[ وَقَوْل خَامِس ] قَالَ عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس : سَأَلْت عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب لِمَ لَمْ يُكْتَب فِي بَرَاءَة بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم ؟ قَالَ : لِأَنَّ بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم أَمَان وَبَرَاءَة نَزَلَتْ بِالسَّيْفِ لَيْسَ فِيهَا أَمَان . وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ الْمُبَرِّد قَالَ : وَلِذَلِكَ لَمْ يُجْمَع بَيْنهمَا فَإِنَّ بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم رَحْمَة وَبَرَاءَة نَزَلَتْ سَخْطَة . وَمِثْله عَنْ سُفْيَان . قَالَ سُفْيَان بْن عُيَيْنَة : إِنَّمَا لَمْ تُكْتَب فِي صَدْر هَذِهِ السُّورَة بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم لِأَنَّ التَّسْمِيَة رَحْمَة وَالرَّحْمَة أَمَان وَهَذِهِ السُّورَة نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ وَبِالسَّيْفِ وَلَا أَمَان لِلْمُنَافِقِينَ . وَالصَّحِيح أَنَّ التَّسْمِيَة لَمْ تُكْتَب لِأَنَّ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام مَا نَزَلَ بِهَا فِي هَذِهِ السُّورَة قَالَهُ الْقُشَيْرِيّ . وَفِي قَوْل عُثْمَان : قُبِضَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّن لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا دَلِيل عَلَى أَنَّ السُّوَر كُلّهَا اِنْتَظَمَتْ بِقَوْلِهِ وَتَبْيِينه وَأَنَّ بَرَاءَة وَحْدهَا ضُمَّتْ إِلَى الْأَنْفَال مِنْ غَيْر عَهْد مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا عَاجَلَهُ مِنْ الْحِمَام قَبْل تَبْيِينه ذَلِكَ . وَكَانَتَا تُدْعَيَانِ الْقَرِينَتَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ تُجْمَعَا وَتُضَمّ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْأُخْرَى لِلْوَصْفِ الَّذِي لَزِمَهُمَا مِنْ الِاقْتِرَان وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيّ .

قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ الْقِيَاس أَصْل فِي الدِّين أَلَا تَرَى إِلَى عُثْمَان وَأَعْيَان الصَّحَابَة كَيْفَ لَجَئُوا إِلَى قِيَاس الشَّبَه عِنْد عَدَم النَّصّ وَرَأَوْا أَنَّ قِصَّة [ بَرَاءَة ] شَبِيهَة بِقِصَّةِ [ الْأَنْفَال ] فَأَلْحَقُوهَا بِهَا ؟ فَإِذَا كَانَ اللَّه تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ دُخُول الْقِيَاس فِي تَأْلِيف الْقُرْآن فَمَا ظَنّك بِسَائِرِ الْأَحْكَام .

" بَرَاءَة " تَقُول : بَرِئْت مِنْ الشَّيْء أَبْرَأ بَرَاءَة فَأَنَا مِنْهُ بَرِيء إِذَا أَزَلْته عَنْ نَفْسك وَقَطَعْت سَبَب مَا بَيْنك وَبَيْنه . و " بَرَاءَة " رَفْع عَلَى خَبَر اِبْتِدَاء مُضْمَر تَقْدِيره هَذِهِ بَرَاءَة . وَيَصِحّ أَنْ تُرْفَع بِالِابْتِدَاءِ . وَالْخَبَر فِي قَوْله : " إِلَى الَّذِينَ " . وَجَازَ الِابْتِدَاء بِالنَّكِرَةِ لِأَنَّهَا مَوْصُوفَة فَتَعَرَّفَتْ تَعْرِيفًا مَا وَجَازَ الْإِخْبَار عَنْهَا . وَقَرَأَ عِيسَى بْن عُمَر " بَرَاءَة " بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِير اِلْتَزِمُوا بَرَاءَة فَفِيهَا مَعْنَى الْإِغْرَاء . وَهِيَ مَصْدَر عَلَى فَعَالَة كَالشَّنَاءَةِ وَالدَّنَاءَة .



يَعْنِي إِلَى الَّذِينَ عَاهَدَهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ كَانَ الْمُتَوَلِّي لِلْعُقُودِ وَأَصْحَابه بِذَلِكَ كُلّهمْ رَاضُونَ فَكَأَنَّهُمْ عَاقَدُوا وَعَاهَدُوا فَنَسَبَ الْعَقْد إِلَيْهِمْ . وَكَذَلِكَ مَا عَقَدَهُ أَئِمَّة الْكُفْر عَلَى قَوْمهمْ مَنْسُوب إِلَيْهِمْ مَحْسُوب عَلَيْهِمْ يُؤَاخَذُونَ بِهِ إِذْ لَا يُمْكِن غَيْر ذَلِكَ فَإِنَّ تَحْصِيل الرِّضَا مِنْ الْجَمِيع مُتَعَذِّر فَإِذَا عَقَدَ الْإِمَام لِمَا يَرَاهُ مِنْ الْمَصْلَحَة أَمْرًا لَزِمَ جَمِيع الرَّعَايَا .
فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَسورة التوبة الآية رقم 2
فِيهِ ثَلَاث مَسَائِل : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " فَسِيحُوا " رَجَعَ مِنْ الْخَبَر إِلَى الْخِطَاب أَيْ قُلْ لَهُمْ سِيحُوا أَيْ سِيرُوا فِي الْأَرْض مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ آمَنِينَ غَيْر خَائِفِينَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِحَرْبٍ وَلَا سَلْب وَلَا قَتْل وَلَا أَسْر . يُقَال سَاحَ فُلَان فِي الْأَرْض يَسِيح سِيَاحَة وَسُيُوحًا وَسَيَحَانًا وَمِنْهُ السَّيْح فِي الْمَاء الْجَارِي الْمُنْبَسِط وَمِنْهُ قَوْل طَرَفَة بْن الْعَبْد : لَوْ خِفْت هَذَا مِنْك مَا نِلْتنِي حَتَّى تَرَى خَيْلًا أَمَامِي تَسِيح

الثَّانِيَة : وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي كَيْفِيَّة هَذَا التَّأْجِيل وَفِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَرِئَ اللَّه مِنْهُمْ وَرَسُوله . فَقَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق وَغَيْره : هُمَا صِنْفَانِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَحَدهمَا كَانَتْ مُدَّة عَهْده أَقَلّ مِنْ أَرْبَعَة أَشْهُر فَأُمْهِلَ تَمَام أَرْبَعَة أَشْهُر وَالْآخَر كَانَتْ مُدَّة عَهْده بِغَيْرِ أَجَل مَحْدُود فَقُصِرَ بِهِ عَلَى أَرْبَعَة أَشْهُر لِيَرْتَادَ لِنَفْسِهِ . ثُمَّ هُوَ حَرْب بَعْد ذَلِكَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يُقْتَل حَيْثُ مَا أُدْرِكَ وَيُؤْسَر إِلَّا أَنْ يَتُوب وَابْتِدَاء هَذَا الْأَجَل يَوْم الْحَجّ الْأَكْبَر وَانْقِضَاؤُهُ إِلَى عَشْر مِنْ شَهْر رَبِيع الْآخَر فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْد فَإِنَّمَا أَجَله اِنْسِلَاخ الْأَرْبَعَة الْأَشْهُر الْحُرُم وَذَلِكَ خَمْسُونَ يَوْمًا : عِشْرُونَ مِنْ ذِي الْحِجَّة وَالْمُحَرَّم . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : إِنَّمَا كَانَتْ الْأَرْبَعَة الْأَشْهُر لِمَنْ كَانَ بَيْنه وَبَيْن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْد دُون أَرْبَعَة أَشْهُر وَمَنْ كَانَ عَهْده أَكْثَر مِنْ أَرْبَعَة أَشْهُر فَهُوَ الَّذِي أَمَرَ اللَّه أَنْ يُتَمّ لَهُ عَهْده بِقَوْلِهِ " فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدهمْ إِلَى مُدَّتهمْ " [ التَّوْبَة : 4 ] وَهَذَا اِخْتِيَار الطَّبَرِيّ وَغَيْره . وَذَكَرَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق وَمُجَاهِد وَغَيْرهمَا : أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي أَهْل مَكَّة . وَذَلِكَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ قُرَيْشًا عَام الْحُدَيْبِيَة , عَلَى أَنْ يَضَعُوا الْحَرْب عَشْر سِنِينَ , يَأْمَن فِيهَا النَّاس وَيَكُفّ بَعْضهمْ عَنْ بَعْض , فَدَخَلَتْ خُزَاعَة فِي عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَدَخَلَ بَنُو بَكْر فِي عَهْد قُرَيْش , فَعَدَتْ بَنُو بَكْر عَلَى خُزَاعَة وَنَقَضُوا عَهْدهمْ . وَكَانَ سَبَب ذَلِكَ دَمًا كَانَ لِبَنِي بَكْر عِنْد خُزَاعَة قَبْل الْإِسْلَام بِمُدَّةٍ , فَلَمَّا كَانَتْ الْهُدْنَة الْمُنْعَقِدَة يَوْم الْحُدَيْبِيَة , أَمِنَ النَّاس بَعْضهمْ بَعْضًا , فَاغْتَنَمَ بَنُو الدَّيْل مِنْ بَنِي بَكْر - وَهُمْ الَّذِينَ كَانَ الدَّم لَهُمْ - تِلْكَ الْفُرْصَة وَغَفْلَة خُزَاعَة , وَأَرَادُوا إِدْرَاك ثَأْر بَنِي الْأَسْوَد بْن رزن , الَّذِينَ قَتَلَهُمْ خُزَاعَة , فَخَرَجَ نَوْفَل بْن مُعَاوِيَة الدَّيْلِيّ فِيمَنْ أَطَاعَهُ مِنْ بَنِي بَكْر بْن عَبْد مَنَاة , حَتَّى بَيَّتُوا خُزَاعَة وَاقْتَتَلُوا , وَأَعَانَتْ قُرَيْش بَنِي بَكْر بِالسِّلَاحِ , وَقَوْم مِنْ قُرَيْش أَعَانُوهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ , فَانْهَزَمَتْ خُزَاعَة إِلَى الْحَرَم عَلَى مَا هُوَ مَشْهُور مَسْطُور , فَكَانَ ذَلِكَ نَقْضًا لِلصُّلْحِ الْوَاقِع يَوْم الْحُدَيْبِيَة , فَخَرَجَ عَمْرو بْن سَالِم الْخُزَاعِيّ وَبُدَيْل بْن وَرْقَاء الْخُزَاعِيّ وَقَوْم مِنْ خُزَاعَة , فَقَدِمُوا عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَغِيثِينَ فِيمَا أَصَابَهُمْ بِهِ بَنُو بَكْر وَقُرَيْش , وَأَنْشَدَ عَمْرو بْن سَالِم فَقَالَ : يَا رَبّ إِنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدَا حِلْف أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا كُنْت لَنَا أَبًا وَكُنَّا وَلَدَا ثُمَّتْ أَسْلَمْنَا وَلَمْ نَنْزِع يَدَا فَانْصُرْ هَدَاك اللَّه نَصْرًا عَتَدَا و/ وَادْعُ عِبَاد اللَّه يَأْتُوا مَدَدَا فِيهِمْ رَسُول اللَّه قَدْ تَجَرَّدَا أَبْيَض مِثْل الشَّمْس يَنْمُو صُعُدَا إِنْ سِيمَ خَسْفًا وَجْهه تَرَبَّدَا فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبِدَا إِنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوك الْمَوْعِدَا وَنَقَضُوا مِيثَاقك الْمُؤَكَّدَا وَزَعَمُوا أَنْ لَسْت تَدْعُو أَحَدَا وَهُمْ أَذَلّ وَأَقَلّ عَدَدَا هُمْ بَيَّتُونَا بِالْوَتِير هُجَّدَا وَقَتَلُونَا رُكَّعًا وَسُجَّدَا فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا نُصِرْتُ إِنْ لَمْ أَنْصُر كَعْب ) . ثُمَّ نَظَرَ إِلَى سَحَابَة فَقَالَ : ( إِنَّهَا لَتَسْتَهِلّ لِنَصْرِ بَنِي كَعْب ) يَعْنِي خُزَاعَة . وَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبُدَيْل بْن وَرْقَاء وَمَنْ مَعَهُ : ( إِنَّ أَبَا سُفْيَان سَيَأْتِي لِيَشُدّ الْعَقْد وَيَزِيد فِي الصُّلْح وَسَيَنْصَرِفُ بِغَيْرِ حَاجَة ) . فَنَدِمَتْ قُرَيْش عَلَى مَا فَعَلَتْ , فَخَرَجَ أَبُو سُفْيَان إِلَى الْمَدِينَة لِيَسْتَدِيمَ الْعَقْد وَيَزِيد فِي الصُّلْح , فَرَجَعَ بِغَيْرِ حَاجَة كَمَا أَخْبَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوف مِنْ خَبَره . وَتَجَهَّزَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّة فَفَتَحَهَا اللَّه , وَذَلِكَ فِي سَنَة ثَمَان مِنْ الْهِجْرَة . فَلَمَّا بَلَغَ هَوَازِن فَتْح مَكَّة جَمَعَهُمْ مَالِك بْن عَوْف النَّصْرِيّ , عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوف مَشْهُور مِنْ غَزَاة حُنَيْن . وَسَيَأْتِي بَعْضهَا . وَكَانَ الظَّفَر وَالنَّصْر لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ . وَكَانَتْ وَقْعَة هَوَازِن يَوْم حُنَيْن فِي أَوَّل شَوَّال مِنْ السَّنَة الثَّامِنَة مِنْ الْهِجْرَة . وَتَرَكَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسْم الْغَنَائِم مِنْ الْأَمْوَال وَالنِّسَاء , فَلَمْ يَقْسِمهَا حَتَّى أَتَى الطَّائِف , فَحَاصَرَهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَة . وَقِيلَ غَيْر ذَلِكَ . وَنَصَبَ عَلَيْهِمْ الْمَنْجَنِيق وَرَمَاهُمْ بِهِ , عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوف مِنْ تِلْكَ الْغَزَاة . ثُمَّ اِنْصَرَفَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْجِعْرَانَة , وَقَسَّمَ غَنَائِم حُنَيْن , عَلَى مَا هُوَ مَشْهُور مِنْ أَمْرهَا وَخَبَرهَا . ثُمَّ اِنْصَرَفَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفَرَّقُوا , وَأَقَامَ الْحَجّ لِلنَّاسِ عَتَّاب بْن أُسَيْد فِي تِلْكَ السَّنَة . وَهُوَ أَوَّل أَمِير أَقَامَ الْحَجّ فِي الْإِسْلَام . وَحَجَّ الْمُشْرِكُونَ عَلَى مَشَاعِرهمْ . وَكَانَ عَتَّاب بْن أُسَيْد خَيِّرًا فَاضِلًا وَرِعًا . وَقَدِمَ كَعْب بْن زُهَيْر بْن أَبِي سُلْمَى إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَامْتَدَحَهُ , وَأَقَامَ عَلَى رَأْسه بِقَصِيدَتِهِ الَّتِي أَوَّلهَا : بَانَتْ سُعَاد فَقَلْبِي الْيَوْم مَتْبُول وَأَنْشَدَهَا إِلَى آخِرهَا , وَذَكَرَ فِيهَا الْمُهَاجِرِينَ فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ - وَكَانَ قَبْل ذَلِكَ قَدْ حُفِظَ لَهُ هِجَاء فِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَابَ عَلَيْهِ الْأَنْصَار إِذْ لَمْ يَذْكُرهُمْ , فَغَدَا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَصِيدَةٍ يَمْتَدِح فِيهَا الْأَنْصَار فَقَالَ : مَنْ سَرَّهُ كَرَم الْحَيَاة فَلَا يَزَلْ فِي مِقْنَب مِنْ صَالِحِي الْأَنْصَار وَرِثُوا الْمَكَارِم كَابِرًا عَنْ كَابِر إِنَّ الْخِيَار هُمُ بَنُو الْأَخْيَار الْمُكْرِهِينَ السَّمْهَرِيّ بِأَذْرُعٍ كَسَوَافِل الْهِنْدِيّ غَيْر قِصَار وَالنَّاظِرِينَ بِأَعْيُنٍ مُحْمَرَّة كَالْجَمْرِ غَيْر كَلِيلَة الْأَبْصَار وَالْبَائِعِينَ نُفُوسهمْ لِنَبِيِّهِمْ لِلْمَوْتِ يَوْم تَعَانُق وَكِرَار يَتَطَهَّرُونَ يَرَوْنَهُ نُسُكًا لَهُمْ بِدِمَاءِ مَنْ عَلِقُوا مِنْ الْكُفَّار دَرِبُوا كَمَا دَرِبْت بِبَطْنِ خَفِيَّة غُلْب الرِّقَاب مِنْ الْأَسْوَد ضَوَار وَإِذَا حَلَلْت لِيَمْنَعُوك إِلَيْهِمْ أَصْبَحْت عِنْد مَعَاقِل الْأَغْفَار ضَرَبُوا عَلِيًّا يَوْم بَدْر ضَرْبَة دَانَتْ لِوَقْعَتِهَا جَمِيع نِزَار لَوْ يَعْلَم الْأَقْوَام عِلْمِي كُلّه فِيهِمْ لَصَدَّقَنِي الَّذِينَ أُمَارِي قَوْم إِذَا خَوَتْ النُّجُوم فَإِنَّهُمْ لِلطَّارِقِينَ النَّازِلِينَ مَقَارِي ثُمَّ أَقَامَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ بَعْد اِنْصِرَافه مِنْ الطَّائِف ذَا الْحِجَّة وَالْمُحَرَّم وَصَفَر وَرَبِيع الْأَوَّل وَرَبِيع الْآخَر وَجُمَادَى الْأُولَى وَجُمَادَى الْآخِرَة , وَخَرَجَ فِي رَجَب مِنْ سَنَة تِسْع بِالْمُسْلِمِينَ إِلَى غَزْوَة الرُّوم غَزْوَة تَبُوك . وَهِيَ آخِر غَزْوَة غَزَاهَا . قَالَ اِبْن جُرَيْج عَنْ مُجَاهِد : لَمَّا اِنْصَرَفَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَبُوك أَرَادَ الْحَجّ ثُمَّ قَالَ : ( إِنَّهُ يَحْضُر الْبَيْت عُرَاة مُشْرِكُونَ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ فَلَا أُحِبّ أَنْ أَحُجّ حَتَّى لَا يَكُون ذَلِكَ ) . فَأَرْسَلَ أَبَا بَكْر أَمِيرًا عَلَى الْحَجّ , وَبَعَثَ مَعَهُ بِأَرْبَعِينَ آيَة مِنْ صَدْر [ بَرَاءَة ] لِيَقْرَأهَا عَلَى أَهْل الْمَوْسِم . فَلَمَّا خَرَجَ دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَقَالَ : ( اُخْرُجْ بِهَذِهِ الْقُصَّة مِنْ صَدْر بَرَاءَة فَأَذِّنْ بِذَلِكَ فِي النَّاس إِذَا اِجْتَمَعُوا ) . فَخَرَجَ عَلِيّ عَلَى نَاقَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَضْبَاء حَتَّى أَدْرَكَ أَبَا بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا بِذِي الْحُلَيْفَة . فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْر لَمَّا رَآهُ : أَمِير أَوْ مَأْمُور ؟ فَقَالَ : بَلْ مَأْمُور ثُمَّ نَهَضَا , فَأَقَامَ أَبُو بَكْر لِلنَّاسِ الْحَجّ عَلَى مَنَازِلهمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّة . فِي كِتَاب النَّسَائِيّ عَنْ جَابِر وَأَنَّ عَلِيًّا قَرَأَ عَلَى النَّاس [ بَرَاءَة ] حَتَّى خَتَمَهَا قَبْل يَوْم التَّرْوِيَة بِيَوْمٍ . وَفِي يَوْم عَرَفَة وَفِي يَوْم النَّحْر عِنْد اِنْقِضَاء خُطْبَة أَبِي بَكْر فِي الثَّلَاثَة الْأَيَّام . فَلَمَّا كَانَ يَوْم النَّفْر الْأَوَّل قَامَ أَبُو بَكْر فَخَطَبَ النَّاس , فَحَدَّثَهُمْ كَيْفَ يَنْفِرُونَ وَكَيْفَ يَرْمُونَ , يُعَلِّمهُمْ مَنَاسِكهمْ . فَلَمَّا فَرَغَ قَامَ عَلِيّ فَقَرَأَ عَلَى النَّاس [ بَرَاءَة ] حَتَّى خَتَمَهَا . وَقَالَ سُلَيْمَان بْن مُوسَى : لَمَّا خَطَبَ أَبُو بَكْر بِعَرَفَة قَالَ قُمْ يَا عَلِيّ فَأَدِّ رِسَالَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَامَ عَلِيّ فَفَعَلَ . قَالَ : ثُمَّ وَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّ جَمِيع النَّاس لَمْ يُشَاهِدُوا خُطْبَة أَبِي بَكْر , فَجَعَلْت أَتَتَبَّع الْفَسَاطِيط يَوْم النَّحْر . وَرَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ زَيْد بْن يُثَيْع قَالَ : سَأَلْت عَلِيًّا بِأَيِّ شَيْء بُعِثْت فِي الْحَجّ ؟ قَالَ : بُعِثْت بِأَرْبَعٍ : أَلَّا يَطُوف بِالْبَيْتِ عُرْيَان , وَمَنْ كَانَ بَيْنه وَبَيْن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْد فَهُوَ إِلَى مُدَّته , وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْد فَأَجَله أَرْبَعَة أَشْهُر , وَلَا يَدْخُل الْجَنَّة إِلَّا نَفْس مُؤْمِنَة , وَلَا يَجْتَمِع الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ بَعْد عَامهمْ هَذَا . قَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح . وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَقَالَ : فَكُنْت أُنَادِي حَتَّى صَحِلَ صَوْتِي . قَالَ أَبُو عُمَر : بُعِثَ عَلِيّ لَيَنْبِذ إِلَى كُلّ ذِي عَهْد عَهْده , وَيَعْهَد إِلَيْهِمْ أَلَّا يَحُجّ بَعْد الْعَام مُشْرِك , وَلَا يَطُوف بِالْبَيْتِ عُرْيَان . وَأَقَامَ الْحَجّ فِي ذَلِكَ الْعَام سَنَة تِسْع أَبُو بَكْر . ثُمَّ حَجّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَابِل حَجَّته الَّتِي لَمْ يَحُجّ غَيْرهَا مِنْ الْمَدِينَة , فَوَقَعَتْ حَجَّته فِي ذِي الْحِجَّة فَقَالَ : ( إِنَّ الزَّمَان قَدْ اِسْتَدَارَ ... ) الْحَدِيث , عَلَى مَا يَأْتِي فِي آيَة النَّسِيء بَيَانه . وَثَبَتَ الْحَجّ فِي ذِي الْحِجَّة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة . وَذَكَرَ مُجَاهِد : أَنَّ أَبَا بَكْر حَجّ فِي ذِي الْقِعْدَة مِنْ سَنَة تِسْع . اِبْن الْعَرَبِيّ : وَكَانَتْ الْحِكْمَة فِي إِعْطَاء [ بَرَاءَة ] لِعَلِيٍّ أَنَّ بَرَاءَة تَضَمَّنَتْ نَقْض الْعَهْد الَّذِي كَانَ عَقَدَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَكَانَتْ سِيرَة الْعَرَب أَلَّا يَحُلّ الْعَقْد إِلَّا الَّذِي عَقَدَهُ أَوْ رَجُل مِنْ أَهْل بَيْته , فَأَرَادَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْطَع أَلْسِنَة الْعَرَب بِالْحُجَّةِ , وَيُرْسِل اِبْن عَمّه الْهَاشِمِيّ مِنْ بَيْته يَنْقُض الْعَهْد , حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُمْ مُتَكَلِّم . قَالَ مَعْنَاهُ الزَّجَّاج .

الثَّالِثَة : قَالَ الْعُلَمَاء : وَتَضَمَّنَتْ الْآيَة جَوَاز قَطْع الْعَهْد بَيْننَا وَبَيْن الْمُشْرِكِينَ . وَلِذَلِكَ حَالَتَانِ : حَالَة تَنْقَضِي الْمُدَّة بَيْننَا وَبَيْنهمْ فَنُؤْذِنهُمْ بِالْحَرْبِ . وَالْإِيذَان اِخْتِيَار . وَالثَّانِيَة : أَنْ نَخَاف مِنْهُمْ غَدْرًا , فَنَنْبِذ إِلَيْهِمْ عَهْدهمْ كَمَا سَبَقَ . اِبْن عَبَّاس : وَالْآيَة مَنْسُوخَة فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاهَدَ ثُمَّ نَبَذَ الْعَهْد لَمَّا أُمِرَ بِالْقِتَالِ .
وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍسورة التوبة الآية رقم 3
" وَأَذَان " الْأَذَان : الْإِعْلَام لُغَة مِنْ غَيْر خِلَاف . وَهُوَ عَطْف عَلَى " بَرَاءَة " . " إِلَى النَّاس " النَّاس هُنَا جَمِيع الْخَلْق . " يَوْم الْحَجّ الْأَكْبَر " ظَرْف , وَالْعَامِل فِيهِ " أَذَان " . وَإِنْ كَانَ قَدْ وُصِفَ بِقَوْلِهِ : " مِنْ اللَّه " , فَإِنَّ رَائِحَة الْفِعْل فِيهِ بَاقِيَة , وَهِيَ عَامِلَة فِي الظُّرُوف . وَقِيلَ : الْعَامِل فِيهِ " مُخْزِي " وَلَا يَصِحّ عَمَل " أَذَان " , لِأَنَّهُ قَدْ وُصِفَ فَخَرَجَ عَنْ حُكْم الْفِعْل .

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْحَجّ الْأَكْبَر , فَقِيلَ : يَوْم عَرَفَة . رُوِيَ عَنْ عُمَر وَعُثْمَان وَابْن عَبَّاس وَطَاوُس وَمُجَاهِد . وَهُوَ مَذْهَب أَبِي حَنِيفَة , وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ . وَعَنْ عَلِيّ وَابْن عَبَّاس أَيْضًا وَابْن مَسْعُود وَابْن أَبِي أَوْفَى وَالْمُغِيرَة بْن شُعْبَة أَنَّهُ يَوْم النَّحْر . وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيّ . وَرَوَى اِبْن عُمَر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ يَوْم النَّحْر فِي الْحَجَّة الَّتِي حَجَّ فِيهَا فَقَالَ : ( أَيّ يَوْم هَذَا ) فَقَالُوا : يَوْم النَّحْر فَقَالَ : ( هَذَا يَوْم الْحَجّ الْأَكْبَر ) . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد . وَخَرَّجَ الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : بَعَثَنِي أَبُو بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِيمَنْ يُؤَذِّن يَوْم النَّحْر بِمِنًى : لَا يَحُجّ بَعْد الْعَام مُشْرِك وَلَا يَطُوف بِالْبَيْتِ عُرْيَان . وَيَوْم الْحَجّ الْأَكْبَر يَوْم النَّحْر . وَإِنَّمَا قِيلَ الْأَكْبَر مِنْ أَجْل قَوْل النَّاس : الْحَجّ الْأَصْغَر . فَنَبَذَ أَبُو بَكْر إِلَى النَّاس فِي ذَلِكَ الْعَام , فَلَمْ يَحُجّ عَام حَجَّة الْوَدَاع الَّذِي حَجَّ فِيهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُشْرِك . وَقَالَ اِبْن أَبِي أَوْفَى : يَوْم النَّحْر يَوْم الْحَجّ الْأَكْبَر , يُهْرَاق فِيهِ الدَّم , وَيُوضَع فِيهِ الشَّعْر , وَيُلْقَى فِيهِ التَّفَث , وَتَحِلّ فِيهِ الْحُرُم . وَهَذَا مَذْهَب مَالِك , لِأَنَّ يَوْم النَّحْر فِيهِ كَالْحَجِّ كُلّه , لِأَنَّ الْوُقُوف إِنَّمَا هُوَ لَيْلَته , وَالرَّمْي وَالنَّحْر وَالْحَلْق وَالطَّوَاف فِي صَبِيحَته . اِحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِحَدِيثِ مَخْرَمَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( يَوْم الْحَجّ الْأَكْبَر يَوْم عَرَفَة ) . رَوَاهُ إِسْمَاعِيل الْقَاضِي . وَقَالَ الثَّوْرِيّ وَابْن جُرَيْج : الْحَجّ الْأَكْبَر أَيَّام مِنًى كُلّهَا . وَهَذَا كَمَا يُقَال : يَوْم صِفِّينَ وَيَوْم الْجَمَل وَيَوْم بُعَاث , فَيُرَاد بِهِ الْحِين وَالزَّمَان لَا نَفْس الْيَوْم . وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِد : الْحَجّ الْأَكْبَر الْقِرَان , وَالْأَصْغَر الْإِفْرَاد . وَهَذَا لَيْسَ مِنْ الْآيَة فِي شَيْء . وَعَنْهُ وَعَنْ عَطَاء : الْحَجّ الْأَكْبَر الَّذِي فِيهِ الْوُقُوف بِعَرَفَة , وَالْأَصْغَر الْعُمْرَة . وَعَنْ مُجَاهِد أَيْضًا : أَيَّام الْحَجّ كُلّهَا . وَقَالَ الْحَسَن وَعَبْد اللَّه بْن الْحَارِث بْن نَوْفَل : إِنَّمَا سُمِّيَ يَوْم الْحَجّ الْأَكْبَر لِأَنَّهُ حَجَّ ذَلِكَ الْعَام الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ , وَاتَّفَقَتْ فِيهِ يَوْمئِذٍ أَعْيَاد الْمِلَل : الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا ضَعِيف أَنْ يَصِفهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابه بِالْأَكْبَرِ لِهَذَا . وَعَنْ الْحَسَن أَيْضًا : إِنَّمَا سُمِّيَ الْأَكْبَر لِأَنَّهُ حَجَّ فِيهِ أَبُو بَكْر وَنُبِذَتْ فِيهِ الْعُهُود . وَهَذَا الَّذِي يُشْبِه نَظَر الْحَسَن . وَقَالَ اِبْن سِيرِينَ : يَوْم الْحَجّ الْأَكْبَر الْعَام الَّذِي حَجَّ فِيهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّة الْوَدَاع , وَحَجَّتْ مَعَهُ فِيهِ الْأُمَم .


" أَنَّ " بِالْفَتْحِ فِي مَوْضِع نَصْب . وَالتَّقْدِير بِأَنَّ اللَّه . وَمَنْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ قَدَّرَهُ بِمَعْنَى قَالَ إِنَّ اللَّه " بَرِيء " خَبَر إِنَّ . " وَرَسُولُهُ " عَطْف عَلَى الْمَوْضِع , وَإِنْ شِئْت عَلَى الْمُضْمَر الْمَرْفُوع فِي " بَرِيء " . كِلَاهُمَا حَسَن ; لِأَنَّهُ قَدْ طَالَ الْكَلَام . وَإِنْ شِئْت عَلَى الِابْتِدَاء وَالْخَبَر مَحْذُوف ; التَّقْدِير : وَرَسُوله بَرِيء مِنْهُمْ . وَمَنْ قَرَأَ " وَرَسُوله " بِالنَّصْبِ - وَهُوَ الْحَسَن وَغَيْره - عَطَفَهُ عَلَى اِسْم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَى اللَّفْظ . وَفِي الشَّوَاذّ " وَرَسُولِهِ " بِالْخَفْضِ عَلَى الْقَسَم , أَيْ وَحَقّ رَسُولِهِ ; وَرُوِيَتْ عَنْ الْحَسَن . وَقَدْ تَقَدَّمَتْ قِصَّة عُمَر فِيهَا أَوَّل الْكِتَاب .


أَيْ عَنْ الشِّرْك .


أَيْ أَنْفَع لَكُمْ .


أَيْ عَنْ الْإِيمَان .


أَيْ فَائِتِيهِ ; فَإِنَّهُ مُحِيط بِكُمْ وَمُنْزِل عِقَابه عَلَيْكُمْ .
إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَسورة التوبة الآية رقم 4
فِي مَوْضِع نَصْب بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِل , الْمَعْنَى : أَنَّ اللَّه بَرِيء مِنْ الْمُشْرِكِينَ إِلَّا مِنْ الْمُعَاهِدِينَ فِي مُدَّة عَهْدهمْ . وَقِيلَ : الِاسْتِثْنَاء مُنْقَطِع , أَيْ أَنَّ اللَّه بَرِيء مِنْهُمْ وَلَكِنَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ فَثَبَتُوا عَلَى الْعَهْد فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدهمْ .


يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَهْل الْعَهْد مَنْ خَاسَ بِعَهْدِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ ثَبَتَ عَلَى الْوَفَاء , فَأَذِنَ اللَّه سُبْحَانه لِنَبِيِّيهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَقْضِ عَهْد مَنْ خَاسَ , وَأُمِرَ بِالْوَفَاءِ لِمَنْ بَقِيَ عَلَى عَهْده إِلَى مُدَّته . وَمَعْنَى " لَمْ يَنْقُصُوكُمْ " أَيْ مِنْ شُرُوط الْعَهْد شَيْئًا .


لَمْ يُعَاوِنُوا . وَقَرَأَ عِكْرِمَة وَعَطَاء بْن يَسَار " ثُمَّ لَمْ يَنْقُضُوكُمْ " بِالضَّادِ مُعْجَمَة عَلَى حَذْف مُضَاف , التَّقْدِير ثُمَّ لَمْ يَنْقُضُوا عَهْدهمْ . يُقَال : إِنَّ هَذَا مَخْصُوص يُرَاد بِهِ بَنُو ضَمْرَة خَاصَّة .


أَيْ وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَر مِنْ أَرْبَعَة أَشْهُر .
فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌسورة التوبة الآية رقم 5
أَيْ خَرَجَ , وَسَلَخْت الشَّهْر إِذَا صِرْت فِي أَوَاخِر أَيَّامه , تَسْلَخهُ سَلْخًا وَسُلُوخًا بِمَعْنَى خَرَجْت مِنْهُ . وَقَالَ الشَّاعِر : ش إِذَا مَا سَلَخْت الشَّهْر أَهْلَلْت قَبْله و كَفَى قَاتِلًا سَلْخِي الشُّهُور وَإِهْلَالِي ش وَانْسَلَخَ الشَّهْر وَانْسَلَخَ النَّهَار مِنْ اللَّيْل الْمُقْبِل . وَسَلَخَتْ الْمَرْأَة دِرْعهَا نَزَعَتْهُ وَفِي التَّنْزِيل : " وَآيَة لَهُمْ اللَّيْل نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَار " [ يس : 37 ] . وَنَخْلَة مِسْلَاخ , وَهِيَ الَّتِي يَنْتَثِر بُسْرهَا أَخْضَر .

وَالْأَشْهُر الْحُرُم فِيهَا لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ : قِيلَ هِيَ الْأَشْهُر الْمَعْرُوفَة , ثَلَاثَة سَرْد وَوَاحِد فَرْد . قَالَ الْأَصَمّ : أُرِيد بِهِ مَنْ لَا عَقْد لَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ , فَأَوْجَبَ أَنْ يُمْسَك عَنْ قِتَالهمْ حَتَّى يَنْسَلِخ الْحُرُم , وَهُوَ مُدَّة خَمْسِينَ يَوْمًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ اِبْن عَبَّاس , لِأَنَّ النِّدَاء كَانَ بِذَلِكَ يَوْم النَّحْر . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا . وَقِيلَ : شُهُور الْعَهْد أَرْبَعَة , قَالَهُ مُجَاهِد وَابْن إِسْحَاق وَابْن زَيْد وَعَمْرو بْن شُعَيْب . وَقِيلَ لَهَا حُرُم لِأَنَّ اللَّه حَرَّمَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِيهَا دِمَاء الْمُشْرِكِينَ وَالتَّعَرُّض لَهُمْ إِلَّا عَلَى سَبِيل الْخَيْر .


عَامّ فِي كُلّ مُشْرِك , لَكِنَّ السُّنَّة خَصَّتْ مِنْهُ مَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي سُورَة [ الْبَقَرَة ] مِنْ اِمْرَأَة وَرَاهِب وَصَبِيّ وَغَيْرهمْ . وَقَالَ اللَّه تَعَالَى فِي أَهْل الْكِتَاب : " حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَة " . إِلَّا أَنَّهُ يَجُوز أَنْ يَكُون لَفْظ الْمُشْرِكِينَ لَا يَتَنَاوَل أَهْل الْكِتَاب , وَيَقْتَضِي ذَلِكَ مَنْع أَخْذ الْجِزْيَة مِنْ عَبَدَة الْأَوْثَان وَغَيْرهمْ , عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه . وَاعْلَمْ أَنَّ مُطْلَق قَوْله : " اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ " يَقْتَضِي جَوَاز قَتْلهمْ بِأَيِّ وَجْه كَانَ , إِلَّا أَنَّ الْأَخْبَار وَرَدَتْ بِالنَّهْيِ عَنْ الْمُثْلَة . وَمَعَ هَذَا فَيَجُوز أَنْ يَكُون الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ حِين قَتَلَ أَهْل الرِّدَّة بِالْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ , وَبِالْحِجَارَةِ وَبِالرَّمْيِ مِنْ رُءُوس الْجِبَال , وَالتَّنْكِيس فِي الْآبَار , تَعَلَّقَ بِعُمُومِ الْآيَة . وَكَذَلِكَ إِحْرَاق عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَوْمًا مِنْ أَهْل الرِّدَّة يَجُوز أَنْ يَكُون مَيْلًا إِلَى هَذَا الْمَذْهَب , وَاعْتِمَادًا عَلَى عُمُوم اللَّفْظ . وَاَللَّه أَعْلَم .


عَامّ فِي كُلّ مَوْضِع . وَخَصَّ أَبُو حَنِيفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ الْمَسْجِد الْحَرَام , كَمَا سَبَقَ فِي سُورَة " الْبَقَرَة " ثُمَّ اِخْتَلَفُوا , فَقَالَ الْحُسَيْن بْن الْفَضْل : نَسَخَتْ هَذِهِ كُلَّ آيَة فِي الْقُرْآن فِيهَا ذِكْر الْإِعْرَاض وَالصَّبْر عَلَى أَذَى الْأَعْدَاء . وَقَالَ الضَّحَّاك وَالسُّدِّيّ وَعَطَاء : هِيَ مَنْسُوخَة بِقَوْلِهِ : " فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء " [ مُحَمَّد : 4 ] . وَأَنَّهُ لَا يُقْتَل أَسِير صَبْرًا , إِمَّا أَنْ يُمَنّ عَلَيْهِ وَإِمَّا أَنْ يُفَادَى . وَقَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة : بَلْ هِيَ نَاسِخَة لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَإِمَّا مَنًّا بَعْد وَإِمَّا فِدَاء " وَأَنَّهُ لَا يَجُوز فِي الْأُسَارَى مِنْ الْمُشْرِكِينَ إِلَّا الْقَتْل . وَقَالَ اِبْن زَيْد : الْآيَتَانِ مُحْكَمَتَانِ . وَهُوَ الصَّحِيح , لِأَنَّ الْمَنّ وَالْقَتْل وَالْفِدَاء لَمْ يَزَلْ مِنْ حُكْم رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ مِنْ أَوَّل حَرْب حَارَبَهُمْ , وَهُوَ يَوْم بَدْر كَمَا سَبَقَ .



وَالْأَخْذ هُوَ الْأَسْر . وَالْأَسْر إِنَّمَا يَكُون لِلْقَتْلِ أَوْ الْفِدَاء أَوْ الْمَنّ عَلَى مَا يَرَاهُ الْإِمَام .


يُرِيد عَنْ التَّصَرُّف إِلَى بِلَادكُمْ وَالدُّخُول إِلَيْكُمْ , إِلَّا أَنْ تَأْذَنُوا لَهُمْ فَيَدْخُلُوا إِلَيْكُمْ بِأَمَانٍ .


الْمَرْصَد : الْمَوْضِع الَّذِي يُرْقَب فِيهِ الْعَدُوّ , يُقَال : رَصَدْت فُلَانًا أَرْصُدهُ , أَيْ رَقَبْته . أَيْ اُقْعُدُوا لَهُمْ فِي مَوَاضِع الْغِرَّة حَيْثُ يُرْصَدُونَ . قَالَ عَامِر بْن الطُّفَيْل : وَلَقَدْ عَلِمْت وَمَا إِخَالك نَاسِيَا أَنَّ الْمَنِيَّة لِلْفَتَى بِالْمَرْصَدِ وَقَالَ عَدِيّ : أَعَاذِل إِنَّ الْجَهْل مِنْ لَذَّة الْفَتَى وَإِنَّ الْمَنَايَا لِلنُّفُوسِ بِمَرْصَدِ وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى جَوَاز اِغْتِيَالهمْ قَبْل الدَّعْوَة . وَنَصْب " كُلّ " عَلَى الظَّرْف , وَهُوَ اِخْتِيَار الزَّجَّاج , وَيُقَال : ذَهَبْت طَرِيقًا وَذَهَبْت كُلّ طَرِيق . أَوْ بِإِسْقَاطِ الْخَافِض , التَّقْدِير : فِي كُلّ مَرْصَد وَعَلَى كُلّ مَرْصَد , فَيُجْعَل الْمَرْصَد اِسْمًا لِلطَّرِيقِ . وَخَطَّأَ أَبُو عَلِيٍّ الزَّجَّاجَ فِي جَعْله الطَّرِيق ظَرْفًا وَقَالَ : الطَّرِيق مَكَان مَخْصُوص كَالْبَيْتِ وَالْمَسْجِد , فَلَا يَجُوز حَذْف حَرْف الْجَرّ مِنْهُ إِلَّا فِيمَا وَرَدَ فِيهِ الْحَذْف سَمَاعًا , كَمَا حَكَى سِيبَوَيْهِ : دَخَلْت الشَّام وَدَخَلْت الْبَيْت , وَكَمَا قِيلَ : كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ


أَيْ مِنْ الشِّرْك .


هَذِهِ الْآيَة فِيهَا تَأَمُّل , وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى عَلَّقَ الْقَتْل عَلَى الشِّرْك , ثُمَّ قَالَ : " فَإِنْ تَابُوا " . وَالْأَصْل أَنَّ الْقَتْل مَتَى كَانَ الشِّرْك يَزُول بِزَوَالِهِ , وَذَلِكَ يَقْتَضِي زَوَال الْقَتْل بِمُجَرَّدِ التَّوْبَة , مِنْ غَيْر اِعْتِبَار إِقَامَة الصَّلَاة وَإِيتَاء الزَّكَاة , وَلِذَلِكَ سَقَطَ الْقَتْل بِمُجَرَّدِ التَّوْبَة قَبْل وَقْت الصَّلَاة وَالزَّكَاة . وَهَذَا بَيِّن فِي هَذَا الْمَعْنَى , غَيْر أَنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ التَّوْبَة وَذَكَرَ مَعَهَا شَرْطَيْنِ آخَرَيْنِ , فَلَا سَبِيل إِلَى إِلْغَائِهِمَا . نَظِيره قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أُمِرْت أَنْ أُقَاتِل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَيُقِيمُوا الصَّلَاة وَيُؤْتُوا الزَّكَاة فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابهمْ عَلَى اللَّه ) . وَقَالَ أَبُو بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : ( وَاَللَّه لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْن الصَّلَاة وَالزَّكَاة , فَإِنَّ الزَّكَاة حَقّ الْمَال ) وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : رَحِمَ اللَّه أَبَا بَكْر مَا كَانَ أَفْقَهه . وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : فَانْتَظَمَ الْقُرْآن وَالسُّنَّة وَاطَّرَدَا . وَلَا خِلَاف بَيْن الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاة وَسَائِر الْفَرَائِض مُسْتَحِلًّا كَفَرَ , وَمَنْ تَرَكَ السُّنَن مُتَهَاوِنًا فَسَقَ , وَمَنْ تَرَكَ النَّوَافِل لَمْ يُحَرَّج , إِلَّا أَنْ يَجْحَد فَضْلهَا فَيَكْفُر , لِأَنَّهُ يَصِير رَادًّا عَلَى الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام مَا جَاءَ بِهِ وَأَخْبَرَ عَنْهُ . وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ تَرَكَ الصَّلَاة مِنْ غَيْر جَحْد لَهَا وَلَا اِسْتِحْلَال , فَرَوَى يُونُس بْن عَبْد الْأَعْلَى قَالَ : سَمِعْت اِبْن وَهْب يَقُول قَالَ مَالِك : مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ وَأَبَى أَنْ يُصَلِّي قُتِلَ , وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْر وَجَمِيع أَصْحَاب الشَّافِعِيّ . وَهُوَ قَوْل حَمَّاد بْن زَيْد وَمَكْحُول وَوَكِيع . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : يُسْجَن وَيُضْرَب وَلَا يُقْتَل , وَهُوَ قَوْل اِبْن شِهَاب وَبِهِ يَقُول دَاوُد بْن عَلِيّ . وَمِنْ حُجَّتهمْ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أُمِرْت أَنْ أُقَاتِل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا اللَّه فَإِذَا قَالُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَّا بِحَقِّهَا ) . وَقَالُوا : حَقّهَا الثَّلَاث الَّتِي قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَحِلّ دَم اِمْرِئٍ مُسْلِم إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث كُفْر بَعْد إِيمَان أَوْ زِنًى بَعْد إِحْصَان أَوْ قَتْل نَفْس بِغَيْرِ نَفْس ) . وَذَهَبَتْ جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ إِلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ صَلَاة وَاحِدَة مُتَعَمِّدًا حَتَّى يَخْرُج وَقْتهَا لِغَيْرِ عُذْر , وَأَبَى مِنْ أَدَائِهَا وَقَضَائِهَا وَقَالَ لَا أُصَلِّي فَإِنَّهُ كَافِر , وَدَمه وَمَاله حَلَالَان , وَلَا يَرِثهُ وَرَثَته مِنْ الْمُسْلِمِينَ , وَيُسْتَتَاب , فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ , وَحُكْم مَاله كَحُكْمِ مَال الْمُرْتَدّ , وَهُوَ قَوْل إِسْحَاق . قَالَ إِسْحَاق : وَكَذَلِكَ كَانَ رَأْي أَهْل الْعِلْم مِنْ لَدُنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى زَمَاننَا هَذَا . وَقَالَ اِبْن خُوَيْز مِنْدَاد : وَاخْتَلَفَ أَصْحَابنَا مَتَى يُقْتَل تَارِك الصَّلَاة , فَقَالَ بَعْضهمْ فِي آخِر الْوَقْت الْمُخْتَار , وَقَالَ بَعْضهمْ آخِر وَقْت الضَّرُورَة , وَهُوَ الصَّحِيح مِنْ ذَلِكَ . وَذَلِكَ أَنْ يَبْقَى مِنْ وَقْت الْعَصْر أَرْبَع رَكَعَات إِلَى مَغِيب الشَّمْس , وَمِنْ اللَّيْل أَرْبَع رَكَعَات لِوَقْتِ الْعِشَاء , وَمِنْ الصُّبْح رَكْعَتَانِ قَبْل طُلُوع الشَّمْس . وَقَالَ إِسْحَاق : وَذَهَاب الْوَقْت أَنْ يُؤَخِّر الظُّهْر إِلَى غُرُوب الشَّمْس وَالْمَغْرِب إِلَى طُلُوع الْفَجْر .

هَذِهِ الْآيَة دَالَّة عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ : قَدْ تُبْت أَنَّهُ لَا يُجْتَزَأ بِقَوْلِهِ حَتَّى يَنْضَاف إِلَى ذَلِكَ أَفْعَاله الْمُحَقِّقَة لِلتَّوْبَةِ , لِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ شَرَطَ هُنَا مَعَ التَّوْبَة إِقَام الصَّلَاة وَإِيتَاء الزَّكَاة لِيُحَقِّق بِهِمَا التَّوْبَة . وَقَالَ فِي آيَة الرِّبَا " وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوس أَمْوَالكُمْ " [ الْبَقَرَة : 279 ] . وَقَالَ : " إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا " [ الْبَقَرَة : 160 ] وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى هَذَا فِي سُورَة الْبَقَرَة .
وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَسورة التوبة الآية رقم 6
فِيهِ أَرْبَع مَسَائِل : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ " أَيْ مِنْ الَّذِينَ أَمَرْتُك بِقِتَالِهِمْ . " اِسْتَجَارَك " أَيْ سَأَلَ جِوَارك , أَيْ أَمَانك وَذِمَامك , فَأَعْطِهِ إِيَّاهُ لِيَسْمَع الْقُرْآن , أَيْ يَفْهَم أَحْكَامه وَأَوَامِره وَنَوَاهِيه . فَإِنْ قَبِلَ أَمْرًا فَحَسَن , وَإِنْ أَبَى فَرَدَّهُ إِلَى مَأْمَنه . وَهَذَا مَا لَا خِلَاف فِيهِ . وَاَللَّه أَعْلَم .

قَالَ مَالِك : إِذَا وُجِدَ الْحَرْبِيّ فِي طَرِيق بِلَاد الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ : جِئْت أَطْلُب الْأَمَان . قَالَ مَالِك : هَذِهِ أُمُور مُشْتَبِهَة , وَأَرَى أَنْ يُرَدّ إِلَى مَأْمَنه . وَقَالَ اِبْن قَاسِم : وَكَذَلِكَ الَّذِي يُوجَد وَقَدْ نَزَلَ تَاجِرًا بِسَاحِلِنَا فَيَقُول : ظَنَنْت أَلَّا تَعْرِضُوا لِمَنْ جَاءَ تَاجِرًا حَتَّى يَبِيع . وَظَاهِر الْآيَة إِنَّمَا هِيَ فِيمَنْ يُرِيد سَمَاع الْقُرْآن وَالنَّظَر فِي الْإِسْلَام , فَأَمَّا الْإِجَارَة لِغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّمَا هِيَ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّظَر فِيمَا تَعُود عَلَيْهِمْ بِهِ مَنْفَعَته .

الثَّانِيَة : وَلَا خِلَاف بَيْن كَافَّة الْعُلَمَاء أَنَّ أَمَان السُّلْطَان جَائِز , لِأَنَّهُ مُقَدَّم لِلنَّظَرِ وَالْمَصْلَحَة , نَائِب عَنْ الْجَمِيع فِي جَلْب الْمَنَافِع وَدَفْع الْمَضَارّ . وَاخْتَلَفُوا فِي أَمَان غَيْر الْخَلِيفَة , فَالْحُرّ يَمْضِي أَمَانه عِنْد كَافَّة الْعُلَمَاء . إِلَّا أَنَّ اِبْن حَبِيب قَالَ : يَنْظُر الْإِمَام فِيهِ . وَأَمَّا الْعَبْد فَلَهُ الْأَمَان فِي مَشْهُور الْمَذْهَب , وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْرِيّ وَأَبُو ثَوْر وَدَاوُد وَمُحَمَّد بْن الْحَسَن . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : لَا أَمَان لَهُ , وَهُوَ الْقَوْل الثَّانِي لِعُلَمَائِنَا . وَالْأَوَّل أَصَحّ , لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ ) . قَالُوا : فَلَمَّا قَالَ ( أَدْنَاهُمْ ) جَازَ أَمَان الْعَبْد , وَكَانَتْ الْمَرْأَة الْحُرَّة أَحْرَى بِذَلِكَ , وَلَا اِعْتِبَار بِعِلَّةِ ( لَا يُسْهَم لَهُ ) . وَقَالَ عَبْد الْمَلِك بْن الْمَاجِشُون : لَا يَجُوز أَمَان الْمَرْأَة إِلَّا أَنْ يُجِيزهُ الْإِمَام , فَشَذَّ بِقَوْلِهِ عَنْ الْجُمْهُور . وَأَمَّا الصَّبِيّ فَإِذَا أَطَاقَ الْقِتَال جَازَ أَمَانه , لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَة الْمُقَاتِلَة , وَدَخَلَ فِي الْفِئَة الْحَامِيَة . وَقَدْ ذَهَبَ الضَّحَّاك وَالسُّدِّيّ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَة مَنْسُوخَة بِقَوْلِهِ : " فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ " . وَقَالَ الْحَسَن : هِيَ مُحْكَمَة سُنَّة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة , وَقَالَهُ مُجَاهِد . وَقِيلَ : هَذِهِ الْآيَة إِنَّمَا كَانَ حُكْمهَا بَاقِيًا مُدَّة الْأَرْبَعَة الْأَشْهُر الَّتِي ضُرِبَتْ لَهُمْ أَجَلًا , وَلَيْسَ بِشَيْءٍ . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : جَاءَ رَجُل مِنْ الْمُشْرِكِينَ إِلَى عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب فَقَالَ : إِنْ أَرَادَ الرَّجُل مِنَّا أَنْ يَأْتِي مُحَمَّدًا بَعْد اِنْقِضَاء الْأَرْبَعَة الْأَشْهُر فَيَسْمَع كَلَام اللَّه أَوْ يَأْتِيه بِحَاجَةٍ قُتِلَ فَقَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب : لَا , لِأَنَّ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُول : " وَإِنْ أَحَد مِنْ الْمُشْرِكِينَ اِسْتَجَارَك فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَع كَلَام اللَّه " . وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح . وَالْآيَة مُحْكَمَة .

الثَّالِثَة : قَوْله تَعَالَى : " وَإِنْ أَحَد " " أَحَد " مَرْفُوع بِإِضْمَارِ فِعْل كَاَلَّذِي بَعْده . وَهَذَا حَسَن فِي " إِنْ " وَقَبِيح فِي أَخَوَاتهَا . وَمَذْهَب سِيبَوَيْهِ فِي الْفَرْق بَيْن " إِنْ " وَأَخَوَاتهَا , أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ أُمّ حُرُوف الشَّرْط خُصَّتْ بِهَذَا , وَلِأَنَّهَا لَا تَكُون فِي غَيْره . وَقَالَ مُحَمَّد بْن يَزِيد : أَمَّا قَوْله - لِأَنَّهَا لَا تَكُون فِي غَيْره - فَغَلَط , لِأَنَّهَا تَكُون بِمَعْنَى - مَا - وَمُخَفَّفَة مِنْ الثَّقِيلَة وَلَكِنَّهَا مُبْهَمَة , وَلَيْسَ كَذَا غَيْرهَا . وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : لَا تَجْزَعِي إِنْ مُنْفِسًا أَهْلَكْته وَإِذَا هَلَكْت فَعِنْد ذَلِكَ فَاجْزَعِي

الرَّابِعَة : قَالَ الْعُلَمَاء : فِي قَوْله تَعَالَى : " حَتَّى يَسْمَع كَلَام اللَّه " دَلِيل عَلَى أَنَّ كَلَام اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مَسْمُوع عِنْد قِرَاءَة الْقَارِئ , قَالَهُ الشَّيْخ أَبُو الْحَسَن وَالْقَاضِي أَبُو بَكْر وَأَبُو الْعَبَّاس الْقَلَانِسِيّ وَابْن مُجَاهِد وَأَبُو إِسْحَاق الْإِسْفِرَايِينِيّ وَغَيْرهمْ , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " حَتَّى يَسْمَع كَلَام اللَّه " فَنَصَّ عَلَى أَنَّ كَلَامه مَسْمُوع عِنْد قِرَاءَة الْقَارِئ لِكَلَامِهِ . وَيَدُلّ عَلَيْهِ إِجْمَاع الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْقَارِئ إِذَا قَرَأَ فَاتِحَة الْكِتَاب أَوْ سُورَة قَالُوا : سَمِعْنَا كَلَام اللَّه . وَفَرَّقُوا بَيْن أَنْ يَقْرَأ كَلَام اللَّه تَعَالَى وَبَيْن أَنْ يَقْرَأ شِعْر اِمْرِئِ الْقَيْس . وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة [ الْبَقَرَة ] مَعْنَى كَلَام اللَّه تَعَالَى , وَأَنَّهُ لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلَا صَوْت , وَالْحَمْد لِلَّهِ .
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَسورة التوبة الآية رقم 7
كَيْفَ هُنَا لِلتَّعَجُّبِ , كَمَا تَقُول : كَيْفَ يَسْبِقنِي فُلَان أَيْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْبِقنِي . و " عَهْد " اِسْم يَكُون . وَفِي الْآيَة إِضْمَار , أَيْ كَيْفَ يَكُون لِلْمُشْرِكِينَ عَهْد مَعَ إِضْمَار الْغَدْر , كَمَا قَالَ : وَخَبَّرْتُمَانِي إِنَّمَا الْمَوْت بِالْقُرَى فَكَيْفَ وَهَاتَا هَضْبَة وَكَثِيب التَّقْدِير : فَكَيْفَ مَاتَ , عَنْ الزَّجَّاج . وَقِيلَ : الْمَعْنَى كَيْفَ يَكُون لِلْمُشْرِكِينَ عَهْد عِنْد اللَّه يَأْمَنُونَ بِهِ عَذَابه غَدًا , وَكَيْفَ يَكُون لَهُمْ عِنْد رَسُوله عَهْد يَأْمَنُونَ بِهِ عَذَاب الدُّنْيَا . ثُمَّ اِسْتَثْنَى فَقَالَ : " إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْد الْمَسْجِد الْحَرَام " . قَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق : هُمْ بَنُو بَكْر , أَيْ لَيْسَ الْعَهْد إِلَّا لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَمْ يَنْقُضُوا وَلَمْ يَنْكُثُوا .


أَيْ فَمَا أَقَامُوا عَلَى الْوَفَاء بِعَهْدِكُمْ فَأَقِيمُوا لَهُمْ عَلَى مِثْل ذَلِكَ . اِبْن زَيْد : فَلَمْ يَسْتَقِيمُوا فَضَرَبَ لَهُمْ أَجَلًا أَرْبَعَة أَشْهُر فَأَمَّا مَنْ لَا عَهْد لَهُ فَقَاتِلُوهُ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُ إِلَّا أَنْ يَتُوب .
كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَسورة التوبة الآية رقم 8
أَعَادَ التَّعَجُّب مِنْ أَنْ يَكُون لَهُمْ عَهْد مَعَ خُبْث أَعْمَالهمْ , أَيْ كَيْفَ يَكُون لَهُمْ عَهْد وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّة . يُقَال : ظَهَرْت عَلَى فُلَان أَيْ غَلَبْته , وَظَهَرْت الْبَيْت عَلَوْته , وَمِنْهُ " فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ " [ الْكَهْف : 97 ] أَيْ يَعْلُوا عَلَيْهِ .


" يَرْقُبُوا " يُحَافِظُوا . وَالرَّقِيب الْحَافِظ . وَقَدْ تَقَدَّمَ .


عَهْدًا , عَنْ مُجَاهِد وَابْن زَيْد . وَعَنْ مُجَاهِد أَيْضًا : هُوَ اِسْم مِنْ أَسْمَاء اللَّه عَزَّ وَجَلَّ . اِبْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك : قَرَابَة . الْحَسَن : جِوَارًا . قَتَادَة : حِلْفًا , و " ذِمَّة " عَهْدًا . أَبُو عُبَيْدَة : يَمِينًا . وَعَنْهُ أَيْضًا : إِلَّا الْعَهْد , وَالذِّمَّة التَّذَمُّم . الْأَزْهَرِيّ : اِسْم اللَّه بِالْعِبْرَانِيَّةِ , وَأَصْله مِنْ الْأَلِيل وَهُوَ الْبَرِيق , يُقَال أَلَّ لَوْنه يَؤُلّ أَلًّا , أَيْ صَفَا وَلَمَعَ . وَقِيلَ : أَصْله مِنْ الْحِدَّة , وَمِنْهُ الْأَلَّة لِلْحَرْبَةِ , وَمِنْهُ أُذُن مُؤَلَّلَة أَيْ مُحَدَّدَة . وَمِنْهُ قَوْل طَرَفَة بْن الْعَبْد يَصِف أُذُنَيْ نَاقَته بِالْحِدَّةِ وَالِانْتِصَاب . مُؤَلَّلَتَانِ تَعْرِف الْعِتْق فِيهِمَا كَسَامِعَتَيْ شَاة بِحَوْمَل مُفْرَد فَإِذَا قِيلَ لِلْعَهْدِ وَالْجِوَار وَالْقَرَابَة " إِلّ " فَمَعْنَاهُ أَنَّ الْأُذُن تُصْرَف إِلَى تِلْكَ الْجِهَة , أَيْ تُحَدَّد لَهَا . وَالْعَهْد يُسَمَّى " إِلًّا " لِصَفَائِهِ وَظُهُوره . وَيُجْمَع فِي الْقِلَّة آلَالَ . وَفِي الْكَثْرَة إِلَال . وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ وَغَيْره : الْإِلّ بِالْكَسْرِ هُوَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , وَالْإِلّ أَيْضًا الْعَهْد وَالْقَرَابَة . قَالَ حَسَّان : لَعَمْرك إِنَّ إِلَّك مِنْ قُرَيْش كَإِلِّ السَّقْب مِنْ رَأَل النَّعَام


أَيْ عَهْدًا . وَهِيَ كُلّ حُرْمَة يَلْزَمك إِذَا ضَيَّعْتهَا ذَنْب . قَالَ اِبْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك وَابْن زَيْد : الذِّمَّة الْعَهْد . وَمَنْ جَعَلَ الْإِلّ الْعَهْد فَالتَّكْرِير لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة مَعْمَر : الذِّمَّة التَّذَمُّم . وَقَالَ أَبُو عُبَيْد : الذِّمَّة الْأَمَان فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ ) . وَجَمْع ذِمَّة ذِمَم . وَبِئْر ذَمَّة - بِفَتْحِ الذَّال - قَلِيلَة الْمَاء , وَجَمْعهَا ذِمَام . قَالَ ذُو الرِّمَّة : عَلَى حِمْيَرِيَّات كَأَنَّ عُيُونهَا ذِمَام الرَّكَايَا أَنْكَزَتْهَا الْمَوَاتِح أَنْكَزَتْهَا أَذْهَبَتْ مَاءَهَا . وَأَهْل الذِّمَّة أَهْل الْعَقْد .


أَيْ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا يُرْضِي ظَاهِره .


أَيْ نَاقِضُونَ الْعَهْد . وَكُلّ كَافِر فَاسِق , وَلَكِنَّهُ أَرَادَ هَاهُنَا الْمُجَاهِرِينَ بِالْقَبَائِحِ وَنَقْض الْعَهْد .
اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَسورة التوبة الآية رقم 9
يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ فِي نَقْضِهِمْ الْعُهُود بِأَكْلَةٍ أَطْعَمَهُمْ إِيَّاهَا أَبُو سُفْيَان , قَالَهُ مُجَاهِد . وَقِيلَ : إِنَّهُمْ اِسْتَبْدَلُوا بِالْقُرْآنِ مَتَاع الدُّنْيَا .


أَيْ أَعْرَضُوا , مِنْ الصُّدُود أَوْ مَنَعُوا عَنْ سَبِيل اللَّه , مِنْ الصَّدّ .
لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَسورة التوبة الآية رقم 10
قَالَ النَّحَّاس : لَيْسَ هَذَا تَكْرِيرًا , وَلَكِنَّ الْأَوَّل لِجَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ وَالثَّانِي لِلْيَهُودِ خَاصَّة . وَالدَّلِيل عَلَى هَذَا " اِشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّه ثَمَنًا قَلِيلًا " يَعْنِي الْيَهُود , بَاعُوا حُجَج اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَبَيَانه بِطَلَبِ الرِّيَاسَة وَطَمَع فِي شَيْء .


أَيْ الْمُجَاوِزُونَ الْحَلَال إِلَى الْحَرَام بِنَقْضِ الْعَهْد .
فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَسورة التوبة الآية رقم 11
أَيْ عَنْ الشِّرْك وَالْتَزَمُوا أَحْكَام الْإِسْلَام .


أَيْ فَهُمْ إِخْوَانكُمْ


قَالَ اِبْن عَبَّاس : حَرَّمَتْ هَذِهِ دِمَاءَ أَهْل الْقِبْلَة . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى . وَقَالَ اِبْن زَيْد : اِفْتَرَضَ اللَّه الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَأَبَى أَنْ يُفَرِّق بَيْنهمَا وَأَبَى أَنْ يَقْبَل الصَّلَاة إِلَّا بِالزَّكَاةِ . وَقَالَ اِبْن مَسْعُود : أُمِرْتُمْ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة فَمَنْ لَمْ يُزَكِّ فَلَا صَلَاة لَهُ . وَفِي حَدِيث أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ فَرَّقَ بَيْن ثَلَاث فَرَّقَ اللَّه بَيْنه وَبَيْن رَحْمَته يَوْم الْقِيَامَة مَنْ قَالَ أُطِيع اللَّه وَلَا أُطِيع الرَّسُول وَاَللَّه تَعَالَى يَقُول " أَطِيعُوا اللَّه وَأَطِيعُوا الرَّسُول " [ النِّسَاء : 59 ] وَمَنْ قَالَ أُقِيم الصَّلَاة وَلَا أُوتِي الزَّكَاة وَاَللَّه تَعَالَى يَقُول : " وَأَقِيمُوا الصَّلَاة وَآتُوا الزَّكَاة " [ الْبَقَرَة : 43 ] وَمَنْ فَرَّقَ بَيْن شُكْر اللَّه وَشُكْر وَالِدَيْهِ وَاَللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَقُول : " أَنْ اُشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْك " [ لُقْمَان : 14 ] ) .


أَيْ نُبَيِّنهَا .


خَصَّهُمْ لِأَنَّهُمْ هُمْ الْمُنْتَفِعُونَ بِهَا . وَاَللَّه أَعْلَم .
وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَسورة التوبة الآية رقم 12
النَّكْث النَّقْض , وَأَصْله فِي كُلّ مَا فُتِلَ ثُمَّ حُلَّ . فَهِيَ فِي الْأَيْمَان وَالْعُهُود مُسْتَعَارَة . قَالَ : وَإِنْ حَلَفْت لَا يَنْقُض النَّأْي عَهْدهَا فَلَيْسَ لِمَخْضُوبِ الْبَنَان يَمِينُ أَيْ عَهْد .



أَيْ بِالِاسْتِنْقَاض وَالْحَرْب وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلهُ الْمُشْرِك . يُقَال : طَعَنَهُ بِالرُّمْحِ وَطَعَنَ بِالْقَوْلِ السَّيِّئ فِيهِ يَطْعُن , بِضَمِّ الْعَيْن فِيهِمَا . وَقِيلَ : يَطْعُن بِالرُّمْحِ - بِالضَّمِّ - وَيَطْعَن بِالْقَوْلِ - بِالْفَتْحِ - . وَهِيَ هُنَا اِسْتِعَارَة , وَمِنْهُ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين أَمَّرَ أُسَامَة : ( إِنْ تَطْعَنُوا فِي إِمَارَته فَقَدْ طَعَنْتُمْ فِي إِمَارَة أَبِيهِ مِنْ قَبْل وَأَيْم اللَّه إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلْإِمَارَةِ ) . خَرَّجَهُ الصَّحِيح .

اِسْتَدَلَّ بَعْض الْعُلَمَاء بِهَذِهِ الْآيَة عَلَى وُجُوب قَتْل كُلّ مَنْ طَعَنَ فِي الدِّين , إِذْ هُوَ كَافِر . وَالطَّعْن أَنْ يَنْسُب إِلَيْهِ مَا لَا يَلِيق بِهِ , أَوْ يَعْتَرِض بِالِاسْتِخْفَافِ عَلَى مَا هُوَ مِنْ الدِّين , لِمَا ثَبَتَ مِنْ الدَّلِيل الْقَطْعِيّ عَلَى صِحَّة أُصُوله وَاسْتِقَامَة فُرُوعه . وَقَالَ اِبْن الْمُنْذِر : أَجْمَع عَامَّة أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ الْقَتْل . وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ مَالِك وَاللَّيْث وَأَحْمَد وَإِسْحَاق , وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِيّ . وَقَدْ حُكِيَ عَنْ النُّعْمَان أَنَّهُ قَالَ : لَا يُقْتَل مَنْ سَبَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْل الذِّمَّة , عَلَى مَا يَأْتِي . وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ فِي مَجْلِس عَلِيّ : مَا قُتِلَ كَعْب بْن الْأَشْرَف إِلَّا غَدْرًا , فَأَمَرَ عَلِيّ بِضَرْبِ عُنُقه . وَقَالَهُ آخَر فِي مَجْلِس مُعَاوِيَة فَقَامَ مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة فَقَالَ : أَيُقَالُ هَذَا فِي مَجْلِسك وَتَسْكُت ! وَاَللَّه لَا أُسَاكِنك تَحْت سَقْف أَبَدًا , وَلَئِنْ خَلَوْت بِهِ لَأَقْتُلَنَّهُ . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا يُقْتَل وَلَا يُسْتَتَاب إِنْ نَسَبَ الْغَدْر لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهُوَ الَّذِي فَهِمَهُ عَلِيّ وَمُحَمَّد بْن مَسْلَمَة رِضْوَان اللَّه عَلَيْهِمَا مِنْ قَائِل ذَلِكَ , لِأَنَّ ذَلِكَ زَنْدَقَة . فَأَمَّا إِنْ نَسَبَهُ لِلْمُبَاشِرِينَ لِقَتْلِهِ بِحَيْثُ يَقُول : إِنَّهُمْ أَمَّنُوهُ ثُمَّ غَدَرُوهُ لَكَانَتْ هَذِهِ النِّسْبَة كَذِبًا مَحْضًا , فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامهمْ مَعَهُ مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُمْ أَمَّنُوهُ وَلَا صَرَّحُوا لَهُ بِذَلِكَ , وَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ لَمَا كَانَ أَمَانًا , لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا وَجَّهَهُمْ لِقَتْلِهِ لَا لِتَأْمِينِهِ , وَأَذِنَ لِمُحَمَّدِ بْن مَسْلَمَة فِي أَنْ يَقُول . وَعَلَى هَذَا فَيَكُون فِي قَتْل مَنْ نَسَبَ ذَلِكَ لَهُمْ نَظَر وَتَرَدُّد . وَسَبَبه هَلْ يَلْزَم مِنْ نِسْبَة الْغَدْر لَهُمْ نِسْبَته لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , لِأَنَّهُ قَدْ صَوَّبَ فِعْلهمْ وَرَضِيَ بِهِ فَيَلْزَم مِنْهُ أَنَّهُ قَدْ رَضِيَ بِالْغَدْرِ وَمَنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ قُتِلَ , أَوْ لَا يَلْزَم مِنْ نِسْبَة الْغَدْر لَهُمْ نِسْبَته لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يُقْتَل . وَإِذَا قُلْنَا لَا يُقْتَل , فَلَا بُدّ مِنْ تَنْكِيل ذَلِكَ الْقَائِل وَعُقُوبَته بِالسَّجْنِ , وَالضَّرْب الشَّدِيد وَالْإِهَانَة الْعَظِيمَة .

فَأَمَّا الذِّمِّيّ إِذَا طَعَنَ فِي الدِّين اِنْتَقَضَ عَهْده فِي الْمَشْهُور مِنْ مَذْهَب مَالِك , لِقَوْلِهِ : " وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانهمْ " الْآيَة . فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ وَقِتَالهمْ . وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة فِي هَذَا : إِنَّهُ يُسْتَتَاب , وَإِنَّ مُجَرَّد الطَّعْن لَا يُنْقَض بِهِ الْعَهْد إِلَّا مَعَ وُجُود النَّكْث , لِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ بِشَرْطَيْنِ : أَحَدهمَا نَقْضهمْ الْعَهْد , وَالثَّانِي طَعْنهمْ فِي الدِّين .

قُلْنَا : إِنْ عَمِلُوا بِمَا يُخَالِف الْعَهْد اِنْتَقَضَ عَهْدهمْ , وَذِكْر الْأَمْرَيْنِ لَا يَقْتَضِي تَوَقُّف قِتَاله عَلَى وُجُودهمَا , فَإِنَّ النَّكْث يُبِيح لَهُمْ ذَلِكَ بِانْفِرَادِهِ عَقْلًا وَشَرْعًا . وَتَقْدِير الْآيَة عِنْدنَا : فَإِنْ نَكَثُوا عَهْدهمْ حَلَّ قِتَالهمْ , وَإِنْ لَمْ يَنْكُثُوا بَلْ طَعَنُوا فِي الدِّين مَعَ الْوَفَاء بِالْعَهْدِ حَلَّ قِتَالهمْ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَر رُفِعَ إِلَيْهِ ذِمِّيّ نَخَسَ دَابَّة عَلَيْهَا اِمْرَأَة مُسْلِمَة فَرَمَحَتْ فَأَسْقَطَتْهَا فَانْكَشَفَتْ بَعْض عَوْرَتهَا , فَأَمَرَ بِصَلْبِهِ فِي الْمَوْضِع .

إِذَا حَارَبَ الذِّمِّيّ نُقِضَ عَهْده وَكَانَ مَاله وَوَلَده فَيْئًا مَعَهُ . وَقَالَ مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة : لَا يُؤَاخَذ وَلَده بِهِ , لِأَنَّهُ نَقَضَ وَحْده . وَقَالَ : أَمَّا مَاله فَيُؤْخَذ . وَهَذَا تَعَارُض لَا يُشْبِه مَنْصِب مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة , لِأَنَّ عَهْده هُوَ الَّذِي حَمَى مَاله وَوَلَده , فَإِذَا ذَهَبَ عَنْهُ مَاله ذَهَبَ عَنْهُ وَلَده . وَقَالَ أَشْهَب : إِذَا نَقَضَ الذِّمِّيّ الْعَهْد فَهُوَ عَلَى عَهْده وَلَا يَعُود فِي الرِّقّ أَبَدًا . وَهَذَا مِنْ الْعَجَب , وَكَأَنَّهُ رَأَى الْعَهْد مَعْنًى مَحْسُوسًا . وَإِنَّمَا الْعَهْد حُكْم اِقْتَضَاهُ النَّظَر , وَالْتَزَمَهُ الْمُسْلِمُونَ لَهُ , فَإِذَا نَقَضَهُ اِنْتَقَضَ كَسَائِرِ الْعُقُود .

أَكْثَر الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْل الذِّمَّة أَوْ عَرَّضَ أَوْ اِسْتَخَفَّ بِقَدْرِهِ أَوْ وَصَفَهُ بِغَيْرِ الْوَجْه الَّذِي كَفَرَ بِهِ فَإِنَّهُ يُقْتَل , فَإِنَّا لَمْ نُعْطِهِ الذِّمَّة أَوْ الْعَهْد عَلَى هَذَا . إِلَّا أَبَا حَنِيفَة وَالثَّوْرِيّ وَأَتْبَاعهمَا مِنْ أَهْل الْكُوفَة فَإِنَّهُمْ قَالُوا : لَا يُقْتَل , مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ الشِّرْك أَعْظَم , وَلَكِنْ يُؤَدَّب وَيُعَزَّر . وَالْحُجَّة عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى : " وَإِنْ نَكَثُوا " الْآيَة . وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بَعْضهمْ بِأَمْرِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ كَعْب بْن الْأَشْرَف وَكَانَ مُعَاهِدًا . وَتَغَيَّظَ أَبُو بَكْر عَلَى رَجُل مِنْ أَصْحَابه فَقَالَ أَبُو بَرْزَة : أَلَا أَضْرِب عُنُقه ! فَقَالَ : مَا كَانَتْ لِأَحَدٍ بَعْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس : أَنَّ رَجُلًا أَعْمَى كَانَتْ لَهُ أُمّ وَلَد , لَهُ مِنْهَا اِبْنَانِ مِثْل اللُّؤْلُؤَتَيْنِ , فَكَانَتْ تَشْتُم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقَع فِيهِ , فَيَنْهَاهَا فَلَمْ تَنْتَهِ , وَيَزْجُرهَا فَلَمْ تَنْزَجِر , فَلَمَّا كَانَ ذَات لَيْلَة ذَكَرَتْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا صَبَرَ سَيِّدهَا أَنْ قَامَ إِلَى مِعْوَل فَوَضَعَهُ فِي بَطْنهَا , ثُمَّ اِتَّكَأَ عَلَيْهَا حَتَّى أَنْفَذَهُ . فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَلَا اِشْهَدُوا إِنَّ دَمهَا هَدَر ) . وَفِي رِوَايَة عَنْ اِبْن عَبَّاس : فَقَتَلَهَا , فَلَمَّا أَصْبَحَ قِيلَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَامَ الْأَعْمَى فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه , أَنَا صَاحِبهَا , كَانَتْ تَشْتُمك وَتَقَع فِيك فَأَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي , وَأَزْجُرهَا فَلَا تَنْزَجِر , وَلِي مِنْهَا اِبْنَانِ مِثْل اللُّؤْلُؤَتَيْنِ , وَكَانَتْ بِي رَفِيقَة فَلَمَّا كَانَ الْبَارِحَة جَعَلَتْ تَشْتُمك وَتَقَع فِيك فَقَتَلْتهَا , فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَلَا اِشْهَدُوا إِنَّ دَمهَا هَدَر ) .

وَاخْتَلَفُوا إِذَا سَبَّهُ ثُمَّ أَسْلَمَ تَقِيَّة مِنْ الْقَتْل , فَقِيلَ يُسْقِطُ إِسْلَامُهُ قَتْلَهُ , وَهُوَ الْمَشْهُور مِنْ الْمَذْهَب , لِأَنَّ الْإِسْلَام يَجُبّ مَا قَبْله . بِخِلَافِ الْمُسْلِم إِذَا سَبَّهُ ثُمَّ تَابَ قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَر لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ " [ الْأَنْفَال : 38 ] . وَقِيلَ : لَا يُسْقِطُ الْإِسْلَامُ قَتْلَهُ , قَالَهُ فِي الْعُتْبِيَّة لِأَنَّهُ حَقّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَ لِانْتِهَاكِهِ حُرْمَته وَقَصْده إِلْحَاق النَّقِيصَة وَالْمَعَرَّة بِهِ , فَلَمْ يَكُنْ رُجُوعه إِلَى الْإِسْلَام بِاَلَّذِي يُسْقِطهُ , وَلَا يَكُون أَحْسَن حَالًا مِنْ الْمُسْلِم .



" أَئِمَّة " جَمْع إِمَام , وَالْمُرَاد صَنَادِيد قُرَيْش - فِي قَوْل بَعْض الْعُلَمَاء - كَأَبِي جَهْل وَعُتْبَة وَشَيْبَة وَأُمَيَّة بْن خَلَف . وَهَذَا بَعِيد , فَإِنَّ الْآيَة فِي سُورَة " بَرَاءَة " وَحِين نَزَلَتْ وَقُرِئَتْ عَلَى النَّاس كَانَ اللَّه قَدْ اِسْتَأْصَلَ شَأْفَة قُرَيْش فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مُسْلِم أَوْ مُسَالِم , فَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد " فَقَاتِلُوا أَئِمَّة الْكُفْر " . أَيْ مَنْ أَقْدَم عَلَى نَكْث الْعَهْد وَالطَّعْن فِي الدِّين يَكُون أَصْلًا وَرَأْسًا فِي الْكُفْر , فَهُوَ مِنْ أَئِمَّة الْكُفْر عَلَى هَذَا . وَيَحْتَمِل أَنْ يُعْنَى بِهِ الْمُتَقَدِّمُونَ وَالرُّؤَسَاء مِنْهُمْ , وَأَنَّ قِتَالهمْ قِتَال لِأَتْبَاعِهِمْ وَأَنَّهُمْ لَا حُرْمَة لَهُمْ . وَالْأَصْل أَأْمِمَة كَمِثَالٍ وَأَمْثِلَة , ثُمَّ أُدْغِمَتْ الْمِيم فِي الْمِيم وَقُلِبَتْ الْحَرَكَة عَلَى الْهَمْزَة فَاجْتَمَعَتْ هَمْزَتَانِ , فَأُبْدِلَتْ مِنْ الثَّانِيَة يَاء . وَزَعَمَ الْأَخْفَش أَنَّك تَقُول : هَذَا أَيَمّ مِنْ هَذَا , بِالْيَاءِ . وَقَالَ الْمَازِنِيّ : أَوَمّ مِنْ هَذَا , بِالْوَاوِ . وَقَرَأَ حَمْزَة " أَئِمَّة " . وَأَكْثَر النَّحْوِيِّينَ يَذْهَب إِلَى أَنَّ هَذَا لَحْن , لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْن هَمْزَتَيْنِ فِي كَلِمَة وَاحِدَة .


أَيْ لَا عُهُود لَهُمْ , أَيْ لَيْسَتْ عُهُودهمْ صَادِقَة يُوفُونَ بِهَا . وَقَرَأَ اِبْن عَامِر " لَا إِيمَان لَهُمْ " بِكَسْرِ الْهَمْزَة مِنْ الْإِيمَان , أَيْ لَا إِسْلَام لَهُمْ . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مَصْدَر آمَنْته إِيمَانًا , مِنْ الْأَمْن الَّذِي ضِدّه الْخَوْف , أَيْ لَا يُؤْمِنُونَ , مِنْ أَمَّنْته إِيمَانًا أَيْ أَجَرْته , فَلِهَذَا قَالَ : " فَقَاتِلُوا أَئِمَّة الْكُفْر " . " لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ " أَيْ عَنْ الشِّرْك . قَالَ الْكَلْبِيّ : كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَادَعَ أَهْل مَكَّة سَنَة وَهُوَ بِالْحُدَيْبِيَةِ فَحَبَسُوهُ عَنْ الْبَيْت , ثُمَّ صَالَحُوهُ عَلَى أَنْ يَرْجِع فَمَكَثُوا مَا شَاءَ اللَّه , ثُمَّ قَاتَلَ حُلَفَاء رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خُزَاعَة حُلَفَاء بَنِي أُمَيَّة مِنْ كِنَانَة , فَأَمَدَّتْ بَنُو أُمَيَّة حُلَفَاءَهُمْ بِالسِّلَاحِ وَالطَّعَام , فَاسْتَعَانَتْ خُزَاعَة بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة وَأُمِرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعِين حُلَفَاءَهُ كَمَا سَبَقَ . وَفِي الْبُخَارِيّ عَنْ زَيْد بْن وَهْب قَالَ : كُنَّا عِنْد حُذَيْفَة فَقَالَ مَا بَقِيَ مِنْ أَصْحَاب هَذِهِ الْآيَة - يَعْنِي " فَقَاتِلُوا أَئِمَّة الْكُفْر إِنَّهُمْ لَا أَيْمَان لَهُمْ " - إِلَّا ثَلَاثَة , وَلَا بَقِيَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ إِلَّا أَرْبَعَة . فَقَالَ أَعْرَابِيّ : إِنَّكُمْ أَصْحَاب مُحَمَّد تُخْبِرُونَ أَخْبَارًا لَا نَدْرِي مَا هِيَ ! تَزْعُمُونَ أَلَّا مُنَافِق إِلَّا أَرْبَعَة , فَمَا بَال هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَبْقُرُونَ بُيُوتنَا وَيَسْرِقُونَ أَعَلَاقنَا قَالَ : أُولَئِكَ الْفُسَّاق أَجَل لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا أَرْبَعَة , أَحَدهمْ شَيْخ كَبِير لَوْ شَرِبَ الْمَاء الْبَارِد لَمَا وَجَدَ بَرْده .



أَيْ عَنْ كُفْرهمْ وَبَاطِلهمْ وَأَذِيَّتهمْ لِلْمُسْلِمِينَ . وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُون الْغَرَض مِنْ قِتَالهمْ دَفْع ضَرَرهمْ لِيَنْتَهُوا عَنْ مُقَاتَلَتنَا وَيَدْخُلُوا فِي دِيننَا .
أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَسورة التوبة الآية رقم 13
تَوْبِيخ وَفِيهِ مَعْنَى التَّحْضِيض نَزَلَتْ فِي كُفَّار مَكَّة كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا .


أَيْ كَانَ مِنْهُمْ سَبَب الْخُرُوج , فَأُضِيفَ الْإِخْرَاج إِلَيْهِمْ . وَقِيلَ : أَخْرَجُوا الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام مِنْ الْمَدِينَة لِقِتَالِ أَهْل مَكَّة لِلنَّكْثِ الَّذِي كَانَ مِنْهُمْ : عَنْ الْحَسَن .


بِالْقِتَالِ .


أَيْ نَقَضُوا الْعَهْد وَأَعَانُوا بَنِي بَكْر عَلَى خُزَاعَة . وَقِيلَ : بَدَءُوكُمْ بِالْقِتَالِ يَوْم بَدْر ; لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ لِلْعِيرِ وَلَمَّا أَحْرَزُوا عِيرهمْ كَانَ يُمْكِنهُمْ الِانْصِرَاف , فَأَبَوْا إِلَّا الْوُصُول إِلَى بَدْر وَشُرْب الْخَمْر بِهَا ; كَمَا تَقَدَّمَ .


أَيْ تَخَافُوا عِقَابه فِي تَرْك قِتَالهمْ مِنْ أَنْ تَخَافُوا أَنْ يَنَالكُمْ فِي قِتَالهمْ مَكْرُوه . وَقِيلَ : إِخْرَاجهمْ الرَّسُول مَنْعهمْ إِيَّاهُ مِنْ الْحَجّ وَالْعُمْرَة وَالطَّوَاف , وَهُوَ اِبْتِدَاؤُهُمْ . وَاَللَّه أَعْلَم .
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَسورة التوبة الآية رقم 14
" قَاتِلُوهُمْ " أَمْر . " يُعَذِّبهُمْ اللَّه " جَوَابه . وَهُوَ جَزْم بِمَعْنَى الْمُجَازَاة : وَالتَّقْدِير : إِنْ تُقَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبهُمْ اللَّه بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُركُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُور قَوْم مُؤْمِنِينَ .


بَنُو خُزَاعَة , عَلَى مَا ذَكَرْنَا عَنْ مُجَاهِد . فَإِنَّ قُرَيْشًا أَعَانَتْ بَنِي بَكْر عَلَيْهِمْ , وَكَانَتْ خُزَاعَة حُلَفَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَأَنْشَدَ رَجُل مِنْ بَنِي بَكْر هِجَاء رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ لَهُ بَعْض خُزَاعَة : لَئِنْ أَعَدْته لَأَكْسِرَنَّ فَمك , فَأَعَادَهُ فَكَسَرَ فَاهُ وَثَارَ بَيْنهمْ قِتَال , فَقَتَلُوا مِنْ الْخُزَاعِيِّينَ أَقْوَامًا , فَخَرَجَ عَمْرو بْن سَالِم الْخُزَاعِيّ فِي نَفَر إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَهُ بِهِ , فَدَخَلَ مَنْزِل مَيْمُونَة وَقَالَ : ( اُسْكُبُوا إِلَيَّ مَاء ) فَجَعَلَ يَغْتَسِل وَهُوَ يَقُول : ( لَا نُصِرْت إِنْ لَمْ أَنْصُر بَنِي كَعْب ) . ثُمَّ أَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّجَهُّزِ وَالْخُرُوج إِلَى مَكَّة فَكَانَ الْفَتْح .
وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌسورة التوبة الآية رقم 15
دَلِيل عَلَى أَنَّ غَيْظهمْ كَانَ قَدْ اِشْتَدَّ . وَقَالَ مُجَاهِد : يَعْنِي خُزَاعَة حُلَفَاء رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَكُلّه عَطْف , وَيَجُوز فِيهِ كُلّه الرَّفْع عَلَى الْقَطْع مِنْ الْأَوَّل . وَيَجُوز النَّصْب عَلَى إِضْمَار ( أَنْ ) وَهُوَ الصَّرْف عِنْد الْكُوفِيِّينَ , كَمَا قَالَ : فَإِنْ يَهْلِك أَبُو قَابُوس يَهْلِك رَبِيع النَّاس وَالشَّهْر الْحَرَام وَنَأْخُذ بَعْده بِذِنَابِ عَيْش أَجَبّ الظَّهْر لَيْسَ لَهُ سَنَام وَإِنْ شِئْت رَفَعْت ( وَنَأْخُذ ) وَإِنْ شِئْت نَصَبْته .


الْقِرَاءَة بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَاف لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْس الْأَوَّل وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ ( وَيَتُبْ ) بِالْجَزْمِ لِأَنَّ الْقِتَال غَيْر مُوجِب لَهُمْ التَّوْبَة مِنْ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ وَهُوَ مُوجِب لَهُمْ الْعَذَاب وَالْخِزْي وَشِفَاء صُدُور الْمُؤْمِنِينَ وَذَهَاب غَيْظ قُلُوبهمْ وَنَظِيره : " فَإِنْ يَشَأْ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبك " [ الشُّورَى : 24 ] تَمَّ الْكَلَام . ثُمَّ قَالَ : " وَيَمْحُو اللَّه الْبَاطِل " [ الشُّورَى : 24 ] . وَاَلَّذِينَ تَابَ اللَّه عَلَيْهِمْ مِثْل أَبِي سُفْيَان وَعِكْرِمَة بْن أَبِي جَهْل وَسُلَيْم بْن أَبِي عَمْرو , فَإِنَّهُمْ أَسْلَمُوا . وَقَرَأَ اِبْن أَبِي إِسْحَاق " وَيَتُوب " بِالنَّصْبِ . وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عِيسَى الثَّقَفِيّ وَالْأَعْرَج , وَعَلَيْهِ فَتَكُون التَّوْبَة دَاخِلَة فِي جَوَاب الشَّرْط , لِأَنَّ الْمَعْنَى : إِنْ تُقَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبهُمْ اللَّه . وَكَذَلِكَ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ . ثُمَّ قَالَ : " وَيَتُوب اللَّه " أَيْ إِنْ تُقَاتِلُوهُمْ . فَجَمَعَ بَيْن تَعْذِيبهمْ بِأَيْدِيكُمْ وَشِفَاء صُدُوركُمْ وَإِذْهَاب غَيْظ قُلُوبكُمْ وَالتَّوْبَة عَلَيْكُمْ . وَالرَّفْع أَحْسَن , لِأَنَّ التَّوْبَة لَا يَكُون سَبَبهَا الْقِتَال , إِذْ قَدْ تُوجَد بِغَيْرِ قِتَال لِمَنْ شَاءَ اللَّه أَنْ يَتُوب عَلَيْهِ فِي كُلّ حَال .
أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَسورة التوبة الآية رقم 16
خُرُوج مِنْ شَيْء إِلَى شَيْء .


فِي مَوْضِع الْمَفْعُولَيْنِ عَلَى قَوْل سِيبَوَيْهِ . وَعِنْد الْمُبَرِّد أَنَّهُ قَدْ حُذِفَ الثَّانِي . وَمَعْنَى الْكَلَام : أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا مِنْ غَيْر أَنْ تُبْتَلَوْا بِمَا يَظْهَر بِهِ الْمُؤْمِن وَالْمُنَافِق الظُّهُور الَّذِي يَسْتَحِقّ بِهِ الثَّوَاب وَالْعِقَاب . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْر مَوْضِع .


" وَلَمَّا يَعْلَم " جُزِمَ بِلَمَّا وَإِنْ كَانَتْ مَا زَائِدَة , فَإِنَّهَا تَكُون عِنْد سِيبَوَيْهِ جَوَابًا لِقَوْلِك : قَدْ فَعَلَ كَمَا تَقَدَّمَ . وَكُسِرَتْ الْمِيم لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ . " وَلِيجَة " بِطَانَة وَمُدَاخَلَة مِنْ الْوُلُوج وَهُوَ الدُّخُول وَمِنْهُ سُمِّيَ الْكِنَاس الَّذِي تَلِج فِيهِ الْوُحُوش تَوْلَجًا وَلَجَ يَلِجُ وُلُوجًا إِذَا دَخَلَ وَالْمَعْنَى : دَخِيلَة مَوَدَّة مِنْ دُون اللَّه وَرَسُوله وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : كُلّ شَيْء أَدْخَلْته فِي شَيْء لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ وَلِيجَة وَالرَّجُل يَكُون فِي الْقَوْم وَلَيْسَ مِنْهُمْ وَلِيجَة وَقَالَ اِبْن زَيْد : الْوَلِيجَة الدَّخِيلَة وَالْوُلَجَاء الدُّخَلَاء فَوَلِيجَة الرَّجُل مَنْ يَخْتَصّ بِدَخْلَةِ أَمْره دُون النَّاس . تَقُول : هُوَ وَلِيجَتِي وَهُمْ وَلِيجَتِي الْوَاحِد وَالْجَمْع فِيهِ سَوَاء قَالَ أَبَان بْن تَغْلِب رَحِمَهُ اللَّه : فَبِئْسَ الْوَلِيجَة لِلْهَارِبِينَ وَالْمُعْتَدِينَ وَأَهْل الرِّيَب وَقِيلَ : وَلِيجَة بِطَانَة , وَالْمَعْنَى وَاحِد , نَظِيره " لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَة مِنْ دُونكُمْ " [ آل عِمْرَان : 118 ] . وَقَالَ الْفَرَّاء : وَلِيجَة بِطَانَة مِنْ الْمُشْرِكِينَ يَتَّخِذُونَهُمْ وَيُفْشُونَ إِلَيْهِمْ أَسْرَارهمْ وَيُعْلِمُونَهُمْ أُمُورهمْ .
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللَّه شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَسورة التوبة الآية رقم 17
الْجُمْلَة مِنْ " أَنْ يَعْمُرُوا " فِي مَوْضِع رَفْع اِسْم كَانَ . " شَاهِدِينَ " عَلَى الْحَال . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَأْوِيل هَذِهِ الْآيَة , فَقِيلَ : أَرَادَ لَيْسَ لَهُمْ الْحَجّ بَعْد مَا نُودِيَ فِيهِمْ بِالْمَنْعِ عَنْ الْمَسْجِد الْحَرَام , وَكَانَتْ أُمُور الْبَيْت كَالسَّدَانَةِ وَالسِّقَايَة وَالرِّفَادَة إِلَى الْمُشْرِكِينَ , فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلًا لِذَلِكَ , بَلْ أَهْله الْمُؤْمِنُونَ . وَقِيلَ : إِنَّ الْعَبَّاس لَمَّا أُسِرَ وَعُيِّرَ بِالْكُفْرِ وَقَطِيعَة الرَّحِم قَالَ : تَذْكُرُونَ مَسَاوِئَنَا وَلَا تَذْكُرُونَ مَحَاسِننَا . فَقَالَ عَلِيّ : أَلَكُمْ مَحَاسِن ؟ قَالَ : نَعَمْ إِنَّا لَنَعْمُر الْمَسْجِد الْحَرَام وَنَحْجُب الْكَعْبَة وَنَسْقِي الْحَاجّ وَنَفُكّ الْعَانِي , فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة رَدًّا عَلَيْهِ . فَيَجِب إِذًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ تَوَلِّي أَحْكَام الْمَسَاجِد وَمَنْع الْمُشْرِكِينَ مِنْ دُخُولهَا . وَقِرَاءَة الْعَامَّة " يَعْمُر " بِفَتْحِ الْيَاء وَضَمّ الْمِيم , مِنْ عَمَرَ يَعْمُر . وَقَرَأَ اِبْن السَّمَيْقَع بِضَمِّ الْيَاء وَكَسْر الْمِيم أَيْ يَجْعَلُوهُ عَامِرًا أَوْ يُعِينُوا عَلَى عِمَارَته . وَقُرِئَ " مَسْجِد اللَّه " عَلَى التَّوْحِيد أَيْ الْمَسْجِد الْحَرَام . وَهِيَ قِرَاءَة اِبْن عَبَّاس وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَعَطَاء بْن أَبِي رَبَاح وَمُجَاهِد وَابْن كَثِير وَأَبِي عَمْرو وَابْن مُحَيْصِن وَيَعْقُوب . وَالْبَاقُونَ " مَسَاجِد " عَلَى التَّعْمِيم . وَهُوَ اِخْتِيَار أَبِي عُبَيْد , لِأَنَّهُ أَعَمّ وَالْخَاصّ يَدْخُل تَحْت الْعَامّ . وَقَدْ يَحْتَمِل أَنْ يُرَاد بِقِرَاءَةِ الْجَمْع الْمَسْجِد الْحَرَام خَاصَّة . وَهَذَا جَائِز فِيمَا كَانَ مِنْ أَسْمَاء الْجِنْس , كَمَا يُقَال : فُلَان يَرْكَب الْخَيْل وَإِنْ لَمْ يَرْكَب إِلَّا فَرَسًا . وَالْقِرَاءَة " مَسَاجِد " أَصْوَب , لِأَنَّهُ يَحْتَمِل الْمَعْنَيَيْنِ . وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى قِرَاءَة قَوْله : " إِنَّمَا يَعْمُر مَسَاجِد اللَّه " عَلَى الْجَمْع , قَالَهُ النَّحَّاس . وَقَالَ الْحَسَن : إِنَّمَا قَالَ مَسَاجِد وَهُوَ الْمَسْجِد الْحَرَام , لِأَنَّهُ قِبْلَة الْمَسَاجِد كُلّهَا وَإِمَامهَا .


قِيلَ : أَرَادَ وَهُمْ شَاهِدُونَ فَلَمَّا طَرَحَ " وَهُمْ " نَصَبَ . قَالَ اِبْن عَبَّاس : شَهَادَتهمْ عَلَى أَنْفُسهمْ بِالْكُفْرِ سُجُودهمْ لِأَصْنَامِهِمْ , وَإِقْرَارهمْ أَنَّهَا مَخْلُوقَة . وَقَالَ السُّدِّيّ : شَهَادَتهمْ بِالْكُفْرِ هُوَ أَنَّ النَّصْرَانِيّ تَقُول لَهُ . مَا دِينك ؟ فَيَقُول نَصْرَانِيّ , وَالْيَهُودِيّ فَيَقُول يَهُودِيّ وَالصَّابِئ فَيَقُول صَابِئ . وَيُقَال لِلْمُشْرِكِ مَا دِينك فَيَقُول مُشْرِك .


أَيْ بَطَلَتْ وَفَسَدَتْ وَمِنْهُ الْحَبَط وَهُوَ فَسَاد يَلْحَق بِالْمَوَاشِي فِي بُطُونهَا مِنْ كَثْرَة أَكْلهَا الْكَلَأ فَتَنْتَفِخ أَجْوَافهَا وَرُبَّمَا تَمُوت مِنْ ذَلِكَ .
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَسورة التوبة الآية رقم 18
" إِنَّمَا يَعْمُر مَسَاجِد اللَّه " دَلِيل عَلَى أَنَّ الشَّهَادَة لِعُمَّارِ الْمَسَاجِد بِالْإِيمَانِ صَحِيحَة لِأَنَّ اللَّه سُبْحَانه رَبَطَهُ بِهَا وَأَخْبَرَ عَنْهُ بِمُلَازَمَتِهَا . وَقَدْ قَالَ بَعْض السَّلَف : إِذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُل يَعْمُر الْمَسْجِد فَحَسِّنُوا بِهِ الظَّنّ . وَرَوَى التِّرْمِذِيّ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ ( إِذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُل يَعْتَاد الْمَسْجِد فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ ) قَالَ اللَّه تَعَالَى : " إِنَّمَا يَعْمُر مَسَاجِد اللَّه مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر " . وَفِي رِوَايَة : ( يَتَعَاهَد الْمَسْجِد ) . قَالَ : حَدِيث حَسَن غَرِيب . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا فِي ظَاهِر الصَّلَاح لَيْسَ فِي مَقَاطِع الشَّهَادَات , فَإِنَّ الشَّهَادَات لَهَا أَحْوَال عِنْد الْعَارِفِينَ بِهَا فَإِنَّ مِنْهُمْ الذَّكِيّ الْفَطِن الْمُحَصِّل لِمَا يَعْلَم اِعْتِقَادًا وَإِخْبَارًا وَمِنْهُمْ الْمُغَفَّل , وَكُلّ وَاحِد يُنَزَّل عَلَى مَنْزِلَته وَيُقَدَّر عَلَى صِفَته .


إِنْ قِيلَ : مَا مِنْ مُؤْمِن إِلَّا وَقَدْ خَشِيَ غَيْر اللَّه , وَمَا زَالَ الْمُؤْمِنُونَ وَالْأَنْبِيَاء يَخْشَوْنَ الْأَعْدَاء مِنْ غَيْرهمْ . قِيلَ لَهُ : الْمَعْنَى وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّه مِمَّا يُعْبَد : فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَوْثَان وَيَخْشَوْنَهَا وَيَرْجُونَهَا . جَوَاب ثَانٍ - أَيْ لَمْ يَخَفْ فِي بَاب الدِّين إِلَّا اللَّه .

فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ أَثْبَتَ الْإِيمَان فِي الْآيَة لِمَنْ عَمَرَ الْمَسَاجِد بِالصَّلَاةِ فِيهَا , وَتَنْظِيفهَا وَإِصْلَاح مَا وَهَى مِنْهَا , وَآمَنَ بِاَللَّهِ . وَلَمْ يَذْكُر الْإِيمَان بِالرَّسُولِ فِيهَا وَلَا إِيمَان لِمَنْ لَمْ يُؤْمِن بِالرَّسُولِ . قِيلَ لَهُ : دَلَّ عَلَى الرَّسُول مَا ذُكِرَ مِنْ إِقَامَة الصَّلَاة وَغَيْرهَا لِأَنَّهُ مِمَّا جَاءَ بِهِ , فَإِقَامَة الصَّلَاة وَإِيتَاء الزَّكَاة إِنَّمَا يَصِحّ مِنْ الْمُؤْمِن بِالرَّسُولِ , فَلِهَذَا لَمْ يُفْرِدهُ بِالذِّكْرِ .


" عَسَى " مِنْ اللَّه وَاجِبَة , عَنْ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره . وَقِيلَ : عَسَى بِمَعْنَى خَلِيق أَيْ فَخَلِيق " أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ " .
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَسورة التوبة الآية رقم 19
" أَجَعَلْتُمْ سِقَايَة الْحَاجّ " التَّقْدِير فِي الْعَرَبِيَّة : أَجَعَلْتُمْ أَصْحَاب سِقَايَة الْحَاجّ أَوْ أَهْل سِقَايَة الْحَاجّ مِثْل مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيله . وَيَصِحّ أَنْ يُقَدَّر الْحَذْف فِي " مَنْ آمَنَ " أَيْ أَجَعَلْتُمْ عَمَل سَقْي الْحَاجّ كَعَمَلِ مَنْ آمَنَ . وَقِيلَ : التَّقْدِير كَإِيمَانِ مَنْ آمَنَ . وَالسِّقَايَة مَصْدَر كَالسِّعَايَةِ وَالْحِمَايَة . فَجَعَلَ الِاسْم بِمَوْضِعِ الْمَصْدَر إِذْ عُلِمَ مَعْنَاهُ , مِثْل إِنَّمَا السَّخَاء حَاتِم , وَإِنَّمَا الشِّعْر زُهَيْر . وَعِمَارَة الْمَسْجِد الْحَرَام مِثْل " وَاسْأَلْ الْقَرْيَة " [ يُوسُف : 82 ] . وَقَرَأَ أَبُو وَجْزَة " أَجَعَلْتُمْ سُقَاة الْحَاجّ وَعَمَرَة الْمَسْجِد الْحَرَام " سُقَاة جَمْع سَاقٍ وَالْأَصْل سُقْيَة عَلَى فُعْلَة , كَذَا يُجْمَع الْمُعْتَلّ مِنْ هَذَا , نَحْو قَاضٍ وَقُضَاة وَنَاسٍ وَنُسَاة . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَلًّا جُمِعَ عَلَى فُعَلَة , نَحْو نَاسِئ وَنُسَأَة , لِلَّذِينَ كَانُوا يُنْسِئُونَ الشُّهُور . وَكَذَا قَرَأَ اِبْن الزُّبَيْر وَسَعِيد بْن جُبَيْر " سُقَاة وَعَمَرَة " إِلَّا أَنَّ اِبْن جُبَيْر نَصَبَ " الْمَسْجِد " عَلَى إِرَادَة التَّنْوِين فِي " عَمَرَة " وَقَالَ الضَّحَّاك : سِقَايَة بِضَمِّ السِّين , وَهِيَ لُغَة . وَالْحَاجّ اِسْم جِنْس الْحُجَّاج . وَعِمَارَة الْمَسْجِد الْحَرَام : مُعَاهَدَته وَالْقِيَام بِمَصَالِحِهِ . وَظَاهِر هَذِهِ الْآيَة أَنَّهَا مُبْطِلَة قَوْل مَنْ اِفْتَخَرَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِسِقَايَةِ الْحَاجّ وَعِمَارَة الْمَسْجِد الْحَرَام , كَمَا ذَكَرَهُ السُّدِّيّ . قَالَ : اِفْتَخَرَ عَبَّاس بِالسِّقَايَةِ , وَشَيْبَة بِالْعِمَارَةِ , وَعَلِيّ بِالْإِسْلَامِ وَالْجِهَاد , فَصَدَّقَ اللَّهُ عَلِيًّا وَكَذَّبَهُمَا , وَأَخْبَرَ أَنَّ الْعِمَارَة لَا تَكُون بِالْكُفْرِ , وَإِنَّمَا تَكُون بِالْإِيمَانِ وَالْعِبَادَة وَأَدَاء الطَّاعَة . وَهَذَا بَيِّنٌ لَا غُبَار عَلَيْهِ . وَيُقَال : إِنَّ الْمُشْرِكِينَ سَأَلُوا الْيَهُود وَقَالُوا : نَحْنُ سُقَاة الْحَاجّ وَعُمَّار الْمَسْجِد الْحَرَام , أَفَنَحْنُ أَفْضَل أَمْ مُحَمَّد وَأَصْحَابه ؟ فَقَالَتْ لَهُمْ الْيَهُود عِنَادًا لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنْتُمْ أَفْضَل . وَقَدْ اِعْتَرَضَ هُنَا إِشْكَال وَهُوَ مَا جَاءَ فِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ النُّعْمَان بْن بَشِير قَالَ : كُنْت عِنْد مِنْبَر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَجُل : مَا أُبَالِي أَلَّا أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْد الْإِسْلَام إِلَّا أَنْ أَسْقِي الْحَاجّ . وَقَالَ آخَر : مَا أُبَالِي أَلَّا أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْد الْإِسْلَام إِلَّا أَنْ أَعْمُر الْمَسْجِد الْحَرَام . وَقَالَ آخَر : الْجِهَاد فِي سَبِيل اللَّه أَفْضَل مِمَّا قُلْتُمْ . فَزَجَرَهُمْ عُمَر وَقَالَ : لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتكُمْ عِنْد مِنْبَر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَوْم الْجُمُعَة - وَلَكِنْ إِذَا صَلَّيْت الْجُمُعَة دَخَلْت وَاسْتَفْتَيْته فِيمَا اِخْتَلَفْتُمْ فِيهِ . فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " أَجَعَلْتُمْ سِقَايَة الْحَاجّ وَعِمَارَة الْمَسْجِد الْحَرَام كَمَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر " إِلَى آخِر الْآيَة . وَهَذَا الْمَسَاق يَقْتَضِي أَنَّهَا إِنَّمَا نَزَلَتْ عِنْد اِخْتِلَاف الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَفْضَل مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَال . وَحِينَئِذٍ لَا يَلِيق أَنْ يُقَال لَهُمْ فِي آخِر الْآيَة : " وَاَللَّه لَا يَهْدِي الْقَوْم الظَّالِمِينَ " فَتَعَيَّنَ الْإِشْكَال . وَإِزَالَته بِأَنْ يُقَال : إِنَّ بَعْض الرُّوَاة تَسَامَحَ فِي قَوْله , فَأَنْزَلَ اللَّه الْآيَة . وَإِنَّمَا قَرَأَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآيَة عَلَى عُمَر حِين سَأَلَهُ فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَئِذٍ . وَاسْتَدَلَّ بِهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ الْجِهَاد أَفْضَل مِمَّا قَالَ أُولَئِكَ الَّذِينَ سَمِعَهُمْ عُمَر , فَاسْتَفْتَى لَهُمْ فَتَلَا عَلَيْهِ مَا قَدْ كَانَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ , لَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي هَؤُلَاءِ . وَاَللَّه أَعْلَم .

فَإِنْ قِيلَ : فَعَلَى هَذَا يَجُوز الِاسْتِدْلَال عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِمَا أُنْزِلَ فِي الْكَافِرِينَ , وَمَعْلُوم أَنَّ أَحْكَامهمْ مُخْتَلِفَة . قِيلَ لَهُ : لَا يُسْتَبْعَد أَنْ يُنْتَزَع مِمَّا أَنْزَلَ اللَّه فِي الْمُشْرِكِينَ أَحْكَام تَلِيق بِالْمُسْلِمِينَ . وَقَدْ قَالَ عُمَر : إِنَّا لَوْ شِئْنَا لَاتَّخَذْنَا سَلَائِق وَشِوَاء وَتُوضَع صَحْفَة وَتُرْفَع أُخْرَى وَلَكِنَّا سَمِعْنَا قَوْل اللَّه تَعَالَى : " أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتكُمْ فِي حَيَاتكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا " [ الْأَحْقَاف : 20 ] . وَهَذِهِ الْآيَة نَصّ فِي الْكُفَّار , وَمَعَ ذَلِكَ فَفَهِمَ مِنْهَا عُمَر الزَّجْر عَمَّا يُنَاسِب أَحْوَالهمْ بَعْض الْمُنَاسَبَة , وَلَمْ يُنْكِر عَلَيْهِ أَحَد مِنْ الصَّحَابَة . فَيُمْكِن أَنْ تَكُون هَذِهِ الْآيَة مِنْ هَذَا النَّوْع . وَهَذَا نَفِيس وَبِهِ يَزُول الْإِشْكَال وَيَرْتَفِع الْإِبْهَام , وَاَللَّه أَعْلَم .
الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَسورة التوبة الآية رقم 20
" الَّذِينَ آمَنُوا " فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ . وَخَبَره " أَعْظَم دَرَجَة عِنْد اللَّه " . و " دَرَجَة " نُصِبَ عَلَى الْبَيَان , أَيْ مِنْ الَّذِينَ اِفْتَخَرُوا بِالسَّقْيِ وَالْعِمَارَة . وَلَيْسَ لِلْكَافِرِينَ دَرَجَة عِنْد اللَّه حَتَّى يُقَال : الْمُؤْمِن أَعْظَم دَرَجَة . وَالْمُرَاد أَنَّهُمْ قَدَّرُوا لِأَنْفُسِهِمْ الدَّرَجَة بِالْعِمَارَةِ وَالسَّقْي فَخَاطَبَهُمْ عَلَى مَا قَدَّرُوهُ فِي أَنْفُسهمْ وَإِنْ كَانَ التَّقْدِير خَطَأ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " أَصْحَاب الْجَنَّة يَوْمئِذٍ خَيْر مُسْتَقَرًّا " [ الْفُرْقَان : 24 ] . وَقِيلَ : " أَعْظَم دَرَجَة " مِنْ كُلّ ذِي دَرَجَة , أَيْ لَهُمْ الْمَزِيَّة وَالْمَرْتَبَة الْعَلِيَّة . " وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ " بِذَلِكَ .
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌسورة التوبة الآية رقم 21
" يُبَشِّرهُمْ رَبّهمْ " أَيْ يُعْلِمهُمْ فِي الدُّنْيَا مَا لَهُمْ فِي الْآخِرَة مِنْ الثَّوَاب الْجَزِيل وَالنَّعِيم الْمُقِيم . وَالنَّعِيم : لِين الْعَيْش وَرَغَده .
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌسورة التوبة الآية رقم 22
نُصِبَ عَلَى الْحَال . وَالْخُلُود الْإِقَامَة .


أَيْ أَعَدَّ لَهُمْ فِي دَار كَرَامَته ذَلِكَ الثَّوَاب .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَسورة التوبة الآية رقم 23
ظَاهِر هَذِهِ الْآيَة أَنَّهَا خِطَاب لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ كَافَّة , وَهِيَ بَاقِيَة الْحُكْم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فِي قَطْع الْوِلَايَة بَيْن الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ . وَرَوَتْ فِرْقَة أَنَّ هَذِهِ الْآيَة إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي الْحَضّ عَلَى الْهِجْرَة وَرَفْض بِلَاد الْكَفَرَة . فَالْمُخَاطَبَة عَلَى هَذَا إِنَّمَا هِيَ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانُوا بِمَكَّة وَغَيْرهَا مِنْ بِلَاد الْعَرَب , خُوطِبُوا بِأَلَّا يُوَالُوا الْآبَاء وَالْإِخْوَة فَيَكُونُوا لَهُمْ تَبَعًا فِي سُكْنَى بِلَاد الْكُفْر . " إِنْ اِسْتَحَبُّوا " أَيْ أَحَبُّوا , كَمَا يُقَال : اِسْتَجَابَ بِمَعْنَى أَجَابَ . أَيْ لَا تُطِيعُوهُمْ وَلَا تَخُصُّوهُمْ . وَخَصَّ اللَّه سُبْحَانه الْآبَاء وَالْإِخْوَة إِذْ لَا قَرَابَة أَقْرَب مِنْهَا . فَنَفَى الْمُوَالَاة بَيْنهمْ كَمَا نَفَاهَا بَيْن النَّاس بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء " [ الْمَائِدَة : 51 ] لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْقُرْب قُرْب الْأَدْيَان لَا قُرْب الْأَبْدَان . وَفِي مِثْله تُنْشِد الصُّوفِيَّة : يَقُولُونَ لِي دَار الْأَحِبَّة قَدْ دَنَتْ وَأَنْتَ كَئِيب إِنَّ ذَا لَعَجِيبُ فَقُلْت وَمَا تُغْنِي دِيَار قَرِيبَة إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْن الْقُلُوب قَرِيبُ فَكَمْ مِنْ بَعِيد الدَّار نَالَ مُرَاده وَآخَر جَار الْجَنْب مَاتَ كَئِيبُ وَلَمْ يَذْكُر الْأَبْنَاء فِي هَذِهِ الْآيَة إِذْ الْأَغْلَب مِنْ الْبَشَر أَنَّ الْأَبْنَاء هُمْ التَّبَع لِلْآبَاءِ . وَالْإِحْسَان وَالْهِبَة مُسْتَثْنَاة مِنْ الْوِلَايَة . قَالَتْ أَسْمَاء : يَا رَسُول اللَّه , إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ رَاغِبَة وَهِيَ مُشْرِكَة أَفَأَصِلُهَا ؟ قَالَ : ( صِلِي أُمّك ) خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ .


قَالَ اِبْن عَبَّاس : هُوَ مُشْرِك مِثْلهمْ لِأَنَّ مَنْ رَضِيَ بِالشِّرْكِ فَهُوَ مُشْرِك .
قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَسورة التوبة الآية رقم 24
لَمَّا أَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة جَعَلَ الرَّجُل يَقُول لِأَبِيهِ وَالْأَب لِابْنِهِ وَالْأَخ لِأَخِيهِ وَالرَّجُل لِزَوْجَته : إِنَّا قَدْ أُمِرْنَا بِالْهِجْرَةِ , فَمِنْهُمْ مَنْ تَسَارَعَ لِذَلِكَ , وَمِنْهُمْ مَنْ أَبَى أَنْ يُهَاجِر , فَيَقُول : وَاَللَّه لَئِنْ لَمْ تَخْرُجُوا إِلَى دَار الْهِجْرَة لَا أَنْفَعكُمْ وَلَا أُنْفِق عَلَيْكُمْ شَيْئًا أَبَدًا . وَمِنْهُمْ مَنْ تَتَعَلَّق بِهِ اِمْرَأَته وَوَلَده وَيَقُولُونَ لَهُ : أَنْشُدك بِاَللَّهِ أَلَّا تَخْرُج فَنَضِيع بَعْدك , فَمِنْهُمْ مَنْ يَرِقّ فَيَدَع الْهِجْرَة وَيُقِيم مَعَهُمْ , فَنَزَلَتْ " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانكُمْ أَوْلِيَاء إِنْ اِسْتَحَبُّوا الْكُفْر عَلَى الْإِيمَان " . يَقُول : إِنْ اِخْتَارُوا الْإِقَامَة عَلَى الْكُفْر بِمَكَّة عَلَى الْإِيمَان بِاَللَّهِ وَالْهِجْرَة إِلَى الْمَدِينَة . " وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ " بَعْد نُزُول الْآيَة " فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ " . ثُمَّ نَزَلَ فِي الَّذِينَ تَخَلَّفُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا : " قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانكُمْ وَأَزْوَاجكُمْ وَعَشِيرَتكُمْ " وَهِيَ الْجَمَاعَة الَّتِي تَرْجِع إِلَى عَقْد وَاحِد كَعَقْدِ الْعَشَرَة فَمَا زَادَ , وَمِنْهُ الْمُعَاشَرَة وَهِيَ الِاجْتِمَاع عَلَى الشَّيْء .


يَقُول : اِكْتَسَبْتُمُوهَا بِمَكَّة . وَأَصْل الِاقْتِرَاف اِقْتِطَاع الشَّيْء مِنْ مَكَانه إِلَى غَيْره .



قَالَ اِبْن الْمُبَارَك : هِيَ الْبَنَات وَالْأَخَوَات إِذَا كَسَدْنَ فِي الْبَيْت لَا يَجِدْنَ لَهُنَّ خَاطِبًا . قَالَ الشَّاعِر : كَسَدْنَ مِنْ الْفَقْر فِي قَوْمهنَّ وَقَدْ زَادَهُنَّ مَقَامِي كُسُودَا


يَقُول : وَمَنَازِل تُعْجِبكُمْ الْإِقَامَة فِيهَا .


مِنْ أَنْ تُهَاجِرُوا إِلَى اللَّه وَرَسُوله بِالْمَدِينَةِ . " وَأَحَبّ " خَبَر كَانَ . وَيَجُوز فِي غَيْر الْقُرْآن رَفْع " أَحَبّ " عَلَى الِابْتِدَاء وَالْخَبَر , وَاسْم كَانَ مُضْمَر فِيهَا . وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : إِذَا مِتّ كَانَ النَّاس صِنْفَانِ : شَامِت وَآخَر مُثْنٍ بِاَلَّذِي كُنْت أَصْنَع وَأَنْشَدَ : هِيَ الشِّفَاء لِدَائِي لَوْ ظَفِرْت بِهَا وَلَيْسَ مِنْهَا شِفَاء الدَّاء مَبْذُول وَفِي الْآيَة دَلِيل عَلَى وُجُوب حُبّ اللَّه وَرَسُوله , وَلَا خِلَاف فِي ذَلِكَ بَيْن الْأُمَّة , وَأَنَّ ذَلِكَ مُقَدَّم عَلَى كُلّ مَحْبُوب . وَقَدْ مَضَى فِي [ آل عِمْرَان ] مَعْنَى مَحَبَّة اللَّه تَعَالَى وَمَحَبَّة رَسُوله .


صِيغَته صِيغَة أَمْر وَمَعْنَاهُ التَّهْدِيد . يَقُول : اِنْتَظِرُوا . وَفِي قَوْله : " وَجِهَاد فِي سَبِيله " دَلِيل عَلَى فَضْل الْجِهَاد , وَإِيثَاره عَلَى رَاحَة النَّفْس وَعَلَائِقهَا بِالْأَهْلِ وَالْمَال . وَسَيَأْتِي فَضْل الْجِهَاد فِي آخِر السُّورَة . وَقَدْ مَضَى مِنْ أَحْكَام الْهِجْرَة فِي [ النِّسَاء ] مَا فِيهِ كِفَايَة , وَالْحَمْد لِلَّهِ . وَفِي الْحَدِيث الصَّحِيح ( إِنَّ الشَّيْطَان قَعَدَ لِابْنِ آدَم ثَلَاث مَقَاعِد قَعَدَ لَهُ فِي طَرِيق الْإِسْلَام فَقَالَ لِمَ تَذَر دِينك وَدِين آبَائِك فَخَالَفَهُ وَأَسْلَمَ وَقَعَدَ لَهُ فِي طَرِيق الْهِجْرَة فَقَالَ لَهُ أَتَذَرُ مَالَك وَأَهْلك فَخَالَفَهُ وَهَاجَرَ ثُمَّ قَعَدَ فِي طَرِيق الْجِهَاد فَقَالَ لَهُ تُجَاهِد فَتُقْتَل فَيُنْكَح أَهْلك وَيُقْسَم مَالَك فَخَالَفَهُ وَجَاهَدَ فَحَقٌّ عَلَى اللَّه أَنْ يُدْخِلهُ الْجَنَّة ) . وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيث سَبَرَة بْن أَبِي فَاكِه قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( إِنَّ الشَّيْطَان ... ) فَذَكَرَهُ . قَالَ الْبُخَارِيّ : ( اِبْن الْفَاكِه ) وَلَمْ يَذْكُر فِيهَا اِخْتِلَافًا . وَقَالَ اِبْن أَبِي عَدِيّ : يُقَال اِبْن الْفَاكِه وَابْن أَبِي الْفَاكِه . اِنْتَهَى .


يَعْنِي بِالْقِتَالِ وَفَتْح مَكَّة , عَنْ مُجَاهِد . الْحَسَن : بِعُقُوبَةٍ آجِلَة أَوْ عَاجِلَة .
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَسورة التوبة الآية رقم 25
لَمَّا بَلَغَ هَوَازِن فَتْح مَكَّة جَمَعَهُمْ مَالِك بْن عَوْف النَّصْرِيّ مِنْ بَنِي نَصْر بْن مَالِك , وَكَانَتْ الرِّيَاسَة فِي جَمِيع الْعَسْكَر إِلَيْهِ , وَسَاقَ مَعَ الْكُفَّار أَمْوَالهمْ وَمَوَاشِيهمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَوْلَادهمْ , وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ يَحْمِي بِهِ نُفُوسهمْ وَتَشْتَدّ فِي الْقِتَال عِنْد ذَلِكَ شَوْكَتهمْ . وَكَانُوا ثَمَانِيَة آلَاف فِي قَوْل الْحَسَن وَمُجَاهِد . وَقِيلَ : أَرْبَعَة آلَاف , مِنْ هَوَازِن وَثَقِيف . وَعَلَى هَوَازِن مَالِك بْن عَوْف , وَعَلَى ثَقِيف كِنَانَة بْن عَبْد , فَنَزَلُوا بِأَوْطَاس . وَبَعَثَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْد اللَّه بْن أَبِي حَدْرَد الْأَسْلَمِيّ عَيْنًا , فَأَتَاهُ وَأَخْبَرَهُ بِمَا شَاهَدَ مِنْهُمْ , فَعَزَمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَصْدهمْ , وَاسْتَعَارَ مِنْ صَفْوَان بْن أُمَيَّة بْن خَلَف الْجُمَحِيّ دُرُوعًا . قِيلَ : مِائَة دِرْع . وَقِيلَ : أَرْبَعمِائَةِ دِرْع . وَاسْتَسْلَفَ مِنْ رَبِيعَة الْمَخْزُومِيّ ثَلَاثِينَ أَلْفًا أَوْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا , فَلَمَّا قَدِمَ قَضَاهُ إِيَّاهَا . ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( بَارَكَ اللَّه لَك فِي أَهْلك وَمَالك إِنَّمَا جَزَاء السَّلَف الْوَفَاء وَالْحَمْد ) خَرَّجَهُ اِبْن مَاجَهْ فِي السُّنَن . وَخَرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اِثْنَيْ عَشَر أَلْفًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ , مِنْهُمْ عَشَرَة آلَاف صَحِبُوهُ مِنْ الْمَدِينَة وَأَلْفَانِ مِنْ مُسْلِمَة الْفَتْح وَهُمْ الطُّلَقَاء إِلَى مَنْ اِنْضَافَ إِلَيْهِ مِنْ الْأَعْرَاب مِنْ سُلَيْم وَبَنِي كِلَاب وَعَبْس وَذُبْيَان . وَاسْتَعْمَلَ عَلَى مَكَّة عَتَّاب بْن أُسَيْد . وَفِي مَخْرَجه هَذَا رَأَى جُهَّال الْأَعْرَاب شَجَرَة خَضْرَاء وَكَانَ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّة شَجَرَة مَعْرُوفَة تُسَمَّى ذَات أَنْوَاط يَخْرُج إِلَيْهَا الْكُفَّار يَوْمًا مَعْلُومًا فِي السَّنَة يُعَظِّمُونَهَا , فَقَالُوا : يَا رَسُول اللَّه , اِجْعَلْ لَنَا ذَات أَنْوَاط كَمَا لَهُمْ ذَات أَنْوَاط فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام : ( اللَّه أَكْبَر قُلْتُمْ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كَمَا قَالَ قَوْم مُوسَى " اِجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَة قَالَ إِنَّكُمْ قَوْم تَجْهَلُونَ " لَتَرْكَبُنَّ سَنَن مِنْ قَبْلكُمْ حَذْو الْقُذَّة بِالْقُذَّةِ حَتَّى أَنَّهُمْ لَوْ دَخَلُوا جُحْر ضَبّ لَدَخَلْتُمُوهُ ) . فَنَهَضَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى وَادِي حُنَيْن , وَهُوَ مِنْ أَوْدِيَة تِهَامَة , وَكَانَتْ هَوَازِن قَدْ كَمَنَتْ فِي جَنْبَتِي الْوَادِي وَذَلِكَ فِي غَبَش الصُّبْح فَحَمَلَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَمْلَة رَجُل وَاحِد , فَانْهَزَمَ جُمْهُور الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَلْوِ أَحَد عَلَى أَحَد , وَثَبَتَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَبَتَ مَعَهُ أَبُو بَكْر وَعُمَر , وَمِنْ أَهْل بَيْته عَلِيّ وَالْعَبَّاس وَأَبُو سُفْيَان بْن الْحَارِث بْن عَبْد الْمُطَّلِب وَابْنه جَعْفَر , وَأُسَامَة بْن زَيْد , وَأَيْمَن بْن عُبَيْد وَهُوَ أَيْمَن بْن أُمّ أَيْمَن قُتِلَ يَوْمئِذٍ بِحُنَيْنٍ - وَرَبِيعَة بْن الْحَارِث , وَالْفَضْل بْن عَبَّاس , وَقِيلَ فِي مَوْضِع جَعْفَر بْن أَبِي سُفْيَان : قُثَم بْن الْعَبَّاس . فَهَؤُلَاءِ عَشَرَة رِجَال , وَلِهَذَا قَالَ الْعَبَّاس : نَصَرْنَا رَسُول اللَّه فِي الْحَرْب تِسْعَة وَقَدْ فَرَّ مَنْ قَدْ فَرَّ عَنْهُ وَأَقْشَعُوا وَعَاشِرُنَا لَاقَى الْحِمَام بِنَفْسِهِ بِمَا مَسَّهُ فِي اللَّه لَا يَتَوَجَّع وَثَبَتَتْ أُمّ سُلَيْم فِي جُمْلَة مَنْ ثَبَتَ مُحْتَزِمَة مُمْسِكَة بَعِيرًا لِأَبِي طَلْحَة وَفِي يَدهَا خِنْجَر . وَلَمْ يَنْهَزِم رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَحَد مِنْ هَؤُلَاءِ , وَكَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَغْلَته الشَّهْبَاء وَاسْمهَا دُلْدُل . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَنَس قَالَ عَبَّاس : وَأَنَا آخُذ بِلِجَامِ بَغْلَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكُفّهَا إِرَادَة أَلَّا تُسْرِع وَأَبُو سُفْيَان آخِذ بِرِكَابِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَيْ عَبَّاس نَادِ أَصْحَاب السَّمُرَة ) . فَقَالَ عَبَّاس - وَكَانَ رَجُلًا صَيِّتًا . وَيُرْوَى مِنْ شِدَّة صَوْته أَنَّهُ أُغِيرَ يَوْمًا عَلَى مَكَّة فَنَادَى وَاصَبَاحَاه فَأَسْقَطَتْ كُلّ حَامِل سَمِعْت صَوْته جَنِينهَا - : فَقُلْت بِأَعْلَى صَوْتِي : أَيْنَ أَصْحَاب السَّمُرَة ؟ قَالَ : فَوَاَللَّهِ لَكَأَنَّ عَطَفْتهمْ حِين سَمِعُوا صَوْتِي عَطْفَة الْبَقَر عَلَى أَوْلَادهَا . فَقَالُوا : يَا لَبَّيْكَ يَا لَبَّيْكَ . قَالَ : فَاقْتَتَلُوا وَالْكُفَّار ... ) الْحَدِيث . وَفِيهِ : ( قَالَ ثُمَّ أَخَذَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَصَيَات فَرَمَى بِهِنَّ وُجُوه الْكُفَّار ) . ثُمَّ قَالَ : ( اِنْهَزَمُوا وَرَبّ مُحَمَّد ) . قَالَ فَذَهَبْت أَنْظُر فَإِذَا الْقِتَال عَلَى هَيْئَته فِيمَا أَرَى . قَالَ : فَوَاَللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَمَاهُمْ بِحَصَيَاتِهِ , فَمَا زِلْت أَرَى حَدّهمْ كَلِيلًا وَأَمْرهمْ مُدْبِرًا . قَالَ أَبُو عُمَر : رَوَيْنَا مِنْ وُجُوه عَنْ بَعْض مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِمَّنْ شَهِدَ حُنَيْنًا أَنَّهُ قَالَ - وَقَدْ سُئِلَ عَنْ يَوْم حُنَيْن - : لَقِينَا الْمُسْلِمِينَ فَمَا لَبِثْنَا أَنْ هَزَمْنَاهُمْ وَأَتْبَعْنَاهُمْ حَتَّى اِنْتَهَيْنَا إِلَى رَجُل رَاكِب عَلَى بَغْلَة بَيْضَاء , فَلَمَّا رَآنَا زَجَرَنَا زَجْرَة وَانْتَهَرَنَا , وَأَخَذَ بِكَفِّهِ حَصًى وَتُرَابًا فَرَمَى بِهِ وَقَالَ : ( شَاهَتْ الْوُجُوه ) فَلَمْ تَبْقَ عَيْن إِلَّا دَخَلَهَا مِنْ ذَلِكَ , وَمَا مَلَكْنَا أَنْفُسنَا أَنْ رَجَعْنَا عَلَى أَعْقَابنَا . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : حَدَّثَنَا رَجُل مِنْ الْمُشْرِكِينَ , يَوْم حُنَيْن قَالَ : لَمَّا اِلْتَقَيْنَا مَعَ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقِفُوا لَنَا حَلْب شَاة , حَتَّى إِذَا اِنْتَهَيْنَا إِلَى صَاحِب الْبَغْلَة الشَّهْبَاء - يَعْنِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَلَقَّانَا رِجَال بِيض الْوُجُوه حِسَان , فَقَالُوا لَنَا : شَاهَتْ الْوُجُوه , اِرْجِعُوا , فَرَجَعْنَا وَرَكِبُوا أَكْتَافنَا فَكَانَتْ إِيَّاهَا . يَعْنِي الْمَلَائِكَة .

قُلْت : وَلَا تَعَارُض فَإِنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون شَاهَتْ الْوُجُوه مِنْ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ قَوْل الْمَلَائِكَة مَعًا وَيَدُلّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَة قَاتَلَتْ يَوْم حُنَيْن . فَاَللَّه أَعْلَم .

وَقَتَلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يَوْم حُنَيْن أَرْبَعِينَ رَجُلًا بِيَدِهِ . وَسَبَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَة آلَاف رَأْس . وَقِيلَ : سِتَّة آلَاف , وَاثْنَيْ عَشَر أَلْف نَاقَة سِوَى مَا لَا يُعْلَم مِنْ الْغَنَائِم .

قَالَ الْعُلَمَاء فِي هَذِهِ الْغَزَاة : قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَة فَلَهُ سَلَبُهُ ) . وَقَدْ مَضَى فِي [ الْأَنْفَال ] بَيَانه . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَلِهَذِهِ النُّكْتَة وَغَيْرهَا أَدْخَلَ الْأَحْكَامِيُّونَ هَذِهِ الْآيَة فِي الْأَحْكَام .

قُلْت : وَفِيهِ أَيْضًا جَوَاز اِسْتِعَارَة السِّلَاح وَجَوَاز الِاسْتِمْتَاع بِمَا اُسْتُعِيرَ إِذَا كَانَ عَلَى الْمَعْهُود مِمَّا يُسْتَعَار لَهُ مِثْله , وَجَوَاز اِسْتِلَاف الْإِمَام الْمَال عِنْد الْحَاجَة إِلَى ذَلِكَ وَرَدّه إِلَى صَاحِبه . وَحَدِيث صَفْوَان أَصْل فِي هَذَا الْبَاب . وَفِي هَذِهِ الْغَزَاة أَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( أَلَّا تُوطَأ حَامِل حَتَّى تَضَع وَلَا حَائِل حَتَّى تَحِيض حَيْضَة ) . وَهُوَ يَدُلّ عَلَى أَنَّ السَّبْيَ يَقْطَعُ الْعِصْمَةَ . وَقَدْ مَضَى بَيَانه فِي سُورَة [ النِّسَاء ] مُسْتَوْفًى . وَفِي حَدِيث مَالِك أَنَّ صَفْوَان خَرَجَ مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ كَافِر , فَشَهِدَ حُنَيْنًا وَالطَّائِف وَامْرَأَته مُسْلِمَةٌ . الْحَدِيث . قَالَ مَالِك : وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِأَمْرِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَلَا أَرَى أَنْ يُسْتَعَان بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا خَدَمًا أَوْ نَوَاتِيَّة . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ وَالثَّوْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ : لَا بَأْس بِذَلِكَ إِذَا كَانَ حُكْم الْإِسْلَام هُوَ الْغَالِب , وَإِنَّمَا تُكْرَه الِاسْتِعَانَة بِهِمْ إِذَا كَانَ حُكْم الشِّرْك هُوَ الظَّاهِرَ . وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِي الْإِسْهَام لَهُمْ فِي [ الْأَنْفَال ]

" وَيَوْم حُنَيْن " " حُنَيْن " وَادٍ بَيْن مَكَّة وَالطَّائِف , وَانْصَرَفَ لِأَنَّهُ اِسْم مُذَكَّر , وَهِيَ لُغَة الْقُرْآن . وَمِنْ الْعَرَب مَنْ لَا يَصْرِفهُ , يَجْعَلهُ اِسْمًا لِلْبُقْعَةِ . وَأَنْشَدَ : نَصَرُوا نَبِيّهمْ وَشَدُّوا أَزْره بِحُنَيْن يَوْم تَوَاكُل الْأَبْطَال " وَيَوْم " ظَرْف , وَانْتَصَبَ هُنَا عَلَى مَعْنَى : وَنَصَرَكُمْ يَوْم حُنَيْن . وَقَالَ الْفَرَّاء : لَمْ تَنْصَرِف " مَوَاطِن " لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا نَظِير فِي الْمُفْرَد وَلَيْسَ لَهَا جِمَاع , إِلَّا أَنَّ الشَّاعِر رُبَّمَا اِضْطَرَّ فَجَمَعَ , وَلَيْسَ يَجُوز فِي الْكَلَام كُلّ مَا يَجُوز فِي الشِّعْر . وَأَنْشَدَ : فَهُنَّ يَعْلُكْنَ حَدَائِدَاتهَا وَقَالَ النَّحَّاس : رَأَيْت أَبَا إِسْحَاق يَتَعَجَّب مِنْ هَذَا قَالَ : أَخَذَ قَوْل الْخَلِيل وَأَخْطَأَ فِيهِ , لِأَنَّ الْخَلِيل يَقُول فِيهِ : لَمْ يَنْصَرِف لِأَنَّهُ جَمْع لَا نَظِير لَهُ فِي الْوَاحِد , وَلَا يُجْمَع جَمْع التَّكْسِير , وَأَمَّا بِالْأَلِفِ وَالتَّاء فَلَا يَمْتَنِع .



قِيلَ : كَانُوا اِثْنَيْ عَشَر أَلْفًا . وَقِيلَ : أَحَد عَشَر أَلْفًا وَخَمْسمِائَةٍ . وَقِيلَ : سِتَّة عَشَر أَلْفًا . فَقَالَ بَعْضهمْ : لَنْ نُغْلَب الْيَوْم عَنْ قِلَّة . فَوُكِلُوا إِلَى هَذِهِ الْكَلِمَة , فَكَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْهَزِيمَة فِي الِابْتِدَاء إِلَى أَنْ تَرَاجَعُوا , فَكَانَ النَّصْر وَالظَّفَر لِلْمُسْلِمِينَ بِبَرَكَةِ سَيِّد الْمُرْسَلِينَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَبَيَّنَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي هَذِهِ الْآيَة أَنَّ الْغَلَبَة إِنَّمَا تَكُون بِنَصْرِ اللَّه لَا بِالْكَثْرَةِ وَقَدْ قَالَ : " وَإِنْ يَخْذُلكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُركُمْ مِنْ بَعْده " [ آل عِمْرَان : 160 ] .


أَيْ مِنْ الْخَوْف , كَمَا قَالَ : كَأَنَّ بِلَاد اللَّه وَهِيَ عَرِيضَة عَلَى الْخَائِف الْمَطْلُوب كِفَّة حَابِل وَالرُّحْب - بِضَمِّ الرَّاء - السَّعَة . تَقُول مِنْهُ : فُلَان رُحْب الصَّدْر . وَالرَّحْب - بِالْفَتْحِ - : الْوَاسِع . تَقُول مِنْهُ : بَلَد رَحْب , وَأَرْض رَحْبَة . وَقَدْ رَحُبَتْ تَرْحُب رُحْبًا وَرَحَابَة . وَقِيلَ : الْبَاء بِمَعْنَى مَعَ أَيْ مَعَ رَحْبهَا . وَقِيلَ : بِمَعْنَى عَلَى , أَيْ عَلَى رَحْبهَا . وَقِيلَ : الْمَعْنَى بِرَحْبِهَا , ف " مَا " مَصْدَرِيَّة .



رَوَى مُسْلِم عَنْ أَبِي إِسْحَاق قَالَ : جَاءَ رَجُل إِلَى الْبَرَاء فَقَالَ : أَكُنْتُمْ وَلَّيْتُمْ يَوْم حُنَيْن يَا أَبَا عُمَارَة . فَقَالَ : أَشْهَدَ عَلَى نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا وَلَّى , وَلَكِنَّهُ اِنْطَلَقَ أَخِفَّاءُ مِنْ النَّاس , وَحُسَّرٌ إِلَى هَذَا الْحَيّ مِنْ هَوَازِن . وَهُمْ قَوْم رُمَاة فَرَمَوْهُمْ بِرِشْقٍ مِنْ نَبْل كَأَنَّهَا رِجْل مِنْ جَرَاد فَانْكَشَفُوا , فَأَقْبَلَ الْقَوْم إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو سُفْيَان يَقُود بِهِ بَغْلَته , فَنَزَلَ وَدَعَا وَاسْتَنْصَرَ وَهُوَ يَقُول : ( أَنَا النَّبِيّ لَا كَذِب . أَنَا اِبْن عَبْد الْمُطَّلِب . اللَّهُمَّ نَزِّلْ نَصْرك ) . قَالَ الْبَرَاء : كُنَّا وَاَللَّه إِذَا اِحْمَرَّ الْبَأْس نَتَّقِي بِهِ , وَإِنَّ الشُّجَاع مِنَّا لَلَّذِي يُحَاذِي بِهِ , يَعْنِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَسورة التوبة الآية رقم 26
أَيْ أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ مَا يُسَكِّنهُمْ وَيُذْهِب خَوْفهمْ , حَتَّى اِجْتَرَءُوا عَلَى قِتَال الْمُشْرِكِينَ بَعْد أَنْ وَلَّوْا .


وَهُمْ الْمَلَائِكَة , يُقَوُّونَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يُلْقُونَ فِي قُلُوبهمْ مِنْ الْخَوَاطِر وَالتَّثْبِيت , وَيُضَعِّفُونَ الْكَافِرِينَ بِالتَّجْبِينِ لَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُمْ وَمِنْ غَيْر قِتَال , لِأَنَّ الْمَلَائِكَة لَمْ تُقَاتِل إِلَّا يَوْم بَدْر . وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي نَصْر قَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ بَعْد الْقِتَال : أَيْنَ الْخَيْل الْبُلْق , وَالرِّجَال الَّذِينَ كَانُوا عَلَيْهَا بِيض , مَا كُنَّا فِيهِمْ إِلَّا كَهَيْئَةِ الشَّامَة , وَمَا كَانَ قَتْلنَا إِلَّا بِأَيْدِيهِمْ . أَخْبَرُوا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ : ( تِلْكَ الْمَلَائِكَة ) .


أَيْ بِأَسْيَافِكُمْ
ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌسورة التوبة الآية رقم 27
أَيْ عَلَى مَنْ اِنْهَزَمَ فَيَهْدِيه إِلَى الْإِسْلَام . كَمَالِك بْن عَوْف النَّصْرِيّ رَئِيس حُنَيْن وَمَنْ أَسْلَمَ مَعَهُ مِنْ قَوْمه .

وَلَمَّا قَسَمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَنَائِم حُنَيْن بِالْجِعْرَانَةِ , أَتَاهُ وَفْد هَوَازِن مُسْلِمِينَ رَاغِبِينَ فِي الْعَطْف عَلَيْهِمْ وَالْإِحْسَان إِلَيْهِمْ , وَقَالُوا : يَا رَسُول اللَّه , إِنَّك خَيْر النَّاس وَأَبَرّ النَّاس , وَقَدْ أَخَذْت أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا وَأَمْوَالنَا . فَقَالَ لَهُمْ : ( إِنِّي قَدْ كُنْت اِسْتَأْنَيْت بِكُمْ وَقَدْ وَقَعَتْ الْمَقَاسِم وَعِنْدِي مَنْ تَرَوْنَ وَإِنَّ خَيْر الْقَوْل أَصْدَقُهُ فَاخْتَارُوا إِمَّا ذَرَارِيّكُمْ وَإِمَّا أَمْوَالكُمْ ) . فَقَالُوا : لَا نَعْدِل بِالْأَنْسَابِ شَيْئًا . فَقَامَ خَطِيبًا وَقَالَ : ( هَؤُلَاءِ جَاءُونَا مُسْلِمِينَ وَقَدْ خَيَّرْنَاهُمْ فَلَمْ يَعْدِلُوا بِالْأَنْسَابِ فَرَضَوْا بِرَدِّ الذُّرِّيَّة وَمَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْد الْمُطَّلِب وَبَنِي هَاشِم فَهُوَ لَهُمْ ) . وَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار : أَمَّا مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَامْتَنَعَ الْأَقْرَع بْن حَابِس وَعُيَيْنَة بْن حِصْن فِي قَوْمهمَا مِنْ أَنْ يَرُدُّوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِمَّا وَقَعَ لَهُمْ فِي سِهَامهمْ . وَامْتَنَعَ الْعَبَّاس بْن مِرْدَاس السُّلَمِيّ كَذَلِكَ , وَطَمِعَ أَنْ يُسَاعِدهُ قَوْمه كَمَا سَاعَدَ الْأَقْرَع وَعُيَيْنَة قَوْمهمَا . فَأَبَتْ بَنُو سُلَيْم وَقَالُوا : بَلْ مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ ضَنَّ مِنْكُمْ بِمَا فِي يَدَيْهِ فَإِنَّا نُعَوِّضهُ مِنْهُ ) . فَرَدَّ عَلَيْهِمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُمْ وَأَوْلَادهمْ , وَعَوَّضَ مَنْ لَمْ تَطِبْ نَفْسه بِتَرْكِ نَصِيبه أَعْوَاضًا رَضَوْا بِهَا . وَقَالَ قَتَادَة : ذُكِرَ لَنَا أَنَّ ظِئْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ مِنْ بَنِي سَعْد أَتَتْهُ يَوْم حُنَيْن فَسَأَلَتْهُ سَبَايَا حُنَيْن فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنِّي لَا أَمْلِك إِلَّا مَا يُصِيبنِي مِنْهُمْ وَلَكِنْ ايِتِينِي غَدًا فَاسْأَلِينِي وَالنَّاس عِنْدِي فَإِذَا أَعْطَيْتُك حِصَّتِي أَعْطَاك النَّاس ) . فَجَاءَتْ الْغَد فَبَسَطَ لَهَا ثَوْبه فَأَقْعَدَهَا عَلَيْهِ . ثُمَّ سَأَلَتْهُ فَأَعْطَاهَا نَصِيبه فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ النَّاس أَعْطَوْهَا أَنْصِبَاءَهُمْ . وَكَانَ عَدَد سَبْي هَوَازِن فِي قَوْل سَعِيد بْن الْمُسَيِّب سِتَّة آلَاف رَأْس . وَقِيلَ : أَرْبَعَة آلَاف . قَالَ أَبُو عُمَر : فِيهِنَّ الشَّيْمَاء أُخْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الرَّضَاعَة , وَهِيَ بِنْت الْحَارِث بْن عَبْد الْعُزَّى مِنْ بَنَى سَعْد بْن بَكْر وَبِنْت حَلِيمَة السَّعْدِيَّة , فَأَكْرَمَهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْطَاهَا وَأَحْسَنَ إِلَيْهَا , وَرَجَعَتْ مَسْرُورَة إِلَى بِلَادهَا بِدِينِهَا وَبِمَا أَفَاءَ اللَّه عَلَيْهَا . قَالَ اِبْن عَبَّاس : رَأَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم أَوْطَاس اِمْرَأَة تَعْدُو وَتَصِيح وَلَا تَسْتَقِرّ , فَسَأَلَ عَنْهَا فَقِيلَ : فَقَدَتْ بُنَيًّا لَهَا . ثُمَّ رَآهَا وَقَدْ وَجَدَتْ اِبْنهَا وَهِيَ تُقَبِّلهُ وَتُدْنِيه , فَدَعَاهَا وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : ( أَطَارِحَة هَذِهِ وَلَدهَا فِي النَّار ) ؟ قَالُوا : لَا . قَالَ : ( لِمَ ) ؟ قَالُوا : لِشَفَقَتِهَا . قَالَ : ( اللَّه أَرْحَم بِكُمْ مِنْهَا ) . وَخَرَّجَهُ مُسْلِم بِمَعْنَاهُ وَالْحَمْد لِلَّهِ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌسورة التوبة الآية رقم 28
اِبْتِدَاء وَخَبَر . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مَعْنَى وَصْف الْمُشْرِك بِالنَّجَسِ , فَقَالَ قَتَادَة وَمَعْمَر بْن رَاشِد وَغَيْرهمَا : لِأَنَّهُ جُنُب إِذْ غُسْله مِنْ الْجَنَابَة لَيْسَ بِغُسْلٍ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره : بَلْ مَعْنَى الشِّرْك هُوَ الَّذِي نَجَّسَهُ . قَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ مَنْ صَافَحَ مُشْرِكًا فَلْيَتَوَضَّأْ . وَالْمَذْهَب كُلّه عَلَى إِيجَاب الْغُسْل عَلَى الْكَافِر إِذَا أَسْلَمَ إِلَّا اِبْن عَبْد الْحَكَم فَإِنَّهُ قَالَ : لَيْسَ بِوَاجِبٍ , لِأَنَّ الْإِسْلَام يَهْدِم مَا كَانَ قَبْله . وَبِوُجُوبِ الْغُسْل عَلَيْهِ قَالَ أَبُو ثَوْر وَأَحْمَد . وَأَسْقَطَهُ الشَّافِعِيّ وَقَالَ : أَحَبّ إِلَيَّ أَنْ يَغْتَسِل . وَنَحْوه لِابْنِ الْقَاسِم . وَلِمَالِكٍ قَوْل : إِنَّهُ لَا يَعْرِف الْغُسْل , رَوَاهُ عَنْهُ اِبْن وَهْب وَابْن أَبِي أُوَيْس . وَحَدِيث ثُمَامَة وَقَيْس بْن عَاصِم يَرُدّ هَذِهِ الْأَقْوَال . رَوَاهُمَا أَبُو حَاتِم الْبُسْتِيّ فِي صَحِيح مُسْنَده . وَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِثُمَامَة يَوْمًا فَأَسْلَمَ فَبَعَثَ بِهِ إِلَى حَائِط أَبِي طَلْحَة فَأَمَرَهُ أَنْ يَغْتَسِل , فَاغْتَسَلَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ . فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَقَدْ حَسُنَ إِسْلَام صَاحِبكُمْ ) وَأَخْرَجَهُ مُسْلِم بِمَعْنَاهُ . وَفِيهِ : أَنَّ ثُمَامَة لَمَّا مَنَّ عَلَيْهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِنْطَلَقَ إِلَى نَخْل قَرِيب مِنْ الْمَسْجِد فَاغْتَسَلَ . وَأَمَرَ قَيْس بْن عَاصِم أَنْ يَغْتَسِل بِمَاءٍ وَسِدْر . فَإِنْ كَانَ إِسْلَامه قُبَيْل اِحْتِلَامه فَغُسْله مُسْتَحَبّ . وَمَتَى أَسْلَمَ بَعْد بُلُوغه لَزِمَهُ أَنْ يَنْوِي بِغُسْلِهِ الْجَنَابَة . هَذَا قَوْل عُلَمَائِنَا , وَهُوَ تَحْصِيل الْمَذْهَب . وَقَدْ أَجَازَ اِبْن الْقَاسِم لِلْكَافِرِ أَنْ يَغْتَسِل قَبْل إِظْهَاره لِلشَّهَادَةِ بِلِسَانِهِ إِذَا اِعْتَقَدَ الْإِسْلَام بِقَلْبِهِ وَهُوَ قَوْل ضَعِيف فِي النَّظَر مُخَالِف لِلْأَثَرِ . وَذَلِكَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَكُون بِالنِّيَّةِ مُسْلِمًا دُون الْقَوْل . هَذَا قَوْل جَمَاعَة أَهْل السُّنَّة فِي الْإِيمَان : إِنَّهُ قَوْل بِاللِّسَانِ وَتَصْدِيق بِالْقَلْبِ , وَيَزْكُو بِالْعَمَلِ . قَالَ اللَّه تَعَالَى : " إِلَيْهِ يَصْعَد الْكَلِم الطَّيِّب وَالْعَمَل الصَّالِح يَرْفَعهُ " [ فَاطِر : 10 ] .


" فَلَا يَقْرَبُوا " نَهْي , وَلِذَلِكَ حُذِفَتْ مِنْهُ النُّون . " الْمَسْجِد الْحَرَام " هَذَا اللَّفْظ يُطْلَق عَلَى جَمِيع الْحَرَم , وَهُوَ مَذْهَب عَطَاء فَإِذًا يَحْرُم تَمْكِين الْمُشْرِك مِنْ دُخُول الْحَرَم أَجْمَع . فَإِذَا جَاءَنَا رَسُول مِنْهُمْ خَرَجَ الْإِمَام إِلَى الْحِلّ لِيَسْمَع مَا يَقُول . وَلَوْ دَخَلَ مُشْرِك الْحَرَم مَسْتُورًا وَمَاتَ نُبِشَ قَبْره وَأُخْرِجَتْ عِظَامه . فَلَيْسَ لَهُمْ الِاسْتِيطَان وَلَا الِاجْتِيَاز . وَأَمَّا جَزِيرَة الْعَرَب , وَهِيَ مَكَّة وَالْمَدِينَة وَالْيَمَامَة وَالْيَمَن وَمَخَالِيفهَا , فَقَالَ مَالِك : يُخْرَج مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِع كُلّ مَنْ كَانَ عَلَى غَيْر الْإِسْلَام , وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ التَّرَدُّد بِهَا مُسَافِرِينَ . وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه , غَيْر أَنَّهُ اِسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْيَمَن . وَيُضْرَب لَهُمْ أَجَل ثَلَاثَة أَيَّام كَمَا ضَرَبَهُ لَهُمْ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ حِين أَجْلَاهُمْ . وَلَا يُدْفَنُونَ فِيهَا وَيُلْجَئُونَ إِلَى الْحِلّ .

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي دُخُول الْكُفَّار الْمَسَاجِد وَالْمَسْجِد الْحَرَام عَلَى خَمْسَة أَقْوَال , فَقَالَ أَهْل الْمَدِينَة : الْآيَة عَامَّة فِي سَائِر الْمُشْرِكِينَ وَسَائِر الْمَسَاجِد . وَبِذَلِكَ كَتَبَ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز إِلَى عُمَّاله وَنَزَعَ فِي كِتَابه بِهَذِهِ الْآيَة . وَيُؤَيِّد ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " فِي بُيُوت أَذِنَ اللَّه أَنْ تُرْفَع وَيُذْكَر فِيهَا اِسْمه " [ النُّور : 36 ] . وَدُخُول الْكُفَّار فِيهَا مُنَاقِض لِتَرْفِيعِهَا . وَفِي صَحِيح مُسْلِم وَغَيْره : ( إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِد لَا تَصْلُح لِشَيْءٍ مِنْ الْبَوْل وَالْقَذَر ... ) الْحَدِيث . وَالْكَافِر لَا يَخْلُو عَنْ ذَلِكَ . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا أُحِلُّ الْمَسْجِد لِحَائِضٍ وَلَا لِجُنُبٍ ) وَالْكَافِر جُنُب وَقَوْله تَعَالَى : " إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَس " فَسَمَّاهُ اللَّه تَعَالَى نَجَسًا . فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُون نَجِس الْعَيْن أَوْ مُبْعَدًا مِنْ طَرِيق الْحُكْم . وَأَيّ ذَلِكَ كَانَ فَمَنْعه مِنْ الْمَسْجِد وَاجِب لِأَنَّ الْعِلَّة وَهِيَ النَّجَاسَة مَوْجُودَة فِيهِمْ , وَالْحُرْمَة مَوْجُودَة فِي الْمَسْجِد . يُقَال : رَجُل نَجَس , وَامْرَأَة نَجَس , وَرَجُلَانِ نَجَس , وَامْرَأَتَانِ نَجَس , وَرِجَال نَجَس , وَنِسَاء نَجَس , لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَع لِأَنَّهُ مَصْدَر . فَأَمَّا النَّجِس - بِكَسْرِ النُّون وَجَزْم الْجِيم - فَلَا يُقَال إِلَّا إِذَا قِيلَ مَعَهُ رِجْس . فَإِذَا أُفْرِدَ قِيلَ نَجِس - بِفَتْحِ النُّون وَكَسْر الْجِيم - وَنَجُس - بِضَمِّ الْجِيم - . وَقَالَ الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه : الْآيَة عَامَّة فِي سَائِر الْمُشْرِكِينَ , خَاصَّة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام , وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ دُخُول غَيْره , فَأَبَاحَ دُخُول الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيّ فِي سَائِر الْمَسَاجِد . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا جُمُود مِنْهُ عَلَى الظَّاهِر , لِأَنَّ قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَس " تَنْبِيه عَلَى الْعِلَّة بِالشِّرْكِ وَالنَّجَاسَة . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَبَطَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَامَة فِي الْمَسْجِد وَهُوَ مُشْرِك . قِيلَ لَهُ : أَجَابَ عُلَمَاؤُنَا عَنْ هَذَا الْحَدِيث - وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا - بِأَجْوِبَةٍ : أَحَدهَا : أَنَّهُ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى نُزُول الْآيَة . الثَّانِي : أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَدْ عَلِمَ بِإِسْلَامِهِ فَلِذَلِكَ رَبَطَهُ . الثَّالِث : أَنَّ ذَلِكَ قَضِيَّة فِي عَيْن فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُدْفَع بِهَا الْأَدِلَّة الَّتِي ذَكَرْنَاهَا , لِكَوْنِهَا مُقَيِّدَة حُكْم الْقَاعِدَة الْكُلِّيَّة . وَقَدْ يُمْكِن أَنْ يُقَال : إِنَّمَا رَبَطَهُ فِي الْمَسْجِد لِيَنْظُر حُسْن صَلَاة الْمُسْلِمِينَ وَاجْتِمَاعهمْ عَلَيْهَا , وَحُسْن آدَابهمْ فِي جُلُوسهمْ فِي الْمَسْجِد , فَيَسْتَأْنِس بِذَلِكَ وَيُسْلِم , وَكَذَلِكَ كَانَ . وَيُمْكِن أَنْ يُقَال : إِنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَوْضِع يَرْبِطُونَهُ فِيهِ إِلَّا فِي الْمَسْجِد , وَاَللَّه أَعْلَم . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه : لَا يُمْنَع الْيَهُود وَالنَّصَارَى مِنْ دُخُول الْمَسْجِد الْحَرَام وَلَا غَيْره , وَلَا يُمْنَع دُخُول الْمَسْجِد الْحَرَام إِلَّا الْمُشْرِكُونَ وَأَهْل الْأَوْثَان . وَهَذَا قَوْل يَرُدّهُ كُلّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْآيَة وَغَيْرهَا . قَالَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيّ : وَيَجُوز لِلذِّمِّيِّ دُخُول سَائِر الْمَسَاجِد عِنْد أَبِي حَنِيفَة مِنْ غَيْر حَاجَة . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : تُعْتَبَر الْحَاجَة , وَمَعَ الْحَاجَة لَا يَجُوز دُخُول الْمَسْجِد الْحَرَام . وَقَالَ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح : الْحَرَم كُلّه قِبْلَة وَمَسْجِد , فَيَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعُوا مِنْ دُخُول الْحَرَم , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " سُبْحَان الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِد الْحَرَام " [ الْإِسْرَاء : 1 ] . وَإِنَّمَا رُفِعَ مِنْ بَيْت أُمّ هَانِئ . وَقَالَ قَتَادَة : لَا يَقْرُب الْمَسْجِد الْحَرَام مُشْرِك إِلَّا أَنْ يَكُون صَاحِب جِزْيَة أَوْ عَبْدًا كَافِرًا لِمُسْلِمٍ . وَرَوَى إِسْمَاعِيل بْن إِسْحَاق حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن عَبْد الْحَمِيد قَالَ حَدَّثَنَا شَرِيك عَنْ أَشْعَث عَنْ الْحَسَن عَنْ جَابِر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَا يَقْرُب الْمَسْجِد مُشْرِك إِلَّا أَنْ يَكُون عَبْدًا أَوْ أَمَة فَيَدْخُلهُ لِحَاجَةٍ ) . وَبِهَذَا قَالَ جَابِر بْن عَبْد اللَّه فَإِنَّهُ قَالَ : الْعُمُوم يَمْنَع الْمُشْرِك عَنْ قُرْبَانِ الْمَسْجِد الْحَرَام , وَهُوَ مَخْصُوص فِي الْعَبْد وَالْأَمَة .


فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدهمَا - أَنَّهُ سَنَة تِسْع الَّتِي حَجَّ فِيهَا أَبُو بَكْر . الثَّانِي سَنَة عَشْرٍ قَالَهُ قَتَادَة . اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهُوَ الصَّحِيح الَّذِي يُعْطِيه مُقْتَضَى اللَّفْظ وَإِنَّ مِنْ الْعَجَب أَنْ يُقَال : إِنَّهُ سَنَة تِسْع وَهُوَ الْعَام الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْأَذَان . وَلَوْ دَخَلَ غُلَام رَجُل دَاره يَوْمًا فَقَالَ لَهُ مَوْلَاهُ : لَا تَدْخُل هَذِهِ الدَّار بَعْد يَوْمك لَمْ يَكُنْ الْمُرَاد الْيَوْم الَّذِي دَخَلَ فِيهِ .



قَالَ عَمْرو بْن فَائِد : الْمَعْنَى وَإِذْ خِفْتُمْ . وَهَذِهِ عُجْمَة , وَالْمَعْنَى بَارِع ب " إِنْ " . وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ لَمَّا مَنَعُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْمَوْسِم وَهُمْ كَانُوا يَجْلِبُونَ الْأَطْعِمَة وَالتِّجَارَات , قَذَفَ الشَّيْطَان فِي قُلُوبهمْ الْخَوْف مِنْ الْفَقْر وَقَالُوا : مِنْ أَيْنَ نَعِيش . فَوَعَدَهُمْ اللَّه أَنْ يُغْنِيهِمْ مِنْ فَضْله . قَالَ الضَّحَّاك : فَفَتَحَ اللَّه عَلَيْهِمْ بَاب الْجِزْيَة مِنْ أَهْل الذِّمَّة بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : " قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِر " [ التَّوْبَة : 29 ] الْآيَة . وَقَالَ عِكْرِمَة : أَغْنَاهُمْ اللَّه بِإِدْرَارِ الْمَطَر وَالنَّبَات وَخِصْب الْأَرْض فَأَخْصَبَتْ تَبَالَة وَجُرَش وَحَمَلُوا إِلَى مَكَّة الطَّعَام وَالْوَدَك وَكَثُرَ الْخَيْر وَأَسْلَمَتْ الْعَرَب : أَهْل نَجْد وَصَنْعَاء وَغَيْرهمْ فَتَمَادَى حَجّهمْ وَتَجْرهمْ وَأَغْنَى اللَّه مِنْ فَضْله بِالْجِهَادِ وَالظُّهُور عَلَى الْأُمَم . وَالْعَيْلَة : الْفَقْر . يُقَال : عَالَ الرَّجُل يَعِيل إِذَا اِفْتَقَرَ . قَالَ الشَّاعِر : وَمَا يَدْرِي الْفَقِير مَتَى غَنَاهُ وَمَا يَدْرِي الْغَنِيّ مَتَى يَعِيلُ وَقَرَأَ عَلْقَمَة وَغَيْره مِنْ أَصْحَاب اِبْن مَسْعُود " عَائِلَة " وَهُوَ مَصْدَر كَالْقَائِلَةِ مِنْ قَالَ يَقِيل . وَكَالْعَافِيَةِ . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون نَعْتًا لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيره : حَالًا عَائِلَة , وَمَعْنَاهُ خَصْلَة شَاقَّة . يُقَال مِنْهُ : عَالَنِي الْأَمْر يَعُولنِي : أَيْ شَقَّ عَلَيَّ وَاشْتَدَّ . وَحَكَى الطَّبَرِيّ أَنَّهُ يُقَال : عَالَ يَعُول إِذَا اِفْتَقَرَ .

فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى أَنَّ تَعَلُّق الْقَلْب بِالْأَسْبَابِ فِي الرِّزْق جَائِز وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُنَافٍ لِلتَّوَكُّلِ وَإِنْ كَانَ الرِّزْق مُقَدَّرًا وَأَمْر اللَّه وَقَسْمه مَفْعُولًا وَلَكِنَّهُ عَلَّقَهُ بِالْأَسْبَابِ حِكْمَة لِيَعْلَم الْقُلُوب الَّتِي تَتَعَلَّق بِالْأَسْبَابِ مِنْ الْقُلُوب الَّتِي تَتَوَكَّل عَلَى رَبّ الْأَرْبَاب . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ السَّبَب لَا يُنَافِي التَّوَكُّل قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّه حَقّ تَوَكُّله لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُق الطَّيْر تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوح بِطَانًا ) . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ . فَأَخْبَرَ أَنَّ التَّوَكُّل الْحَقِيقِيّ لَا يُضَادّهُ الْغُدُوّ وَالرَّوَاح فِي طَلَب الرِّزْق . اِبْن الْعَرَبِيّ : وَلَكِنَّ شُيُوخ الصُّوفِيَّة قَالُوا : إِنَّمَا يَغْدُو وَيَرُوح فِي الطَّاعَات فَهُوَ السَّبَب الَّذِي يَجْلِب الرِّزْق . قَالُوا : وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَمْرَانِ : أَحَدهمَا : قَوْله تَعَالَى : " وَأْمُرْ أَهْلك بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلك رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقك " [ طَه : 132 ] الثَّانِي : قَوْله تَعَالَى : " إِلَيْهِ يَصْعَد الْكَلِم الطَّيِّب وَالْعَمَل الصَّالِح يَرْفَعهُ " [ فَاطِر : 10 ] فَلَيْسَ يُنْزِل الرِّزْقَ مِنْ مَحَلّه , وَهُوَ السَّمَاء , إِلَّا مَا يَصْعَد وَهُوَ الذِّكْر الطَّيِّب وَالْعَمَل الصَّالِح وَلَيْسَ بِالسَّعْيِ فِي الْأَرْض فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا رِزْق . وَالصَّحِيح مَا أَحْكَمَتْه السُّنَّة عِنْد فُقَهَاء الظَّاهِر وَهُوَ الْعَمَل بِالْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّة مِنْ الْحَرْث وَالتِّجَارَة فِي الْأَسْوَاق وَالْعِمَارَة لِلْأَمْوَالِ وَغَرْس الثِّمَار . وَقَدْ كَانَتْ الصَّحَابَة تَفْعَل ذَلِكَ وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْن أَظْهُرهمْ . قَالَ أَبُو الْحَسَن بْن بَطَّال : أَمَرَ اللَّه سُبْحَانه عِبَاده بِالْإِنْفَاقِ مِنْ طَيِّبَات مَا كَسَبُوا إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ الْآي . وَقَالَ : " فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْر بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْم عَلَيْهِ " [ الْبَقَرَة : 173 ] . فَأَحَلَّ لِلْمُضْطَرِّ مَا كَانَ حَرَّمَ عَلَيْهِ عِنْد عَدَمه لِلْغِذَاءِ الَّذِي أَمَرَهُ بِاكْتِسَابِهِ وَالِاغْتِذَاء بِهِ , وَلَمْ يَأْمُرهُ بِانْتِظَارِ طَعَام يَنْزِل عَلَيْهِ مِنْ السَّمَاء , وَلَوْ تَرَكَ السَّعْي فِي تَرْك مَا يَتَغَذَّى بِهِ لَكَانَ لِنَفْسِهِ قَاتِلًا . وَقَدْ كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَلَوَّى مِنْ الْجُوع مَا يَجِد مَا يَأْكُلهُ , وَلَمْ يَنْزِل عَلَيْهِ طَعَام مِنْ السَّمَاء , وَكَانَ يَدَّخِر لِأَهْلِهِ قُوت سَنَته حَتَّى فَتَحَ اللَّه عَلَيْهِ الْفُتُوح . وَقَدْ رَوَى أَنَس بْن مَالِك أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعِيرٍ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه , أَعْقِلهُ وَأَتَوَكَّل أَوْ أُطْلِقهُ وَأَتَوَكَّل ؟ قَالَ : ( اِعْقِلْهُ وَتَوَكَّلْ ) .

قُلْت : وَلَا حُجَّة لَهُمْ فِي أَهْل الصُّفَّة , فَإِنَّهُمْ كَانُوا فُقَرَاء يَقْعُدُونَ فِي الْمَسْجِد مَا يَحْرُثُونَ وَلَا يَتَّجِرُونَ , لَيْسَ لَهُمْ كَسْب وَلَا مَال , إِنَّمَا هُمْ أَضْيَاف الْإِسْلَام عِنْد ضِيق الْبُلْدَان , وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَحْتَطِبُونَ بِالنَّهَارِ وَيَسُوقُونَ الْمَاء إِلَى بَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآن بِاللَّيْلِ وَيُصَلُّونَ . هَكَذَا وَصَفَهُمْ الْبُخَارِيّ وَغَيْره . فَكَانُوا يَتَسَبَّبُونَ . وَكَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا جَاءَتْهُ هَدِيَّة أَكَلَهَا مَعَهُمْ , وَإِنْ كَانَتْ صَدَقَة خَصَّهُمْ بِهَا , فَلَمَّا كَثُرَ الْفَتْح وَانْتَشَرَ الْإِسْلَام خَرَجُوا وَتَأَمَّرُوا - كَأَبِي هُرَيْرَة وَغَيْره - وَمَا قَعَدُوا . ثُمَّ قِيلَ : الْأَسْبَاب الَّتِي يُطْلَب بِهَا الرِّزْق سِتَّة أَنْوَاع : [ أَعْلَاهَا ] كَسْب نَبِيّنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ : ( جُعِلَ رِزْقِي تَحْت ظِلّ رُمْحِي وَجُعِلَ الذِّلَّة وَالصَّغَار عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي ) . خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ وَصَحَّحَهُ . فَجَعَلَ اللَّه رِزْق نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَسْبه لِفَضْلِهِ , وَخَصَّهُ بِأَفْضَل أَنْوَاع الْكَسْب , وَهُوَ أَخْذ الْغَلَبَة وَالْقَهْر لِشَرَفِهِ . [ الثَّانِي ] أَكْل الرَّجُل مِنْ عَمَل يَده , قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ أَطْيَب مَا أَكَلَ الرَّجُل مِنْ عَمَل يَده وَإِنَّ نَبِيّ اللَّه دَاوُد كَانَ يَأْكُل مِنْ عَمَل يَده ) خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ . وَفِي التَّنْزِيل " وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَة لَبُوس لَكُمْ " [ الْأَنْبِيَاء : 80 ] , وَرُوِيَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَأْكُل مِنْ غَزْل أُمّه . [ الثَّالِث ] التِّجَارَة , وَهِيَ كَانَتْ عَمَل جُلّ الصَّحَابَة رِضْوَان اللَّه عَلَيْهِمْ , وَخَاصَّة الْمُهَاجِرِينَ , وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهَا التَّنْزِيل فِي غَيْر مَوْضِع . [ الرَّابِع ] الْحَرْث وَالْغَرْس . وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي سُورَة [ الْبَقَرَة ] [ الْخَامِس ] إِقْرَاء الْقُرْآن وَتَعْلِيمه وَالرُّقْيَة , وَقَدْ مَضَى فِي [ الْفَاتِحَة ] [ السَّادِس ] يَأْخُذ بِنِيَّةِ الْأَدَاء إِذَا اِحْتَاجَ , قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ أَخَذَ أَمْوَال النَّاس يُرِيد أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّه عَنْهُ وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيد إِتْلَافهَا أَتْلَفَهُ اللَّه ) . خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ . رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ .



دَلِيل عَلَى أَنَّ الرِّزْق لَيْسَ بِالِاجْتِهَادِ , وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ فَضْل اللَّه تَوَلَّى قِسْمَته بَيْن عِبَاده وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قَوْله تَعَالَى : " نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنهمْ مَعِيشَتهمْ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا " [ الزُّخْرُف : 32 ] الْآيَة .
قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَسورة التوبة الآية رقم 29
فِيهِ خَمْس عَشْرَة مَسْأَلَة : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِر " لَمَّا حَرَّمَ اللَّه تَعَالَى عَلَى الْكُفَّار أَنْ يَقْرَبُوا الْمَسْجِد الْحَرَام , وَجَدَ الْمُسْلِمُونَ فِي أَنْفُسهمْ بِمَا قَطَعَ عَنْهُمْ مِنْ التِّجَارَة الَّتِي كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُوَافُونَ بِهَا , قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَة " [ التَّوْبَة : 28 ] الْآيَة . عَلَى مَا تَقَدَّمَ . ثُمَّ أَحَلَّ فِي هَذِهِ الْآيَة الْجِزْيَة وَكَانَتْ لَمْ تُؤْخَذ قَبْل ذَلِكَ , فَجَعَلَهَا عِوَضًا مِمَّا مَنَعَهُمْ مِنْ مُوَافَاة الْمُشْرِكِينَ بِتِجَارَتِهِمْ . فَقَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِر " الْآيَة . فَأَمَرَ سُبْحَانه وَتَعَالَى بِمُقَاتَلَةِ جَمِيع الْكُفَّار لِإِصْفَاقِهِمْ عَلَى هَذَا الْوَصْف , وَخَصَّ أَهْل الْكِتَاب بِالذِّكْرِ إِكْرَامًا لِكِتَابِهِمْ , وَلِكَوْنِهِمْ عَالِمِينَ بِالتَّوْحِيدِ وَالرُّسُل وَالشَّرَائِع وَالْمِلَل , وَخُصُوصًا ذِكْر مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِلَّته وَأُمَّته . فَلَمَّا أَنْكَرُوهُ تَأَكَّدَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّة وَعَظُمَتْ مِنْهُمْ الْجَرِيمَة , فَنَبَّهَ عَلَى مَحَلّهمْ ثُمَّ جَعَلَ لِلْقِتَالِ غَايَة وَهِيَ إِعْطَاء الْجِزْيَة بَدَلًا عَنْ الْقَتْل . وَهُوَ الصَّحِيح . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : سَمِعْت أَبَا الْوَفَاء عَلِيّ بْن عَقِيل فِي مَجْلِس النَّظَر يَتْلُوهَا وَيَحْتَجّ بِهَا . فَقَالَ : " قَاتِلُوا " وَذَلِكَ أَمْر بِالْعُقُوبَةِ . ثُمَّ قَالَ : " الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ " وَذَلِكَ بَيَان لِلذَّنْبِ الَّذِي أَوْجَبَ الْعُقُوبَة . وَقَوْله : " وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِر " تَأْكِيد لِلذَّنْبِ فِي جَانِب الِاعْتِقَاد . ثُمَّ قَالَ : " وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّه وَرَسُوله " زِيَادَة لِلذَّنْبِ فِي مُخَالَفَة الْأَعْمَال . ثُمَّ قَالَ : " وَلَا يَدِينُونَ دِين الْحَقّ " إِشَارَة إِلَى تَأْكِيد الْمَعْصِيَة بِالِانْحِرَافِ وَالْمُعَانَدَة وَالْأَنَفَة عَنْ الِاسْتِسْلَام . ثُمَّ قَالَ : " مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب " تَأْكِيد لِلْحُجَّةِ , لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدهمْ فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل . ثُمَّ قَالَ : " حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَة عَنْ يَد " فَبَيَّنَ الْغَايَة الَّتِي تَمْتَدّ إِلَيْهَا الْعُقُوبَة وَعَيَّنَ الْبَدَل الَّذِي تَرْتَفِع بِهِ .

الثَّانِيَة : وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِيمَنْ تُؤْخَذ مِنْهُ الْجِزْيَة , قَالَ الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه : لَا تُقْبَل الْجِزْيَة إِلَّا مِنْ أَهْل الْكِتَاب خَاصَّة عَرَبًا كَانُوا أَوْ عَجَمًا لِهَذِهِ الْآيَة , فَإِنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ خُصُّوا بِالذِّكْرِ فَتَوَجَّهَ الْحُكْم إِلَيْهِمْ دُون مَنْ سِوَاهُمْ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : " فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ " [ التَّوْبَة : 5 ] . وَلَمْ يَقُلْ : حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَة كَمَا قَالَ فِي أَهْل الْكِتَاب . وَقَالَ : وَتُقْبَل مِنْ الْمَجُوس بِالسُّنَّةِ وَبِهِ قَالَ أَحْمَد وَأَبُو ثَوْر . وَهُوَ مَذْهَب الثَّوْرِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابه . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : تُؤْخَذ الْجِزْيَة مِنْ كُلّ عَابِد وَثَن أَوْ نَار أَوْ جَاحِد أَوْ مُكَذِّب . وَكَذَلِكَ مَذْهَب مَالِك , فَإِنَّهُ رَأَى الْجِزْيَة تُؤْخَذ مِنْ جَمِيع أَجْنَاس الشِّرْك وَالْجَحْد , عَرَبِيًّا أَوْ عَجَمِيًّا , تَغْلِبِيًّا أَوْ قُرَشِيًّا , كَائِنًا مَنْ كَانَ , إِلَّا الْمُرْتَدّ . وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم وَأَشْهَب وَسَحْنُون : تُؤْخَذ الْجِزْيَة مِنْ مَجُوس الْعَرَب وَالْأُمَم كُلّهَا . وَأَمَّا عَبَدَة الْأَوْثَان مِنْ الْعَرَب فَلَمْ يَسْتَنّ اللَّه فِيهِمْ جِزْيَة , وَلَا يَبْقَى عَلَى الْأَرْض مِنْهُمْ أَحَد , وَإِنَّمَا لَهُمْ الْقِتَال أَوْ الْإِسْلَام . وَيُوجَد لِابْنِ الْقَاسِم : أَنَّ الْجِزْيَة تُؤْخَذ مِنْهُمْ , كَمَا يَقُول مَالِك . وَذَلِكَ فِي التَّفْرِيع لِابْنِ الْجَلَّاب وَهُوَ اِحْتِمَال لَا نَصّ . وَقَالَ اِبْن وَهْب : لَا تُقْبَل الْجِزْيَة مِنْ مَجُوس الْعَرَب وَتُقْبَل مِنْ غَيْرهمْ . قَالَ : لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَرَب مَجُوسِيّ إِلَّا وَجَمِيعهمْ أَسْلَمَ , فَمَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ بِخِلَافِ الْإِسْلَام فَهُوَ مُرْتَدّ يُقْتَل بِكُلِّ حَال إِنْ لَمْ يُسْلِم وَلَا تُقْبَل مِنْهُمْ جِزْيَة . وَقَالَ اِبْن الْجَهْم : تُقْبَل الْجِزْيَة مِنْ كُلّ مَنْ دَانَ بِغَيْرِ الْإِسْلَام إِلَّا مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ مِنْ كُفَّار قُرَيْش . وَذَكَرَ فِي تَعْلِيل ذَلِكَ أَنَّهُ إِكْرَام لَهُمْ عَنْ الذِّلَّة وَالصَّغَار , لِمَكَانِهِمْ مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ غَيْره : إِنَّمَا ذَلِكَ لِأَنَّ جَمِيعهمْ أَسْلَمَ يَوْم فَتْح مَكَّة . وَاَللَّه أَعْلَم .

الثَّالِثَة : وَأَمَّا الْمَجُوس فَقَالَ اِبْن الْمُنْذِر : لَا أَعْلَم خِلَافًا أَنَّ الْجِزْيَة تُؤْخَذ مِنْهُمْ . وَفِي الْمُوَطَّإِ : مَالِك عَنْ جَعْفَر بْن مُحَمَّد عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَر بْن الْخَطَّاب ذَكَرَ أَمْر الْمَجُوس فَقَالَ : مَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَع فِي أَمْرهمْ . فَقَالَ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف : أَشْهَد لَسَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( سُنُّوا بِهِمْ سُنَّة أَهْل الْكِتَاب ) . قَالَ أَبُو عُمَر : يَعْنِي فِي الْجِزْيَة خَاصَّة . وَفِي قَوْل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( سُنُّوا بِهِمْ سُنَّة أَهْل الْكِتَاب ) دَلِيل عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْل كِتَاب . وَعَلَى هَذَا جُمْهُور الْفُقَهَاء . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيّ أَنَّهُمْ كَانُوا أَهْل كِتَاب فَبَدَّلُوا . وَأَظُنّهُ ذَهَبَ فِي ذَلِكَ إِلَى شَيْء رُوِيَ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مِنْ وَجْه فِيهِ ضَعْف , يَدُور عَلَى أَبِي سَعِيد الْبَقَّال , ذَكَرَهُ عَبْد الرَّزَّاق وَغَيْره . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَرُوِيَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ بُعِثَ فِي الْمَجُوس نَبِيّ اِسْمه زَرَادِشت . وَاَللَّه أَعْلَم .

الرَّابِعَة : لَمْ يَذْكُر اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى فِي كِتَابه مِقْدَارًا لِلْجِزْيَةِ الْمَأْخُوذَة مِنْهُمْ . وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مِقْدَار الْجِزْيَة الْمَأْخُوذَة مِنْهُمْ , فَقَالَ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح : لَا تَوْقِيت فِيهَا , وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى مَا صُولِحُوا عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ قَالَ يَحْيَى بْن آدَم وَأَبُو عُبَيْد وَالطَّبَرِيّ , إِلَّا أَنَّ الطَّبَرِيّ قَالَ : أَقَلّه دِينَار وَأَكْثَره لَا حَدّ لَهُ . وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ أَهْل الصَّحِيح عَنْ عَمْرو بْن عَوْف : أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ أَهْل الْبَحْرَيْنِ عَلَى الْجِزْيَة . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : دِينَار عَلَى الْغَنِيّ وَالْفَقِير مِنْ الْأَحْرَار الْبَالِغِينَ لَا يَنْقُص مِنْهُ شَيْء وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْره عَنْ مُعَاذ : أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَن وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذ مِنْ كُلّ حَالِم دِينَارًا فِي الْجِزْيَة . قَالَ الشَّافِعِيّ : وَهُوَ الْمُبَيِّن عَنْ اللَّه تَعَالَى مُرَاده . وَهُوَ قَوْل أَبِي ثَوْر . قَالَ الشَّافِعِيّ : وَإِنْ صُولِحُوا عَلَى أَكْثَر مِنْ دِينَار جَازَ , وَإِنْ زَادُوا وَطَابَتْ بِذَلِكَ أَنْفُسهمْ قُبِلَ مِنْهُمْ . وَإِنْ صُولِحُوا عَلَى ضِيَافَة ثَلَاثَة أَيَّام جَازَ , إِذَا كَانَتْ الضِّيَافَة مَعْلُومَة فِي الْخُبْز وَالشَّعِير وَالتِّبْن وَالْإِدَام , وَذَكَرَ مَا عَلَى الْوَسَط مِنْ ذَلِكَ وَمَا عَلَى الْمُوسِر وَذَكَرَ مَوْضِع النُّزُول وَالْكِنّ مِنْ الْبَرْد وَالْحَرّ . وَقَالَ مَالِك فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ اِبْن الْقَاسِم وَأَشْهَب وَمُحَمَّد بْن الْحَارِث بْن زَنْجَوَيْهِ : إِنَّهَا أَرْبَعَة دَنَانِير عَلَى أَهْل الذَّهَب وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا عَلَى أَهْل الْوَرِق , الْغَنِيّ وَالْفَقِير سَوَاء وَلَوْ كَانَ مَجُوسِيًّا . لَا يُزَاد وَلَا يُنْقَص عَلَى مَا فَرَضَ عُمَر لَا يُؤْخَذ مِنْهُمْ غَيْره . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الضَّعِيف يُخَفَّف عَنْهُ بِقَدْرِ مَا يَرَاهُ الْإِمَام . وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم : لَا يُنْقَص مِنْ فَرْض عُمَر لِعُسْرٍ وَلَا يُزَاد عَلَيْهِ لِغِنًى . قَالَ أَبُو عُمَر : وَيُؤْخَذ مِنْ فُقَرَائِهِمْ بِقَدْرِ مَا يَحْتَمِلُونَ وَلَوْ دِرْهَمًا . وَإِلَى هَذَا رَجَعَ مَالِك . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَمُحَمَّد بْن الْحَسَن وَأَحْمَد بْن حَنْبَل : اِثْنَا عَشَر , وَأَرْبَعَة وَعِشْرُونَ , وَأَرْبَعُونَ . قَالَ الثَّوْرِيّ : جَاءَ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب فِي ذَلِكَ ضَرَائِب مُخْتَلِفَة , فَلِلْوَالِي أَنْ يَأْخُذ بِأَيِّهَا شَاءَ , إِذَا كَانُوا أَهْل ذِمَّة . وَأَمَّا أَهْل الصُّلْح فَمَا صُولِحُوا عَلَيْهِ لَا غَيْر .

الْخَامِسَة : قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِمْ : وَاَلَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآن أَنَّ الْجِزْيَة تُؤْخَذ مِنْ الرِّجَال الْمُقَاتِلِينَ , لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : " قَاتِلُوا الَّذِينَ " إِلَى قَوْله : " حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَة " فَيَقْتَضِي ذَلِكَ وُجُوبهَا عَلَى مَنْ يُقَاتِل . وَيَدُلّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْعَبْد وَإِنْ كَانَ مُقَاتِلًا , لِأَنَّهُ لَا مَال لَهُ , وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : " حَتَّى يُعْطُوا " . وَلَا يُقَال لِمَنْ لَا يَمْلِك حَتَّى يُعْطِي . وَهَذَا إِجْمَاع مِنْ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْجِزْيَة إِنَّمَا تُوضَع عَلَى جَمَاجِم الرِّجَال الْأَحْرَار الْبَالِغِينَ , وَهُمْ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ دُون النِّسَاء وَالذُّرِّيَّة وَالْعَبِيد وَالْمَجَانِين الْمَغْلُوبِينَ عَلَى عُقُولهمْ وَالشَّيْخ الْفَانِي . وَاخْتُلِفَ فِي الرُّهْبَان , فَرَوَى اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك أَنَّهَا لَا تُؤْخَذ مِنْهُمْ . قَالَ مُطَرِّف وَابْن الْمَاجِشُون : هَذَا إِذَا لَمْ يَتَرَهَّب بَعْد فَرْضهَا فَإِنْ فُرِضَتْ ثُمَّ تَرَهَّبَ لَمْ يُسْقِطهَا تَرَهُّبه .

السَّادِسَة : إِذَا أَعْطَى أَهْل الْجِزْيَةِ الْجِزْيَةَ لَمْ يُؤْخَذ مِنْهُمْ شَيْء مِنْ ثِمَارهمْ وَلَا تِجَارَتهمْ وَلَا زُرُوعهمْ إِلَّا أَنْ يَتَّجِرُوا فِي بِلَاد غَيْر بِلَادهمْ الَّتِي أُقِرُّوا فِيهَا وَصُولِحُوا عَلَيْهَا . فَإِنْ خَرَجُوا تُجَّارًا عَنْ بِلَادهمْ الَّتِي أُقِرُّوا فِيهَا إِلَى غَيْرهَا أُخِذَ مِنْهُمْ الْعُشْر إِذَا بَاعُوا وَنَضَّ ثَمَن ذَلِكَ بِأَيْدِيهِمْ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي السَّنَة مِرَارًا إِلَّا فِي حَمْلهمْ الطَّعَام الْحِنْطَة وَالزَّيْت إِلَى الْمَدِينَة وَمَكَّة خَاصَّة , فَإِنَّهُ يُؤْخَذ مِنْهُمْ نِصْف الْعُشْر عَلَى مَا فَعَلَ عُمَر . وَمِنْ أَهْل الْمَدِينَة مَنْ لَا يَرَى أَنْ يُؤْخَذ مِنْ أَهْل الذِّمَّة الْعُشْر فِي تِجَارَتهمْ إِلَّا مَرَّة فِي الْحَوْل , مِثْل مَا يُؤْخَذ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . وَهُوَ مَذْهَب عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَجَمَاعَة مِنْ أَئِمَّة الْفُقَهَاء . وَالْأَوَّل قَوْل مَالِك وَأَصْحَابه .

السَّابِعَة : إِذَا أَدَّى أَهْل الْجِزْيَة جِزْيَتهمْ الَّتِي ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ أَوْ صُولِحُوا عَلَيْهَا خُلِّيَ بَيْنهمْ وَبَيْن أَمْوَالهمْ كُلّهَا , وَبَيْن كُرُومِهِمْ وَعَصْرهَا مَا سَتَرُوا خُمُورهمْ وَلَمْ يُعْلِنُوا بَيْعهَا مِنْ مُسْلِم وَمُنِعُوا مِنْ إِظْهَار الْخَمْر وَالْخِنْزِير فِي أَسْوَاق الْمُسْلِمِينَ , فَإِنْ أَظْهَرُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أُرِيقَتْ الْخَمْر عَلَيْهِمْ , وَأُدِّبَ مَنْ أَظْهَرَ الْخِنْزِير . وَإِنْ أَرَاقَهَا مُسْلِم مِنْ غَيْر إِظْهَارهَا فَقَدْ تَعَدَّى , وَيَجِب عَلَيْهِ الضَّمَان . وَقِيلَ : لَا يَجِب وَلَوْ غَصَبَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ رَدّهَا . وَلَا يُعْتَرَض لَهُمْ فِي أَحْكَامهمْ وَلَا مُتَاجَرَتهمْ فِيمَا بَيْنهمْ بِالرِّبَا . فَإِنْ تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا فَالْحَاكِم مُخَيَّر , إِنْ شَاءَ حَكَمَ بَيْنهمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه وَإِنْ شَاءَ أَعْرَضَ . وَقِيلَ : يَحْكُم بَيْنهمْ فِي الْمَظَالِم عَلَى كُلّ حَال , وَيُؤْخَذ مِنْ قَوِيّهمْ لِضَعِيفِهِمْ , لِأَنَّهُ مِنْ بَاب الدَّفْع عَنْهُمْ وَعَلَى الْإِمَام أَنْ يُقَاتِل عَنْهُمْ عَدُوّهُمْ وَيَسْتَعِين بِهِمْ فِي قِتَالهمْ . وَلَا حَظّ لَهُمْ فِي الْفَيْء , وَمَا صُولِحُوا عَلَيْهِ مِنْ الْكَنَائِس لَمْ يَزِيدُوا عَلَيْهَا , وَلَمْ يُمْنَعُوا مِنْ إِصْلَاح مَا وَهَى مِنْهَا , وَلَا سَبِيل لَهُمْ إِلَى إِحْدَاث غَيْرهَا . وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللِّبَاس وَالْهَيْئَة بِمَا يَبِينُونَ بِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , وَيُمْنَعُونَ مِنْ التَّشَبُّه بِأَهْلِ الْإِسْلَام . وَلَا بَأْس بِاشْتِرَاءِ أَوْلَاد الْعَدُوّ مِنْهُمْ إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُمْ ذِمَّة . وَمَنْ لَدَّ فِي أَدَاء جِزْيَته أُدِّبَ عَلَى لَدَده وَأُخِذَتْ مِنْهُ صَاغِرًا .

الثَّامِنَة : اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِيمَا وَجَبَتْ الْجِزْيَة عَنْهُ , فَقَالَ عُلَمَاء الْمَالِكِيَّة : وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْقَتْل بِسَبَبِ الْكُفْر . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الدَّم وَسُكْنَى الدَّار . وَفَائِدَة الْخِلَاف أَنَّا إِذَا قُلْنَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْقَتْل فَأَسْلَمَ سَقَطَتْ عَنْهُ الْجِزْيَة لِمَا مَضَى , وَلَوْ أَسْلَمَ قَبْل تَمَام الْحَوْل بِيَوْمٍ أَوْ بَعْده عِنْد مَالِك . وَعِنْد الشَّافِعِيّ أَنَّهَا دَيْن مُسْتَقِرّ فِي الذِّمَّة فَلَا يُسْقِطهُ الْإِسْلَام كَأُجْرَةِ الدَّار . وَقَالَ بَعْض الْحَنَفِيَّة بِقَوْلِنَا . وَقَالَ بَعْضهمْ : إِنَّمَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ النَّصْر وَالْجِهَاد . وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو زَيْد وَزَعَمَ أَنَّهُ سِرّ اللَّه فِي الْمَسْأَلَة . وَقَوْل مَالِك أَصَحّ , لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَيْسَ عَلَى مُسْلِم جِزْيَة ) . قَالَ سُفْيَان : مَعْنَاهُ إِذَا أَسْلَمَ الذِّمِّيّ بَعْد مَا وَجَبَتْ الْجِزْيَة عَلَيْهِ بَطَلَتْ عَنْهُ . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ وَأَبُو دَاوُد . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَعَلَيْهِ يَدُلّ قَوْله تَعَالَى : " حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَة عَنْ يَد وَهُمْ صَاغِرُونَ " لِأَنَّ بِالْإِسْلَامِ يَزُول هَذَا الْمَعْنَى . وَلَا خِلَاف أَنَّهُمْ إِذَا أَسْلَمُوا فَلَا يُؤَدُّونَ الْجِزْيَة عَنْ يَد وَهُمْ صَاغِرُونَ . وَالشَّافِعِيّ لَا يَأْخُذ بَعْد الْإِسْلَام عَلَى الْوَجْه الَّذِي قَالَهُ اللَّه تَعَالَى . وَإِنَّمَا يَقُول : إِنَّ الْجِزْيَة دَيْن , وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِسَبَبِ سَابِق وَهُوَ السُّكْنَى أَوْ تَوَقِّي شَرّ الْقَتْل , فَصَارَتْ كَالدُّيُونِ كُلّهَا .

التَّاسِعَة : لَوْ عَاهَدَ الْإِمَام أَهْل بَلَد أَوْ حِصْن ثُمَّ نَقَضُوا عَهْدهمْ وَامْتَنَعُوا مِنْ أَدَاء مَا يَلْزَمهُمْ مِنْ الْجِزْيَة وَغَيْرهَا وَامْتَنَعُوا مِنْ حُكْم الْإِسْلَام مِنْ غَيْر أَنْ يُظْلَمُوا وَكَانَ الْإِمَام غَيْر جَائِر عَلَيْهِمْ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ غَزْوهمْ وَقِتَالهمْ مَعَ إِمَامهمْ . فَإِنْ قَاتَلُوا وَغُلِبُوا حَكَمَ فِيهِمْ بِالْحُكْمِ فِي دَار الْحَرْب سَوَاء . وَقَدْ قِيلَ : هُمْ وَنِسَاؤُهُمْ فَيْء وَلَا خُمُس فِيهِمْ , وَهُوَ مَذْهَب .

الْعَاشِرَة : فَإِنْ خَرَجُوا مُتَلَصِّصِينَ قَاطِعِينَ الطَّرِيق فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُحَارِبِينَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا لَمْ يَمْنَعُوا الْجِزْيَة . وَلَوْ خَرَجُوا مُتَظَلِّمِينَ نَظَرَ فِي أَمْرهمْ وَرُدُّوا إِلَى الذِّمَّة وَأُنْصِفُوا مِنْ ظَالِمهمْ وَلَا يُسْتَرَقّ مِنْهُمْ أَحَد وَهُمْ أَحْرَار . فَإِنْ نَقَضَ بَعْضهمْ دُون بَعْض فَمَنْ لَمْ يَنْقُض عَلَى عَهْده , وَلَا يُؤْخَذ بِنَقْضِ غَيْره وَتُعْرَف إِقَامَتهمْ عَلَى الْعَهْد بِإِنْكَارِهِمْ عَلَى النَّاقِضِينَ .

الْحَادِيَة عَشْرَة : الْجِزْيَة وَزْنهَا فِعْلَة , مِنْ جَزَى يَجْزِي إِذَا كَافَأَ عَمَّا أُسْدِيَ إِلَيْهِ , فَكَأَنَّهُمْ أَعْطَوْهَا جَزَاء مَا مُنِحُوا مِنْ الْأَمْن , وَهِيَ كَالْقِعْدَةِ وَالْجِلْسَة . وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْل الشَّاعِر : يُجْزِيك أَوْ يُثْنِي عَلَيْك وَإِنَّ مَنْ أَثْنَى عَلَيْك بِمَا فَعَلْت كَمَنْ جَزَى

الثَّانِيَة عَشْرَة : رَوَى مُسْلِم عَنْ هِشَام بْن حَكِيم بْن حِزَام وَمَرَّ عَلَى نَاس مِنْ الْأَنْبَاط بِالشَّامِ قَدْ أُقِيمُوا فِي الشَّمْس - فِي رِوَايَة : وَصُبَّ عَلَى رُءُوسهمْ الزَّيْت - فَقَالَ : مَا شَأْنهمْ ؟ فَقَالَ يُحْبَسُونَ فِي الْجِزْيَة . فَقَالَ هِشَام : أَشْهَد لَسَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( إِنَّ اللَّه يُعَذِّب الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاس فِي الدُّنْيَا ) . فِي رِوَايَة : وَأَمِيرهمْ يَوْمئِذٍ عُمَيْر بْن سَعْد عَلَى فِلَسْطِين , فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَحَدَّثَهُ فَأَمَرَ بِهِمْ فَخُلُّوا . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : أَمَّا عُقُوبَتهمْ إِذَا اِمْتَنَعُوا مِنْ أَدَائِهَا مَعَ التَّمْكِين فَجَائِز , فَأَمَّا مَعَ تَبَيُّن عَجْزهمْ فَلَا تَحِلّ عُقُوبَتهمْ , لِأَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ الْجِزْيَة سَقَطَتْ عَنْهُ . وَلَا يُكَلَّف الْأَغْنِيَاء أَدَاءَهَا عَنْ الْفُقَرَاء . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ صَفْوَان بْن سُلَيْم عَنْ عِدَّة مِنْ أَبْنَاء أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ آبَائِهِمْ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَدًا أَوْ اِنْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْق طَاقَته أَوْ أَخَذَ شَيْئًا مِنْهُ بِغَيْرِ طِيب نَفْس فَأَنَا حَجِيجه يَوْم الْقِيَامَة ) .

الثَّالِثَة عَشْرَة : قَوْله تَعَالَى : " عَنْ يَد " قَالَ اِبْن عَبَّاس : يَدْفَعهَا بِنَفْسِهِ غَيْر مُسْتَنِيب فِيهَا أَحَدًا رَوَى أَبُو الْبَخْتَرِيّ عَنْ سَلْمَان قَالَ : مَذْمُومِينَ . وَرَوَى مَعْمَر عَنْ قَتَادَة قَالَ : عَنْ قَهْر وَقِيلَ : " عَنْ يَد " عَنْ إِنْعَام مِنْكُمْ عَلَيْهِمْ , لِأَنَّهُمْ إِذَا أُخِذَتْ مِنْهُمْ الْجِزْيَة فَقَدْ أُنْعِمَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ . عِكْرِمَة : يَدْفَعهَا وَهُوَ قَائِم وَالْآخِذ جَالِس وَقَالَهُ سَعِيد بْن جُبَيْر . اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا لَيْسَ مِنْ قَوْله : " عَنْ يَد " وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْله : " وَهُمْ صَاغِرُونَ " .

الرَّابِعَة عَشْرَة : رَوَى الْأَئِمَّة عَنْ عَبْد اللَّه بْن عُمَر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( الْيَد الْعُلْيَا خَيْر مِنْ الْيَد السُّفْلَى وَالْيَد الْعُلْيَا الْمُنْفِقَة وَالسُّفْلَى السَّائِلَة ) وَرَوَى : ( وَالْيَد الْعُلْيَا هِيَ الْمُعْطِيَة ) . فَجَعَلَ يَد الْمُعْطِي فِي الصَّدَقَة عُلْيَا , وَجَعَلَ يَد الْمُعْطِي فِي الْجِزْيَة سُفْلَى . وَيَد الْآخِذ عُلْيَا ; ذَلِكَ بِأَنَّهُ الرَّافِع الْخَافِض , يَرْفَع مَنْ يَشَاء وَيَخْفِض مَنْ يَشَاء , لَا إِلَه غَيْره .

الْخَامِسَة عَشْرَة : عَنْ حَبِيب بْن أَبِي ثَابِت قَالَ : جَاءَ رَجُل إِلَى اِبْن عَبَّاس فَقَالَ : إِنَّ أَرْض الْخَرَاج يَعْجِز عَنْهَا أَهْلهَا أَفَأَعْمُرهَا وَأَزْرَعهَا وَأُؤَدِّي خَرَاجهَا ؟ فَقَالَ : لَا . وَجَاءَهُ آخَر فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ : لَا وَتَلَا قَوْله تَعَالَى : " قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِر " إِلَى قَوْله : " وَهُمْ صَاغِرُونَ " أَيَعْمِدُ أَحَدكُمْ إِلَى الصَّغَار فِي عُنُق أَحَدهمْ فَيَنْتَزِعهُ فَيَجْعَلهُ فِي عُنُقه وَقَالَ كُلَيْب بْن وَائِل : قُلْت لِابْنِ عُمَر اِشْتَرَيْت أَرْضًا قَالَ الشِّرَاء حَسَن . قُلْت : فَإِنِّي أُعْطِي عَنْ كُلّ جَرِيب أَرْض دِرْهَمًا وَقَفِيز طَعَام . قَالَ : لَا تَجْعَل فِي عُنُقك صَغَارًا . وَرَوَى مَيْمُون بْن مِهْرَان عَنْ اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ : مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي الْأَرْض كُلّهَا بِجِزْيَةِ خَمْسَة دَرَاهِم أُقِرّ فِيهَا بِالصَّغَارِ عَلَى نَفْسِي .
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَسورة التوبة الآية رقم 30
قَرَأَ عَاصِم وَالْكِسَائِيّ " عُزَيْرٌ اِبْنُ اللَّه " بِتَنْوِينِ عُزَيْر . وَالْمَعْنَى أَنَّ " ابْن " عَلَى هَذَا خَبَر اِبْتِدَاء عَنْ عُزَيْر , و " عُزَيْر " يَنْصَرِف عَجَمِيًّا كَانَ أَوْ عَرَبِيًّا . وَقَرَأَ اِبْن كَثِير وَنَافِع وَأَبُو عَمْرو وَابْن عَامِر " عُزَيْر اِبْن " بِتَرْكِ التَّنْوِين لِاجْتِمَاعِ السَّاكِنَيْنِ , وَمِنْهُ قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ " قُلْ هُوَ اللَّه أَحَد اللَّه الصَّمَد " [ الْإِخْلَاص : 1 - 2 ] . قَالَ أَبُو عَلِيّ : وَهُوَ كَثِير فِي الشِّعْر . وَأَنْشَدَ الطَّبَرِيّ فِي ذَلِكَ : لَتَجِدنِي بِالْأَمِيرِ بَرَّا وَبِالْقَنَاةِ مِدْعَسًا مِكَرَّا إِذَا غُطَيْف السُّلَمِيّ فَرَّا

" وَقَالَتْ الْيَهُود " هَذَا لَفْظ خَرَجَ عَلَى الْعُمُوم وَمَعْنَاهُ الْخُصُوص , لِأَنَّ لَيْسَ كُلّ الْيَهُود قَالُوا ذَلِكَ . وَهَذَا مِثْل قَوْله تَعَالَى : " الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاس " [ آل عِمْرَان : 173 ] وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ كُلّ النَّاس . وَقِيلَ : إِنَّ قَائِل مَا حَكَى عَنْ الْيَهُود سَلَّام بْن مِشْكَم وَنُعْمَان بْن أَبِي أَوْفَى وَشَاس بْن قَيْس وَمَالِك بْن الصَّيْف , قَالُوهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ النَّقَّاش : لَمْ يَبْقَ يَهُودِيّ يَقُولهَا بَلْ اِنْقَرَضُوا فَإِذَا قَالَهَا وَاحِد فَيَتَوَجَّه أَنْ تَلْزَم الْجَمَاعَة شُنْعَة الْمَقَالَة , لِأَجْلِ نَبَاهَة الْقَائِل فِيهِمْ . وَأَقْوَال النُّبَهَاء أَبَدًا مَشْهُورَة فِي النَّاس يُحْتَجّ بِهَا . فَمِنْ هَاهُنَا صَحَّ أَنْ تَقُول الْجَمَاعَة قَوْل نَبِيههَا . وَاَللَّه أَعْلَم .

وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَبَب ذَلِكَ الْقَوْل أَنَّ الْيَهُود قَتَلُوا الْأَنْبِيَاء بَعْد مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَرَفَعَ اللَّه عَنْهُمْ التَّوْرَاة وَمَحَاهَا مِنْ قُلُوبهمْ , فَخَرَجَ عُزَيْر يَسِيح فِي الْأَرْض , فَأَتَاهُ جِبْرِيل فَقَالَ : ( أَيْنَ تَذْهَب ) ؟ قَالَ : أَطْلُب الْعِلْم , فَعَلَّمَهُ التَّوْرَاة كُلّهَا فَجَاءَ عُزَيْر بِالتَّوْرَاةِ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيل فَعَلَّمَهُمْ . وَقِيلَ : بَلْ حَفَّظَهَا اللَّهُ عُزَيْرًا كَرَامَة مِنْهُ لَهُ , فَقَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيل : إِنَّ اللَّه قَدْ حَفَّظَنِي التَّوْرَاة , فَجَعَلُوا يَدْرُسُونَهَا مِنْ عِنْده . وَكَانَتْ التَّوْرَاة مَدْفُونَة , كَانَ دَفَنَهَا عُلَمَاؤُهُمْ حِين أَصَابَهُمْ مِنْ الْفِتَن وَالْجَلَاء وَالْمَرَض مَا أَصَابَ وَقَتْل بُخْتَنَصْر إِيَّاهُمْ . ثُمَّ إِنَّ التَّوْرَاة الْمَدْفُونَة وُجِدَتْ فَإِذَا هِيَ مُتَسَاوِيَة لِمَا كَانَ عُزَيْر يُدَرِّس فَضَلُّوا عِنْد ذَلِكَ وَقَالُوا : إِنَّ هَذَا لَمْ يَتَهَيَّأ لِعُزَيْرٍ إِلَّا وَهُوَ اِبْن اللَّه حَكَاهُ الطَّبَرِيّ . وَظَاهِر قَوْل النَّصَارَى أَنَّ الْمَسِيح اِبْن اللَّه , إِنَّمَا أَرَادُوا بُنُوَّة النَّسْل كَمَا قَالَتْ الْعَرَب فِي الْمَلَائِكَة . وَكَذَلِكَ يَقْتَضِي قَوْل الضَّحَّاك وَالطَّبَرِيّ وَغَيْرهمَا . وَهَذَا أَشْنَع الْكُفْر . قَالَ أَبُو الْمَعَالِي : أَطْبَقَتْ النَّصَارَى عَلَى أَنَّ الْمَسِيح إِلَه وَإِنَّهُ اِبْن إِلَه . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَيُقَال إِنَّ بَعْضهمْ يَعْتَقِدهَا بُنُوَّة حُنُوّ وَرَحْمَة . وَهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا لَا يَحِلّ أَنْ تُطْلَق الْبُنُوَّة عَلَيْهِ وَهُوَ كُفْر .

قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : فِي هَذَا دَلِيل مِنْ قَوْل رَبّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى أَنَّ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ كُفْر غَيْره الَّذِي لَا يَجُوز لِأَحَدٍ أَنْ يَبْتَدِئ بِهِ لَا حَرَج عَلَيْهِ , لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَنْطِق بِهِ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِعْظَام لَهُ وَالرَّدّ عَلَيْهِ وَلَوْ شَاءَ رَبّنَا مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَحَد , فَإِذَا مَكَّنَ مِنْ إِطْلَاق الْأَلْسُن بِهِ فَقَدْ أَذِنَ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُ عَلَى مَعْنَى إِنْكَاره بِالْقَلْبِ وَاللِّسَان وَالرَّدّ عَلَيْهِ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَان .


قِيلَ : مَعْنَاهُ التَّأْكِيد , كَمَا قَالَ تَعَالَى : " يَكْتُبُونَ الْكِتَاب بِأَيْدِيهِمْ " [ الْبَقَرَة : 79 ] وَقَوْله : " وَلَا طَائِر يَطِير بِجَنَاحَيْهِ " [ الْأَنْعَام : 38 ] وَقَوْله : " فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّوَر نَفْخَة وَاحِدَة " [ الْحَاقَّة : 13 ] وَمِثْله كَثِير . وَقِيلَ : الْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَوْل سَاذَج لَيْسَ فِيهِ بَيَان وَلَا بُرْهَان , وَإِنَّمَا هُوَ قَوْل بِالْفَمِ مُجَرَّد نَفْس دَعْوَى لَا مَعْنَى تَحْته صَحِيح لِأَنَّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللَّه سُبْحَانه لَمْ يَتَّخِذ صَاحِبَة فَكَيْفَ يَزْعُمُونَ أَنَّ لَهُ وَلَدًا , فَهُوَ كَذِب وَقَوْل لِسَانِيّ فَقَطْ بِخِلَافِ الْأَقْوَال الصَّحِيحَة الَّتِي تُعَضِّدهَا الْأَدِلَّة وَيَقُوم عَلَيْهَا الْبُرْهَان . قَالَ أَهْل الْمَعَانِي : إِنَّ اللَّه سُبْحَانه لَمْ يَذْكُر قَوْلًا مَقْرُونًا بِذِكْرِ الْأَفْوَاه وَالْأَلْسُن إِلَّا وَكَانَ قَوْلًا زُورًا , كَقَوْلِهِ : " يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبهمْ " [ آل عِمْرَان : 167 ] و " كَبُرَتْ كَلِمَة تَخْرُج مِنْ أَفْوَاههمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا " [ الْكَهْف : 5 ] و " يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبهمْ " [ الْفَتْح : 11 ] .



" يُضَاهِئُونَ " يُشَابِهُونَ , وَمِنْهُ قَوْل الْعَرَب : اِمْرَأَة ضَهْيَأ لِلَّتِي لَا تَحِيض أَوْ الَّتِي لَا ثَدْي لَهَا , كَأَنَّهَا أَشْبَهَتْ الرِّجَال . وَلِلْعُلَمَاءِ فِي " قَوْل الَّذِينَ كَفَرُوا " ثَلَاثَة أَقْوَال : [ الْأَوَّل ] قَوْل عَبَدَة الْأَوْثَان : اللَّات وَالْعُزَّى وَمَنَاة الثَّالِثَة الْأُخْرَى . [ الثَّانِي ] قَوْل الْكَفَرَة : الْمَلَائِكَة بَنَات اللَّه . [ الثَّالِث ] قَوْل أَسْلَافهمْ , فَقَلَّدُوهُمْ فِي الْبَاطِل وَاتَّبَعُوهُمْ عَلَى الْكُفْر , كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّة " [ الزُّخْرُف : 23 ] .

اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي " ضَهْيَأ " هَلْ يُمَدّ أَوْ لَا , فَقَالَ اِبْن وَلَّاد : اِمْرَأَة ضَهْيَأ , وَهِيَ الَّتِي لَا تَحِيض , مَهْمُوز غَيْر مَمْدُود . وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُدّ وَهُوَ سِيبَوَيْهِ فَيَجْعَلهَا عَلَى فَعَلَاء بِالْمَدِّ , وَالْهَمْزَة فِيهَا زَائِدَة لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ نِسَاء ضُهْي فَيَحْذِفُونَ الْهَمْزَة . قَالَ أَبُو الْحَسَن قَالَ لِي النَّجِيرَمِيّ : ضَهْيَأَة بِالْمَدِّ وَالْهَاء . جَمَعَ بَيْن عَلَامَتَيْ تَأْنِيث , حَكَاهُ عَنْ أَبِي عَمْرو الشَّيْبَانِيّ فِي النَّوَادِر . وَأَنْشَدَ : ضَهْيَأَة أَوْ عَاقِر جَمَاد اِبْن عَطِيَّة : مَنْ قَالَ " يُضَاهِئُونَ " مَأْخُوذ مِنْ قَوْلهمْ : اِمْرَأَة ضَهْيَاءَ فَقَوْله خَطَأ , قَالَهُ أَبُو عَلِيّ , لِأَنَّ الْهَمْزَة فِي ( ضَاهَأَ ) أَصْلِيَّة , وَفِي ( ضَهْيَاءَ ) زَائِدَة كَحَمْرَاء .



أَيْ لَعَنَهُمْ اللَّه , يَعْنِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى , لِأَنَّ الْمَلْعُون كَالْمَقْتُولِ . قَالَ اِبْن جُرَيْج : " قَاتَلَهُمْ اللَّه " هُوَ بِمَعْنَى التَّعَجُّب . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : كُلّ شَيْء فِي الْقُرْآن قَتْل فَهُوَ لَعْن , وَمِنْهُ قَوْل أَبَان بْن تَغْلِب : قَاتَلَهَا اللَّه تَلْحَانِي وَقَدْ عَلِمَتْ أَنِّي لِنَفْسِي إِفْسَادِي وَإِصْلَاحِي وَحَكَى النَّقَّاش أَنَّ أَصْل " قَاتَلَ اللَّه " الدُّعَاء , ثُمَّ كَثُرَ فِي اِسْتِعْمَالهمْ حَتَّى قَالُوهُ عَلَى التَّعَجُّب فِي الْخَيْر وَالشَّرّ , وَهُمْ لَا يُرِيدُونَ الدُّعَاء . وَأَنْشَدَ الْأَصْمَعِيّ : يَا قَاتَلَ اللَّه لَيْلَى كَيْفَ تُعْجِبنِي وَأُخْبِر النَّاس أَنِّي لَا أُبَالِيهَا
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5