الصفحة 1الصفحة 2
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِسورة ق الآية رقم 1
سُورَة ق مَكِّيَّة كُلّهَا فِي قَوْل الْحَسَن وَعَطَاء وَعِكْرِمَة وَجَابِر . قَالَ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة : إِلَّا آيَة , وَهِيَ قَوْله تَعَالَى : " وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا بَيْنهمَا فِي سِتَّة أَيَّام وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوب " ( ق : 38 ) . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أُمّ هِشَام بِنْت حَارِثَة بْن النُّعْمَان قَالَتْ : لَقَدْ كَانَ تَنُّورنَا وَتَنُّور رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدًا سَنَتَيْنِ - أَوْ سَنَة وَبَعْض سَنَة - وَمَا أَخَذْت " ق وَالْقُرْآن الْمَجِيد " إِلَّا عَنْ لِسَان رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; يَقْرَؤُهَا كُلّ يَوْم جُمُعَة عَلَى الْمِنْبَر إِذَا خَطَبَ النَّاس . وَعَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ سَأَلَ أَبَا وَاقِد اللَّيْثِيّ مَا كَانَ يَقْرَأ بِهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَضْحَى وَالْفِطْر ؟ فَقَالَ : كَانَ يَقْرَأ فِيهِمَا بِ " ق وَالْقُرْآن الْمَجِيد " وَ " اِقْتَرَبَتْ السَّاعَة وَانْشَقَّ الْقَمَر " . وَعَنْ جَابِر بْن سَمُرَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأ فِي الْفَجْر بِ " ق وَالْقُرْآن الْمَجِيد " وَكَانَتْ صَلَاته بَعْد تَخْفِيفًا .

قَرَأَ الْعَامَّة " قَاف " بِالْجَزْمِ . وَقَرَأَ الْحَسَن وَابْن أَبِي إِسْحَاق وَنَصْر بْن عَاصِم " قَاف " بِكَسْرِ الْفَاء ; لِأَنَّ الْكَسْر أَخُو الْجَزْم , فَلَمَّا سُكِّنَ آخِره حَرَّكُوهُ بِحَرَكَةِ الْخَفْض . وَقَرَأَ عِيسَى الثَّقَفِيّ بِفَتْحِ الْفَاء حَرَّكَهُ إِلَى أَخَفّ الْحَرَكَات . وَقَرَأَ هَارُون وَمُحَمَّد بْن السَّمَيْقَع " قَاف " بِالضَّمِّ ; لِأَنَّهُ فِي غَالِب الْأَمْر حَرَكَة الْبِنَاء نَحْو مُنْذُ وَقَدْ وَقَبْل وَبَعْد . وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى " قَاف " مَا هُوَ ؟ فَقَالَ اِبْن زَيْد وَعِكْرِمَة وَالضَّحَّاك : هُوَ جَبَل مُحِيط بِالْأَرْضِ مِنْ زُمُرُّدَة خَضْرَاء اِخْضَرَّتْ السَّمَاء مِنْهُ , وَعَلَيْهِ طَرَفَا السَّمَاء وَالسَّمَاء عَلَيْهِ مَقْبِيَّة , وَمَا أَصَابَ النَّاس مِنْ زُمُرُّد كَانَ مِمَّا تَسَاقَطَ مِنْ ذَلِكَ الْجَبَل . وَرَوَاهُ أَبُو الْجَوْزَاء عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس . قَالَ الْفَرَّاء : كَانَ يَجِب عَلَى هَذَا أَنْ يُظْهِر الْإِعْرَاب فِي " ق " ; لِأَنَّهُ اِسْم وَلَيْسَ بِهِجَاءٍ . قَالَ : وَلَعَلَّ الْقَاف وَحْدهَا ذُكِرَتْ مِنْ اِسْمه ; كَقَوْلِ الْقَائِل : قُلْت لَهَا قِفِي فَقَالَتْ قَاف أَيْ أَنَا وَاقِفَة . وَهَذَا وَجْه حَسَن وَقَدْ تَقَدَّمَ أَوَّل " الْبَقَرَة " . وَقَالَ وَهْب : أَشْرَفَ ذُو الْقَرْنَيْنِ عَلَى جَبَل قَاف فَرَأَى تَحْته جِبَالًا صِغَارًا , فَقَالَ لَهُ : مَا أَنْتَ ؟ قَالَ : أَنَا قَاف , قَالَ : فَمَا هَذِهِ الْجِبَال حَوْلك ؟ قَالَ : هِيَ عُرُوقِي وَمَا مِنْ مَدِينَة إِلَّا وَفِيهَا عِرْق مِنْ عُرُوقِي , فَإِذَا أَرَادَ اللَّه أَنْ يُزَلْزِل مَدِينَة أَمَرَنِي فَحَرَّكْت عِرْقِي ذَلِكَ فَتَزَلْزَلَتْ تِلْكَ الْأَرْض ; فَقَالَ لَهُ : يَا قَاف أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ مِنْ عَظَمَة اللَّه ; قَالَ : إِنَّ شَأْن رَبّنَا لَعَظِيم , وَإِنَّ وَرَائِي أَرْضًا مَسِيرَة خَمْسمِائَةِ عَام فِي خَمْسمِائَةِ عَام مِنْ جِبَال ثَلْج يُحَطِّم بَعْضهَا بَعْضًا , لَوْلَا هِيَ لَاحْتَرَقْت مِنْ حَرّ جَهَنَّم . فَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ جَهَنَّم عَلَى وَجْه الْأَرْض وَاَللَّه أَعْلَم بِمَوْضِعِهَا ; وَأَيْنَ هِيَ مِنْ الْأَرْض . قَالَ : زِدْنِي , قَالَ : إِنَّ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَاقِف بَيْن يَدَيْ اللَّه تَرْعَد فَرَائِصه , يَخْلُق اللَّه مِنْ كُلّ رَعْدَة مِائَة أَلْف مَلَك , فَأُولَئِكَ الْمَلَائِكَة وُقُوف بَيْن يَدَيْ اللَّه تَعَالَى مُنَكِّسُو رُءُوسهمْ , فَإِذَا أَذِنَ اللَّه لَهُمْ فِي الْكَلَام قَالُوا : لَا إِلَه إِلَّا اللَّه ; وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : " يَوْم يَقُوم الرُّوح وَالْمَلَائِكَة صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَن وَقَالَ صَوَابًا " [ النَّبَأ : 38 ] يَعْنِي قَوْل : لَا إِلَه إِلَّا اللَّه . وَقَالَ الزَّجَّاج : قَوْله " ق " أَيْ قُضِيَ الْأَمْر , كَمَا قِيلَ فِي " حم " أَيْ حُمَّ الْأَمْر . و قَالَ اِبْن عَبَّاس : " ق " اِسْم مِنْ أَسْمَاء اللَّه تَعَالَى أَقْسَمَ بِهِ . وَعَنْهُ أَيْضًا : أَنَّهُ اِسْم مِنْ أَسْمَاء الْقُرْآن . وَهُوَ قَوْل قَتَادَة . وَقَالَ الْقُرَظِيّ : اِفْتِتَاح أَسْمَاء اللَّه تَعَالَى قَدِير وَقَاهِر وَقَرِيب وَقَاضٍ وَقَابِض . وَقَالَ الشَّعْبِيّ : فَاتِحَة السُّورَة . وَقَالَ أَبُو بَكْر الْوَرَّاق : مَعْنَاهُ قِفْ عِنْد أَمْرنَا وَنَهْينَا وَلَا تَعْدُهُمَا . وَقَالَ مُحَمَّد بْن عَاصِم الْأَنْطَاكِيّ : هُوَ قُرْب اللَّه مِنْ عِبَاده , بَيَانه " وَنَحْنُ أَقْرَب إِلَيْهِ مِنْ حَبْل الْوَرِيد " [ ق : 16 ] وَقَالَ اِبْن عَطَاء : أَقْسَمَ اللَّه بِقُوَّةِ قَلْب حَبِيبه مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , حَيْثُ حَمَلَ الْخِطَاب وَلَمْ يُؤَثِّر ذَلِكَ فِيهِ لِعُلُوِّ حَاله .

أَيْ الرَّفِيع الْقَدْر . وَقِيلَ : الْكَرِيم ; قَالَهُ الْحَسَن . وَقِيلَ : الْكَثِير ; مَأْخُوذ مِنْ كَثْرَة الْقَدْر وَالْمَنْزِلَة لَا مِنْ كَثْرَة الْعَدَد , مِنْ قَوْلهمْ : كَثِير فُلَان فِي النُّفُوس ; وَمِنْهُ قَوْل الْعَرَب فِي الْمَثَل السَّائِر : " فِي كُلّ شَجَر نَار , وَاسْتَمْجَدَ الْمَرْخ وَالْعَفَار " . أَيْ اِسْتَكْثَرَ هَذَانِ النَّوْعَانِ مِنْ النَّار فَزَادَا عَلَى سَائِر الشَّجَر ; قَالَهُ اِبْن بَحْر . وَجَوَاب الْقَسَم قِيلَ هُوَ : " قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُص الْأَرْض مِنْهُمْ " عَلَى إِرَادَة اللَّام ; أَيْ لَقَدْ عَلِمْنَا . وَقِيلَ : هُوَ " إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى " وَهُوَ اِخْتِيَار التِّرْمِذِيّ مُحَمَّد بْن عَلِيّ قَالَ : " ق " قَسَم بِاسْمٍ هُوَ أَعْظَم الْأَسْمَاء الَّتِي خَرَجَتْ إِلَى الْعِبَاد وَهُوَ الْقُدْرَة , وَأَقْسَمَ أَيْضًا بِالْقُرْآنِ الْمَجِيد , ثُمَّ اِقْتَصَّ مَا خَرَجَ مِنْ الْقُدْرَة مِنْ خَلْق السَّمَاوَات وَالْأَرَضِينَ وَأَرْزَاق الْعِبَاد , وَخَلْق الْآدَمِيِّينَ , وَصِفَة يَوْم الْقِيَامَة وَالْجَنَّة وَالنَّار , ثُمَّ قَالَ : " إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْب " [ ق : 37 ] فَوَقَعَ الْقَسَم عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَة كَأَنَّهُ قَالَ : " ق " أَيْ بِالْقُدْرَةِ وَالْقُرْآن الْمَجِيد أَقْسَمْت أَنَّ فِيمَا اِقْتَصَصْت فِي هَذِهِ السُّورَة " لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْب أَوْ أَلْقَى السَّمْع وَهُوَ شَهِيد " [ ق : 37 ] . وَقَالَ اِبْن كَيْسَان : جَوَابه " مَا يَلْفِظ مِنْ قَوْل " . وَقَالَ أَهْل الْكُوفَة : جَوَاب هَذَا الْقَسَم " بَلْ عَجِبُوا " . وَقَالَ الْأَخْفَش : جَوَابه مَحْذُوف كَأَنَّهُ قَالَ : " ق وَالْقُرْآن الْمَجِيد " لَتُبْعَثُنَّ ; يَدُلّ عَلَيْهِ " أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا " .
بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءَهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌسورة ق الآية رقم 2
" أَنْ " فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى تَقْدِير لِأَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِر مِنْهُمْ , يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالضَّمِير لِلْكُفَّارِ . وَقِيلَ : لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّار جَمِيعًا . ثُمَّ مَيَّزَ بَيْنهمْ

وَلَمْ يَقُلْ فَقَالُوا , بَلْ قَبَّحَ حَالهمْ وَفِعْلهمْ وَوَصَفَهُمْ بِالْكُفْرِ , كَمَا تَقُول : جَاءَنِي فُلَان فَأَسْمَعَنِي الْمَكْرُوه , وَقَالَ لِي الْفَاسِق أَنْتَ كَذَا وَكَذَا .

الْعَجِيب الْأَمْر الَّذِي يُتَعَجَّب مِنْهُ , وَكَذَلِكَ الْعُجَاب بِالضَّمِّ , وَالْعُجَّاب بِالتَّشْدِيدِ أَكْثَر مِنْهُ , وَكَذَلِكَ الْأُعْجُوبَة . وَقَالَ قَتَادَة : عَجَّبَهُمْ أَنْ دُعُوا إِلَى إِلَه وَاحِد . وَقِيلَ : مِنْ إِنْذَارهمْ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُور . وَاَلَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الْقُرْآن أَوْلَى .
أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌسورة ق الآية رقم 3
نُبْعَث ; فَفِيهِ إِضْمَار .

الرَّجْع الرَّدّ أَيْ هُوَ رَدّ بَعِيد أَيْ مُحَال . يُقَال : رَجَعْته أَرْجِعهُ رَجْعًا , وَرَجَعَ هُوَ يَرْجِع رُجُوعًا , وَفِيهِ إِضْمَار آخَر ; أَيْ وَقَالُوا أَنُبْعَثُ إِذَا مِتْنَا . وَذِكْر الْبَعْث وَإِنْ لَمْ يَجْرِ هَا هُنَا فَقَدْ جَرَى فِي مَوَاضِع , وَالْقُرْآن كَالسُّورَةِ الْوَاحِدَة . وَأَيْضًا ذِكْر الْبَعْث مُنْطَوٍ تَحْت قَوْله : " بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِر مِنْهُمْ " لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُنْذِر بِالْعِقَابِ وَالْحِسَاب فِي الْآخِرَة .
قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌسورة ق الآية رقم 4
أَيْ مَا تَأْكُل مِنْ أَجْسَادهمْ فَلَا يَضِلّ عَنَّا شَيْء حَتَّى تَتَعَذَّر عَلَيْنَا الْإِعَادَة . وَفِي التَّنْزِيل : " قَالَ فَمَا بَال الْقُرُون الْأُولَى قَالَ عِلْمهَا عِنْد رَبِّي فِي كِتَاب لَا يَضِلّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى " [ طَه : 51 - 52 ] . وَفِي الصَّحِيح : ( كُلّ اِبْن آدَم يَأْكُلهُ التُّرَاب إِلَّا عَجْب الذَّنَب مِنْهُ خُلِقَ وَفِيهِ يُرَكَّب ) وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَثَبَتَ أَنَّ الْأَنْبِيَاء وَالْأَوْلِيَاء وَالشُّهَدَاء لَا تَأْكُل الْأَرْض أَجْسَادهمْ ; حَرَّمَ اللَّه عَلَى الْأَرْض أَنْ تَأْكُل أَجْسَادهمْ . وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَاب " التَّذْكِرَة " وَتَقَدَّمَ أَيْضًا فِي هَذَا الْكِتَاب . وَقَالَ السُّدِّيّ : النَّقْص هُنَا الْمَوْت يَقُول قَدْ عَلِمْنَا مِنْهُمْ مَنْ يَمُوت وَمَنْ يَبْقَى ; لِأَنَّ مَنْ مَاتَ دُفِنَ فَكَأَنَّ الْأَرْض تَنْقُص مِنْ النَّاس . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس : هُوَ مَنْ يَدْخُل فِي الْإِسْلَام مِنْ الْمُشْرِكِينَ .

أَيْ بِعِدَّتِهِمْ وَأَسْمَائِهِمْ فَهُوَ فَعِيل بِمَعْنَى فَاعِل . وَقِيلَ : اللَّوْح الْمَحْفُوظ أَيْ مَحْفُوظ مِنْ الشَّيَاطِين أَوْ مَحْفُوظ فِيهِ كُلّ شَيْء . وَقِيلَ : الْكِتَاب عِبَارَة عَنْ الْعِلْم وَالْإِحْصَاء ; كَمَا تَقُول : كَتَبْت عَلَيْك هَذَا أَيْ حَفِظْته ; وَهَذَا تَرْك الظَّاهِر مِنْ غَيْر ضَرُورَة . وَقِيلَ : أَيْ وَعِنْدنَا كِتَاب حَفِيظ لِأَعْمَالِ بَنِي آدَم لِنُحَاسِبهُمْ عَلَيْهَا .
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍسورة ق الآية رقم 5
أَيْ الْقُرْآن فِي قَوْل الْجَمِيع ; حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ . وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ : بِالْحَقِّ الْقُرْآن . وَقِيلَ : الْإِسْلَام . وَقِيلَ : مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

أَيْ مُخْتَلِط . يَقُولُونَ مَرَّة سَاحِر وَمَرَّة شَاعِر وَمَرَّة كَاهِن ; قَالَهُ الضَّحَّاك وَابْن زَيْد . وَقَالَ قَتَادَة : مُخْتَلِف . الْحَسَن : مُلْتَبِس ; وَالْمَعْنَى مُتَقَارِب . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة : فَاسِد , وَمِنْهُ مَرِجَتْ أَمَانَات النَّاس أَيْ فَسَدَتْ ; وَمَرِجَ الدِّين وَالْأَمْر اِخْتَلَطَ ; قَالَ أَبُو دَاوُد : مَرِجَ الدِّين فَأَعْدَدْت لَهُ مُشْرِف الْحَارِك مَحْبُوك الْكَتَد وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : الْمَرِيج الْأَمْر الْمُنْكَر . وَقَالَ عَنْهُ عِمْرَان بْن أَبِي عَطَاء : " مَرِيج " مُخْتَلِط . وَأَنْشَدَ : فَجَالَتْ فَالْتَمَسْت بِهِ حَشَاهَا فَخَرَّ كَأَنَّهُ خُوط مَرِيج الْخُوط الْغُصْن . وَقَالَ عَنْهُ الْعَوْفِيّ : فِي أَمْر ضَلَالَة وَهُوَ قَوْلهمْ سَاحِر شَاعِر مَجْنُون كَاهِن . وَقِيلَ : مُتَغَيِّر . وَأَصْل الْمَرَج الِاضْطِرَاب وَالْقَلَق ; يُقَال : مَرِجَ أَمْر النَّاس وَمَرِجَ أَمْر الدِّين وَمَرِجَ الْخَاتَم فِي إِصْبَعِي إِذَا قَلِقَ مِنْ الْهُزَال . وَفِي الْحَدِيث : ( كَيْف بِك يَا عَبْد اللَّه إِذَا كُنْت فِي قَوْم قَدْ مَرِجَتْ عُهُودهمْ وَأَمَانَاتهمْ وَاخْتَلَفُوا فَكَانُوا هَكَذَا وَهَكَذَا ) وَشَبَّكَ بَيْن أَصَابِعه . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَاب " التَّذْكِرَة " .
أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍسورة ق الآية رقم 6
نَظَر اِعْتِبَار وَتَفَكُّر , وَأَنَّ الْقَادِر عَلَى إِيجَادهَا قَادِر عَلَى الْإِعَادَة .

فَرَفَعْنَاهَا بِلَا عُمُد

بِالنُّجُومِ

جَمْع فَرْج وَهُوَ الشَّقّ ; وَمِنْهُ قَوْل اِمْرِئِ الْقَيْس : تَسُدّ بِهِ فَرْجهَا مِنْ دُبُر وَقَالَ الْكِسَائِيّ : لَيْسَ فِيهَا تَفَاوُت وَلَا اِخْتِلَاف وَلَا فُتُوق .
وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍسورة ق الآية رقم 7
أَيْ بَسَطَ الْأَرْض طُولًا وَعَرْضًا .

مَسْأَلَة : فِي هَذِهِ الْآيَة رَدّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْأَرْض كَالْكُرَةِ , وَرَدّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْأَرْض تَهْوِي أَبْوَابهَا عَلَيْهَا ; وَزَعَمَ اِبْن الرَّاوَنْدِيّ أَنَّ تَحْت الْأَرْض جِسْمًا صَعَّادًا كَالرِّيحِ الصَّعَّادَة ; وَهِيَ مُنْحَدِرَة فَاعْتَدَلَ الْهَاوِي وَالصَّعَّادِي فِي الْجِرْم وَالْقُوَّة فَتَوَافَقَا . وَزَعَمَ آخَرُونَ أَنَّ الْأَرْض مُرَكَّب مِنْ جِسْمَيْنِ , أَحَدهمَا مُنْحَدِر , وَالْآخَر مُصْعِد , فَاعْتَدَلَا , فَلِذَلِكَ وَقَفَتْ . وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَأَهْل الْكِتَاب الْقَوْل بِوُقُوفِ الْأَرْض وَسُكُونهَا وَمَدّهَا , وَأَنَّ حَرَكَتهَا إِنَّمَا تَكُون فِي الْعَادَة بِزَلْزَلَةٍ تُصِيبهَا .

أَيْ جِبَالًا ثَوَابِت ; وَاحِدهَا رَاسِيَة ; لِأَنَّ الْأَرْض تَرْسُو بِهَا , أَيْ تَثْبُت ; وَالْإِرْسَاء الثُّبُوت ; قَالَ عَنْتَرَة : فَصَبَرَتْ عَارِفَة لِذَلِكَ حُرَّة تَرْسُو إِذَا نَفْس الْجَبَان تَطَلَّع وَقَالَ جَمِيل : أَحُبّهَا الَّذِي أَرْسَى قَوَاعِده حُبًّا إِذَا ظَهَرَتْ آيَاته بَطَنَا وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَعَطَاء : أَوَّل جَبَل وُضِعَ عَلَى الْأَرْض أَبُو قُبَيْس .

أَيْ مِنْ كُلّ نَوْع مِنْ النَّبَات

أَيْ حَسَن يَسُرّ النَّاظِرِينَ ; وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْحَجّ " بَيَانه .
تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍسورة ق الآية رقم 8
أَيْ جَعَلْنَا ذَلِكَ تَبْصِرَة لِنَدُلّ بِهِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتنَا . وَقَالَ أَبُو حَاتِم : نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَر ; يَعْنِي جَعَلْنَا ذَلِكَ تَبْصِيرًا وَتَنْبِيهًا عَلَى قُدْرَتنَا " وَذِكْرَى " مَعْطُوف عَلَيْهِ .

رَاجِع إِلَى اللَّه تَعَالَى , مُفَكِّر فِي قُدْرَته .
وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِسورة ق الآية رقم 9
أَيْ مِنْ السَّحَاب

أَيْ كَثِير الْبَرَكَة .

التَّقْدِير : وَحَبّ النَّبْت الْحَصِيد وَهُوَ كُلّ مَا يُحْصَد . هَذَا قَوْل الْبَصْرِيِّينَ . وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ : هُوَ مِنْ بَاب إِضَافَة الشَّيْء إِلَى نَفْسه , كَمَا يُقَال : مَسْجِد الْجَامِع وَرَبِيع الْأَوَّل وَحَقّ الْيَقِين وَحَبْل الْوَرِيد وَنَحْوهَا ; قَالَ الْفَرَّاء . وَالْأَصْل الْحَبّ الْحَصِيد فَحُذِفَتْ الْأَلِف وَاللَّام وَأُضِيفَ الْمَنْعُوت إِلَى النَّعْت . وَقَالَ الضَّحَّاك : حَبّ الْحَصِيد الْبُرّ وَالشَّعِير . وَقِيلَ : كُلّ حَبّ يُحْصَد وَيُدَّخَر وَيُقْتَات .
وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌسورة ق الآية رقم 10
نَصْب عَلَى الْحَال رَدًّا عَلَى قَوْله : " وَحَبّ الْحَصِيد " وَ " بَاسِقَات " حَال . وَالْبَاسِقَات الطِّوَال قَالَهُ مُجَاهِد وَعِكْرِمَة . وَقَالَ قَتَادَة وَعَبْد اللَّه بْن شَدَّاد : بِسُوقِهَا اِسْتِقَامَتهَا فِي الطُّول . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : مُسْتَوِيَات . وَقَالَ الْحَسَن وَعِكْرِمَة أَيْضًا وَالْفَرَّاء : مَوَاقِير حَوَامِل ; يُقَال لِلشَّاةِ بَسَقَتْ إِذَا وَلَدَتْ , قَالَ الشَّاعِر : فَلَمَّا تَرَكْنَا الدَّار ظَلَّتْ مُنِيفَة بِقُرَّانَ فِيهِ الْبَاسِقَات الْمَوَاقِر وَالْأَوَّل فِي اللُّغَة أَكْثَر وَأَشْهَر ; يُقَال بَسَقَ النَّخْل بُسُوقًا إِذَا طَالَ . قَالَ : لَنَا خَمْر وَلَيْسَتْ خَمْر كَرْم وَلَكِنْ مِنْ نِتَاج الْبَاسِقَات كِرَام فِي السَّمَاء ذَهَبْنَ طُولًا وَفَاتَ ثِمَارهَا أَيْدِي الْجُنَاة وَيُقَال : بَسَقَ فُلَان عَلَى أَصْحَابه أَيْ عَلَاهُمْ , وَأَبْسَقَتْ النَّاقَة إِذَا وَقَعَ فِي ضَرْعهَا اللَّبَن قَبْل النِّتَاج فَهِيَ مُبْسِق وَنُوق مَبَاسِيق . وَقَالَ قُطْبَة بْن مَالِك : سَمِعْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأ " بَاصِقَات " بِالصَّادِ ; ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ . قُلْت : الَّذِي فِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ قُطْبَة بْن مَالِك قَالَ : صَلَّيْت وَصَلَّى بِنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ " ق وَالْقُرْآن الْمَجِيد " حَتَّى قَرَأَ " وَالنَّخْل بَاسِقَات " قَالَ فَجَعَلْت أُرَدِّدهَا وَلَا أَدْرِي مَا قَالَ ; إِلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوز إِبْدَال الصَّاد مِنْ السِّين لِأَجْلِ الْقَاف .

الطَّلْع هُوَ أَوَّل مَا يَخْرُج مِنْ ثَمَر النَّخْل ; يُقَال : طَلَعَ الطَّلْع طُلُوعًا وَأَطْلَعَتْ النَّخْلَة , وَطَلْعهَا كُفُرَّاهَا قَبْل أَنْ يَنْشَقّ . " نَضِيد " أَيْ مُتَرَاكِب قَدْ نَضَدَ بَعْضه عَلَى بَعْض . وَفِي الْبُخَارِيّ " النَّضِيد " الْكُفُرَّى مَا دَامَ فِي أَكْمَامه وَمَعْنَاهُ مَنْضُود بَعْضه عَلَى بَعْض ; فَإِذَا خَرَجَ مِنْ أَكْمَامه فَلَيْسَ بِنَضِيدٍ .
رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُسورة ق الآية رقم 11
أَيْ رَزَقْنَاهُمْ رِزْقًا , أَوْ عَلَى مَعْنَى أَنْبَتْنَاهَا رِزْقًا ; لِأَنَّ الْإِنْبَات فِي مَعْنَى الرِّزْق , أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُول لَهُ أَيْ أَنْبَتْنَاهَا لِرِزْقِهِمْ , وَالرِّزْق مَا كَانَ مُهَيَّأ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْل فِيهِ .

أَيْ مِنْ الْقُبُور أَيْ كَمَا أَحْيَا اللَّه هَذِهِ الْأَرْض الْمَيْتَة فَكَذَلِكَ يُخْرِجكُمْ أَحْيَاء بَعْد مَوْتكُمْ ; فَالْكَاف فِي مَحَلّ رَفْع عَلَى الِابْتِدَاء . وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْر مَوْضِع . وَقَالَ " مَيْتًا " لِأَنَّ الْمَقْصُود الْمَكَان وَلَوْ قَالَ مَيْتَة لَجَازَ .
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُسورة ق الآية رقم 12
أَيْ كَمَا كَذَّبَ هَؤُلَاءِ فَكَذَلِكَ كَذَّبَ أُولَئِكَ فَحَلَّ بِهِمْ الْعِقَاب ; ذَكَّرَهُمْ نَبَأ مَنْ كَانَ قَبْلهمْ مِنْ الْمُكَذِّبِينَ وَخَوَّفَهُمْ مَا أَخَذَهُمْ . وَقَدْ ذَكَرْنَا قَصَصهمْ فِي غَيْر مَوْضِع عِنْد ذِكْرهمْ .

أَيْ كَمَا كَذَّبَ هَؤُلَاءِ فَكَذَلِكَ كَذَّبَ أُولَئِكَ فَحَلَّ بِهِمْ الْعِقَاب ; ذَكَّرَهُمْ نَبَأ مَنْ كَانَ قَبْلهمْ مِنْ الْمُكَذِّبِينَ وَخَوَّفَهُمْ مَا أَخَذَهُمْ . وَقَدْ ذَكَرْنَا قَصَصهمْ فِي غَيْر مَوْضِع عِنْد ذِكْرهمْ .
وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍسورة ق الآية رقم 13
أَيْ كَمَا كَذَّبَ هَؤُلَاءِ فَكَذَلِكَ كَذَّبَ أُولَئِكَ فَحَلَّ بِهِمْ الْعِقَاب ; ذَكَّرَهُمْ نَبَأ مَنْ كَانَ قَبْلهمْ مِنْ الْمُكَذِّبِينَ وَخَوَّفَهُمْ مَا أَخَذَهُمْ . وَقَدْ ذَكَرْنَا قَصَصهمْ فِي غَيْر مَوْضِع عِنْد ذِكْرهمْ .
وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِسورة ق الآية رقم 14
مِنْ هَذِهِ الْأُمَم الْمُكَذِّبَة .

أَيْ فَحَقَّ عَلَيْهِمْ وَعِيدِي وَعِقَابِي .
أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍسورة ق الآية رقم 15
أَيْ أَفَعَيِينَا بِهِ فَنَعْيَا بِالْبَعْثِ . وَهَذَا تَوْبِيخ لِمُنْكِرِي الْبَعْث وَجَوَاب قَوْلهمْ : " ذَلِكَ رَجْع بَعِيد " [ ق : 3 ] . يُقَال : عَيِيت بِالْأَمْرِ إِذَا لَمْ تَعْرِف وَجْهه .

أَيْ فِي حِيرَة مِنْ الْبَعْث مِنْهُمْ مُصَدِّق وَمِنْهُمْ مُكَذِّب ; يُقَال : لَبَسَ عَلَيْهِ الْأَمْر يَلْبِسهُ لَبْسًا .
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِسورة ق الآية رقم 16
يَعْنِي النَّاس , وَقِيلَ آدَم .

أَيْ مَا يَخْتَلِج فِي سِرّه وَقَلْبه وَضَمِيره , وَفِي هَذَا زَجْر عَنْ الْمَعَاصِي الَّتِي يَسْتَخْفِي بِهَا . وَمَنْ قَالَ : إِنَّ الْمُرَاد بِالْإِنْسَانِ آدَم ; فَاَلَّذِي وَسْوَسَتْ بِهِ نَفْسه هُوَ الْأَكْل مِنْ الشَّجَرَة , ثُمَّ هُوَ عَامّ لِوَلَدِهِ . وَالْوَسْوَسَة حَدِيث النَّفْس بِمَنْزِلَةِ الْكَلَام الْخَفِيّ . قَالَ الْأَعْشَى : تَسْمَع لِلْحَلْيِ وَسْوَاسًا إِذَا اِنْصَرَفَتْ كَمَا اِسْتَعَانَ بِرِيحٍ عِشْرِق زَجِل وَقَدْ مَضَى فِي " الْأَعْرَاف " .

هُوَ حَبْل الْعَاتِق وَهُوَ مُمْتَدّ مِنْ نَاحِيَة حَلْقه إِلَى عَاتِقه , وَهُمَا وَرِيدَانِ عَنْ يَمِين وَشِمَال . رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره وَهُوَ الْمَعْرُوف فِي اللُّغَة . وَالْحَبْل هُوَ الْوَرِيد فَأُضِيفَ إِلَى نَفْسه لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ . وَقَالَ الْحَسَن : الْوَرِيد الْوَتِين وَهُوَ عِرْق مُعَلَّق بِالْقَلْبِ . وَهَذَا تَمْثِيل لِلْقُرْبِ ; أَيْ نَحْنُ أَقْرَب إِلَيْهِ مِنْ حَبْل وَرِيده الَّذِي هُوَ مِنْهُ , وَلَيْسَ عَلَى وَجْه قُرْب الْمَسَافَة . وَقِيلَ : أَيْ وَنَحْنُ أَمْلَك بِهِ مِنْ حَبْل وَرِيده مَعَ اِسْتِيلَائِهِ عَلَيْهِ . وَقِيلَ : أَيْ وَنَحْنُ أَعْلَم بِمَا تُوَسْوِس بِهِ نَفْسه مِنْ حَبْل وَرِيده الَّذِي هُوَ مِنْ نَفْسه ; لِأَنَّهُ عِرْق يُخَالِط الْقَلْب , فَعِلْم الرَّبّ أَقْرَب إِلَيْهِ مِنْ عِلْم الْقَلْب , رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ مُقَاتِل قَالَ : الْوَرِيد عِرْق يُخَالِط الْقَلْب , وَهَذَا الْقُرْب قُرْب الْعِلْم وَالْقُدْرَة , وَأَبْعَاض الْإِنْسَان يَحْجُب الْبَعْض الْبَعْض وَلَا يَحْجُب عِلْم اللَّه شَيْء .
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌسورة ق الآية رقم 17
أَيْ نَحْنُ أَقْرَب إِلَيْهِ مِنْ حَبْل وَرِيده حِين يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ , وَهُمَا الْمَلَكَانِ الْمُوَكَّلَانِ بِهِ , أَيْ نَحْنُ أَعْلَم بِأَحْوَالِهِ فَلَا نَحْتَاج إِلَى مَلَك يُخْبِر وَلَكِنَّهُمَا وُكِّلَا بِهِ إِلْزَامًا لِلْحُجَّةِ , وَتَوْكِيدًا لِلْأَمْرِ عَلَيْهِ . وَقَالَ الْحَسَن وَمُجَاهِد وَقَتَادَة : " الْمُتَلَقِّيَانِ " مَلَكَانِ يَتَلَقَّيَانِ عَمَلك : أَحَدهمَا عَنْ يَمِينك يَكْتُب حَسَنَاتك , وَالْآخَر عَنْ شِمَالك يَكْتُب سَيِّئَاتك . قَالَ الْحَسَن : حَتَّى إِذَا مُتّ طُوِيَتْ صَحِيفَة عَمَلك وَقِيلَ لَك يَوْم الْقِيَامَة : " اِقْرَأْ كِتَابك كَفَى بِنَفْسِك الْيَوْم عَلَيْك حَسِيبًا " [ الْإِسْرَاء : 14 ] عَدَلَ وَاَللَّه عَلَيْك مَنْ جَعَلَك حَسِيب نَفْسك . وَقَالَ مُجَاهِد : وَكَّلَ اللَّه بِالْإِنْسَانِ مَعَ عِلْمه بِأَحْوَالِهِ مَلَكَيْنِ بِاللَّيْلِ وَمَلَكَيْنِ بِالنَّهَارِ يَحْفَظَانِ عَمَله , وَيَكْتُبَانِ أَثَره إِلْزَامًا لِلْحُجَّةِ : أَحَدهمَا عَنْ يَمِينه يَكْتُب الْحَسَنَات , وَالْآخَر عَنْ شِمَاله يَكْتُب السَّيِّئَات , فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " عَنْ الْيَمِين وَعَنْ الشِّمَال قَعِيد " . وَقَالَ سُفْيَان : بَلَغَنِي أَنَّ كَاتِب الْحَسَنَات أَمِين عَلَى كَاتِب السَّيِّئَات فَإِذَا أَذْنَبَ الْعَبْد قَالَ لَا تَعْجَل لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِر اللَّه . وَرُوِيَ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيث أَبِي أُمَامَة ; قَالَ : قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كَاتِب الْحَسَنَات عَلَى يَمِين الرَّجُل وَكَاتِب السَّيِّئَات عَلَى يَسَاره وَكَاتِب الْحَسَنَات أَمِين عَلَى كَاتِب السَّيِّئَات فَإِذَا عَمِلَ حَسَنَة كَتَبَهَا صَاحِب الْيَمِين عَشْرًا وَإِذَا عَمِلَ سَيِّئَة قَالَ صَاحِب الْيَمِين لِصَاحِبِ الشِّمَال دَعْهُ سَبْع سَاعَات لَعَلَّهُ يُسَبِّح أَوْ يَسْتَغْفِر ) . وَرُوِيَ مِنْ حَدِيث عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ مَقْعَد مَلَكَيْك عَلَى ثَنِيَّتك لِسَانك قَلَمهمَا وَرِيقك مِدَادهمَا وَأَنْتَ تَجْرِي فِيمَا لَا يَعْنِيك فَلَا تَسْتَحِي مِنْ اللَّه وَلَا مِنْهُمَا ) . وَقَالَ الضَّحَّاك : مَجْلِسهمَا تَحْت الثَّغْر . عَلَى الْحَنَك . وَرَوَاهُ عَوْف عَنْ الْحَسَن قَالَ : وَكَانَ الْحَسَن يُعْجِبهُ أَنْ يُنَظِّف عَنْفَقَته . وَإِنَّمَا قَالَ : " قَعِيد " وَلَمْ يَقُلْ قَعِيدَانِ وَهُمَا اِثْنَانِ ; لِأَنَّ الْمُرَاد عَنْ الْيَمِين قَعِيد وَعَنْ الشِّمَال قَعِيد فَحُذِفَ الْأَوَّل لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ . قَالَهُ سِيبَوَيْهِ ; وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : نَحْنُ بِمَا عِنْدنَا وَأَنْتَ بِمَا عِنْدك رَاضٍ وَالرَّأْي مُخْتَلِف وَقَالَ الْفَرَزْدَق : إِنِّي ضَمِنْت لِمَنْ أَتَانِي مَا جَنَى وَأَبَى فَكَانَ وَكُنْت غَيْر غَدُور وَلَمْ يَقُلْ رَاضِيَانِ وَلَا غَدُورَيْنِ . وَمَذْهَب الْمُبَرِّد : أَنَّ الَّذِي فِي التِّلَاوَة أَوَّل أُخِّرَ اِتِّسَاعًا , وَحُذِفَ الثَّانِي لِدَلَالَةِ الْأَوَّل عَلَيْهِ . وَمَذْهَب الْأَخْفَش وَالْفَرَّاء : أَنَّ الَّذِي فِي التِّلَاوَة يُؤَدِّي عَنْ الِاثْنَيْنِ وَالْجَمْع وَلَا حَذْف فِي الْكَلَام . وَ " قَعِيد " بِمَعْنَى قَاعِد كَالسَّمِيعِ وَالْعَلِيم وَالْقَدِير وَالشَّهِيد . وَقِيلَ : " قَعِيد " بِمَعْنَى مُقَاعَد مِثْل أَكِيل وَنَدِيم بِمَعْنَى مُؤَاكَل وَمُنَادَم . وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ : فَعِيل وَفَعُول مِمَّا يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِد وَالِاثْنَانِ وَالْجَمْع ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " إِنَّا رَسُول رَبّ الْعَالَمِينَ " [ الشُّعَرَاء : 16 ] وَقَوْله : " وَالْمَلَائِكَة بَعْد ذَلِكَ ظَهِير " [ التَّحْرِيم : 4 ] . وَقَالَ الشَّاعِر فِي الْجَمْع , أَنْشَدَهُ الثَّعْلَبِيّ : أَلِكْنِي إِلَيْهَا وَخَيْر الرَّسُو ل أَعْلَمهُمْ بِنَوَاحِي الْخَبَر وَالْمُرَاد بِالْقَعِيدِ هَاهُنَا الْمُلَازِم الثَّابِت لَا ضِدّ الْقَائِم .
مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌسورة ق الآية رقم 18
أَيْ مَا يَتَكَلَّم بِشَيْءٍ إِلَّا كُتِبَ عَلَيْهِ ; مَأْخُوذ مِنْ لَفْظ الطَّعَام وَهُوَ إِخْرَاجه مِنْ الْفَم . وَفِي الرَّقِيب ثَلَاثَة أَوْجُه : أَحَدهَا أَنَّهُ الْمُتَّبِع لِلْأُمُورِ . الثَّانِي أَنَّهُ الْحَافِظ , قَالَهُ السُّدِّيّ . الثَّالِث أَنَّهُ الشَّاهِد , قَالَهُ الضَّحَّاك . وَفِي الْعَتِيد وَجْهَانِ : أَحَدهمَا أَنَّهُ الْحَاضِر الَّذِي لَا يَغِيب . الثَّانِي أَنَّهُ الْحَافِظ الْمُعَدّ إِمَّا لِلْحِفْظِ وَإِمَّا لِلشَّهَادَةِ . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : الْعَتِيد الشَّيْء الْحَاضِر الْمُهَيَّأ ; وَقَدْ عَتَّدَهُ تَعْتِيدًا وَأَعْتَدَهُ إِعْتَادًا أَيْ أَعَدَّهُ لِيَوْمٍ , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأ " [ يُوسُف : 31 ] وَفَرَس عَتَد وَعَتِد بِفَتْحِ التَّاء وَكَسْرهَا الْمُعَدّ لِلْجَرْيِ . قُلْت وَكُلّه يَرْجِع إِلَى مَعْنَى الْحُضُور , وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : لَئِنْ كُنْت مِنِّي فِي الْعِيَان مُغَيَّبًا فَذِكْرك عِنْدِي فِي الْفُؤَاد عَتِيد قَالَ أَبُو الْجَوْزَاء وَمُجَاهِد : يُكْتَب عَلَى الْإِنْسَان كُلّ شَيْء حَتَّى الْأَنِين فِي مَرَضه . وَقَالَ عِكْرِمَة : لَا يُكْتَب إِلَّا مَا يُؤْجَر بِهِ أَوْ يُؤْزَر عَلَيْهِ . وَقِيلَ : يُكْتَب عَلَيْهِ كُلّ مَا يَتَكَلَّم بِهِ , فَإِذَا كَانَ آخِر النَّهَار مُحِيَ عَنْهُ مَا كَانَ مُبَاحًا , نَحْو اِنْطَلِقْ اُقْعُدْ كُلْ , مِمَّا لَا يَتَعَلَّق بِهِ أَجْر وَلَا وِزْر , وَاَللَّه أَعْلَم . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة وَأَنَس أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَا مِنْ حَافِظَيْنِ يَرْفَعَانِ إِلَى اللَّه مَا حَفِظَا فَيَرَى اللَّه فِي أَوَّل الصَّحِيفَة خَيْرًا وَفِي آخِرهَا خَيْرًا إِلَّا قَالَ اللَّه تَعَالَى لِمَلَائِكَتِهِ اِشْهَدُوا أَنِّي قَدْ غَفَرْت لِعَبْدِي مَا بَيْن طَرَفَيْ الصَّحِيفَة ) . وَقَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : ( إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَة مَعَهُمْ صُحُف بِيض فَأَمْلُوا فِي أَوَّلهَا وَفِي آخِرهَا خَيْرًا يُغْفَر لَكُمْ مَا بَيْن ذَلِكَ ) . وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْم الْحَافِظ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو طَاهِر مُحَمَّد بْن الْفَضْل بْن مُحَمَّد بْن إِسْحَاق بْن خُزَيْمَة قَالَ حَدَّثَنَا جَدِّي مُحَمَّد بْن إِسْحَاق قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مُوسَى الْحَرَشِيّ قَالَ حَدَّثَنَا سُهَيْل بْن عَبْد اللَّه قَالَ : سَمِعْت الْأَعْمَش يُحَدِّث عَنْ زَيْد بْن وَهْب عَنْ اِبْن مَسْعُود , قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ الْحَافِظَيْنِ إِذَا نَزَلَا عَلَى الْعَبْد أَوْ الْأَمَة مَعَهُمَا كِتَاب مَخْتُوم فَيَكْتُبَانِ مَا يَلْفِظ بِهِ الْعَبْد أَوْ الْأَمَة فَإِذَا أَرَادَا أَنْ يَنْهَضَا قَالَ أَحَدهمَا لِلْآخَرِ فُكَّ الْكِتَاب الْمَخْتُوم الَّذِي مَعَك فَيَفُكّهُ لَهُ فَإِذَا فِيهِ مَا كَتَبَ سَوَاء فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى " مَا يَلْفِظ مِنْ قَوْل إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيب عَتِيد " غَرِيب , مِنْ حَدِيث الْأَعْمَش عَنْ زَيْد , لَمْ يَرْوِهِ عَنْهُ إِلَّا سُهَيْل . وَرُوِيَ مِنْ حَدِيث أَنَس أَنَّ نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ اللَّه وَكَّلَ بِعَبْدِهِ مَلَكَيْنِ يَكْتُبَانِ عَمَله فَإِذَا مَاتَ قَالَا رَبّنَا قَدْ مَاتَ فُلَان فَأْذَنْ لَنَا أَنْ نَصْعَد إِلَى السَّمَاء فَيَقُول اللَّه تَعَالَى , إِنَّ سَمَاوَاتِي مَمْلُوءَة مِنْ مَلَائِكَتِي يُسَبِّحُونَنِي فَيَقُولَانِ رَبّنَا نُقِيم فِي الْأَرْض فَيَقُول اللَّه تَعَالَى إِنَّ أَرْضِي مَمْلُوءَة مِنْ خَلْقِي يُسَبِّحُونَنِي فَيَقُولَانِ يَا رَبّ فَأَيْنَ نَكُون فَيَقُول اللَّه تَعَالَى كُونَا عَلَى قَبْر عَبْدِي فَكَبِّرَانِي وَهَلِّلَانِي وَسَبِّحَانِي وَاكْتُبَا ذَلِكَ لِعَبْدِي إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ) .
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُسورة ق الآية رقم 19
أَيْ غَمَرَتْهُ شِدَّته ; فَالْإِنْسَان مَا دَامَ حَيًّا تُكْتَب عَلَيْهِ أَقْوَال وَأَفْعَال لِيُحَاسَب عَلَيْهَا , ثُمَّ يَجِيئهُ الْمَوْت وَهُوَ مَا يَرَاهُ عِنْد الْمُعَايَنَة مِنْ ظُهُور الْحَقّ فِيمَا كَانَ اللَّه تَعَالَى وَعَدَهُ وَأَوْعَدَهُ . وَقِيلَ : الْحَقّ هُوَ الْمَوْت سُمِّيَ حَقًّا إِمَّا لِاسْتِحْقَاقِهِ وَإِمَّا لِانْتِقَالِهِ إِلَى دَار الْحَقّ ; فَعَلَى هَذَا يَكُون فِي الْكَلَام تَقْدِيم وَتَأْخِير , وَتَقْدِيره وَجَاءَتْ سَكْرَة الْحَقّ بِالْمَوْتِ , وَكَذَلِكَ فِي قِرَاءَة أَبِي بَكْر وَابْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا ; لِأَنَّ السَّكْرَة هِيَ الْحَقّ فَأُضِيفَتْ إِلَى نَفْسهَا لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ . وَقِيلَ : يَجُوز أَنْ يَكُون الْحَقّ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَة هُوَ اللَّه تَعَالَى ; أَيْ جَاءَتْ سَكْرَة أَمْر اللَّه تَعَالَى بِالْمَوْتِ . وَقِيلَ : الْحَقّ هُوَ الْمَوْت وَالْمَعْنَى وَجَاءَتْ سَكْرَة الْمَوْت بِالْمَوْتِ ; ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيّ . وَقَدْ زَعَمَ مَنْ طَعَنَ عَلَى الْقُرْآن فَقَالَ : أُخَالِف الْمُصْحَف كَمَا خَالَفَ أَبُو بَكْر الصِّدِّيق فَقَرَأَ : وَجَاءَتْ سَكْرَة الْحَقّ بِالْمَوْتِ . فَاحْتُجَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ أَبَا بَكْر رُوِيَتْ عَنْهُ رِوَايَتَانِ : إِحْدَاهُمَا مُوَافِقَة لِلْمُصْحَفِ فَعَلَيْهَا الْعَمَل , وَالْأُخْرَى مَرْفُوضَة تَجْرِي مَجْرَى النِّسْيَان مِنْهُ إِنْ كَانَ قَالَهَا , أَوْ الْغَلَط مِنْ بَعْض مَنْ نَقَلَ الْحَدِيث . قَالَ أَبُو بَكْر الْأَنْبَارِيّ : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن إِسْحَاق الْقَاضِي حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن عَبْد اللَّه حَدَّثَنَا جَرِير عَنْ مَنْصُور عَنْ أَبِي وَائِل عَنْ مَسْرُوق قَالَ : لَمَّا اِحْتُضِرَ أَبُو بَكْر أَرْسَلَ إِلَى عَائِشَة فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَالَتْ : هَذَا كَمَا قَالَ الشَّاعِر : إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْر فَقَالَ أَبُو بَكْر : هَلَّا قُلْت كَمَا قَالَ اللَّه : " وَجَاءَتْ سَكْرَة الْمَوْت بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْت مِنْهُ تَحِيد " وَذَكَرَ الْحَدِيث . وَالسَّكْرَة وَاحِدَة السَّكَرَات . وَفِي الصَّحِيح عَنْ عَائِشَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ بَيْن يَدَيْهِ رَكْوَة - أَوْ عُلْبَة - فِيهَا مَاء فَجَعَلَ يُدْخِل يَدَيْهِ فِي الْمَاء , فَيَمْسَح بِهِمَا وَجْهه وَيَقُول : ( لَا إِلَه إِلَّا اللَّه إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَات ) ثُمَّ نَصَبَ يَده فَجَعَلَ يَقُول : ( فِي الرَّفِيق الْأَعْلَى ) حَتَّى قُبِضَ وَمَالَتْ يَده . خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( إِنَّ الْعَبْد الصَّالِح لَيُعَالِج الْمَوْت وَسَكَرَاته وَإِنَّ مَفَاصِله لَيُسَلِّم بَعْضهَا عَلَى بَعْض تَقُول السَّلَام عَلَيْك تُفَارِقنِي وَأُفَارِقك إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ) . وَقَالَ عِيسَى اِبْن مَرْيَم : " يَا مَعْشَر الْحَوَارِيِّينَ اُدْعُوا اللَّه أَنْ يُهَوِّن عَلَيْكُمْ هَذِهِ السَّكْرَة " يَعْنِي سَكَرَات الْمَوْت . وَرُوِيَ : ( إِنَّ الْمَوْت أَشَدّ مِنْ ضَرْب بِالسُّيُوفِ وَنَشْر بِالْمَنَاشِيرِ وَقَرْض بِالْمَقَارِيضِ ) .

أَيْ يُقَال لِمَنْ جَاءَتْهُ سَكْرَة الْمَوْت ذَلِكَ مَا كُنْت تَفِرّ مِنْهُ وَتَمِيل عَنْهُ . يُقَال : حَادَ عَنْ الشَّيْء يَحِيد حُيُودًا وَحَيْدَة وَحَيْدُودَة مَالَ عَنْهُ وَعَدَلَ . وَأَصْله حَيَدُودَة بِتَحْرِيكِ الْيَاء فَسُكِّنَتْ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَام فَعْلُول غَيْر صَعْفُوق . وَتَقُول فِي الْإِخْبَار عَنْ نَفْسك : حِدْت عَنْ الشَّيْء أَحِيد حَيْدًا وَمَحِيدًا إِذَا مِلْت عَنْهُ قَالَ طَرَفَة : أَبَا مُنْذِر رُمْت الْوَفَاء فَهِبْته وَحِدْت كَمَا حَادَ الْبَعِير عَنْ الدَّحْض
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِسورة ق الآية رقم 20
هِيَ النَّفْخَة الْآخِرَة لِلْبَعْثِ

الَّذِي وَعَدَهُ اللَّه لِلْكُفَّارِ أَنْ يُعَذِّبهُمْ فِيهِ . وَقَدْ مَضَى الْكَلَام فِي النَّفْخ فِي الصُّور مُسْتَوْفًى وَالْحَمْد لِلَّهِ .
وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌسورة ق الآية رقم 21
اُخْتُلِفَ فِي السَّائِق وَالشَّهِيد ; فَقَالَ اِبْن عَبَّاس : السَّائِق مِنْ الْمَلَائِكَة وَالشَّهِيد مِنْ أَنْفُسهمْ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُل ; رَوَاهُ . الْعَوْفِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة : السَّائِق الْمَلَك وَالشَّهِيد الْعَمَل . وَقَالَ الْحَسَن وَقَتَادَة : الْمَعْنَى سَائِق يَسُوقهَا وَشَاهِد يَشْهَد عَلَيْهَا بِعَمَلِهَا . وَقَالَ اِبْن مُسْلِم : السَّائِق قَرِينهَا مِنْ الشَّيَاطِين سُمِّيَ سَائِقًا لِأَنَّهُ يَتْبَعهَا وَإِنْ لَمْ يَحُثّهَا . وَقَالَ مُجَاهِد : السَّائِق وَالشَّهِيد مَلَكَانِ . وَعَنْ عُثْمَان بْن عَفَّان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَر : " وَجَاءَتْ كُلّ نَفْس مَعَهَا سَائِق وَشَهِيد " سَائِق : مَلَك يَسُوقهَا إِلَى أَمْر اللَّه , وَشَهِيد : يَشْهَد عَلَيْهَا بِعَمَلِهَا . قُلْت : هَذَا أَصَحّ فَإِنَّ فِي حَدِيث جَابِر بْن عَبْد اللَّه قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( إِنَّ اِبْن آدَم لَفِي غَفْلَة عَمَّا خَلَقَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَهُ إِنَّ اللَّه لَا إِلَه غَيْره إِذَا أَرَادَ خَلْقه قَالَ لِلْمَلَكِ اُكْتُبْ رِزْقه وَأَثَره وَأَجَله وَاكْتُبْهُ شَقِيًّا أَوْ سَعِيدًا ثُمَّ يَرْتَفِع ذَلِكَ الْمَلَك وَيَبْعَث اللَّه مَلَكًا آخَر فَيَحْفَظهُ حَتَّى يُدْرِك ثُمَّ يَبْعَث اللَّه مَلَكَيْنِ يَكْتُبَانِ حَسَنَاته وَسَيِّئَاته فَإِذَا جَاءَهُ الْمَوْت اِرْتَفَعَ ذَلِكَ الْمَلَكَانِ ثُمَّ جَاءَ مَلَك الْمَوْت عَلَيْهِ السَّلَام فَيَقْبِض رُوحه فَإِذَا أُدْخِلَ حُفْرَته رَدَّ الرُّوح فِي جَسَده ثُمَّ يَرْتَفِع مَلَك الْمَوْت ثُمَّ جَاءَهُ مَلَكَا الْقَبْر فَامْتَحَنَاهُ ثُمَّ يَرْتَفِعَانِ فَإِذَا قَامَتْ السَّاعَة اِنْحَطَّ عَلَيْهِ مَلَك الْحَسَنَات وَمَلَك السَّيِّئَات فَأَنْشَطَا كِتَابًا مَعْقُودًا فِي عُنُقه ثُمَّ حَضَرَا مَعَهُ وَاحِد سَائِق وَالْآخَر شَهِيد ثُمَّ قَالَ اللَّه تَعَالَى " لَقَدْ كُنْت فِي غَفْلَة مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْك غِطَاءَك فَبَصَرك الْيَوْم حَدِيد " قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَق قَالَ : ( حَالًا بَعْد حَال ) ثُمَّ قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ قُدَّامكُمْ أَمْرًا عَظِيمًا فَاسْتَعِينُوا بِاَللَّهِ الْعَظِيم ) خَرَّجَهُ أَبُو نُعَيْم الْحَافِظ مِنْ حَدِيث جَعْفَر بْن مُحَمَّد بْن عَلِيّ عَنْ جَابِر وَقَالَ فِيهِ : هَذَا حَدِيث غَرِيب مِنْ حَدِيث جَعْفَر , وَحَدِيث جَابِر تَفَرَّدَ بِهِ عَنْهُ جَابِر الْجُعْفِيّ وَعَنْهُ الْمُفَضَّل . ثُمَّ فِي الْآيَة قَوْلَانِ : أَحَدهمَا أَنَّهَا عَامَّة فِي الْمُسْلِم وَالْكَافِر وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُور . الثَّانِي أَنَّهَا خَاصَّة فِي الْكَافِر ; قَالَهُ الضَّحَّاك .
لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌسورة ق الآية رقم 22
قَالَ اِبْن زَيْد : الْمُرَاد بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; أَيْ لَقَدْ كُنْت يَا مُحَمَّد فِي غَفْلَة مِنْ الرِّسَالَة فِي قُرَيْش فِي جَاهِلِيَّتهمْ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك : إِنَّ الْمُرَاد بِهِ الْمُشْرِكُونَ أَيْ كَانُوا فِي غَفْلَة مِنْ عَوَاقِب أُمُورهمْ . وَقَالَ أَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ : إِنَّ الْمُرَاد بِهِ الْبَرّ وَالْفَاجِر . وَهُوَ اِخْتِيَار الطَّبَرِيّ . وَقِيلَ : أَيْ لَقَدْ كُنْت أَيّهَا الْإِنْسَان فِي غَفْلَة عَنْ أَنَّ كُلّ نَفْس مَعَهَا سَائِق وَشَهِيد ; لِأَنَّ هَذَا لَا يُعْرَف إِلَّا بِالنُّصُوصِ الْإِلَهِيَّة . " فَكَشَفْنَا عَنْك غِطَاءَك " أَيْ عَمَاك ; وَفِيهِ أَرْبَعَة أَوْجُه : أَحَدهَا إِذْ كَانَ فِي بَطْن أُمّه فَوُلِدَ ; قَالَهُ السُّدِّيّ . الثَّانِي إِذَا كَانَ فِي الْقَبْر فَنُشِرَ . وَهَذَا مَعْنَى قَوْل اِبْن عَبَّاس . الثَّالِث وَقْت الْعَرْض فِي الْقِيَامَة ; قَالَهُ مُجَاهِد . الرَّابِع أَنَّهُ نُزُول الْوَحْي وَتَحَمُّل الرِّسَالَة . وَهَذَا مَعْنَى قَوْل اِبْن زَيْد . " فَبَصَرك الْيَوْم حَدِيد " قِيلَ : يُرَاد بِهِ . بَصَر الْقَلْب كَمَا يُقَال هُوَ بَصِير بِالْفِقْهِ فَبَصَر الْقَلْب وَبَصِيرَته تَبْصِرَته شَوَاهِد الْأَفْكَار وَنَتَائِج الِاعْتِبَار , كَمَا تُبْصِر الْعَيْن مَا قَابَلَهَا مِنْ الْأَشْخَاص وَالْأَجْسَام . وَقِيلَ : الْمُرَاد بِهِ بَصَر الْعَيْن وَهُوَ الظَّاهِر أَيْ بَصَر عَيْنك الْيَوْم حَدِيد ; أَيْ قَوِيّ نَافِذ يَرَى مَا كَانَ مَحْجُوبًا عَنْك . قَالَ مُجَاهِد :

يَعْنِي نَظَرَك إِلَى لِسَان مِيزَانك حِين تُوزَن سَيِّئَاتك وَحَسَنَاتك . وَقَالَ الضَّحَّاك . وَقِيلَ : يُعَايِن مَا يَصِير إِلَيْهِ مِنْ ثَوَاب وَعِقَاب . وَهُوَ مَعْنَى قَوْل اِبْن عَبَّاس . وَقِيلَ : يَعْنِي أَنَّ الْكَافِر يُحْشَر وَبَصَره حَدِيد ثُمَّ يَزْرَقّ وَيَعْمَى . وَقُرِئَ " لَقَدْ كُنْت " " عَنْك " " فَبَصَرك " بِالْكَسْرِ عَلَى خِطَاب النَّفْس .
وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌسورة ق الآية رقم 23
يَعْنِي الْمَلَك الْمُوَكَّل بِهِ فِي قَوْل الْحَسَن وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك .

أَيْ هَذَا مَا عِنْدِي مِنْ كِتَابَة عَمَله مُعَدّ مَحْفُوظ . وَقَالَ مُجَاهِد : يَقُول هَذَا الَّذِي وَكَّلْتنِي بِهِ مِنْ بَنِي آدَم قَدْ أَحْضَرْته وَأَحْضَرْت دِيوَان عَمَله . وَقِيلَ : الْمَعْنَى هَذَا مَا عِنْدِي مِنْ الْعَذَاب حَاضِر . وَعَنْ مُجَاهِد أَيْضًا : قَرِينه الَّذِي قُيِّضَ لَهُ مِنْ الشَّيَاطِين .
أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍسورة ق الآية رقم 24
قَالَ اِبْن زَيْد فِي رِوَايَة اِبْن وَهْب عَنْهُ : إِنَّهُ قَرِينه مِنْ الْإِنْس , فَيَقُول اللَّه تَعَالَى لِقَرِينِهِ : " أَلْقِيَا فِي جَهَنَّم " قَالَ الْخَلِيل وَالْأَخْفَش : هَذَا كَلَام الْعَرَب الْفَصِيح أَنْ تُخَاطِب الْوَاحِد بِلَفْظِ الِاثْنَيْنِ فَتَقُول : وَيْلك اِرْحَلَاهَا وَازْجُرَاهَا , وَخُذَاهُ وَأَطْلِقَاهُ لِلْوَاحِدِ . قَالَ الْفَرَّاء : تَقُول لِلْوَاحِدِ قُومَا عَنَّا , وَأَصْل ذَلِكَ أَنَّ أَدْنَى أَعْوَان الرَّجُل فِي إِبِله وَغَنَمه وَرُفْقَته فِي سَفَره اِثْنَانِ فَجَرَى كَلَام الرَّجُل عَلَى صَاحِبَيْهِ , وَمِنْهُ قَوْلهمْ لِلْوَاحِدِ فِي الشِّعْر : خَلِيلَيَّ , ثُمَّ يَقُول : يَا صَاح . قَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : خَلِيلَيَّ مُرَّا بِي عَلَى أُمّ جُنْدَب نَقُضّ لُبَانَات الْفُؤَاد الْمُعَذَّب وَقَالَ أَيْضًا : قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيب وَمَنْزِل بِسَقْطِ اللِّوَى بَيْن الدُّخُول فَحَوْمَل وَقَالَ آخَر : فَإِنْ تَزْجُرَانِي يَا بْن عَفَّان أَنْزَجِر وَإِنْ تَدَعَانِي أَحْمِ عِرْضًا مُمَنَّعَا وَقِيلَ : جَاءَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَرِين يَقَع لِلْجَمَاعَةِ وَالِاثْنَيْنِ . وَقَالَ الْمَازِنِيّ : قَوْله " أَلْقِيَا " يَدُلّ عَلَى أَلْقِ أَلْقِ . وَقَالَ الْمُبَرِّد : هِيَ تَثْنِيَة عَلَى التَّوْكِيد , الْمَعْنَى أَلْقِ أَلْقِ فَنَابَ " أَلْقِيَا " مَنَاب التَّكْرَار . وَيَجُوز أَنْ يَكُون " أَلْقِيَا " تَثْنِيَة عَلَى خِطَاب الْحَقِيقَة مِنْ قَوْل اللَّه تَعَالَى يُخَاطِب بِهِ الْمَلَكَيْنِ . وَقِيلَ : هُوَ مُخَاطَبَة لِلسَّائِقِ وَالْحَافِظ . وَقِيلَ : إِنَّ الْأَصْل أَلْقِينَ بِالنُّونِ الْخَفِيفَة تُقْلَب فِي الْوَقْف أَلِفًا فَحُمِلَ الْوَصْل عَلَى الْوَقْف .

وَقَرَأَ الْحَسَن " أَلْقِينَ " بِالنُّونِ الْخَفِيفَة نَحْو قَوْله : " وَلَيَكُونَا مِنْ الصَّاغِرِينَ " [ يُوسُف : 32 ] وَقَوْله : " لَنَسْفَعًا " [ الْعَلَق : 15 ] .

أَيْ مُعَانِد ; قَالَهُ مُجَاهِد وَعِكْرِمَة . وَقَالَ بَعْضهمْ : الْعَنِيد الْمُعْرِض عَنْ الْحَقّ ; يُقَال عَنَدَ يَعْنِد بِالْكَسْرِ عُنُودًا أَيْ خَالَفَ وَرَدَّ الْحَقّ وَهُوَ يَعْرِفهُ فَهُوَ عَنِيد وَعَانِد , وَجَمْع الْعَنِيد عُنُد مِثْل رَغِيف وَرُغُف .
مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍسورة ق الآية رقم 25
يَعْنِي الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة وَكُلّ حَقّ وَاجِب .

فِي مَنْطِقه وَسِيرَته وَأَمْره ; ظَالِم .

شَاكّ فِي التَّوْحِيد ; قَالَهُ الْحَسَن وَقَتَادَة . يُقَال : أَرَابَ الرَّجُل فَهُوَ مُرِيب إِذَا جَاءَ بِالرِّيبَةِ . وَهُوَ الْمُشْرِك يَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى :
الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِسورة ق الآية رقم 26
وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة . وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ : " مَنَّاع لِلْخَيْرِ " أَنَّهُ كَانَ يَمْنَع بَنِي أَخِيهِ مِنْ الْإِسْلَام .

تَأْكِيد لِلْأَمْرِ الْأَوَّل .
قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍسورة ق الآية رقم 27
يَعْنِي الشَّيْطَان الَّذِي قُيِّضَ لِهَذَا الْكَافِر الْعَنِيد تَبَرَّأَ مِنْهُ وَكَذَّبَهُ .

عَنْ الْحَقّ وَكَانَ طَاغِيًا بِاخْتِيَارِهِ وَإِنَّمَا دَعَوْته فَاسْتَجَابَ لِي . وَقَرِينه هُنَا هُوَ شَيْطَانه بِغَيْرِ اِخْتِلَاف حَكَاهُ الْمَهْدَوِيّ . وَحَكَى الثَّعْلَبِيّ قَالَ اِبْن عَبَّاس وَمُقَاتِل : قَرِينه الْمَلَك ; وَذَلِكَ أَنَّ الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة يَقُول لِلْمَلَكِ الَّذِي كَانَ يَكْتُب سَيِّئَاته : رَبّ إِنَّهُ أَعْجَلَنِي , فَيَقُول الْمَلَك : رَبّنَا مَا أَطْغَيْته أَيْ مَا أَعْجَلْته . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : يَقُول الْكَافِر رَبّ إِنَّهُ زَادَ عَلَيَّ فِي الْكِتَابَة , فَيَقُول الْمَلَك : رَبّنَا مَا أَطْغَيْته أَيْ مَا زِدْت عَلَيْهِ فِي الْكِتَابَة ; فَحِينَئِذٍ يَقُول اللَّه تَعَالَى :
قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِسورة ق الآية رقم 28
يَعْنِي الْكَافِرِينَ وَقُرَنَاءَهُمْ مِنْ الشَّيَاطِين . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْقَرِين الشَّيْطَان .

أَيْ أَرْسَلْت الرُّسُل . وَقِيلَ : هَذَا خِطَاب لِكُلِّ مَنْ اِخْتَصَمَ . وَقِيلَ : هُوَ لِلِاثْنَيْنِ وَجَاءَ بِلَفْظِ الْجَمْع .
مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِسورة ق الآية رقم 29
قِيلَ هُوَ قَوْله : " مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْر أَمْثَالهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلهَا " [ الْأَنْعَام : 160 ] وَقِيلَ هُوَ قَوْله : " لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّم مِنْ الْجِنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ " [ السَّجْدَة : 13 ] . وَقَالَ الْفَرَّاء : مَا يُكْذَب عِنْدِي أَيْ مَا يُزَاد فِي الْقَوْل وَلَا يَنْقُص لِعِلْمِي بِالْغَيْبِ .

أَيْ مَا أَنَا بِمُعَذِّبٍ مَنْ لَمْ يُجْرِم ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس . وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِي مَعْنَاهُ فِي " الْحَجّ " وَغَيْرهَا .
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍسورة ق الآية رقم 30
قَرَأَ نَافِع وَأَبُو بَكْر " يَوْم يَقُول " بِالْيَاءِ اِعْتِبَارًا بِقَوْلِهِ : " لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ " . الْبَاقُونَ بِالنُّونِ عَلَى الْخِطَاب مِنْ اللَّه تَعَالَى وَهِيَ نُون الْعَظَمَة . وَقَرَأَ الْحَسَن " يَوْم أَقُول " . وَعَنْ اِبْن مَسْعُود وَغَيْره " يَوْم يُقَال " . وَانْتَصَبَ " يَوْم " عَلَى مَعْنَى مَا يُبَدَّل الْقَوْل لَدَيَّ يَوْم . وَقِيلَ : بِفِعْلٍ مُقَدَّر مَعْنَاهُ : وَأَنْذِرْهُمْ " يَوْم نَقُول لِجَهَنَّم هَلْ اِمْتَلَأْت " لِمَا سَبَقَ مِنْ وَعْده إِيَّاهَا أَنَّهُ يَمْلَؤُهَا . وَهَذَا الِاسْتِفْهَام عَلَى سَبِيل التَّصْدِيق لِخَبَرِهِ , وَالتَّحْقِيق لِوَعْدِهِ , وَالتَّقْرِيع لِأَعْدَائِهِ , وَالتَّنْبِيه لِجَمِيعِ عِبَاده . " وَتَقُول " جَهَنَّم " هَلْ مِنْ مَزِيد " أَيْ مَا بَقِيَ فِي مَوْضِع لِلزِّيَادَةِ ; كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام : ( هَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيل مِنْ رَبْع أَوَمَنْزِل ) أَيْ مَا تَرَكَ ; فَمَعْنَى الْكَلَام الْجَحْد . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون اِسْتِفْهَامًا بِمَعْنَى الِاسْتِزَادَة ; أَيْ هَلْ مِنْ مَزِيد فَأَزْدَاد ؟ . وَإِنَّمَا صَلَحَ هَذَا لِلْوَجْهَيْنِ ; لِأَنَّ فِي الِاسْتِفْهَام ضَرْبًا مِنْ الْجَحْد . وَقِيلَ : لَيْسَ ثَمَّ قَوْل وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى طَرِيق , الْمَثَل ; أَيْ إِنَّهَا فِيمَا يَظْهَر مِنْ حَالهَا بِمَنْزِلَةِ النَّاطِقَة بِذَلِكَ ; كَمَا قَالَ الشَّاعِر : اِمْتَلَأَ الْحَوْض وَقَالَ قَطْنِي مَهْلًا رُوَيْدًا قَدْ مَلَأْت بَطْنِي وَهَذَا تَفْسِير مُجَاهِد وَغَيْره . أَيْ هَلْ فِيَّ مِنْ مَسْلَك قَدْ اِمْتَلَأْت . وَقِيلَ : يُنْطِق اللَّه النَّار حَتَّى تَقُول هَذَا كَمَا تَنْطِق الْجَوَارِح . وَهَذَا أَصَحّ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَة " الْفُرْقَان " وَفِي صَحِيح مُسْلِم وَالْبُخَارِيّ وَالتِّرْمِذِيّ عَنْ أَنَس بْن مَالِك عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَا تَزَال جَهَنَّم يُلْقَى فِيهَا وَتَقُول هَلْ مِنْ مَزِيد حَتَّى يَضَع رَبّ الْعِزَّة فِيهَا قَدَمه فَيَنْزَوِي بَعْضهَا إِلَى بَعْض وَتَقُول قَطْ قَطْ بِعِزَّتِك وَكَرَمك وَلَا يَزَال فِي الْجَنَّة فَضْل حَتَّى يُنْشِئ اللَّه لَهَا خَلْقًا فَيُسْكِنهُمْ فَضْل الْجَنَّة ) لَفْظ مُسْلِم . وَفِي رِوَايَة أُخْرَى مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة : ( وَأَمَّا النَّار فَلَا تَمْتَلِئ حَتَّى يَضَع اللَّه عَلَيْهَا رِجْله يَقُول لَهَا قَطْ قَطْ فَهُنَالِكَ تَمْتَلِئ وَيَنْزَوِي بَعْضهَا إِلَى بَعْض فَلَا يَظْلِم اللَّه مِنْ خَلْقه أَحَدًا وَأَمَّا الْجَنَّة فَإِنَّ اللَّه يُنْشِئ لَهَا خَلْقًا ) . قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّه : أَمَّا مَعْنَى الْقَدَم هُنَا فَهُمْ قَوْم يُقَدِّمهُمْ اللَّه إِلَى النَّار , وَقَدْ سَبَقَ فِي عِلْمه أَنَّهُمْ مِنْ أَهْل النَّار . وَكَذَلِكَ الرِّجْل وَهُوَ الْعَدَد الْكَثِير مِنْ النَّاس وَغَيْرهمْ ; يُقَال : رَأَيْت رِجْلًا مِنْ النَّاس وَرِجْلًا مِنْ جَرَاد , قَالَ الشَّاعِر : فَمَرَّ بِنَا رِجْل مِنْ النَّاس وَانْزَوَى إِلَيْهِمْ مِنْ الْحَيّ الْيَمَانِينَ أَرْجُل قَبَائِل مِنْ لَخْم وَعُكْل وَحِمْيَر عَلَى اِبْنَيْ نِزَار بِالْعَدَاوَةِ أَحْفَل وَيُبَيِّن هَذَا الْمَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود أَنَّهُ قَالَ : مَا فِي النَّار بَيْت وَلَا سِلْسِلَة وَلَا مِقْمَع وَلَا تَابُوت إِلَّا وَعَلَيْهِ اِسْم صَاحِبه , فَكُلّ وَاحِد مِنْ الْخَزَنَة يَنْتَظِر صَاحِبه الَّذِي قَدْ عَرَفَ اِسْمه وَصِفَته , فَإِذَا اِسْتَوْفَى كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ مَا أُمِرَ بِهِ وَمَا يَنْتَظِرهُ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَد قَالَ الْخَزَنَة : قَطْ قَطْ حَسْبنَا حَسْبنَا ! أَيْ اِكْتَفَيْنَا اِكْتَفَيْنَا , وَحِينَئِذٍ تَنْزَوِي جَهَنَّم عَلَى مَنْ فِيهَا وَتَنْطَبِق إِذْ لَمْ يَبْقَ أَحَد يَنْتَظِر . فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ الْجَمْع الْمُنْتَظِر بِالرِّجْلِ وَالْقَدَم ; وَيَشْهَد لِهَذَا التَّأْوِيل قَوْله فِي نَفْس الْحَدِيث : ( وَلَا يَزَال فِي الْجَنَّة فَضْل حَتَّى يُنْشِئ اللَّه لَهَا خَلْقًا فَيُسْكِنهُمْ فَضْل الْجَنَّة ) وَقَدْ زِدْنَا هَذَا الْمَعْنَى بَيَانًا وَمَهَّدْنَاهُ فِي كِتَاب الْأَسْمَاء وَالصِّفَات مِنْ الْكِتَاب الْأَسْنَى وَالْحَمْد لِلَّهِ . وَقَالَ النَّضْر بْن شُمَيْل فِي مَعْنَى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( حَتَّى يَضَع الْجَبَّار فِيهَا قَدَمه ) أَيْ مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمه أَنَّهُ مِنْ أَهْل النَّار .
الصفحة 1الصفحة 2