الصفحة 1الصفحة 2
حمسورة فصلت الآية رقم 1
اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ ; فَقَالَ عِكْرِمَة : قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( " حم " اِسْم مِنْ أَسْمَاء اللَّه تَعَالَى وَهِيَ مَفَاتِيح خَزَائِن رَبّك ) قَالَ اِبْن عَبَّاس : " حم " اِسْم اللَّه الْأَعْظَم . وَعَنْهُ : " الر " و " حم " و " ن " حُرُوف الرَّحْمَن مُقَطَّعَة . وَعَنْهُ أَيْضًا : اِسْم مِنْ أَسْمَاء اللَّه تَعَالَى أَقْسَمَ بِهِ . وَقَالَ قَتَادَة : إِنَّهُ اِسْم مِنْ أَسْمَاء الْقُرْآن . مُجَاهِد : فَوَاتِح السُّوَر . وَقَالَ عَطَاء الْخُرَاسَانِيّ : الْحَاء اِفْتِتَاح اِسْمه حَمِيد وَحَنَّان وَحَلِيم وَحَكِيم , وَالْمِيم اِفْتِتَاح اِسْمه مَلِك وَمَجِيد وَمَنَّان وَمُتَكَبِّر وَمُصَوِّر ; يَدُلّ عَلَيْهِ مَا رَوَى أَنَس أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا " حم " فَإِنَّا لَا نَعْرِفهَا فِي لِسَاننَا ؟ فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( بَدْء أَسْمَاء وَفَوَاتِح سُوَر ) وَقَالَ الضَّحَّاك وَالْكِسَائِيّ : مَعْنَاهُ قُضِيَ مَا هُوَ كَائِن . كَأَنَّهُ أَرَادَ الْإِشَارَة إِلَى تَهَجِّي " حم " ; لِأَنَّهَا تَصِير حُمّ بِضَمِّ الْحَاء وَتَشْدِيد الْمِيم ; أَيْ قُضِيَ وَوَقَعَ . وَقَالَ كَعْب بْن مَالِك : فَلَمَّا تَلَاقَيْنَاهُمْ وَدَارَتْ بِنَا الرَّحَى وَلَيْسَ لِأَمْرٍ حَمَّهُ اللَّه مَدْفَع وَعَنْهُ أَيْضًا : إِنَّ الْمَعْنَى حُمَّ أَمْر اللَّه أَيْ قَرُبَ ; كَمَا قَالَ الشَّاعِر : قَدْ حُمَّ يَوْمِي فَسُرَّ قَوْم قَوْم بِهِمْ غَفْلَة وَنَوْمُ وَمِنْهُ سُمِّيَتْ الْحُمَّى ; لِأَنَّهَا تُقَرِّب مِنْ الْمَنِيَّة . وَالْمَعْنَى الْمُرَاد قُرْب نَصْره لِأَوْلِيَائِهِ , وَانْتِقَامه مِنْ أَعْدَائِهِ كَيَوْمِ بَدْر . وَقِيلَ : حُرُوف هِجَاء ; قَالَ الْجَرْمِيّ : وَلِهَذَا تُقْرَأ سَاكِنَة الْحُرُوف فَخَرَجَتْ مَخْرَج التَّهَجِّي وَإِذَا سُمِّيَتْ سُورَة بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوف أُعْرِبَتْ ; فَتَقُول : قَرَأْت " حم " فَتُنْصَب ; قَالَ الشَّاعِر : يُذَكِّرُنِي حَامِيم وَالرُّمْح شَاجِر فَهَلَّا تَلَا حَامِيم قَبْل التَّقَدُّم وَقَرَأَ عِيسَى بْن عُمَر الثَّقَفِيّ : " حم " بِفَتْحِ الْمِيم عَلَى مَعْنَى اِقْرَأْ حم أَوْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ . اِبْن أَبِي إِسْحَاق وَأَبُو السَّمَّال بِكَسْرِهَا . وَالْإِمَالَة وَالْكَسْر لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ , أَوْ عَلَى وَجْه الْقَسَم . وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر بِقَطْعِ الْحَاء مِنْ الْمِيم . الْبَاقُونَ بِالْوَصْلِ . وَكَذَلِكَ فِي " حم . عسق " . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَأَبُو بَكْر وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ وَخَلَف وَابْن ذَكْوَان بِالْإِمَالَةِ فِي الْحَاء . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرو بَيْن اللَّفْظَيْنِ وَهِيَ قِرَاءَة نَافِع وَأَبِي جَعْفَر وَشَيْبَة . الْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ مُشْبَعًا .
تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِسورة فصلت الآية رقم 2
قَالَ الزَّجَّاج : " تَنْزِيل " رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَره " كِتَاب فُصِّلَتْ آيَاته " وَهَذَا قَوْل الْبَصْرِيِّينَ . وَقَالَ الْفَرَّاء : يَجُوز أَنْ يَكُون رَفْعه عَلَى إِضْمَار هَذَا . وَيَجُوز أَنْ يُقَال : " كِتَاب " بَدَل مِنْ قَوْله : " تَنْزِيل " . وَقِيلَ : نَعْت لِقَوْلِهِ : " تَنْزِيل " . وَقِيلَ : " حم " أَيْ هَذِهِ " حم " كَمَا تَقُول بَاب كَذَا , أَيْ هُوَ بَاب كَذَا ف " حم " خَبَر اِبْتِدَاء مُضْمَر أَيْ هُوَ " حم " , وَقَوْله : " تَنْزِيل " مُبْتَدَأ آخَر , وَقَوْله : " كِتَاب " خَبَره .
كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَسورة فصلت الآية رقم 3
أَيْ بُيِّنَتْ وَفُسِّرَتْ . قَالَ قَتَادَة : بِبَيَانِ حَلَاله مِنْ حَرَامه , وَطَاعَته مِنْ مَعْصِيَته . الْحَسَن : بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيد . سُفْيَان : بِالثَّوَابِ وَالْعِقَاب . وَقُرِئَ " فُصِّلَتْ " أَيْ فُرِّقَتْ بَيْن الْحَقّ وَالْبَاطِل , أَوْ فُصِلَ بَعْضهَا مِنْ بَعْض بِاخْتِلَافِ مَعَانِيهَا ; مِنْ قَوْلك فُصِلَ أَيْ تَبَاعَدَ مِنْ الْبَلَد .

فِي نَصْبه وُجُوه ; قَالَ الْأَخْفَش : هُوَ نُصِبَ عَلَى الْمَدْح . وَقِيلَ : عَلَى إِضْمَار فِعْل ; أَيْ اُذْكُرْ " قُرْآنًا عَرَبِيًّا " . وَقِيلَ : عَلَى إِعَادَة الْفِعْل ; أَيْ فَصَّلْنَا " قُرْآنًا عَرَبِيًّا " . وَقِيلَ : عَلَى الْحَال أَيْ " فُصِّلَتْ آيَاته " فِي حَال كَوْنه " قُرْآنًا عَرَبِيًّا " . وَقِيلَ : لَمَّا شُغِلَ " فُصِّلَتْ " بِالْآيَاتِ حَتَّى صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الْفَاعِل اِنْتَصَبَ " قُرْآنًا " لِوُقُوعِ الْبَيَان عَلَيْهِ . وَقِيلَ : عَلَى الْقَطْع .

قَالَ الضَّحَّاك : أَيْ إِنَّ الْقُرْآن مُنَزَّل مِنْ عِنْد اللَّه . وَقَالَ مُجَاهِد : أَيْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ إِلَه وَاحِد فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل . وَقِيلَ : يَعْلَمُونَ الْعَرَبِيَّة فَيَعْجِزُونَ عَنْ مِثْله وَلَوْ كَانَ غَيْر عَرَبِيّ لَمَا عَلِمُوهُ .
بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَسورة فصلت الآية رقم 4
حَالَانِ مِنْ الْآيَات وَالْعَامِل فِيهِ " فُصِّلَتْ " . وَقِيلَ : هُمَا نَعْتَانِ لِلْقُرْآنِ " بَشِيرًا " لِأَوْلِيَاءِ اللَّه " نَذِيرًا " لِأَعْدَائِهِ . وَقُرِئَ " بَشِير وَنَذِير " صِفَة لِلْكِتَابِ . أَوْ خَبَر مُبْتَدَإٍ مَحْذُوف

يَعْنِي أَهْل مَكَّة

سَمَاعًا يَنْتَفِعُونَ بِهِ . وَرُوِيَ أَنَّ الرَّيَّان بْن حَرْمَلَة قَالَ : قَالَ الْمَلَأ مِنْ قُرَيْش وَأَبُو جَهْل قَدْ اِلْتَبَسَ عَلَيْنَا أَمْر مُحَمَّد , فَلَوْ اِلْتَمَسْتُمْ رَجُلًا عَالِمًا بِالشِّعْرِ وَالْكِهَانَة وَالسِّحْر فَكَلَّمَهُ ثُمَّ آتَانَا بِبَيَانٍ مِنْ أَمْره ; فَقَالَ عُتْبَة بْن رَبِيعَة : وَاَللَّه لَقَدْ سَمِعْت الْكِهَانَة وَالشِّعْر وَالسِّحْر , وَعَلِمْت مِنْ ذَلِكَ عِلْمًا لَا يَخْفَى عَلَيَّ إِنْ كَانَ كَذَلِكَ . فَقَالُوا : إِيتِهِ فَحَدِّثْهُ . فَأَتَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ : يَا مُحَمَّد أَنْتَ خَيْر أَمْ قُصَيّ بْن كِلَاب ؟ أَنْتَ خَيْر أَمْ هَاشِم ؟ أَنْتَ خَيْر أَمْ عَبْد الْمُطَّلِب ؟ أَنْتَ خَيْر أَمْ عَبْد اللَّه ؟ فَبِمَ تَشْتُم آلِهَتنَا , وَتُضَلِّل آبَاءَنَا , وَتُسَفِّه أَحْلَامنَا , وَتَذُمّ دِيننَا ؟ فَإِنْ كُنْت إِنَّمَا تُرِيد الرِّيَاسَة عَقَدْنَا إِلَيْك أَلْوِيَتنَا فَكُنْت رَئِيسنَا مَا بَقِيت , وَإِنْ كُنْت تُرِيد الْبَاءَة زَوَّجْنَاك عَشْر نِسَاء مِنْ أَيّ بَنَات قُرَيْش شِئْت , وَإِنْ كُنْت تُرِيد الْمَال جَمَعْنَا لَك مَا تَسْتَغْنِي بِهِ أَنْتَ وَعَقِبك مِنْ بَعْدك , وَإِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي يَأْتِيك رِئْيًا مِنْ الْجِنّ قَدْ غَلَبَ عَلَيْك بَذَلْنَا لَك أَمْوَالنَا فِي طَلَب مَا تَتَدَاوَى بِهِ أَوْ نَغْلِب فِيك . وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاكِت , فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ : ( قَدْ فَرَغْت يَا أَبَا الْوَلِيد ) ؟ قَالَ : نَعَمْ . فَقَالَ : ( يَا اِبْن أَخِي اِسْمَعْ ) قَالَ : أَسْمَع . قَالَ : " بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم . حم . تَنْزِيل مِنْ الرَّحْمَن الرَّحِيم . كِتَاب فُصِّلَتْ آيَاته قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ " إِلَى قَوْله : " فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَة مِثْل صَاعِقَة عَادٍ وَثَمُود " [ فُصِّلَتْ : 13 ] فَوَثَبَ عُتْبَة وَوَضَعَ يَده عَلَى فَم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَنَاشَدَهُ اللَّه وَالرَّحِم لَيَسْكُتَنّ , وَرَجَعَ إِلَى أَهْله وَلَمْ يَخْرُج إِلَى قُرَيْش فَجَاءَهُ أَبُو جَهْل ; فَقَالَ : أَصَبَوْت إِلَى مُحَمَّد ؟ أَمْ أَعْجَبَك طَعَامه ؟ فَغَضِبَ عُتْبَة وَأَقْسَمَ أَلَّا يُكَلِّم مُحَمَّدًا أَبَدًا , ثُمَّ قَالَ : وَاَللَّه لَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي مِنْ أَكْثَر قُرَيْش مَالًا , وَلَكِنِّي لَمَّا قَصَصْت عَلَيْهِ الْقِصَّة أَجَابَنِي بِشَيْءٍ وَاَللَّه مَا هُوَ بِشِعْرٍ وَلَا كِهَانَة وَلَا سِحْر ; ثُمَّ تَلَا عَلَيْهِمْ مَا سَمِعَ مِنْهُ إِلَى قَوْله : " مِثْل صَاعِقَة عَادٍ وَثَمُود " [ فُصِّلَتْ : 13 ] وَأَمْسَكْت بِفِيهِ وَنَاشَدْته بِالرَّحِمِ أَنْ يَكُفّ , وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا إِذَا قَالَ شَيْئًا لَمْ يَكْذِب , فَوَاَللَّهِ لَقَدْ خِفْت أَنْ يَنْزِل بِكُمْ الْعَذَاب ; يَعْنِي الصَّاعِقَة . وَقَدْ رَوَى هَذَا الْخَبَر أَبُو بَكْر الْأَنْبَارِيّ فِي كِتَاب الرَّدّ لَهُ عَنْ مُحَمَّد بْن كَعْب الْقُرَظِيّ , وَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ " حم . فُصِّلَتْ " حَتَّى اِنْتَهَى إِلَى السَّجْدَة فَسَجَدَ وَعُتْبَة مُصْغٍ يَسْتَمِع , قَدْ اِعْتَمَدَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ وَرَاء ظَهْره . فَلَمَّا قَطَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِرَاءَة قَالَ لَهُ : ( يَا أَبَا الْوَلِيد قَدْ سَمِعْت الَّذِي قَرَأْت عَلَيْك فَأَنْتَ وَذَاكَ ) فَانْصَرَفَ عُتْبَة إِلَى قُرَيْش فِي نَادِيهَا فَقَالُوا : وَاَللَّه لَقَدْ جَاءَكُمْ أَبُو الْوَلِيد بِغَيْرِ الْوَجْه الَّذِي مَضَى بِهِ مِنْ عِنْدكُمْ . ثُمَّ قَالُوا : مَا وَرَاءَك أَبَا الْوَلِيد ؟ قَالَ : وَاَللَّه لَقَدْ سَمِعْت كَلَامًا مِنْ مُحَمَّد مَا سَمِعْت مِثْله قَطُّ , وَاَللَّه مَا هُوَ بِالشِّعْرِ وَلَا بِالْكِهَانَةِ , فَأَطِيعُونِي فِي هَذِهِ وَأَنْزِلُوهَا بِي ; خَلُّوا مُحَمَّدًا وَشَأْنه وَاعْتَزِلُوهُ , فَوَاَللَّهِ لَيَكُونَنّ لِمَا سَمِعْت مِنْ كَلَامه نَبَأ , فَإِنْ أَصَابَتْهُ الْعَرَب كَفَيْتُمُوهُ بِأَيْدِي غَيْركُمْ , وَإِنْ كَانَ مَلِكًا أَوْ نَبِيًّا كُنْتُمْ أَسْعَد النَّاس بِهِ ; لِأَنَّ مُلْكه مُلْككُمْ وَشَرَفه شَرَفكُمْ . فَقَالُوا : هَيْهَاتَ ! سَحَرَك مُحَمَّد يَا أَبَا الْوَلِيد . وَقَالَ : هَذَا رَأْيِي لَكُمْ فَاصْنَعُوا مَا شِئْتُمْ .
وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَسورة فصلت الآية رقم 5
الْأَكِنَّة جَمْع كِنَان وَهُوَ الْغِطَاء . وَقَدْ مَضَى فِي " الْبَقَرَة " . قَالَ مُجَاهِد : الْكِنَان لِلْقَلْبِ كَالْجُنَّةِ لِلنَّبْلِ .

أَيْ صَمَم ; فَكَلَامك لَا يَدْخُل أَسْمَاعنَا , وَقُلُوبنَا مَسْتُورَة مِنْ فَهْمه .

أَيْ خِلَاف فِي الدِّين , لِأَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَام وَهُوَ يَعْبُد اللَّه عَزَّ وَجَلَّ . قَالَ مَعْنَاهُ الْفَرَّاء وَغَيْره . وَقِيلَ : سَتْر مَانِع عَنْ الْإِجَابَة . وَقِيلَ : إِنَّ أَبَا جَهْل اِسْتَغْشَى عَلَى رَأْسه ثَوْبًا وَقَالَ : يَا مُحَمَّد بَيْننَا وَبَيْنك حِجَاب . اِسْتِهْزَاء مِنْهُ . حَكَاهُ النَّقَّاش وَذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيّ . فَالْحِجَاب هُنَا الثَّوْب .

أَيْ اِعْمَلْ فِي هَلَاكنَا فَإِنَّا عَامِلُونَ فِي هَلَاكك ; قَالَهُ الْكَلْبِيّ . وَقَالَ مُقَاتِل : اِعْمَلْ لِإِلَهِك الَّذِي أَرْسَلَك , فَإِنَّا نَعْمَل لِآلِهَتِنَا الَّتِي نَعْبُدهَا . وَقِيلَ : اِعْمَلْ بِمَا يَقْتَضِيه دِينك , فَإِنَّا عَامِلُونَ بِمَا يَقْتَضِيه دِيننَا . وَيَحْتَمِل خَامِسًا : فَاعْمَلْ لِآخِرَتِك فَإِنَّا نَعْمَل لِدُنْيَانَا ; ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ .
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَسورة فصلت الآية رقم 6
أَيْ لَسْت بِمَلَكٍ بَلْ أَنَا مِنْ بَنِي آدَم . قَالَ الْحَسَن : عَلَّمَهُ اللَّه تَعَالَى التَّوَاضُع .

أَيْ مِنْ السَّمَاء عَلَى أَيْدِي الْمَلَائِكَة

" آمِنُوا " بِهِ

أَيْ وَجِّهُوا وُجُوهكُمْ بِالدُّعَاءِ لَهُ وَالْمَسْأَلَة إِلَيْهِ , كَمَا يَقُول الرَّجُل : اِسْتَقِمْ إِلَى مَنْزِلك ; أَيْ لَا تُعَرِّج عَلَى شَيْء غَيْر الْقَصْد إِلَى مَنْزِلك .

أَيْ مِنْ شِرْككُمْ .

قَالَ اِبْن عَبَّاس : الَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ " أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه "
الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَسورة فصلت الآية رقم 7
وَهِيَ زَكَاة الْأَنْفُس . وَقَالَ قَتَادَة : لَا يُقِرُّونَ بِالزَّكَاةِ أَنَّهَا وَاجِبَة . وَقَالَ الضَّحَّاك وَمُقَاتِل : لَا يَتَصَدَّقُونَ وَلَا يُنْفِقُونَ فِي الطَّاعَة . قَرَعَهُمْ بِالشُّحِّ الَّذِي يَأْنَف مِنْهُ الْفُضَلَاء , وَفِيهِ دَلَالَة عَلَى أَنَّ الْكَافِر يُعَذَّب بِكُفْرِهِ مَعَ مَنْع وُجُوب الزَّكَاة عَلَيْهِ . وَقَالَ الْفَرَّاء وَغَيْره : كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُنْفِقُونَ النَّفَقَات , وَيَسْقُونَ الْحَجِيج وَيُطْعِمُونَهُمْ , فَحَرَّمُوا ذَلِكَ عَلَى مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَة .

فَلِهَذَا لَا يُنْفِقُونَ فِي الطَّاعَة وَلَا يَسْتَقِيمُونَ وَلَا يَسْتَغْفِرُونَ . الزَّمَخْشَرِيّ : فَإِنْ قُلْت لِمَ خَصَّ مِنْ بَيْن أَوْصَاف الْمُشْرِكِينَ مَنْع الزَّكَاة مَقْرُونًا بِالْكُفْرِ بِالْآخِرَةِ ؟ قُلْت : لِأَنَّ أَحَبَّ شَيْء إِلَى الْإِنْسَان مَاله , وَهُوَ شَقِيق رُوحه , فَإِذَا بَذَلَهُ فِي سَبِيل اللَّه فَذَلِكَ أَقْوَى دَلِيل عَلَى ثَبَاته وَاسْتِقَامَته وَصِدْق نِيَّته وَنُصُوع طَوِيَّته أَلَا تَرَى إِلَى قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " وَمَثَل الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالهمْ اِبْتِغَاء مَرْضَاة اللَّه وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسهمْ " [ الْبَقَرَة : 265 ] أَيْ يُثَبِّتُونَ أَنْفُسهمْ , وَيَدُلُّونَ عَلَى ثَبَاتهَا بِإِنْفَاقِ الْأَمْوَال , وَمَا خُدِعَ الْمُؤَلَّفَة قُلُوبهمْ إِلَّا بِلُمْظَةٍ مِنْ الدُّنْيَا , فَقَوِيَتْ عُصْبَتهمْ وَلَانَتْ شَكِيمَتهمْ ; وَأَهْل الرِّدَّة بَعْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تَظَاهَرُوا إِلَّا بِمَنْعِ الزَّكَاة , فَنُصِبَتْ لَهُمْ الْحُرُوب وَجُوهِدُوا . وَفِيهِ بَعْث لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَدَاء الزَّكَاة , وَتَخْوِيف شَدِيد مِنْ مَنْعهَا , حَيْثُ جُعِلَ الْمَنْع مِنْ أَوْصَاف الْمُشْرِكِينَ , وَقُرِنَ بِالْكُفْرِ بِالْآخِرَةِ .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍسورة فصلت الآية رقم 8
قَالَ اِبْن عَبَّاس : غَيْر مَقْطُوع ; مَأْخُوذ مِنْ مَنَنْت الْحَبْل إِذَا قَطَعْته ; وَمِنْهُ قَوْل ذِي الْإِصْبَع : إِنِّي لَعَمْرك مَا بَابِي بِذِي غَلَق عَلَى الصَّدِيق وَلَا خَيْرِي بِمَمْنُونِ وَقَالَ آخَر : فَتَرَى خَلْفهَا مِنْ الرَّجْع وَالْوَقْ عِ مَنِينًا كَأَنَّهُ أَهْبَاء يَعْنِي بِالْمَنِينِ الْغُبَار الْمُنْقَطِع الضَّعِيف . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا وَمُقَاتِل : غَيْر مَنْقُوص . وَمِنْهُ الْمَنُون ; لِأَنَّهَا تُنْقِصُ مُنَّة الْإِنْسَان أَيْ قُوَّته ; وَقَالَهُ قُطْرُب ; وَأَنْشَدَ قَوْل زُهَيْر : فَضْل الْجِيَاد عَلَى الْخَيْل الْبِطَاء فَلَا يُعْطِي بِذَلِكَ مَمْنُونًا وَلَا نَزِقَا قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَالْمَنّ الْقَطْع , وَيُقَال النَّقْص ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " لَهُمْ أَجْر غَيْر مَمْنُون " . وَقَالَ لَبِيد : عُبْس كَوَاسِب لَا يُمَنّ طَعَامهَا وَقَالَ مُجَاهِد : " غَيْر مَمْنُون " غَيْر مَحْسُوب . وَقِيلَ : " غَيْر مَمْنُون " عَلَيْهِمْ بِهِ . قَالَ السُّدِّيّ : نَزَلَتْ فِي الزَّمْنَى وَالْمَرْضَى وَالْهَرْمَى إِذَا ضَعُفُوا عَنْ الطَّاعَة كُتِبَ لَهُمْ مِنْ الْأَجْر كَأَصَحّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فِيهِ .
قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَسورة فصلت الآية رقم 9
" أَئِنَّكُمْ " بِهَمْزَتَيْنِ الثَّانِيَة بَيْن بَيْن و " أَئِنَّكُمْ " بِأَلِفٍ بَيْن هَمْزَتَيْنِ وَهُوَ اِسْتِفْهَام مَعْنَاهُ التَّوْبِيخ . أَمْره بِتَوْبِيخِهِمْ وَالتَّعَجُّب مِنْ فِعْلهمْ , أَيْ لِمَ تَكْفُرُونَ بِاَللَّهِ وَهُوَ خَالِق السَّمَوَات وَالْأَرْض ؟ !

الْأَحَد وَالِاثْنَيْنِ

أَيْ أَضْدَادًا وَشُرَكَاء

أَيْ مَالِك , وَكُلّ مَنْ مَلَكَ شَيْئًا فَهُوَ رَبّه ; فَالرَّبّ : الْمَالِك . وَفِي الصِّحَاح : وَالرَّبّ اِسْم مِنْ أَسْمَاء اللَّه تَعَالَى , وَلَا يُقَال فِي غَيْره إِلَّا بِالْإِضَافَةِ ; وَقَدْ قَالُوهُ فِي الْجَاهِلِيَّة لِلْمَلِكِ , قَالَ الْحَارِث بْن حِلِّزَة : وَهُوَ الرَّبّ وَالشَّهِيد عَلَى يَوْ م الْحِيَارَيْنِ وَالْبَلَاء بَلَاء وَالرَّبّ : السَّيِّد : وَمِنْ قَوْله تَعَالَى : " اُذْكُرْنِي عِنْد رَبّك " [ يُوسُف : 42 ] . وَفِي الْحَدِيث : ( أَنْ تَلِد الْأَمَة رَبَّتهَا ) أَيْ سَيِّدَتهَا ; وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَاب ( التَّذْكِرَة ) . وَالرَّبّ : الْمُصْلِح وَالْمُدَبِّر وَالْجَابِر وَالْقَائِم . قَالَهُ الْهَرَوِيّ وَغَيْره : يُقَال لِمَنْ قَامَ بِإِصْلَاحِ شَيْء وَإِتْمَامه : قَدْ رَبَّهُ يَرَبُّهُ فَهُوَ رَبّ لَهُ وَرَابّ ; وَمِنْهُ سُمِّيَ الرَّبَّانِيُّونَ لِقِيَامِهِمْ بِالْكُتُبِ . وَفِي الْحَدِيث : ( هَلْ لَك مِنْ نِعْمَة تَرُبّهَا عَلَيْهِ ) أَيْ تَقُوم بِهَا وَتُصْلِحهَا . وَالرَّبّ : الْمَعْبُود ; وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : أَرَبّ يَبُول الثُّعْلُبَان بِرَأْسِهِ لَقَدْ ذَلَّ مَنْ بَالَتْ عَلَيْهِ الثَّعَالِب وَيُقَال عَلَى التَّكْثِير : رَبَّاهُ وَرَبَّبَهُ وَرَبَّتَهُ ; حَكَاهُ النَّحَّاس . وَفِي الصِّحَاح : وَرَبَّ فُلَان وَلَده يُرِبُّهُ رَبًّا وَرَبَّبَهُ وَتَرَبَّبَهُ بِمَعْنَى أَيْ رَبَّاهُ . وَالْمَرْبُوب : الْمُرَبَّى .


قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : إِنَّ هَذَا الِاسْم هُوَ اِسْم اللَّه الْأَعْظَم ; لِكَثْرَةِ دَعْوَة الدَّاعِينَ بِهِ , وَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فِي الْقُرْآن , كَمَا فِي آخِر " آل عِمْرَان " وَسُورَة " إِبْرَاهِيم " وَغَيْرهمَا , وَلِمَا يُشْعِر بِهِ هَذَا الْوَصْف مِنْ الصَّلَاة بَيْن الرَّبّ وَالْمَرْبُوب , مَعَ مَا يَتَضَمَّنهُ مِنْ الْعَطْف وَالرَّحْمَة وَالِافْتِقَار فِي كُلّ حَال .


وَاخْتُلِفَ فِي اِشْتِقَاقه ; فَقِيلَ : إِنَّهُ مُشْتَقّ مِنْ التَّرْبِيَة ; فَاَللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى مُدَبِّر لِخَلْقِهِ وَمُرَبِّيهمْ , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَرَبَائِبكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُوركُمْ " [ النِّسَاء : 23 ] . فَسَمَّى بِنْت الزَّوْجَة رَبِيبَة لِتَرْبِيَةِ الزَّوْج لَهَا . فَعَلَى أَنَّهُ مُدَبِّر لِخَلْقِهِ وَمُرَبِّيهمْ يَكُون صِفَة فِعْل ; وَعَلَى أَنَّ الرَّبّ بِمَعْنَى الْمَالِك وَالسَّيِّد يَكُون صِفَة ذَات . مَتَى أُدْخِلَتْ الْأَلِف وَاللَّام عَلَى " رَبّ " اِخْتَصَّ اللَّه تَعَالَى بِهِ ; لِأَنَّهَا لِلْعَهْدِ , وَإِنْ حَذَفْنَا مِنْهُ صَارَ مُشْتَرَكًا بَيْن اللَّه وَبَيْن عِبَاده , فَيُقَال : اللَّه رَبّ الْعِبَاد , وَزَيْد رَبّ الدَّار ; فَاَللَّه سُبْحَانه رَبّ الْأَرْبَاب ; يَمْلِك الْمَالِك وَالْمَمْلُوك , وَهُوَ خَالِق ذَلِكَ وَرَازِقه , وَكُلّ رَبّ سِوَاهُ غَيْر خَالِق وَلَا رَازِق , وَكُلّ مَمْلُوك فَمُمَلَّك بَعْد أَنْ لَمْ يَكُنْ , وَمُنْتَزَع ذَلِكَ مِنْ يَده , وَإِنَّمَا يَمْلِك شَيْئًا دُون شَيْء ; وَصِفَة اللَّه تَعَالَى مُخَالِفَة لِهَذِهِ الْمَعَانِي , فَهَذَا الْفَرْق بَيْن صِفَة الْخَالِق وَالْمَخْلُوقِينَ .

اِخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي " الْعَالَمِينَ " اِخْتِلَافًا كَثِيرًا ; فَقَالَ قَتَادَة : الْعَالَمُونَ جَمْع عَالَم , وَهُوَ كُلّ مَوْجُود سِوَى اللَّه تَعَالَى , وَلَا وَاحِد لَهُ مِنْ لَفْظه مِثْل رَهْط وَقَوْم . وَقِيلَ : أَهْل كُلّ زَمَان عَالَم ; قَالَهُ الْحُسَيْن بْن الْفَضْل , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " أَتَأْتُونَ الذُّكْرَان مِنْ الْعَالَمِينَ " [ الشُّعَرَاء : 165 ] أَيْ مِنْ النَّاس . وَقَالَ الْعَجَّاج : فَخَنْدَق هَامَة هَذَا الْعَالَم وَقَالَ جَرِير بْن الْخَطْفِيّ : تُنْصِفهُ الْبَرِيَّة وَهْوَ سَامٍ وَيُضَحِّي الْعَالَمُونَ لَهُ عِيَالَا وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : الْعَالَمُونَ الْجِنّ وَالْإِنْس ; دَلِيله قَوْله تَعَالَى : " لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا " [ الْفُرْقَان : 1 ] وَلَمْ يَكُنْ نَذِيرًا لِلْبَهَائِمِ . وَقَالَ الْفَرَّاء وَأَبُو عُبَيْدَة : الْعَالَم عِبَارَة عَمَّنْ يَعْقِل ; وَهُمْ أَرْبَعَة أُمَم : الْإِنْس وَالْجِنّ وَالْمَلَائِكَة وَالشَّيَاطِين . وَلَا يُقَال لِلْبَهَائِمِ : عَالَم , لِأَنَّ هَذَا الْجَمْع إِنَّمَا هُوَ جَمْع مَنْ يَعْقِل خَاصَّة . قَالَ الْأَعْشَى : مَا إِنْ سَمِعْت بِمِثْلِهِمْ فِي الْعَالَمِينَا وَقَالَ زَيْد بْن أَسْلَمَ : هُمْ الْمُرْتَزِقُونَ ; وَنَحْوه قَوْل أَبِي عَمْرو بْن الْعَلَاء : هُمْ الرُّوحَانِيُّونَ . وَهُوَ مَعْنَى قَوْل اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : كُلّ ذِي رُوح دَبَّ عَلَى وَجْه الْأَرْض . وَقَالَ وَهْب بْن مُنَبِّه : إِنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثَمَانِيَة عَشَرَ أَلْف عَالَم ; الدُّنْيَا عَالَم مِنْهَا . وَقَالَ أَبُو سَعِيد الْخُدْرِيّ : إِنَّ لِلَّهِ أَرْبَعِينَ أَلْف عَالَم ; الدُّنْيَا مِنْ شَرْقهَا إِلَى غَرْبهَا عَالَم وَاحِد . وَقَالَ مُقَاتِل : الْعَالَمُونَ ثَمَانُونَ أَلْف عَالَم , أَرْبَعُونَ أَلْف عَالَم فِي الْبَرّ , وَأَرْبَعُونَ أَلْف عَالَم فِي الْبَحْر . وَرَوَى الرَّبِيع بْن أَنَس عَنْ أَبِي الْعَالِيَة قَالَ : الْجِنّ عَالَم , وَالْإِنْس عَالَم ; وَسِوَى ذَلِكَ لِلْأَرْضِ أَرْبَع زَوَايَا فِي كُلّ زَاوِيَة أَلْف وَخَمْسمِائَةِ عَالَم , خَلَقَهُمْ لِعِبَادَتِهِ .


قُلْت : وَالْقَوْل الْأَوَّل أَصَحّ هَذِهِ الْأَقْوَال ; لِأَنَّهُ شَامِل لِكُلِّ مَخْلُوق وَمَوْجُود ; دَلِيله قَوْله تَعَالَى : " قَالَ فِرْعَوْن وَمَا رَبّ الْعَالَمِينَ . قَالَ رَبّ السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا بَيْنهمَا " [ الشُّعَرَاء : 23 ] ثُمَّ هُوَ مَأْخُوذ مِنْ الْعِلْم وَالْعَلَامَة ; لِأَنَّهُ يَدُلّ عَلَى مُوجِده . كَذَا قَالَهُ الزَّجَّاج قَالَ : الْعَالَم كُلّ مَا خَلَقَهُ اللَّه فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة . وَقَالَ الْخَلِيل : الْعِلْم وَالْعَلَامَة وَالْمَعْلَم : مَا دَلَّ عَلَى الشَّيْء ; فَالْعَالَم دَالّ عَلَى أَنَّ لَهُ خَالِقًا وَمُدَبِّرًا , وَهَذَا وَاضِح . وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ بَيْن يَدَيْ الْجُنَيْد : الْحَمْد لِلَّهِ ; فَقَالَ لَهُ : أَتِمَّهَا كَمَا قَالَ اللَّه , قُلْ رَبّ الْعَالَمِينَ ; فَقَالَ الرَّجُل : وَمَنْ الْعَالَمِينَ حَتَّى تُذْكَر مَعَ الْحَقّ ؟ قَالَ : قُلْ يَا أَخِي ؟ فَإِنَّ الْمُحْدَث إِذَا قُرِنَ مَعَ الْقَدِيم لَا يَبْقَى لَهُ أَثَر . يَجُوز الرَّفْع وَالنَّصْب فِي " رَبّ " فَالنَّصْب عَلَى الْمَدْح , وَالرَّفْع عَلَى الْقَطْع ; أَيْ هُوَ رَبّ الْعَالَمِينَ .
وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَسورة فصلت الآية رقم 10
أَيْ فِي الْأَرْض

يَعْنِي الْجِبَال . وَقَالَ وَهْب : لَمَّا خَلَقَ اللَّه الْأَرْض مَادَتْ عَلَى وَجْه الْمَاء ; فَقَالَ لِجِبْرِيل ثَبِّتْهَا يَا جِبْرِيل . فَنَزَلَ فَأَمْسَكَهَا فَغَلَبَتْهُ الرِّيَاح , قَالَ : يَا رَبّ أَنْتَ أَعْلَم لَقَدْ غُلِبْت فِيهَا فَثَبِّتْهَا بِالْجِبَالِ وَأَرْسَاهَا

بِمَا خَلَقَ فِيهَا مِنْ الْمَنَافِع . قَالَ السُّدِّيّ : أَنْبَتَ فِيهَا شَجَرهَا .

قَالَ السُّدِّيّ وَالْحَسَن : أَرْزَاق أَهْلهَا وَمَصَالِحهمْ . وَقَالَ قَتَادَة وَمُجَاهِد : خَلَقَ فِيهَا أَنْهَارهَا وَأَشْجَارهَا وَدَوَابّهَا فِي يَوْم الثُّلَاثَاء وَالْأَرْبِعَاء . وَقَالَ عِكْرِمَة وَالضَّحَّاك : مَعْنَى " قَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتهَا " أَيْ أَرْزَاق أَهْلهَا وَمَا يَصْلُح لِمَعَايِشِهِمْ مِنْ التِّجَارَات وَالْأَشْجَار وَالْمَنَافِع فِي كُلّ بَلْدَة مَا لَمْ يَجْعَلهُ فِي الْأُخْرَى لِيَعِيشَ بَعْضهمْ مِنْ بَعْض بِالتِّجَارَةِ وَالْأَسْفَار مِنْ بَلَد إِلَى بَلَد . قَالَ عِكْرِمَة : حَتَّى إِنَّهُ فِي بَعْض الْبِلَاد لَيَتَبَايَعُونَ الذَّهَب بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ . وَقَالَ مُجَاهِد وَالضَّحَّاك : السَّابِرِيّ مِنْ سَابُور , وَالطَّيَالِسَة مِنْ الرَّيّ , وَالْحُبُر الْيَمَانِيَّة مِنْ الْيَمَن .

يَعْنِي فِي تَتِمَّة أَرْبَعَة أَيَّام . وَمِثَاله قَوْل الْقَائِل : خَرَجْت مِنْ الْبَصْرَة إِلَى بَغْدَاد فِي عَشْرَة أَيَّام , وَإِلَى الْكُوفَة فِي خَمْسَة عَشَرَ يَوْمًا ; أَيْ فِي تَتِمَّة خَمْسَة عَشَرَ يَوْمًا . قَالَ مَعْنَاهُ اِبْن الْأَنْبَارِيّ وَغَيْره .

قَالَ الْحَسَن : الْمَعْنَى فِي أَرْبَعَة أَيَّام مُسْتَوِيَة تَامَّة . الْفَرَّاء : فِي الْكَلَام تَقْدِيم وَتَأْخِير , وَالْمَعْنَى : وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتهَا سَوَاء لِلْمُحْتَاجِينَ . وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيّ . وَقَرَأَ الْحَسَن , الْبَصْرِيّ وَيَعْقُوب الْحَضْرَمِيّ " سَوَاء لِلسَّائِلِينَ " بِالْجَرِّ وَعَنْ اِبْن الْقَعْقَاع " سَوَاء " بِالرَّفْعِ ; فَالنَّصْب عَلَى الْمَصْدَر و " سَوَاء " بِمَعْنَى اِسْتِوَاء أَيْ اِسْتَوَتْ اِسْتِوَاء . وَقِيلَ : عَلَى الْحَال وَالْقَطْع ; وَالْجَرّ عَلَى النَّعْت لِأَيَّامٍ أَوْ لِأَرْبَعَةٍ أَيْ " فِي أَرْبَعَة أَيَّام " مُسْتَوِيَة تَامَّة . وَالرَّفْع عَلَى الِابْتِدَاء وَالْخَبَر " لِلسَّائِلِينَ " أَوْ عَلَى تَقْدِير هَذِهِ " سَوَاء لِلسَّائِلِينَ " . وَقَالَ أَهْل الْمَعَانِي : مَعْنَى " سَوَاء لِلسَّائِلِينَ " وَلِغَيْرِ السَّائِلِينَ ; أَيْ خَلَقَ الْأَرْض وَمَا فِيهَا لِمَنْ سَأَلَ وَلِمَنْ لَمْ يَسْأَل , وَيُعْطِي مَنْ سَأَلَ وَمَنْ لَا يَسْأَل .
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَسورة فصلت الآية رقم 11
أَيْ عَمَدَ إِلَى خَلْقهَا وَقَصَدَ لِتَسْوِيَتِهَا . وَالِاسْتِوَاء مِنْ صِفَة الْأَفْعَال عَلَى أَكْثَر الْأَقْوَال ; يَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى : " ثُمَّ اِسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْع سَمَاوَات " [ الْبَقَرَة : 29 ] وَقَدْ مَضَى الْقَوْل هُنَاكَ . وَرَوَى أَبُو صَالِح عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله : " ثُمَّ اِسْتَوَى إِلَى السَّمَاء " يَعْنِي صَعِدَ أَمْره إِلَى السَّمَاء ; وَقَالَهُ الْحَسَن . وَمَنْ قَالَ : إِنَّهُ صِفَة ذَاتِيَّة زَائِدَة قَالَ : اِسْتَوَى فِي الْأَزَل بِصِفَاتِهِ . و " ثُمَّ " تَرْجِع إِلَى نَقْل السَّمَاء مِنْ صِفَة الدُّخَان إِلَى حَالَة الْكَثَافَة . وَكَانَ ذَلِكَ الدُّخَان مِنْ تَنَفُّس الْمَاء حِين تَنَفَّسَ ; عَلَى مَا مَضَى فِي " الْبَقَرَة " عَنْ اِبْن مَسْعُود وَغَيْره .

أَيْ جِيئَا بِمَا خَلَقْت فِيكُمَا مِنْ الْمَنَافِع وَالْمَصَالِح وَاخْرُجَاهَا لِخَلْقِي . قَالَ اِبْن عَبَّاس : قَالَ اللَّه تَعَالَى لِلسَّمَاءِ : أَطْلِعِي شَمْسك وَقَمَرك وَكَوَاكِبك , وَأَجْرِي رِيَاحك وَسَحَابك , وَقَالَ لِلْأَرْضِ : شُقِّي أَنْهَارك وَأَخْرِجِي شَجَرك وَثِمَارك طَائِعَتَيْنِ أَوْ كَارِهَتَيْنِ " قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ " فِي الْكَلَام حَذْف أَيْ أَتَيْنَا أَمْرك " طَائِعِينَ " . وَقِيلَ : مَعْنَى هَذَا الْأَمْر التَّسْخِير ; أَيْ كُونَا فَكَانَتَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : " إِنَّمَا قَوْلنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُول لَهُ كُنْ فَيَكُون " [ النَّحْل : 40 ] فَعَلَى هَذَا قَالَ ذَلِكَ قَبْل خَلْقهمَا . وَعَلَى الْقَوْل الْأَوَّل قَالَ ذَلِكَ بَعْد خَلْقهمَا . وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُور . وَفِي قَوْله تَعَالَى لَهُمَا وَجْهَانِ : أَحَدهمَا أَنَّهُ قَوْل تُكُلِّمَ بِهِ . الثَّانِي أَنَّهَا قُدْرَة مِنْهُ ظَهَرَتْ لَهُمَا فَقَامَ مَقَام الْكَلَام فِي بُلُوغ الْمُرَاد ; ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ .

فِيهِ أَيْضًا وَجْهَانِ : أَحَدهمَا أَنَّهُ ظُهُور الطَّاعَة مِنْهُمَا حَيْثُ اِنْقَادَا وَأَجَابَا فَقَامَ مَقَام قَوْلهمَا , وَمِنْهُ قَوْل الرَّاجِز : اِمْتَلَأَ الْحَوْض وَقَالَ قَطْنِي مَهْلًا رُوَيْدًا قَدْ مَلَأْت بَطْنِي يَعْنِي ظَهَرَ ذَلِكَ فِيهِ . وَقَالَ أَكْثَر أَهْل الْعِلْم : بَلْ خَلَقَ اللَّه فِيهِمَا الْكَلَام فَتَكَلَّمَتَا كَمَا أَرَادَ تَعَالَى : قَالَ أَبُو نَصْر السَّكْسَكِيّ : فَنَطَقَ مِنْ الْأَرْض مَوْضِع الْكَعْبَة , وَنَطَقَ مِنْ السَّمَاء مَا بِحِيَالِهَا , فَوَضَعَ اللَّه تَعَالَى فِيهِ حَرَمه . وَقَالَ : " طَائِعِينَ " وَلَمْ يَقُلْ طَائِعَتَيْنِ عَلَى اللَّفْظ وَلَا طَائِعَات عَلَى الْمَعْنَى ; لِأَنَّهُمَا سَمَوَات وَأَرَضُونَ , لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْهُمَا وَعَمَّنْ فِيهِمَا , وَقِيلَ : لَمَّا وَصَفَهُنَّ بِالْقَوْلِ وَالْإِجَابَة وَذَلِكَ مِنْ صِفَات مَنْ يَعْقِل أَجْرَاهُمَا فِي الْكِنَايَة مَجْرَى مَنْ يَعْقِل , وَمِثْله : " رَأَيْتهمْ لِي سَاجِدِينَ " [ يُوسُف : 4 ] وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَفِي حَدِيث : إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ : يَا رَبّ لَوْ أَنَّ السَّمَوَات وَالْأَرْض حِين قُلْت لَهُمَا " اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا " عَصَيَاك مَا كُنْت صَانِعًا بِهِمَا ؟ قَالَ كُنْت آمُر دَابَّة مِنْ دَوَابِّي فَتَبْتَلِعهُمَا . قَالَ : يَا رَبّ وَأَيْنَ تِلْكَ الدَّابَّة ؟ قَالَ : فِي مَرْج مِنْ مُرُوجِي . قَالَ : يَا رَبّ وَأَيْنَ ذَلِكَ الْمَرْج ؟ قَالَ عِلْم مِنْ عِلْمِي . ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ . وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَعِكْرِمَة " آتِيَا " بِالْمَدِّ وَالْفَتْح . وَكَذَلِكَ قَوْله : " آتَيْنَا طَائِعِينَ " عَلَى مَعْنَى أَعْطِيَا الطَّاعَة مِنْ أَنْفُسكُمَا " قَالَتَا " أَعْطَيْنَا " طَائِعِينَ " فَحَذَفَ الْمَفْعُولَيْنِ جَمِيعًا . وَيَجُوز وَهُوَ أَحْسَن أَنْ يَكُون " آتَيْنَا " فَاعَلْنَا فَحَذَفَ مَفْعُول وَاحِد . وَمَنْ قَرَأَ " آتَيْنَا " فَالْمَعْنَى جِئْنَا بِمَا فِينَا ; عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي غَيْر مَا مَوْضِع وَالْحَمْد لِلَّهِ .
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِسورة فصلت الآية رقم 12
أَيْ أَكْمَلَهُنَّ وَفَرَغَ مِنْهُنَّ . وَقِيلَ . أَحْكَمَهُنَّ كَمَا قَالَ : وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا دَاوُدُ أَوْ صَنَع السَّوَابِغ تُبَّع " فِي يَوْمَيْنِ " سِوَى الْأَرْبَعَة الْأَيَّام الَّتِي خَلَقَ فِيهَا الْأَرْض , فَوَقَعَ خَلْق السَّمَوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : " خَلَقَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام " [ الْأَعْرَاف : 54 ] عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي " الْأَعْرَاف " بَيَانه . قَالَ مُجَاهِد : وَيَوْم مِنْ السِّتَّة الْأَيَّام كَأَلْفِ سَنَة مِمَّا تَعُدُّونَ . وَعَنْ عَبْد اللَّه بْن سَلَام قَالَ : خَلَقَ اللَّه الْأَرْض فِي يَوْمَيْنِ , وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتهَا فِي يَوْمَيْنِ , وَخَلَقَ السَّمَوَات فِي يَوْمَيْنِ ; خَلَقَ الْأَرْض فِي يَوْم الْأَحَد وَالِاثْنَيْنِ , وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتهَا يَوْم الثُّلَاثَاء وَيَوْم الْأَرْبِعَاء , وَخَلَقَ السَّمَوَات فِي يَوْم الْخَمِيس وَيَوْم الْجُمْعَة , وَأَخَّرَ سَاعَة فِي يَوْم الْجُمْعَة خَلَقَ اللَّه آدَم فِي عَجَل , وَهِيَ الَّتِي تَقُوم فِيهَا السَّاعَة , وَمَا خَلَقَ اللَّه مِنْ دَابَّة إِلَّا وَهِيَ تَفْزَع مِنْ يَوْم الْجُمْعَة إِلَّا الْإِنْس وَالْجِنّ . عَلَى هَذَا أَهْل التَّفْسِير ; إِلَّا مَا رَوَاهُ مُسْلِم مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : أَخَذَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيَّ , فَقَالَ : ( خَلَقَ اللَّه التُّرْبَة يَوْم السَّبْت ... ) الْحَدِيث , وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى إِسْنَاده فِي أَوَّل سُورَة " الْأَنْعَام " .

قَالَ قَتَادَة وَالسُّدِّيّ : خَلَقَ فِيهَا شَمْسهَا وَقَمَرهَا وَنُجُومهَا وَأَفْلَاكهَا , وَخَلَقَ فِي كُلّ سَمَاء خَلْقهَا مِنْ الْمَلَائِكَة وَالْخَلْق الَّذِي فِيهَا مِنْ الْبِحَار وَجِبَال الْبَرَد وَالثُّلُوج . وَهُوَ قَوْل اِبْن عَبَّاس ; قَالَ : وَلِلَّهِ فِي كُلّ سَمَاء بَيْت تَحُجّ إِلَيْهِ وَتَطُوف بِهِ الْمَلَائِكَة بِحِذَاءِ الْكَعْبَة , وَاَلَّذِي فِي السَّمَاء الدُّنْيَا هُوَ الْبَيْت الْمَعْمُور . وَقِيلَ : أَوْحَى اللَّه فِي كُلّ سَمَاء ; أَيْ أَوْحَى فِيهَا مَا أَرَادَهُ وَمَا أَمَرَ بِهِ فِيهَا . وَالْإِيحَاء قَدْ يَكُون أَمْرًا ; لِقَوْلِهِ : " بِأَنَّ رَبّك أَوْحَى لَهَا " [ الزَّلْزَلَة : 5 ] وَقَوْله : " وَإِذْ أَوْحَيْت إِلَى الْحَوَارِيِّينَ " [ الْمَائِدَة : 111 ] أَيْ أَمَرْتهمْ وَهُوَ أَمْر تَكْوِين .

أَيْ بِكَوَاكِب تُضِيء وَقِيلَ : إِنَّ فِي كُلّ سَمَاء كَوَاكِب تُضِيء . وَقِيلَ : بَلْ الْكَوَاكِب مُخْتَصَّة بِالسَّمَاءِ الدُّنْيَا .

أَيْ وَحَفِظْنَاهَا حِفْظًا ; أَيْ مِنْ الشَّيَاطِين الَّذِينَ يَسْتَرِقُونَ السَّمْع . وَهَذَا الْحِفْظ بِالْكَوَاكِبِ الَّتِي تُرْجَم بِهَا الشَّيَاطِين عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي " الْحِجْر " بَيَانه . وَظَاهِر هَذِهِ الْآيَة يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْأَرْض خُلِقَتْ قَبْل السَّمَاء . وَقَالَ فِي آيَة أُخْرَى : " أَمْ السَّمَاء بَنَاهَا " [ النَّازِعَات : 27 ] ثُمَّ قَالَ : " وَالْأَرْض بَعْد ذَلِكَ دَحَاهَا " [ النَّازِعَات : 30 ] وَهَذَا يَدُلّ عَلَى خَلْق السَّمَاء أَوَّلًا . وَقَالَ قَوْم : خُلِقَتْ الْأَرْض قَبْل السَّمَاء ; فَأَمَّا قَوْله : " وَالْأَرْض بَعْد ذَلِكَ دَحَاهَا " [ النَّازِعَات : 30 ] فَالدَّحْو غَيْر الْخَلْق , فَاَللَّه خَلَقَ الْأَرْض ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَات , ثُمَّ دَحَا الْأَرْض أَيْ مَدَّهَا وَبَسَطَهَا ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس . وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى مُجَوَّدًا فِي " الْبَقَرَة " وَالْحَمْد لِلَّهِ .

الْمَنِيع الْغَالِب الَّذِي لَا يُرَدّ أَمْره

الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْء .
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَسورة فصلت الآية رقم 13
يَعْنِي كُفَّار قُرَيْش عَمَّا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ يَا مُحَمَّد مِنْ الْإِيمَان .

أَيْ خَوَّفْتُكُمْ هَلَاكًا مِثْل هَلَاك عَادٍ وَثَمُود .
إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَسورة فصلت الآية رقم 14
يَعْنِي مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَإِلَى مَنْ قَبْلهمْ

مَوْضِع " أَنْ " نُصِبَ بِإِسْقَاطِ الْخَافِض أَيْ ب " أَلَّا تَعْبُدُوا "

بَدَل الرُّسُل

مِنْ الْإِنْذَار وَالتَّبْشِير . قِيلَ : هَذَا اِسْتِهْزَاء مِنْهُمْ . وَقِيلَ : إِقْرَار مِنْهُمْ بِإِرْسَالِهِمْ ثُمَّ بَعْده جُحُود وَعِنَاد .
فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَسورة فصلت الآية رقم 15
" فَأَمَّا عَاد فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْض بِغَيْرِ الْحَقّ " اِسْتَكْبَرُوا عَلَى عِبَاد اللَّه هُود وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ

اِغْتَرُّوا بِأَجْسَامِهِمْ حِين تَهَدَّدَهُمْ بِالْعَذَابِ , وَقَالُوا : نَحْنُ نَقْدِر عَلَى دَفْع الْعَذَاب عَنْ أَنْفُسنَا بِفَضْلِ قُوَّتنَا . وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا ذَوِي أَجْسَام طِوَال وَخَلْق عَظِيم . وَقَدْ مَضَى فِي " الْأَعْرَاف " عَنْ اِبْن عَبَّاس : أَنَّ أَطْوَلهمْ كَانَ مِائَة ذِرَاع وَأَقْصَرهمْ كَانَ سِتِّينَ ذِرَاعًا .

قَالَ اللَّه تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِمْ : " أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدّ مِنْهُمْ قُوَّة " وَقُدْرَة , وَإِنَّمَا يَقْدِر الْعَبْد بِإِقْدَارِ اللَّه ; فَاَللَّه أَقْدَر إِذًا .

أَيْ بِمُعْجِزَاتِنَا يَكْفُرُونَ .
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنصَرُونَسورة فصلت الآية رقم 16
هَذَا تَفْسِير الصَّاعِقَة الَّتِي أَرْسَلَهَا عَلَيْهِمْ , أَيْ رِيحًا بَارِدَة شَدِيدَة الْبَرْد وَشَدِيدَة الصَّوْت وَالْهُبُوب . وَيُقَال : أَصْلهَا صَرَّرَ مِنْ الصِّرّ وَهُوَ الْبَرْد فَأَبْدَلُوا مَكَان الرَّاء الْوُسْطَى فَاءَ الْفِعْل ; كَقَوْلِهِمْ كَبْكَبُوا أَصْله كَبَّبُوا , وَتَجَفْجَفَ الثَّوْب أَصْله تَجَفَّفَ . أَبُو عُبَيْدَة : مَعْنَى صَرْصَرَ : شَدِيدَة عَاصِفَة . عِكْرِمَة وَسَعِيد بْن جُبَيْر : شَدِيد الْبَرْد . وَأَنْشَدَ قُطْرُب قَوْل الْحُطَيْئَة : الْمُطْعِمُونَ إِذَا هَبَّتْ بِصَرْصَرَةٍ وَالْحَامِلُونَ إِذَا اِسْتُودُوا عَلَى النَّاس اِسْتُودُوا : إِذَا سُئِلُوا الدِّيَة . مُجَاهِد : الشَّدِيدَة السَّمُوم . وَرَوَى مَعْمَر عَنْ قَتَادَة قَالَ : بَارِدَة . وَقَالَهُ عَطَاء ; لِأَنَّ " صَرْصَرًا " مَأْخُوذ مِنْ صَرَّ وَالصِّرّ فِي كَلَام الْعَرَب الْبَرَد كَمَا قَالَ : لَهَا عُذَر كَقُرُونِ النَّسَا ء رُكِّبْنَ فِي يَوْم رِيح وَصِرْ وَقَالَ السُّدِّيّ : الشَّدِيدَة الصَّوْت . وَمِنْهُ صَرَّ الْقَلَم وَالْبَاب يَصِرّ صَرِيرًا أَيْ صَوَّتَ . وَيُقَال : دِرْهَم صَرِّيّ وَصِرِّيّ لِلَّذِي لَهُ صَوْت إِذَا نُقِدَ . قَالَ اِبْن السِّكِّيت : صَرْصَرَ يَجُوز أَنْ يَكُون مِنْ الصِّرّ وَهُوَ الْبَرْد , وَيَجُوز أَنْ يَكُون مِنْ صَرِير الْبَاب , وَمِنْ الصَّرَّة وَهِيَ الصَّيْحَة . وَمِنْهُ " فَأَقْبَلَتْ اِمْرَأَته فِي صَرَّة " [ الذَّارِيَات : 29 ] . وَصَرْصَر اِسْم نَهَر بِالْعِرَاقِ .

أَيْ مَشْئُومَات ; قَالَهُ مُجَاهِد وَقَتَادَة . كُنَّ آخِر شَوَّال مِنْ يَوْم الْأَرْبِعَاء إِلَى يَوْم الْأَرْبِعَاء وَذَلِكَ " سَبْع لَيَالٍ وَثَمَانِيَة أَيَّام حُسُومًا " [ الْحَاقَّة : 7 ] قَالَ اِبْن عَبَّاس : مَا عُذِّبَ قَوْم إِلَّا فِي يَوْم الْأَرْبِعَاء . وَقِيلَ : " نَحِسَات " بَارِدَات ; حَكَاهُ النَّقَّاش . وَقِيلَ : مُتَتَابِعَات ; عَنْ اِبْن عَبَّاس وَعَطِيَّة . الضَّحَّاك : شِدَاد . وَقِيلَ : ذَات غُبَار ; حَكَاهُ اِبْن عِيسَى . وَمِنْهُ قَوْل الرَّاجِز : قَدْ اِغْتَدَى قَبْل طُلُوع الشَّمْس لِلصَّيْدِ فِي يَوْم قَلِيل النَّحْس قَالَ الضَّحَّاك وَغَيْره : أَمْسَكَ اللَّه عَنْهُمْ الْمَطَر ثَلَاث سِنِينَ , وَدَرَّتْ الرِّيَاح عَلَيْهِمْ فِي غَيْر مَطَر , وَخَرَجَ مِنْهُمْ قَوْم إِلَى مَكَّة يَسْتَسْقُونَ بِهَا لِلْعِبَادِ , وَكَانَ النَّاس فِي ذَلِكَ الزَّمَان إِذَا نَزَلَ بِهِمْ بَلَاء أَوْ جَهْد طَلَبُوا إِلَى اللَّه تَعَالَى الْفَرَج مِنْهُ , وَكَانَتْ طُلْبَتهمْ ذَلِكَ مِنْ اللَّه تَعَالَى عِنْد بَيْته الْحَرَام مَكَّة مُسْلِمهمْ وَكَافِرهمْ , فَيَجْتَمِع بِمَكَّة نَاس كَثِير شَتَّى , مُخْتَلِفَة أَدْيَانهمْ , وَكُلّهمْ مُعْظَم لِمَكَّة , عَارِف حُرْمَتهَا وَمَكَانهَا مِنْ اللَّه تَعَالَى . وَقَالَ جَابِر بْن عَبْد اللَّه وَالتَّيْمِيّ : إِذَا أَرَادَ اللَّه بِقَوْمٍ خَيْرًا أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ الْمَطَر وَحَبَسَ عَنْهُمْ كَثْرَة الرِّيَاح , وَإِذَا أَرَادَ اللَّه بِقَوْمٍ شَرًّا حَبَسَ عَنْهُمْ الْمَطَر وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ كَثْرَة الرِّيَاح . وَقَرَأَ نَافِع وَابْن كَثِير وَأَبُو عَمْرو " نَحْسَات " بِإِسْكَانِ الْحَاء عَلَى أَنَّهُ جَمْع نَحْس الَّذِي هُوَ مَصْدَر وُصِفَ بِهِ . الْبَاقُونَ : " نَحِسَات " بِكَسْرِ الْحَاء أَيْ ذَوَات نَحْس . وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى أَنَّ النَّحْس مَصْدَر قَوْله : " فِي يَوْم نَحْس مُسْتَمِرّ " [ الْقَمَر : 19 ] وَلَوْ كَانَ صِفَة لَمْ يُضَفْ الْيَوْم إِلَيْهِ ; وَبِهَذَا كَانَ يَحْتَجّ أَبُو عَمْرو عَلَى قِرَاءَته ; وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِم . وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْد الْقِرَاءَة الثَّانِيَة وَقَالَ : لَا تَصِحّ حُجَّة أَبِي عَمْرو ; لِأَنَّهُ أَضَافَ الْيَوْم إِلَى النَّحْس فَأَسْكَنَ , وَإِنَّمَا كَانَ يَكُون حُجَّة لَوْ نَوَّنَ الْيَوْم وَنَعَتَ وَأَسْكَنَ ; فَقَالَ : " فِي يَوْم نَحْس " [ الْقَمَر : 19 ] وَهَذَا لَمْ يَقْرَأ بِهِ أَحَد نَعْلَمهُ . وَقَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَلَمْ يُسْمَع فِي " نَحْس " إِلَّا الْإِسْكَان . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَقُرِئَ فِي قَوْله " فِي يَوْم نَحْس " [ الْقَمَر : 19 ] عَلَى الصِّفَة , وَالْإِضَافَة أَكْثَر وَأَجْوَد . وَقَدْ نَحِسَ الشَّيْء بِالْكَسْرِ فَهُوَ نَحِس أَيْضًا ; قَالَ الشَّاعِر : أَبْلِغْ جُذَامًا وَلَخْمًا أَنَّ إِخْوَتهمْ طَيًّا وَبَهْرَاء قَوْم نَصْرهمْ نَحِس وَمِنْهُ قِيلَ : أَيَّام نَحِسَات .

أَيْ لِكَيْ نُذِيقهُمْ

أَيْ الْعَذَاب بِالرِّيحِ الْعَقِيم .

أَيْ أَعْظَم وَأَشَدّ .
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَسورة فصلت الآية رقم 17
أَيْ بَيَّنَّا لَهُمْ الْهُدَى وَالضَّلَال ; عَنْ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره . وَقَرَأَ الْحَسَن وَابْن أَبِي إِسْحَاق وَغَيْرهمَا " وَأَمَّا ثَمُود " بِالنَّصْبِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَام فِيهِ فِي " الْأَعْرَاف " .

أَيْ اِخْتَارُوا الْكُفْر عَلَى الْإِيمَان . وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَة : اِخْتَارُوا الْعَمَى عَلَى الْبَيَان . السُّدِّيّ : اِخْتَارُوا الْمَعْصِيَة عَلَى الطَّاعَة .

" الْهُون " بِالضَّمِّ الْهَوَان . وَهَوْن بْن خُزَيْمَة بْن مُدْرِكَة بْن إِلْيَاس بْن مُضَر أَخُو كِنَانَة وَأَسَد . وَأَهَانَهُ : اِسْتَخَفَّ بِهِ . وَالِاسْم الْهَوَان وَالْمُهَانَة . وَأُضِيفَ الصَّاعِقَة إِلَى الْعَذَاب , لِأَنَّ الصَّاعِقَة اِسْم لِلْمُبِيدِ الْمُهْلِك , فَكَأَنَّهُ قَالَ مُهْلِك الْعَذَاب ; أَيْ الْعَذَاب الْمُهْلِك . وَالْهُون وَإِنْ كَانَ مَصْدَرًا فَمَعْنَاهُ الْإِهَانَة وَالْإِهَانَة عَذَاب , فَجَازَ أَنْ يُجْعَل أَحَدهمَا وَصْفًا لِلْآخَرِ ; فَكَأَنَّهُ قَالَ : صَاعِقَة الْهُون . وَهُوَ كَقَوْلِك : عِنْدِي عِلْم الْيَقِين , وَعِنْدِي الْعِلْم الْيَقِين . وَيَجُوز أَنْ يَكُون الْهُون اِسْمًا مِثْل الدُّون ; يُقَال : عَذَاب هُون أَيْ مُهِين ; كَمَا قَالَ : " مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَاب الْمُهِين " . [ سَبَأ : 14 ] . وَقِيلَ : أَيْ صَاعِقَة الْعَذَاب ذِي الْهُون .

مِنْ تَكْذِيبهمْ صَالِحًا وَعَقْرهمْ النَّاقَة , عَلَى مَا تَقَدَّمَ .
وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَسورة فصلت الآية رقم 18
يَعْنِي صَالِحًا وَمَنْ آمَنَ بِهِ ; أَيْ مَيَّزْنَاهُمْ عَنْ الْكُفَّار , فَلَمْ يَحِلّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِالْكُفَّارِ , وَهَكَذَا يَا مُحَمَّد نَفْعَل بِمُؤْمِنِي قَوْمك وَكُفَّارهمْ .
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَسورة فصلت الآية رقم 19
قَرَأَ نَافِع " نَحْشُر " بِالنُّونِ " أَعْدَاء " بِالنَّصْبِ . الْبَاقُونَ " يُحْشَر " بِيَاءٍ مَضْمُومَة " أَعْدَاء " بِالرَّفْعِ وَمَعْنَاهُمَا بَيِّن . وَأَعْدَاء اللَّه : الَّذِينَ كَذَّبُوا رُسُله وَخَالَفُوا أَمْره .

يُسَاقُونَ وَيُدْفَعُونَ إِلَى جَهَنَّم . قَالَ قَتَادَة وَالسُّدِّيّ : يُحْبَس أَوَّلهمْ عَلَى آخِرهمْ حَتَّى يَجْتَمِعُوا ; قَالَ أَبُو الْأَحْوَص : فَإِذَا تَكَامَلَتْ الْعُدَّة بُدِئَ بِالْأَكَابِرِ فَالْأَكَابِر جُرْمًا . وَقَدْ مَضَى فِي " النَّمْل " الْكَلَام فِي " يُوزَعُونَ " [ النَّمْل : 17 ] مُسْتَوْفًى .
حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَسورة فصلت الآية رقم 20
" حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا " " مَا " زَائِدَة الْجُلُود يَعْنِي بِهَا الْجُلُود أَعْيَانهَا فِي قَوْل أَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ . وَقَالَ السُّدِّيّ وَعُبَيْد اللَّه بْن أَبِي جَعْفَر وَالْفَرَّاء : أَرَادَ بِالْجُلُودِ الْفُرُوج ; وَأَنْشَدَ بَعْض الْأُدَبَاء لِعَامِرِ بْن جُؤَيَّة : الْمَرْء يَسْعَى لِلسَّلَا مَةِ وَالسَّلَامَة حَسْبُهْ أَوْ سَالِم مَنْ قَدْ تَثَنَّى جِلْده وَابْيَضَّ رَأْسُهْ وَقَالَ : جِلْده كِنَايَة عَنْ فَرْجه .


وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَنَس بْن مَالِك قَالَ : كُنَّا عِنْد رَسُول اللَّه فَضَحِكَ فَقَالَ : ( هَلْ تَدْرُونَ مِمَّ أَضْحَك ) قُلْنَا : اللَّه وَرَسُوله أَعْلَم , قَالَ : ( مِنْ مُخَاطَبَة الْعَبْد رَبّه يَقُول يَا رَبّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنْ الظُّلْم قَالَ : يَقُول بَلَى قَالَ فَيَقُول فَإِنِّي لَا أُجِيز عَلَى نَفْسِي إِلَّا شَاهِدًا مِنِّي قَالَ يَقُول كَفَى بِنَفْسِك الْيَوْم عَلَيْك شَهِيدًا وَبِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ شُهُودًا قَالَ فَيَخْتِم عَلَى فِيهِ فَيُقَال لِأَرْكَانِهِ اِنْطِقِي فَتَنْطِق بِأَعْمَالِهِ قَالَ ثُمَّ يُخَلِّي بَيْنه وَبَيْن الْكَلَام قَالَ فَيَقُول بُعْدًا لَكِنْ وَسُحْقًا فَعَنْكُنَّ كُنْت أُنَاضِل ) وَفِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة ثُمَّ يُقَال : ( الْآن نَبْعَث شَاهِدنَا عَلَيْك وَيَتَفَكَّر فِي نَفْسه مَنْ ذَا الَّذِي يَشْهَد عَلَيَّ فَيُخْتَم عَلَى فِيهِ وَيُقَال لِفَخِذِهِ وَلَحْمه وَعِظَامه اِنْطِقِي فَتَنْطِق فَخِذه وَلَحْمه وَعِظَامه بِعَمَلِهِ وَذَلِكَ لِيُعْذَر مِنْ نَفْسه وَذَلِكَ الْمُنَافِق وَذَلِكَ الَّذِي سَخِطَ اللَّه عَلَيْهِ ) خَرَّجَهُ أَيْضًا مُسْلِم .
وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَسورة فصلت الآية رقم 21
يَعْنِي الْكُفَّار

وَإِنَّمَا كُنَّا نُجَادِل عَنْكُمْ

لَمَّا خَاطَبَتْ وَخُوطِبَتْ أُجْرِيَتْ مَجْرَى مَنْ يَعْقِل .

أَيْ رَكَّبَ الْحَيَاة فِيكُمْ بَعْد أَنْ كُنْتُمْ نُطَفًا , فَمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ قَدَرَ عَلَى أَنْ يُنْطِق الْجُلُود وَغَيْرهَا مِنْ الْأَعْضَاء . وَقِيلَ : " وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّل مَرَّة " اِبْتِدَاء كَلَام مِنْ اللَّه .
وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَسورة فصلت الآية رقم 22
يَجُوز أَنْ يَكُون هَذَا مِنْ قَوْل الْجَوَارِح لَهُمْ : وَيَجُوز أَنْ يَكُون مِنْ قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَوْ الْمَلَائِكَة . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ اِبْن مَسْعُود قَالَ : اِجْتَمَعَ عِنْد الْبَيْت ثَلَاثَة نَفَر ; قُرَشِيَّانِ وَثَقَفِيّ أَوْ ثَقَفِيَّانِ وَقُرَشِيّ ; قَلِيل فِقْه قُلُوبهمْ , كَثِير شَحْم بُطُونهمْ : فَقَالَ أَحَدهمْ : أَتَرَوْنَ اللَّه يَسْمَع مَا نَقُول ؟ فَقَالَ الْآخَر : يَسْمَع إِنْ جَهَرْنَا وَلَا يَسْمَع إِنْ أَخْفَيْنَا ; وَقَالَ الْآخَر : إِنْ كَانَ يَسْمَع إِذَا جَهَرْنَا فَهُوَ يَسْمَع إِذَا أَخْفَيْنَا ; فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَد عَلَيْكُمْ سَمْعكُمْ وَلَا أَبْصَاركُمْ " الْآيَة ; خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ فَقَالَ : اِخْتَصَمَ عِنْد الْبَيْت ثَلَاثَة نَفَر . ثُمَّ ذَكَرَهُ بِلَفْظِهِ حَرْفًا حَرْفًا وَقَالَ : حَدِيث حَسَن صَحِيح ; حَدَّثَنَا هَنَّاد قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَنْ الْأَعْمَش عَنْ عُمَارَة بْن عُمَيْر عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن يَزِيد قَالَ : قَالَ عَبْد اللَّه : كُنْت مُسْتَتِرًا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَة فَجَاءَ ثَلَاثَة نَفَر كَثِير شَحْم بُطُونهمْ قَلِيل فِقْه قُلُوبهمْ , قُرَشِيّ وَخَتَنَاهُ ثَقَفِيَّانِ , أَوْ ثَقَفِيّ وَخَتَنَاهُ قُرَشِيَّانِ , فَتَكَلَّمُوا بِكَلَامٍ لَمْ أَفْهَمهُ ; فَقَالَ أَحَدهمْ : أَتَرَوْنَ أَنَّ اللَّه يَسْمَع كَلَامنَا هَذَا , فَقَالَ الْآخَر : إِنَّا إِذَا رَفَعْنَا أَصْوَاتنَا سَمِعَهُ , وَإِذَا لَمْ نَرْفَع أَصْوَاتنَا لَمْ يَسْمَعهُ , فَقَالَ الْآخَر : إِنْ سَمِعَ مِنْهُ شَيْئًا سَمِعَهُ كُلّه فَقَالَ عَبْد اللَّه : فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَد عَلَيْكُمْ سَمْعكُمْ وَلَا أَبْصَاركُمْ وَلَا جُلُودكُمْ " إِلَى قَوْله : " فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ " قَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح . قَالَ الثَّعْلَبِيّ : وَالثَّقَفِيّ عَبْد يَالَيْلَ , وَخَتَنَاهُ رَبِيعَة وَصَفْوَان بْن أُمَيَّة . وَمَعْنَى " تَسْتَتِرُونَ " تَسْتَخْفُونَ فِي قَوْل أَكْثَر الْعُلَمَاء ; أَيْ مَا كُنْتُمْ تَسْتَخْفُونَ مِنْ أَنْفُسكُمْ حَذَرًا مِنْ شَهَادَة الْجَوَارِح عَلَيْكُمْ ; لِأَنَّ الْإِنْسَان لَا يُمْكِنهُ أَنْ يُخْفِي مِنْ نَفْسه عَمَله , فَيَكُون الِاسْتِخْفَاء بِمَعْنَى تَرْك الْمَعْصِيَة . وَقِيلَ : الِاسْتِتَار بِمَعْنَى الِاتِّقَاء ; أَيْ مَا كُنْتُمْ تَتَّقُونَ فِي الدُّنْيَا أَنْ تَشْهَد عَلَيْكُمْ جَوَارِحكُمْ فِي الْآخِرَة فَتَتْرُكُوا الْمَعَاصِي خَوْفًا مِنْ هَذِهِ الشَّهَادَة . وَقَالَ مَعْنَاهُ مُجَاهِد . وَقَالَ قَتَادَة : " وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ " أَيْ تَظُنُّونَ " أَنْ يَشْهَد عَلَيْكُمْ سَمْعكُمْ " بِأَنْ يَقُول سَمِعْت الْحَقّ وَمَا وَعَيْت وَسَمِعْت مَا لَا يَجُوز مِنْ الْمَعَاصِي " وَلَا أَبْصَاركُمْ " فَتَقُول رَأَيْت آيَات اللَّه وَمَا اِعْتَبَرْت وَنَظَرْت فِيمَا لَا يَجُوز " وَلَا جُلُودكُمْ " تَقَدَّمَ .

مِنْ أَعْمَالكُمْ فَجَادَلْتُمْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى شَهِدَتْ عَلَيْكُمْ جَوَارِحكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ . رَوَى بَهْز بْن حَكِيم عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله : " أَنْ يَشْهَد عَلَيْكُمْ سَمِعَكُمْ وَلَا أَبْصَاركُمْ وَلَا جُلُودكُمْ " قَالَ : ( إِنَّكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْم الْقِيَامَة مُفَدَّمَة أَفْوَاهكُمْ بِفِدَامٍ فَأَوَّل مَا يُبَيِّن عَنْ الْإِنْسَان فَخِذه وَكَفّه ) قَالَ عَبْد اللَّه بْن عَبْد الْأَعْلَى الشَّامِيّ فَأَحْسَنَ : الْعُمْر يَنْقُص وَالذُّنُوب تَزِيد وَتُقَال عَثَرَات الْفَتَى فَيَعُود هَلْ يَسْتَطِيع جُحُود ذَنْب وَاحِد رَجُل جَوَارِحه عَلَيْهِ شُهُود وَالْمَرْء يَسْأَل عَنْ سِنِيهِ فَيَشْتَهِي تَقْلِيلهَا وَعَنْ الْمَمَات يَحِيد وَعَنْ مَعْقِل بْن يَسَار عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَيْسَ مِنْ يَوْم يَأْتِي عَلَى اِبْن آدَم إِلَّا يُنَادَى فِيهِ يَا اِبْن آدَم أَنَا خَلْق جَدِيد وَأَنَا فِيمَا تَعْمَل غَدًا عَلَيْك شَهِيد فَاعْمَلْ فِيَّ خَيْرًا أَشْهَد لَك بِهِ غَدًا فَإِنِّي لَوْ قَدْ مَضَيْت لَمْ تَرَنِي أَبَدًا وَيَقُول اللَّيْل مِثْل ذَلِكَ ) ذَكَرَهُ أَبُو نُعَيْم الْحَافِظ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَاب " التَّذْكِرَة " فِي بَاب شَهَادَة الْأَرْض وَاللَّيَالِي وَالْأَيَّام وَالْمَال . وَقَالَ مُحَمَّد بْن بَشِير فَأَحْسَنَ : مَضَى أَمْسك الْأَدْنَى شَهِيدًا مُعَدَّلًا وَيَوْمك هَذَا بِالْفِعَالِ شَهِيد فَإِنْ تَكُ بِالْأَمْسِ اِقْتَرَفْت إِسَاءَة فَثَنِّ بِإِحْسَانٍ وَأَنْتَ حَمِيد وَلَا تُرْجِ فِعْل الْخَيْر مِنْك إِلَى غَد لَعَلَّ غَدًا يَأْتِي وَأَنْتَ فَقِيد
وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَسورة فصلت الآية رقم 23
أَيْ أَهْلَكَكُمْ فَأَوْرَدَكُمْ النَّار . قَالَ قَتَادَة : الظَّنّ هُنَا بِمَعْنَى الْعِلْم . وَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَمُوتَن أَحَدكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِن الظَّنّ بِاَللَّهِ فَإِنَّ قَوْمًا أَسَاءُوا الظَّنّ بِرَبِّهِمْ فَأَهْلَكَهُمْ ) فَذَلِكَ قَوْله : " وَذَلِكُمْ ظَنّكُمْ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ " . وَقَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ : إِنَّ قَوْمًا أَلْهَتْهُمْ الْأَمَانِيّ حَتَّى خَرَجُوا مِنْ الدُّنْيَا وَمَا لَهُمْ حَسَنَة , وَيَقُول أَحَدهمْ : إِنِّي أُحْسِن الظَّنّ بِرَبِّي وَكَذَبَ , وَلَوْ أَحْسَنَ الظَّنّ لَأَحْسَنَ الْعَمَل , وَتَلَا قَوْل اللَّه تَعَالَى : " وَذَلِكُمْ ظَنّكُمْ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ " . وَقَالَ قَتَادَة : مَنْ اِسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَمُوت وَهُوَ حَسِن الظَّنّ بِرَبِّهِ فَلْيَفْعَلْ , فَإِنَّ الظَّنّ اِثْنَانِ ظَنّ يُنَجِّي وَظَنّ يُرْدِي . وَقَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب فِي هَذِهِ الْآيَة : هَؤُلَاءِ قَوْم كَانُوا يُدْمِنُونَ الْمَعَاصِي وَلَا يَتُوبُونَ مِنْهَا وَيَتَكَلَّمُونَ عَلَى الْمَغْفِرَة , حَتَّى خَرَجُوا مِنْ الدُّنْيَا مَفَالِيس , ثُمَّ قَرَأَ : " وَذَلِكُمْ ظَنّكُمْ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ " .
فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَسورة فصلت الآية رقم 24
أَيْ فَإِنْ يَصْبِرُوا فِي الدُّنْيَا عَلَى أَعْمَال أَهْل النَّار فَالنَّار مَثْوًى لَهُمْ . نَظِيره : " فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّار " [ الْبَقَرَة : 175 ] عَلَى مَا تَقَدَّمَ .

فِي الدُّنْيَا وَهُمْ مُقِيمُونَ عَلَى كُفْرهمْ " فَمَا هُمْ مِنْ الْمُعْتَبِينَ " . وَقِيلَ : الْمَعْنَى " فَإِنْ يَصْبِرُوا " فِي النَّار أَوْ يَجْزَعُوا " فَالنَّار مَثْوًى لَهُمْ " أَيْ لَا مَحِيص لَهُمْ عَنْهَا , وَدَلَّ عَلَى الْجَزَع قَوْله : " وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا " لِأَنَّ الْمُسْتَعْتَب جَزِع وَالْمُعْتِب الْمَقْبُول عِتَابه ; قَالَ النَّابِغَة : فَإِنْ أَكُ مَظْلُومًا فَعَبْد ظَلَمْته وَإِنْ تَكُ ذَا عُتْبَى فَمِثْلك يُعْتِب أَيْ مِثْلك مَنْ قَبِلَ الصُّلْح وَالْمُرَاجَعَة إِذَا سُئِلَ . قَالَ الْخَلِيل : الْعِتَاب مُخَاطَبَة الْإِدْلَال وَمُذَاكَرَة الْمُوجَدَة . تَقُول : عَاتَبْته مُعَاتَبَة , وَبَيْنهمْ أُعْتُوبَة يَتَعَاتَبُونَ بِهَا . يُقَال : إِذَا تَعَاتَبُوا أَصْلَحَ مَا بَيْنهمْ الْعِتَاب . وَأَعْتَبَنِي فُلَان : إِذَا عَادَ إِلَى مَسَرَّتِي رَاجِعًا عَنْ الْإِسَاءَة , وَالِاسْم مِنْهُ الْعُتْبَى , وَهُوَ رُجُوع الْمَعْتُوب عَلَيْهِ إِلَى مَا يُرْضِي الْعَاتِب . وَاسْتَعْتَبَ وَأَعْتَبَ بِمَعْنًى , وَاسْتَعْتَبَ أَيْضًا طَلَبَ أَنْ يُعْتَب ; تَقُول : اِسْتَعْتَبْته فَأَعْتَبَنِي أَيْ اِسْتَرْضَيْته فَأَرْضَانِي . فَمَعْنَى " وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا " أَيْ طَلَبُوا الرِّضَا لَمْ يَنْفَعهُمْ ذَلِكَ بَلْ لَا بُدّ لَهُمْ مِنْ النَّار . وَفِي التَّفَاسِير : وَإِنْ يَسْتَقِيلُوا رَبّهمْ فَمَا هُمْ مِنْ الْمُقَالِينَ . وَقَرَأَ عُبَيْد بْن عُمَيْر وَأَبُو الْعَالِيَة " وَإِنْ يُسْتَعْتَبُوا " بِفَتْحِ التَّاء الثَّانِيَة وَضَمّ الْيَاء عَلَى الْفِعْل الْمَجْهُول " فَمَا هُمْ مِنْ الْمُعْتِبِينَ " بِكَسْرِ التَّاء أَيْ إِنْ أَقَالَهُمْ اللَّه وَرَدَّهُمْ إِلَى الدُّنْيَا لَمْ يَعْمَلُوا بِطَاعَتِهِ لِمَا سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْم اللَّه مِنْ الشَّقَاء , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ " [ الْأَنْعَام : 28 ] ذَكَرَهُ الْهَرَوِيّ . وَقَالَ ثَعْلَب : يُقَال أَعْتَبَ إِذَا غَضِبَ وَأَعْتَبَ إِذَا رَضِيَ .
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَسورة فصلت الآية رقم 25
قَالَ النَّقَّاش : أَيْ هَيَّأْنَا لَهُمْ شَيَاطِين . وَقِيلَ : سَلَّطْنَا عَلَيْهِمْ قُرَنَاء يُزَيِّنُونَ عِنْدهمْ الْمَعَاصِي , وَهَؤُلَاءِ الْقُرَنَاء مِنْ الْجِنّ وَالشَّيَاطِين وَمِنْ الْإِنْس أَيْضًا ; أَيْ سَبَّبْنَا لَهُمْ قُرَنَاء ; يُقَال : قَيَّضَ اللَّه فُلَانًا لِفُلَانٍ أَيْ جَاءَهُ بِهِ وَأَتَاحَهُ لَهُ , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء " . الْقُشَيْرِيّ : وَيُقَال قَيَّضَ اللَّه لِي رِزْقًا أَيْ أَتَاحَهُ كَمَا كُنْت أَطْلُبهُ , وَالتَّقْيِيض الْإِبْدَال وَمِنْهُ الْمُقَايَضَة , قَايَضْت الرَّجُل مُقَايَضَة أَيْ عَاوَضْتُهُ بِمَتَاعٍ , وَهُمَا قَيْضَانِ كَمَا تَقُول بَيْعَانِ .

مِنْ أَمْر الدُّنْيَا فَحَسَّنُوهُ لَهُمْ حَتَّى آثَرُوهُ عَلَى الْآخِرَة

حَسَّنُوا لَهُمْ مَا بَعْد مَمَاتهمْ وَدَعَوْهُمْ إِلَى التَّكْذِيب بِأُمُورِ الْآخِرَة ; عَنْ مُجَاهِد . وَقِيلَ : الْمَعْنَى " قَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء " فِي النَّار " فَزَيَّنُوا لَهُمْ " أَعْمَالهمْ فِي الدُّنْيَا ; وَالْمَعْنَى قَدَّرْنَا عَلَيْهِمْ أَنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ وَحَكَمْنَا بِهِ عَلَيْهِمْ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى أَحْوَجْنَاهُمْ إِلَى الْأَقْرَان ; أَيْ أَحْوَجْنَا الْفَقِير إِلَى الْغَنِيّ لِيَنَالَ مِنْهُ , وَالْغَنِيّ إِلَى الْفَقِير لِيَسْتَعِينَ بِهِ فَزَيَّنَ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ الْمَعَاصِي . وَلَيْسَ قَوْله : " وَمَا خَلْفهمْ " عَطْفًا عَلَى " مَا بَيْن أَيْدِيهمْ " بَلْ الْمَعْنَى وَأَنْسَوْهُمْ مَا خَلْفهمْ فَفِيهِ هَذَا الْإِضْمَار . قَالَ اِبْن عَبَّاس : " مَا بَيْن أَيْدِيهمْ " تَكْذِيبهمْ بِأُمُورِ الْآخِرَة " وَمَا خَلْفهمْ " التَّسْوِيف وَالتَّرْغِيب فِي الدُّنْيَا . الزَّجَّاج : " مَا بَيْن أَيْدِيهمْ " مَا عَمِلُوهُ " وَمَا خَلْفهمْ " مَا عَزَمُوا عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهُ . وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْل مُجَاهِد . وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَهُمْ مِثْل مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَعَاصِي " وَمَا خَلْفهمْ " مَا يَعْمَل بَعْدهمْ .

أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْعَذَاب مَا وَجَبَ عَلَى الْأُمَم الَّذِينَ مِنْ قَبْلهمْ الَّذِينَ كَفَرُوا كَكُفْرِهِمْ . وَقِيلَ : " فِي " بِمَعْنَى مَعَ ; فَالْمَعْنَى هُمْ دَاخِلُونَ مَعَ الْأُمَم الْكَافِرَة قَبْلهمْ فِيمَا دَخَلُوا فِيهِ . وَقِيلَ : " فِي أُمَم " فِي جُمْلَة أُمَم , وَمِثْله قَوْل الشَّاعِر : إِنْ تَكُ عَنْ أَحْسَن الصَّنِيعَة مَأْ فُوكًا فَفِي آخَرِينَ قَدْ أُفِكُوا يُرِيد فَأَنْتَ فِي جُمْلَة آخَرِينَ لَسْت فِي ذَلِكَ بِأَوْحَد . وَمَحَلّ " فِي أُمَم " النَّصْب عَلَى الْحَال مِنْ الضَّمِير فِي " عَلَيْهِمْ " أَيْ حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْل كَائِنِينَ فِي جُمْلَة أُمَم .

أَعْمَالهمْ فِي الدُّنْيَا وَأَنْفُسهمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْم الْقِيَامَة .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَسورة فصلت الآية رقم 26
لَمَّا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ كُفْر قَوْم هُود وَصَالِح وَغَيْرهمْ أَخْبَرَ عَنْ مُشْرِكِي قُرَيْش وَأَنَّهُمْ كَذَّبُوا الْقُرْآن فَقَالُوا : " لَا تَسْمَعُوا " . وَقِيلَ : مَعْنَى " لَا تَسْمَعُوا " لَا تُطِيعُوا ; يُقَال : سَمِعْت لَك أَيْ أَطَعْتُك .

قَالَ اِبْن عَبَّاس : قَالَ أَبُو جَهْل إِذَا قَرَأَ مُحَمَّد فَصِيحُوا فِي وَجْهه حَتَّى لَا يَدْرِي مَا يَقُول . وَقِيلَ : إِنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ لَمَّا أَعْجَزَهُمْ الْقُرْآن . وَقَالَ مُجَاهِد : الْمَعْنَى " وَالْغَوْا فِيهِ " بِالْمُكَاءِ وَالتَّصْفِيق وَالتَّخْلِيط فِي الْمَنْطِق حَتَّى يَصِير لَغْوًا . وَقَالَ الضَّحَّاك : أَكْثَرُوا الْكَلَام لِيَخْتَلِط عَلَيْهِ مَا يَقُول . وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَة وَابْن عَبَّاس أَيْضًا : قِعُوا فِيهِ . وَعَيِّبُوهُ .


وَقَرَأَ عِيسَى بْن عُمَر وَالْجَحْدَرِيّ وَابْن أَبِي إِسْحَاق وَأَبُو حَيْوَة وَبَكْر بْن حَبِيب السَّهْمِيّ " وَالْغُوا " بِضَمِّ الْغَيْن وَهِيَ لُغَة مِنْ لَغَا يَلْغُو . وَقِرَاءَة الْجَمَاعَة مِنْ لَغِيَ يَلْغَى . قَالَ الْهَرَوِيّ : وَقَوْله : " وَالْغَوْا فِيهِ " قِيلَ : عَارِضُوهُ بِكَلَامٍ لَا يُفْهَم . يُقَال : لَغَوْت أَلْغُو وَأَلْغَى , وَلَغِيَ يَلْغَى ثَلَاث لُغَات . وَقَدْ مَضَى مَعْنَى اللَّغْو فِي " الْبَقَرَة " وَهُوَ مَا لَا يُعْلَم لَهُ حَقِيقَة وَلَا تَحْصِيل .

مُحَمَّدًا عَلَى قِرَاءَته فَلَا يَظْهَر وَلَا يَسْتَمِيل الْقُلُوب .
فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَسورة فصلت الآية رقم 27
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الذَّوْق يَكُون مَحْسُوسًا , وَمَعْنَى الْعَذَاب الشَّدِيد : مَا يَتَوَالَى فَلَا يَنْقَطِع . وَقِيلَ : هُوَ الْعَذَاب فِي جَمِيع أَجْزَائِهِمْ .

أَيْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ فِي الْآخِرَة جَزَاء قُبْح أَعْمَالهمْ الَّتِي عَمِلُوهَا فِي الدُّنْيَا . وَأَسْوَأ الْأَعْمَال الشِّرْك .
ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَسورة فصلت الآية رقم 28
أَيْ ذَلِكَ الْعَذَاب الشَّدِيد , ثُمَّ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ " النَّار " وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس " ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّه النَّار دَار الْخُلْد " فَتَرْجَمَ بِالدَّارِ عَنْ النَّار وَهُوَ مَجَاز الْآيَة . و " ذَلِكَ " اِبْتِدَاء و " جَزَاء " الْخَبَر و " النَّار " بَدَل مِنْ " جَزَاء " أَوْ خَبَر مُبْتَدَإِ مُضْمَر , وَالْجُمْلَة فِي مَوْضِع بَيَان لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَسورة فصلت الآية رقم 29
يَعْنِي فِي النَّار فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْمَاضِي وَالْمُرَاد الْمُسْتَقْبَل

يَعْنِي إِبْلِيس وَابْن آدَم الَّذِي قَتَلَ أَخَاهُ . عَنْ اِبْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود وَغَيْرهمَا ; وَيَشْهَد لِهَذَا الْقَوْل الْحَدِيث الْمَرْفُوع : ( مَا مِنْ مُسْلِم يُقْتَل ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى اِبْن آدَم الْأَوَّل كِفْل مِنْ ذَنْبه لِأَنَّهُ أَوَّل مَنْ سَنَّ الْقَتْل ) خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ , وَقِيلَ : هُوَ بِمَعْنَى الْجِنْس وَبُنِيَ عَلَى التَّثْنِيَة لِاخْتِلَافِ الْجِنْسَيْنِ . وَقَرَأَ اِبْن مُحَيْصِن وَالسُّوسِيّ عَنْ أَبِي عَمْرو وَابْن عَامِر وَأَبُو بَكْر وَالْمُفَضَّل " أَرْنَا " بِإِسْكَانِ الرَّاء , وَعَنْ أَبِي عَمْرو أَيْضًا بِاخْتِلَاسِهَا . وَأَشْبَعَ الْبَاقُونَ كَسْرَتهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْأَعْرَاف " .

سَأَلُوا ذَلِكَ حَتَّى يَشْتَفُوا مِنْهُمْ بِأَنْ يَجْعَلُوهُمْ تَحْت أَقْدَامهمْ

فِي النَّار وَهُوَ الدَّرْك الْأَسْفَل سَأَلُوا أَنْ يُضَعِّف اللَّه عَذَاب مَنْ كَانَ سَبَب ضَلَالَتهمْ مِنْ الْجِنّ وَالْإِنْس .
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَسورة فصلت الآية رقم 30
قَالَ عَطَاء عَنْ اِبْن عَبَّاس : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِي أَبِي بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ; وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا رَبّنَا اللَّه وَالْمَلَائِكَة بَنَاته وَهَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْد اللَّه ; فَلَمْ يَسْتَقِيمُوا . وَقَالَ أَبُو بَكْر : رَبّنَا اللَّه وَحْده لَا شَرِيك لَهُ وَمُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْده وَرَسُوله ; فَاسْتَقَامَ . وَفِي التِّرْمِذِيّ عَنْ أَنَس بْن مَالِك أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ " إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبّنَا اللَّه ثُمَّ اِسْتَقَامُوا " قَالَ : ( قَدْ قَالَ النَّاس ثُمَّ كَفَرَ أَكْثَرهمْ فَمَنْ مَاتَ عَلَيْهَا فَهُوَ مِمَّنْ اِسْتَقَامَ ) قَالَ : حَدِيث غَرِيب . وَيُرْوَى فِي هَذِهِ الْآيَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْر وَعُمَر وَعُثْمَان وَعَلِيّ مَعْنَى " اِسْتَقَامُوا " ; فَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ سُفْيَان بْن عَبْد اللَّه الثَّقَفِيّ قَالَ : قُلْت يَا رَسُول اللَّه قُلْ لِي فِي الْإِسْلَام قَوْلًا لَا أَسْأَل عَنْهُ أَحَدًا بَعْدك - وَفِي رِوَايَة - غَيْرك . قَالَ : ( قُلْ آمَنْت بِاَللَّهِ ثُمَّ اِسْتَقِمْ ) زَادَ التِّرْمِذِيّ قُلْت : يَا رَسُول اللَّه مَا أَخْوَف مَا تَخَاف عَلَيَّ ؟ فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسه وَقَالَ : ( هَذَا ) . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " ثُمَّ اِسْتَقَامُوا " لَمْ يُشْرِكُوا بِاَللَّهِ شَيْئًا . وَرَوَى عَنْهُ الْأَسْوَد بْن هِلَال أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ : مَا تَقُولُونَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ " إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبّنَا اللَّه ثُمَّ اِسْتَقَامُوا " و " الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانهمْ بِظُلْمٍ " فَقَالُوا : اِسْتَقَامُوا فَلَمْ يُذْنِبُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانهمْ بِخَطِيئَةٍ ; فَقَالَ أَبُو بَكْر : لَقَدْ حَمَلْتُمُوهَا عَلَى غَيْر الْمَحْمَل " قَالُوا رَبّنَا اللَّه ثُمَّ اِسْتَقَامُوا " فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى إِلَه غَيْره " وَلَمْ يَلْبَسُوا إِيمَانهمْ " بِشِرْكٍ " أُولَئِكَ لَهُمْ الْأَمْن وَهُمْ مُهْتَدُونَ " . وَرُوِيَ عَنْ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَر وَهُوَ يَخْطُب : " إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبّنَا اللَّه ثُمَّ اِسْتَقَامُوا " فَقَالَ : اِسْتَقَامُوا وَاَللَّه عَلَى الطَّرِيقَة لِطَاعَتِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْغُوا رَوَغَان الثَّعَالِب . وَقَالَ عُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : ثُمَّ أَخْلَصُوا الْعَمَل لِلَّهِ . وَقَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : ثُمَّ أَدَّوْا الْفَرَائِض . وَأَقْوَال التَّابِعِينَ بِمَعْنَاهَا . قَالَ اِبْن زَيْد وَقَتَادَة : اِسْتَقَامُوا عَلَى الطَّاعَة لِلَّهِ . الْحَسَن : اِسْتَقَامُوا عَلَى أَمْر اللَّه فَعَمِلُوا بِطَاعَتِهِ وَاجْتَنَبُوا مَعْصِيَته . وَقَالَ مُجَاهِد وَعِكْرِمَة : اِسْتَقَامُوا عَلَى شَهَادَة أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه حَتَّى مَاتُوا . وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ : عَمِلُوا عَلَى وِفَاق مَا قَالُوا . وَقَالَ الرَّبِيع : أَعْرَضُوا عَمَّا سِوَى اللَّه . وَقَالَ الْفُضَيْل بْن عِيَاض : زَهِدُوا فِي الْفَانِيَة وَرَغِبُوا فِي الْبَاقِيَة . وَقِيلَ : اِسْتَقَامُوا إِسْرَارًا كَمَا اِسْتَقَامُوا إِقْرَارًا . وَقِيلَ : اِسْتَقَامُوا فِعْلًا كَمَا اِسْتَقَامُوا قَوْلًا . وَقَالَ أَنَس : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( هُمْ أُمَّتِي وَرَبّ الْكَعْبَة ) . وَقَالَ الْإِمَام اِبْن فَوْرَك : السِّين سِين الطَّلَب مِثْل اِسْتَسْقَى أَيْ سَأَلُوا مِنْ اللَّه أَنْ يُثَبِّتهُمْ عَلَى الدِّين . وَكَانَ الْحَسَن إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَة قَالَ : اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبّنَا فَارْزُقْنَا الِاسْتِقَامَة .


قُلْت : وَهَذِهِ الْأَقْوَال وَإِنْ تَدَاخَلَتْ فَتَلْخِيصهَا : اِعْتَدِلُوا عَلَى طَاعَة اللَّه عَقْدًا وَقَوْلًا وَفِعْلًا , وَدَامُوا عَلَى ذَلِكَ .

قَالَ اِبْن زَيْد وَمُجَاهِد : عِنْد الْمَوْت . وَقَالَ مُقَاتِل وَقَتَادَة : إِذَا قَامُوا مِنْ قُبُورهمْ لِلْبَعْثِ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : هِيَ بُشْرَى تَكُون لَهُمْ مِنْ الْمَلَائِكَة فِي الْآخِرَة . وَقَالَ وَكِيع وَابْن زَيْد : الْبُشْرَى فِي ثَلَاثَة مَوَاطِن عِنْد الْمَوْت وَفِي الْقَبْر وَعِنْد الْبَعْث .

أَيْ ب " أَلَّا تَخَافُوا " فَحَذَفَ الْجَارّ . وَقَالَ مُجَاهِد : لَا تَخَافُوا الْمَوْت . وَقَالَ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح : لَا تَخَافُوا رَدَّ ثَوَابكُمْ فَإِنَّهُ مَقْبُول , وَقَالَ عِكْرِمَة وَلَا تَخَافُوا إِمَامكُمْ , وَلَا تَحْزَنُوا عَلَى ذُنُوبكُمْ .

عَلَى أَوْلَادكُمْ فَإِنَّ اللَّه خَلِيفَتكُمْ عَلَيْهِمْ . وَقَالَ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح : لَا تَحْزَنُوا عَلَى ذُنُوبكُمْ فَإِنِّي أَغْفِرهَا لَكُمْ . وَقَالَ عِكْرِمَة : لَا تَحْزَنُوا عَلَى ذُنُوبكُمْ .
الصفحة 1الصفحة 2