الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3
طسمسورة القصص الآية رقم 1
سُورَة الْقَصَص مَكِّيَّة إِلَّا مِنْ آيَة 52 إِلَى آيَة 55 فَمَدَنِيَّة وَآيَة 85 فَبِالْجُحْفَةِ أَثْنَاء الْهِجْرَة وَآيَاتهَا 88 نَزَلَتْ بَعْد النَّمْل مَكِّيَّة كُلّهَا فِي قَوْل الْحَسَن وَعِكْرِمَة وَعَطَاء وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة إِلَّا آيَة نَزَلَتْ بَيْن مَكَّة وَالْمَدِينَة وَقَالَ اِبْن سَلَام : بِالْجُحْفَةِ فِي وَقْت , هِجْرَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَة وَهِيَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : " إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْك الْقُرْآن لَرَادّك إِلَى مَعَاد " [ الْقَصَص : 85 ] وَقَالَ مُقَاتِل : فِيهَا مِنْ الْمَدَنِيّ " الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَاب " [ الْبَقَرَة : 121 ] إِلَى قَوْله : " لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ " [ الْقَصَص : 55 ] وَهِيَ ثَمَانٍ وَثَمَانُونَ آيَة قَرَأَ الْأَعْمَش وَيَحْيَى وَأَبُو بَكْر وَالْمُفَضَّل وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ وَخَلَف : بِإِمَالَةِ الطَّاء مُشْبَعًا فِي هَذِهِ السُّورَة وَفِي أُخْتَيْهَا . وَقَرَأَ نَافِع وَأَبُو جَعْفَر وَشَيْبَة وَالزُّهْرِيّ : بَيْن اللَّفْظَيْنِ ; وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْد وَأَبُو حَاتِم . وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ مُشْبَعًا . قَالَ الثَّعْلَبِيّ : وَهِيَ كُلّهَا لُغَات فَصِيحَة . وَقَدْ مَضَى فِي [ طه ] قَوْل النَّحَّاس فِي هَذَا . قَالَ النَّحَّاس : وَقَرَأَ الْمَدَنِيُّونَ وَأَبُو عَمْرو وَعَاصِم وَالْكِسَائِيّ : " طسم " بِإِدْغَامِ النُّون فِي الْمِيم , وَالْفَرَّاء يَقُول بِإِخْفَاءِ النُّون . وَقَرَأَ الْأَعْمَش : وَحَمْزَة : " طسين مِيم " بِإِظْهَارِ النُّون . قَالَ النَّحَّاس : لِلنُّونِ السَّاكِنَة وَالتَّنْوِين أَرْبَعَة أَقْسَام عِنْد سِيبَوَيْهِ : يُبَيَّنَانِ عِنْد حُرُوف الْحَلْق , وَيُدْغَمَانِ عِنْد الرَّاء وَاللَّام وَالْمِيم وَالْوَاو وَالْيَاء , وَيُقْلَبَانِ مِيمًا عِنْد الْبَاء وَيَكُونَانِ مِنْ الْخَيَاشِيم ; أَيْ لَا يُبَيَّنَانِ ; فَعَلَى هَذِهِ الْأَرْبَعَة الْأَقْسَام الَّتِي نَصَّهَا سِيبَوَيْهِ لَا تَجُوز هَذِهِ الْقِرَاءَة ; لِأَنَّهُ لَيْسَ هَا هُنَا حَرْف مِنْ حُرُوف الْحَلْق فَتُبَيَّن النُّون عِنْده , وَلَكِنْ فِي ذَلِكَ وُجَيْه : وَهُوَ أَنَّ حُرُوف الْمُعْجَم حُكْمهَا أَنْ يُوقَف عَلَيْهَا , فَإِذَا وُقِفَ عَلَيْهَا تَبَيَّنَتْ النُّون . قَالَ الثَّعْلَبِيّ : الْإِدْغَام اِخْتِيَار أَبِي عُبَيْد وَأَبِي حَاتِم قِيَاسًا عَلَى كُلّ الْقُرْآن , وَإِنَّمَا أَظْهَرَهَا أُولَئِكَ لِلتَّبْيِينِ وَالتَّمْكِين , وَأَدْغَمَهَا هَؤُلَاءِ لِمُجَاوَرَتِهَا حُرُوف الْفَم . قَالَ النَّحَّاس : وَحَكَى أَبُو إِسْحَاق فِي كِتَابه [ فِيمَا يُجْرَى وَفِيمَا لَا يُجْرَى ] أَنَّهُ يَجُوز أَنْ يُقَال : " طسين مِيم " بِفَتْحِ النُّون وَضَمّ الْمِيم , كَمَا يُقَال هَذَا مَعْدِي كَرِبُ . وَقَالَ قَالَ أَبُو حَاتِم : قَرَأَ خَالِد : " طسين مِيم " . اِبْن عَبَّاس : " طسم " قَسَم وَهُوَ اِسْم مِنْ أَسْمَاء اللَّه تَعَالَى , . وَقَالَ قَتَادَة : اِسْم مِنْ أَسْمَاء الْقُرْآن أَقْسَمَ اللَّه بِهِ . مُجَاهِد : هُوَ اِسْم السُّورَة ; وَيَحْسُن اِفْتِتَاح السُّورَة . الرَّبِيع : حِسَاب مُدَّة قَوْم . وَقِيلَ : قَارِعَة تَحُلّ بِقَوْمٍ . " طسم " وَ " طس " وَاحِد . قَالَ : وَفَاؤُكُمَا كَالرَّبِيعِ أَشْجَاهُ طَاسِمُهْ بِأَنْ تَسْعَدَا وَالدَّمْع أَشْفَاهُ سَاجِمهْ وَقَالَ الْقَرَظِيّ : أَقْسَمَ اللَّه بِطَوْلِهِ وَسَنَائِهِ وَمُلْكه . وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن عَقِيل : الطَّاء طُور سَيْنَاء وَالسِّين إِسْكَنْدَرِيَّة وَالْمِيم مَكَّة . وَقَالَ جَعْفَر بْن مُحَمَّد بْن عَلِيّ : الطَّاء شَجَرَة طُوبَى , وَالسِّين سِدْرَة الْمُنْتَهَى , وَالْمِيم مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقِيلَ : الطَّاء مِنْ الطَّاهِر وَالسِّين مِنْ الْقُدُّوس - وَقِيلَ : مِنْ السَّمِيع وَقِيلَ : مِنْ السَّلَام - وَالْمِيم مِنْ الْمَجِيد . وَقِيلَ : مِنْ الرَّحِيم . وَقِيلَ : مِنْ الْمَلِك . وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي أَوَّل سُورَة [ الْبَقَرَة ] . وَالطَّوَاسِيم وَالطَّوَاسِين سُوَر فِي الْقُرْآن جُمِعَتْ عَلَى غَيْر قِيَاس . وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَة : وَبِالطَّوَاسِيمِ الَّتِي قَدْ ثُلِّثَتْ وَبِالْحَوَامِيمِ الَّتِي قَدْ سُبِّعَتْ قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَالصَّوَاب أَنْ تُجْمَع بِذَوَاتِ وَتُضَاف إِلَى وَاحِد , فَيُقَال : ذَوَات طسم وَذَوَات حم .
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِسورة القصص الآية رقم 2
آيَات الْكِتَاب الْمُبِين " " تِلْكَ " فِي مَوْضِع رَفْع بِمَعْنَى هَذِهِ تِلْكَ وَ " آيَات " بَدَل مِنْهَا . وَيَجُوز أَنْ يَكُون فِي مَوْضِع نَصْب بِ " نَتْلُو " وَ " آيَات " بَدَل مِنْهَا أَيْضًا ; وَتَنْصِبهَا كَمَا تَقُول : زَيْدًا ضَرَبْت وَ " الْمُبِين " أَيْ الْمُبِين بَرَكَته وَخَيْره , وَالْمُبِين الْحَقّ مِنْ الْبَاطِل , وَالْحَلَال مِنْ الْحَرَام , وَقَصَص الْأَنْبِيَاء , وَنُبُوَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; يُقَال : بَانَ الشَّيْء وَأَبَانَ اِتَّضَحَ
نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَسورة القصص الآية رقم 3
أَيْ يَقْرَأ عَلَيْك جِبْرِيل بِأَمْرِنَا



نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْن " أَيْ مِنْ خَبَرهمَا وَ " مِنْ " لِلتَّبْعِيضِ وَ " مِنْ نَبَإِ " مَفْعُول " نَتْلُو " أَيْ نَتْلُو عَلَيْك بَعْض خَبَرهمَا ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " تَنْبُت بِالدُّهْنِ " [ الْمُؤْمِنُونَ : 20 ] وَمَعْنَى : " بِالْحَقِّ " أَيْ بِالصِّدْقِ الَّذِي لَا رَيْب فِيهِ وَلَا كَذِب

ذَكَرَ قِصَّة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَفِرْعَوْن وَقَارُون , وَاحْتَجَّ عَلَى مُشْرِكِي قُرَيْش , وَبَيَّنَ أَنَّ قَرَابَة قَارُون مِنْ مُوسَى لَمْ تَنْفَعهُ مَعَ كُفْره , وَكَذَلِكَ قَرَابَة قُرَيْش لِمُحَمَّدٍ , وَبَيَّنَ أَنَّ فِرْعَوْن عَلَا فِي الْأَرْض وَتَجَبَّرَ , فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ كُفْره , فَلْيُجْتَنَبْ الْعُلُوّ فِي الْأَرْض , وَكَذَلِكَ التَّعَزُّز بِكَثْرَةِ الْمَال , وَهُمَا مِنْ سِيرَة فِرْعَوْن وَقَارُون


لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ " أَيْ يُصَدِّقُونَ بِالْقُرْآنِ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ عِنْد اللَّه ; فَأَمَّا مَنْ لَمْ يُؤْمِن فَلَا يَعْتَقِد أَنَّهُ حَقّ
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَسورة القصص الآية رقم 4
فِي الْأَرْض " أَيْ اِسْتَكْبَرَ وَتَجَبَّرَ ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَالسُّدِّيّ وَقَالَ قَتَادَة : عَلَا فِي نَفْسه عَنْ عِبَادَة رَبّه بِكُفْرِهِ وَادَّعَى الرُّبُوبِيَّة وَقِيلَ : بِمُلْكِهِ وَسُلْطَانه فَصَارَ عَالِيًا عَلَى مَنْ تَحْت يَده " فِي الْأَرْض " أَيْ أَرْض مِصْر


أَيْ فِرَقًا وَأَصَافًا فِي الْخِدْمَة قَالَ الْأَعْشَى : ش وَبَلْدَة يَرْهَب الْجَوَّاب دَجْلَتهَا /و حَتَّى تَرَاهُ عَلَيْهَا يَبْتَغِي الشِّيَعَا


يَسْتَضْعِف طَائِفَة مِنْهُمْ " أَيْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل


وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ " تَقَدَّمَ الْقَوْل فِي هَذَا فِي [ الْبَقَرَة ] عِنْد قَوْله : " يَسُومُونَكُمْ سُوء الْعَذَاب يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ " [ الْبَقَرَة : 49 ] الْآيَة ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَهَنَة قَالُوا لَهُ : إِنَّ مَوْلُودًا يُولَد فِي بَنِي إِسْرَائِيل يَذْهَب مُلْكك عَلَى يَدَيْهِ , أَوْ قَالَ الْمُنَجِّمُونَ لَهُ ذَلِكَ , أَوْ رَأَى رُؤْيَا فَعُبِرَتْ كَذَلِكَ قَالَ الزَّجَّاج : الْعَجَب مِنْ حُمْقه لَمْ يَدْرِ أَنَّ الْكَاهِن إِنْ صَدَقَ فَالْقَتْل لَا يَنْفَع , وَإِنْ كَذَبَ فَلَا مَعْنَى لِلْقَتْلِ وَقِيلَ : جَعَلَهُمْ شِيَعًا فَاسْتَسْخَرَ كُلّ قَوْم مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل فِي شَغْل مُفْرَد


مِنْ الْمُفْسِدِينَ " أَيْ فِي الْأَرْض بِالْعَمَلِ وَالْمَعَاصِي وَالتَّجَبُّر
وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَسورة القصص الآية رقم 5
وَنُرِيد أَنْ نَمُنّ عَلَى الَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْض " أَيْ نَتَفَضَّل عَلَيْهِمْ وَنُنْعِم وَهَذِهِ حِكَايَة مَضَتْ



وَنَجْعَلهُمْ أَئِمَّة " قَالَ اِبْن عَبَّاس : قَادَة فِي الْخَيْر مُجَاهِد : دُعَاة إِلَى الْخَيْر . قَتَادَة : وُلَاة وَمُلُوكًا ; دَلِيله قَوْله تَعَالَى : " وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا " [ الْمَائِدَة : 20 ]

قُلْت : وَهَذَا أَعَمّ فَإِنَّ الْمَلِك إِمَام يُؤْتَمّ بِهِ وَمُقْتَدًى بِهِ .


لِمُلْكِ فِرْعَوْن ; يَرِثُونَ مُلْكه , وَيَسْكُنُونَ مَسَاكِن الْقِبْط وَهَذَا مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : " وَتَمَّتْ كَلِمَة رَبّك الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل بِمَا صَبَرُوا " [ الْأَعْرَاف : 137 ]
وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَسورة القصص الآية رقم 6
أَيْ نَجْعَلهُمْ مُقْتَدِرِينَ عَلَى الْأَرْض وَأَهْلهَا حَتَّى يُسْتَوْلَى عَلَيْهَا ; يَعْنِي أَرْض الشَّام وَمِصْر



وَهَامَان وَجُنُودهمَا " أَيْ وَنُرِيد أَنْ نُرِي فِرْعَوْن وَقَرَأَ الْأَعْمَش وَيَحْيَى وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ وَخَلَف : " وَيَرَى " بِالْيَاءِ عَلَى أَنَّهُ فِعْل ثَلَاثِي مِنْ رَأَى " فِرْعَوْن وَهَامَان وَجُنُودهمَا " رَفْعًا لِأَنَّهُ الْفَاعِل الْبَاقُونَ " نُرِي " بِضَمِّ النُّون وَكَسْر الرَّاء عَلَى أَنَّهُ فِعْل رُبَاعِيّ مِنْ أَرَى يُرِي , وَهِيَ عَلَى نَسَق الْكَلَام ; لِأَنَّ قَبْله " وَنُرِيد " وَبَعْده " وَنُمَكِّن " " فِرْعَوْن وَهَامَان وَجُنُودهمَا " نَصْبًا بِوُقُوعِ الْفِعْل وَأَجَازَ الْفَرَّاء " وَيُرِي فِرْعَوْن " بِضَمِّ الْيَاء وَكَسْر الرَّاء وَفَتْح الْيَاء وَيُرِي اللَّه فِرْعَوْن



وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أُخْبِرُوا أَنَّ هَلَاكهمْ عَلَى يَدَيْ رَجُل مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل فَكَانُوا عَلَى وَجَل " مِنْهُمْ " فَأَرَاهُمْ اللَّه " مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ " قَالَ قَتَاد : كَانَ حَازِيًا لِفِرْعَوْنَ وَالْحَازِي الْمُنَجِّم قَالَ إِنَّهُ سَيُولَدُ فِي هَذِهِ السَّنَة مَوْلُود يَذْهَب بِمُلْكِك ; فَأَمَرَ فِرْعَوْن بِقَتْلِ الْوِلْدَان فِي تِلْكَ السَّنَة وَقَدْ تَقَدَّمَ
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَسورة القصص الآية رقم 7
قَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْوَحْي وَمَحَامِله وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا الْوَحْي إِلَى أُمّ مُوسَى ; فَقَالَتْ فِرْقَة : كَانَ قَوْلًا فِي مَنَامهَا وَقَالَ قَتَادَة : كَانَ إِلْهَامًا وَقَالَتْ فِرْقَة : كَانَ بِمَلَكٍ يُمَثَّل لَهَا , قَالَ مُقَاتِل أَتَاهَا جِبْرِيل بِذَلِكَ فَعَلَى هَذَا هُوَ وَحْي إِعْلَام لَا إِلْهَام وَأَجْمَعَ الْكُلّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ نَبِيَّة , وَإِنَّمَا إِرْسَال الْمَلَك إِلَيْهَا عَلَى نَحْو تَكْلِيم الْمَلَك لِلْأَقْرَعِ وَالْأَبْرَص وَالْأَعْمَى فِي الْحَدِيث الْمَشْهُور ; خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم , وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَة [ بَرَاءَة ] وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا رُوِيَ مِنْ تَكْلِيم الْمَلَائِكَة لِلنَّاسِ مِنْ غَيْر نُبُوَّة , وَقَدْ سَلَّمَتْ عَلَى عِمْرَان بْن حُصَيْن فَلَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ نَبِيًّا وَاسْمهَا أيارخا وَقِيلَ أيارخت فِيمَا ذَكَرَ السُّهَيْلِيّ وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ : وَاسْم أُمّ مُوسِي لوحا بِنْت هَانِد بْن لَاوَى بْن يَعْقُوب حَكَى الْأَصْمَعِيّ قَالَ : سَمِعْت جَارِيَة أَعْرَابِيَّة تُنْشِد وَتَقُول : أَسْتَغْفِر اللَّه لِذَنْبِي كُلّه قَبَّلْت إِنْسَانًا بِغَيْرِ حِلّه مِثْل الْغَزَال نَاعِمًا فِي دَلِّهِ فَانْتَصَفَ اللَّيْل وَلَمْ أُصَلِّهِ فَقُلْت : قَاتَلَك اللَّه مَا أَفْصَحك ! فَقَالَتْ : أَوَيُعَدّ هَذَا فَصَاحَة مَعَ قَوْل تَعَالَى : " وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ " الْآيَة فَجَمَعَ فِي آيَة وَاحِدَة بَيْن أَمْرَيْنِ وَنَهْيَيْنِ وَخَبَرَيْنِ وَبِشَارَتَيْنِ


" وَقَرَأَ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز : " أَنْ اِرْضَعِيهِ " بِكَسْرِ النُّون وَأَلِف وَصْل ; حَذَفَ هَمْزَة أَرْضَعَ تَخْفِيفًا ثُمَّ كَسَرَ النُّون لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ قَالَ مُجَاهِد : وَكَانَ الْوَحْي بِالرَّضَاعِ قَبْل الْوِلَادَة . وَقَالَ غَيْره بَعْدهَا . قَالَ السُّدِّيّ : لَمَّا وَلَدَتْ أُمّ مُوسَى أُمِرَتْ أَنْ تُرْضِعهُ عَقِيب الْوِلَادَة وَتَصْنَع بِهِ بِمَا فِي الْآيَة ; لِأَنَّ الْخَوْف كَانَ عَقِيب الْوِلَادَة وَقَالَ اِبْن جُرَيْج : أُمِرَتْ بِإِرْضَاعِهِ أَرْبَعَة أَشْهُر فِي بُسْتَان , فَإِذَا خَافَتْ أَنْ يَصِيح لِأَنَّ لَبَنهَا لَا يَكْفِيه صَنَعَتْ بِهِ هَذَا وَالْأَوَّل أَظْهَر إِلَّا أَنَّ الْآخَر يُعَضِّدهُ قَوْله : " فَإِذَا خِفْت عَلَيْهِ "


عَلَيْهِ . . " وَ " إِذَا " لِمَا يُسْتَقْبَل مِنْ الزَّمَان ; فَيُرْوَى أَنَّهَا اِتَّخَذَتْ لَهُ تَابُوتًا مِنْ بَرْدِي وَقَيَّرَتْهُ بِالْقَارِ مِنْ دَاخِله , وَوَضَعَتْ فِيهِ مُوسَى وَأَلْقَتْهُ فِي نِيل مِصْر وَقَدْ مَضَى خَبَره فِي [ طه ] قَالَ اِبْن عَبَّاس : إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيل لَمَّا كَثُرُوا بِمِصْرَ اِسْتَطَالُوا عَلَى النَّاس , وَعَمِلُوا بِالْمَعَاصِي , فَسَلَّطَ اللَّه عَلَيْهِمْ الْقِبْط , وَسَامُوهُمْ سُوء الْعَذَاب , إِلَى أَنْ نَجَّاهُمْ اللَّه عَلَى يَد مُوسَى قَالَ وَهْب : بَلَغَنِي أَنَّ فِرْعَوْن ذَبَحَ فِي طَلَب مُوسَى سَبْعِينَ أَلْف وَلِيد وَيُقَال : تِسْعُونَ أَلْفًا وَيُرْوَى أَنَّهَا حِين اِقْتَرَبَتْ وَضَرَبَهَا الطَّلْق , وَكَانَتْ بَعْض الْقَوَابِل الْمُوَكَّلَات بِحَبَالَى بَنِي إِسْرَائِيل مُصَافِيَة لَهَا , فَقَالَتْ : لِيَنْفَعنِي حُبّك الْيَوْم , فَعَالَجَتْهَا فَلَمَّا وَقَعَ إِلَى الْأَرْض هَالَهَا نُور بَيْن عَيْنَيْهِ , وَارْتَعَشَ كُلّ مِفْصَل مِنْهَا , وَدَخَلَ حُبّه قَلْبهَا , ثُمَّ قَالَتْ : مَا جِئْتُك إِلَّا لِأَقْتُل مَوْلُودك وَأُخْبِر فِرْعَوْن , وَلَكِنِّي وَجَدْت لِابْنِك حُبًّا مَا وَجَدْت مِثْله قَطُّ , فَاحْفَظِيهِ ; فَلَمَّا خَرَجَتْ جَاءَ عُيُون فِرْعَوْن فَلَفَّتْهُ فِي خِرْقَة وَوَضَعَتْهُ فِي تَنُّور مَسْجُور نَارًا لَمْ تَعْلَم مَا تَصْنَع لَمَّا طَاشَ عَقْلهَا , فَطَلَبُوا فَلَمْ يُلْفُوا شَيْئًا , فَخَرَجُوا وَهِيَ لَا تَدْرِي مَكَانه , فَسَمِعَتْ بُكَاءَهُ مِنْ التَّنُّور , وَقَدْ جَعَلَ اللَّه عَلَيْهِ النَّار بَرْدًا وَسَلَامًا


فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدهمَا : لَا تَخَافِي عَلَيْهِ الْغَرَق ; قَالَهُ اِبْن زَيْد الثَّانِي : لَا تَخَافِي عَلَيْهِ الضَّيْعَة ; قَالَهُ يَحْيَى بْن سَلَّام


وَلَا تَحْزَنِي " فِيهِ أَيْضًا وَجْهَانِ : أَحَدهمَا : لَا تَحْزَنِي لِفِرَاقِهِ ; قَالَهُ اِبْن زَيْد الثَّانِي : لَا تَحْزَنِي أَنْ يُقْتَل ; قَالَهُ يَحْيَى بْن سَلَّام فَقِيلَ : إِنَّهَا جَعَلَتْهُ فِي تَابُوت طُوله خَمْسَة أَشْبَار وَعَرْضه خَمْسَة أَشْبَار , وَجَعَلَتْ الْمِفْتَاح مَعَ التَّابُوت وَطَرَحَتْهُ فِي الْيَمّ بَعْد أَنْ أَرْضَعَتْهُ أَرْبَعَة أَشْهُر وَقَالَ آخَرُونَ : ثَلَاثَة أَشْهُر وَقَالَ آخَرُونَ ثَمَانِيَة أَشْهُر ; فِي حِكَايَة الْكَلْبِيّ وَحُكِيَ أَنَّهُ لَمَّا فَرَغَ النَّجَّار مِنْ صَنْعَة التَّابُوت نَمَّ إِلَى فِرْعَوْن بِخَبَرِهِ , فَبَعَثَ مَعَهُ مَنْ يَأْخُذهُ , فَطَمَسَ اللَّه عَيْنَيْهِ وَقَلْبه فَلَمْ يَعْرِف الطَّرِيق , فَأَيْقَنَ أَنَّهُ الْمَوْلُود الَّذِي يَخَاف مِنْهُ فِرْعَوْن , فَآمَنَ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْت ; وَهُوَ مُؤْمِن آلَ فِرْعَوْن ; ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ



رَادُّوهُ إِلَيْك وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ " قَالَ اِبْن عَبَّاس : فَلَمَّا تَوَارَى عَنْهَا نَدَّمَهَا الشَّيْطَان وَقَالَتْ فِي نَفْسهَا : لَوْ ذُبِحَ عِنْدِي فَكَفَّنْته وَوَارَيْته لَكَانَ أَحَبّ إِلَيَّ مِنْ إِلْقَائِهِ فِي الْبَحْر فَقَالَ اللَّه تَعَالَى : " إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْك وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ " أَيْ إِلَى أَهْل مِصْر
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَسورة القصص الآية رقم 8
فَالْتَقَطَهُ آلَ فِرْعَوْن لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا " لَمَّا كَانَ اِلْتِقَاطهمْ إِيَّاهُ يُؤَدِّي إِلَى كَوْنه لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ; فَاللَّام فِي " لِيَكُونَ " لَام الْعَاقِبَة وَلَام الصَّيْرُورَة ; لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا أَخَذُوهُ لِيَكُونَ لَهُمْ قُرَّة عَيْن , فَكَانَ عَاقِبَة ذَلِكَ أَنْ كَانَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا , فَذَكَرَ الْحَال بِالْمَآلِ ; كَمَا قَالَ الشَّاعِر : وَلِلْمَنَايَا تُرَبِّي كُلّ مُرْضِعَة وَدُورنَا لِخَرَابِ الدَّهْر نَبْنِيهَا وَقَالَ آخَر : فَلِلْمَوْتِ تَغْذُو الْوَالِدَات سِخَالهَا كَمَا لِخَرَابِ الدَّهْر تُبْنَى الْمَسَاكِن أَيْ فَعَاقِبَة الْبِنَاء الْخَرَاب وَإِنْ كَانَ فِي الْحَال مَفْرُوحًا بِهِ وَالِالْتِقَاط وُجُود الشَّيْء مِنْ غَيْر طَلَب وَلَا إِرَادَة , وَالْعَرَب تَقُول لَمَّا وَجَدَتْهُ مِنْ غَيْر طَلَب وَلَا إِرَادَة : اِلْتَقَطَهُ اِلْتِقَاطًا وَلَقِيت فُلَانًا اِلْتِقَاطًا قَالَ الرَّاجِز : وَمَنْهَل وَرَدْته اِلْتِقَاطًا وَمِنْ اللُّقَطَة وَقَدْ مَضَى بَيَان ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَام فِي سُورَة [ يُوسُف ] بِمَا فِيهِ كِفَايَة وَقَرَأَ الْأَعْمَش وَيَحْيَى وَالْمُفَضَّل وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ وَخَلَف : " وَحُزْنًا " بِضَمِّ الْحَاء وَسُكُون الزَّاي وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهِمَا وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْد وَأَبُو حَاتِم قَالَ التَّفْخِيم فِيهِ وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْل الْعَدَم وَالْعُدْم , وَالسَّقَم والسُّقْم , وَالرَّشَد وَالرُّشْد


إِنَّ فِرْعَوْن وَهَامَان وَجُنُودهمَا كَانُوا خَاطِئِينَ " " هَامَان " وَكَانَ وَزِيره مِنْ الْقِبْط " خَاطِئِينَ " أَيْ عَاصِينَ مُشْرِكِينَ آثِمِينَ
وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَسورة القصص الآية رقم 9
عَيْن لِي وَلَك لَا تَقْتُلُوهُ " يُرْوَى أَنَّ آسِيَة اِمْرَأَة فِرْعَوْن رَأَتْ التَّابُوت يَعُوم فِي الْبَحْر , فَأَمَرَتْ بِسَوْقِهِ إِلَيْهَا وَفَتْحه فَرَأَتْ فِيهِ صَبِيًّا صَغِيرًا فَرَحِمَتْهُ وَأَحَبَّتْهُ ; فَقَالَتْ لِفِرْعَوْنَ : " قُرَّة عَيْن لِي وَلَك " أَيْ هُوَ قُرَّة عَيْن لِي وَلَك فَ " قُرَّة " خَبَر اِبْتِدَاء مُضْمَر ; قَالَهُ الْكِسَائِيّ وَقَالَ النَّحَّاس : وَفِيهِ وَجْه آخَر بَعِيد ذَكَرَهُ أَبُو إِسْحَاق ; قَالَ : يَكُون رَفْعًا بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَر " لَا تَقْتُلُوهُ " وَإِنَّمَا بَعُدَ لِأَنَّهُ يَصِير الْمَعْنَى أَنَّهُ مَعْرُوف بِأَنَّهُ قُرَّة عَيْن وَجَوَازه أَنْ يَكُون الْمَعْنَى : إِذَا كَانَ قُرَّة عَيْن لِي وَلَك فَلَا تَقْتُلُوهُ . وَقِيلَ : تَمَّ الْكَلَام عِنْد قَوْله : " وَلَك " النَّحَّاس : وَالدَّلِيل عَلَى هَذَا أَنَّ فِي قِرَاءَة عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود : " وَقَالَتْ اِمْرَأَة فِرْعَوْن لَا تَقْتُلُوهُ قُرَّة عَيْن لِي وَلَك " وَيَجُوز النَّصْب بِمَعْنَى لَا تَقْتُلُوا قُرَّة عَيْن لِي وَلَك وَقَالَتْ : " لَا تَقْتُلُوهُ " وَلَمْ تَقُلْ لَا تَقْتُلهُ فَهِيَ تُخَاطِب فِرْعَوْن كَمَا يُخَاطَب الْجَبَّارُونَ ; وَكَمَا يُخْبِرُونَ عَنْ أَنْفُسهمْ وَقِيلَ : قَالَتْ : " لَا تَقْتُلُوهُ " فَإِنَّ اللَّه أَتَى بِهِ مِنْ أَرْض أُخْرَى وَلَيْسَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل



نَتَّخِذهُ وَلَدًا " " عَسَى أَنْ يَنْفَعنَا " فَنُصِيب مِنْهُ خَيْرًا " أَوْ نَتَّخِذهُ وَلَدًا " وَكَانَتْ لَا تَلِد , فَاسْتَوْهَبَتْ مُوسَى مِنْ فِرْعَوْن فَوَهَبَهُ لَهَا , وَكَانَ فِرْعَوْن لَمَّا رَأَى الرُّؤْيَا وَقَصَّهَا عَلَى كَهَنَته وَعُلَمَائِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ - قَالُوا لَهُ إِنَّ غُلَامًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل يُفْسِد مُلْكك ; فَأَخَذَ بَنِي إِسْرَائِيل بِذَبْحِ الْأَطْفَال , فَرَأَى أَنَّهُ يَقْطَع نَسْلهمْ فَعَادَ يَذْبَح عَامًا وَيَسْتَحْيِي عَامًا , فَوُلِدَ هَارُون فِي عَام الِاسْتِحْيَاء , وَوُلِدَ مُوسَى فِي عَام الذَّبْح




هَذَا اِبْتِدَاء كَلَام مِنْ اللَّه تَعَالَى ; أَيْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّ هَلَاكهمْ بِسَبَبِهِ وَقِيلَ : هُوَ مِنْ كَلَام الْمَرْأَة ; أَيْ وَبَنُو إِسْرَائِيل لَا يَدْرُونَ أَنَّا اِلْتَقَطْنَاهُ , وَلَا يَشْعُرُونَ إِلَّا أَنَّهُ وَلَدنَا وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَوِّلُونَ فِي الْوَقْت الَّذِي قَالَتْ فِيهِ اِمْرَأَة فِرْعَوْن " قُرَّة عَيْن لِي وَلَك " فَقَالَتْ فِرْقَة : كَانَ ذَلِكَ عِنْد اِلْتِقَاطه التَّابُوت لَمَّا أَشْعَرَتْ فِرْعَوْن بِهِ وَلَمَّا أَعْلَمَتْهُ سَبَقَ إِلَى فَهْمه أَنَّهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل , وَأَنَّ ذَلِكَ قُصِدَ بِهِ لِيَتَخَلَّص مِنْ الذَّبْح فَقَالَ : عَلَيَّ بِالذَّبَّاحِينَ ; فَقَالَتْ اِمْرَأَته مَا ذُكِرَ فَقَالَ فِرْعَوْن : أَمَّا لِي فَلَا . قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَوْ قَالَ فِرْعَوْن نَعَمْ لَآمَنَ بِمُوسَى وَلَكَانَ قُرَّة عَيْن لَهُ ) وَقَالَ السُّدِّيّ : بَلْ رَبَّته حَتِّي دَرَجَ فَرَأَى فِرْعَوْن فِيهِ شَهَامَة وَظَنَّهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل وَأَخَذَهُ فِي يَده , فَمَدَّ مُوسَى يَده وَنَتَفَ لِحْيَة فِرْعَوْن فَهَمَّ حِينَئِذٍ بِذَبْحِهِ , وَحِينَئِذٍ خَاطَبَتْهُ بِهَذَا , وَجَرَّبَتْهُ لَهُ فِي الْيَاقُوتَة وَالْجَمْرَة , فَاحْتَرَقَ لِسَانه وَعَلِقَ الْعُقْدَة عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي [ طه ] قَالَ الْفَرَّاء : سَمِعْت مُحَمَّد بْن مَرْوَان الَّذِي يُقَال لَهُ السُّدِّيّ يَذْكُر عَنْ الْكَلْبِيّ عَنْ أَبِي صَالِح عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ : إِنَّمَا قَالَتْ " قُرَّة عَيْن لِي وَلَك لَا " ثُمَّ قَالَتْ : " تَقْتُلُوهُ " قَالَ الْفَرَّاء : وَهُوَ لَحْن ; قَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ : وَإِنَّمَا حُكِمَ عَلَيْهِ بِاللَّحْنِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ تَقْتُلُونَهُ بِالنُّونِ ; لِأَنَّ الْفِعْل الْمُسْتَقْبَل مَرْفُوع حَتَّى يَدْخُل عَلَيْهِ النَّاصِب أَوْ الْجَازِم , فَالنُّون فِيهِ عَلَامَة الرَّفْع قَالَ الْفَرَّاء : وَيُقَوِّيك عَلَى رَدّه قِرَاءَة عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود " وَقَالَتْ اِمْرَأَة فِرْعَوْن لَا تَقْتُلُوهُ قُرَّة عَيْن لِي وَلَك " بِتَقْدِيمِ " لَا تَقْتُلُوهُ "
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَسورة القصص الآية رقم 10
وَأَصْبَحَ فُؤَاد أُمّ مُوسَى فَارِغًا " قَالَ اِبْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَالْحَسَن وَمُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك وَأَبُو عِمْرَان الْجَوْنِيّ وَأَبُو عُبَيْدَة : " فَارِغًا " أَيْ خَالِيًا مِنْ ذِكْر كُلّ شَيْء فِي الدُّنْيَا إِلَّا مِنْ ذِكْر مُوسَى وَقَالَ الْحَسَن أَيْضًا وَابْن إِسْحَاق وَابْن زَيْد : " فَارِغًا " مِنْ الْوَحْي إِذْ أَوْحَى إِلَيْهَا حِين أُمِرَتْ أَنْ تُلْقِيه فِي الْبَحْر " لَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي " وَالْعَهْد الَّذِي عَهِدَهُ إِلَيْهَا أَنْ يَرُدّهُ وَيَجْعَلهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ ; فَقَالَ لَهَا الشَّيْطَان : يَا أُمّ مُوسَى كَرِهْت أَنْ يَقْتُل فِرْعَوْن مُوسَى فَغَرَّقْتِيهِ أَنْتِ ! ثُمَّ بَلَّغَهَا أَنَّ وَلَدهَا وَقَعَ فِي يَد فِرْعَوْن فَأَنْسَاهَا عِظَم الْبَلَاء مَا كَانَ مِنْ عَهْد اللَّه إِلَيْهَا وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : " فَارِغًا " مِنْ الْغَمّ وَالْحُزْن لِعِلْمِهَا أَنَّهُ لَمْ يَغْرَق ; وَقَالَهُ الْأَخْفَش أَيْضًا وَقَالَ الْعَلَاء بْن زِيَاد : " فَارِغًا " نَافِرًا الْكِسَائِيّ : نَاسِيًا ذَاهِلًا وَقِيلَ : وَالِهًا ; رَوَاهُ سَعِيد بْن جُبَيْر اِبْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك : هُوَ ذَهَاب الْعَقْل ; وَالْمَعْنَى أَنَّهَا حِين سَمِعَتْ بِوُقُوعِهِ فِي يَد فِرْعَوْن طَارَ عَقْلهَا مِنْ فَرْط الْجَزَع وَالدَّهَش , وَنَحْوه قَوْله تَعَالَى : " وَأَفْئِدَتهمْ هَوَاء " [ إِبْرَاهِيم : 43 ] أَيْ جَوْف لَا عُقُول لَهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَة [ إِبْرَاهِيم ] وَذَلِكَ أَنَّ الْقُلُوب مَرَاكِز الْعُقُول ; أَلَا تَرَى إِلَى قَوْله تَعَالَى : " فَتَكُون لَهُمْ قُلُوب يَعْقِلُونَ بِهَا " [ الْحَجّ : 46 ] وَيَدُلّ عَلَيْهِ قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ : " فَزِعًا " النَّحَّاس : أَصَحّ هَذِهِ الْأَقْوَال الْأَوَّل , وَاَلَّذِينَ قَالُوهُ أَعْلَم بِكِتَابِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ; فَإِذَا كَانَ فَارِغًا مِنْ كُلّ شَيْء إِلَّا مِنْ ذِكْر مُوسَى فَهُوَ فَارِغ مِنْ الْوَحْي وَقَوْل أَبِي عُبَيْدَة فَارِغًا مِنْ الْغَمّ غَلَط قَبِيح ; لِأَنَّ بَعْده " إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبهَا " [ الْقَصَص : 10 ] وَرَوَى سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : كَادَتْ تَقُول وَا اِبْنَاهُ ! وَقَرَأَ فَضَالَة بْن عُبَيْد الْأَنْصَارِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَمُحَمَّد بْن السَّمَيْقَع وَأَبُو الْعَالِيَة وَابْن مُحَيْصِن : " فَزِعًا " بِالْفَاءِ وَالْعَيْن الْمُهْمَلَة مِنْ الْفَزَع , أَيْ خَائِفَة عَلَيْهِ أَنْ يُقْتَل اِبْن عَبَّاس : " قَرَعًا " بِالْقَافِ وَالرَّاء وَالْعَيْن الْمُهْمَلَتَيْنِ , وَهِيَ رَاجِعَة إِلَى قِرَاءَة الْجَمَاعَة " فَارِغًا " وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلرَّأْسِ الَّذِي لَا شَعْر عَلَيْهِ : أَقْرَع ; لِفَرَاغِهِ مِنْ الشَّعْر وَحَكَى قُطْرُب أَنَّ بَعْض أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ : " فِرْغًا " : بِالْفَاءِ وَالرَّاء وَالْغَيْن الْمُعْجَمَة مِنْ غَيْر أَلِف , وَهُوَ كَقَوْلِك : هَدَرًا وَبَاطِلًا ; يُقَال : دِمَاؤُهُمْ بَيْنهمْ فِرْغ أَيْ هَدَر ; وَالْمَعْنَى بَطَلَ قَلْبهَا وَذَهَبَ وَبَقِيَتْ لَا قَلْب لَهَا مِنْ شِدَّة مَا وَرَدَ عَلَيْهَا وَفِي قَوْل تَعَالَى : " وَأَصْبَحَ " وَجْهَانِ : أَحَدهمَا : أَنَّهَا أَلْقَتْهُ لَيْلًا فَأَصْبَحَ فُؤَادهَا فِي النَّهَار فَارِغًا الثَّانِي : أَلْقَتْهُ نَهَارًا وَمَعْنَى : " وَأَصْبَحَ " أَيْ صَارَ ; كَمَا قَالَ الشَّاعِر : مَضَى الْخُلَفَاء بِالْأَمْرِ الرَّشِيد وَأَصْبَحَتْ الْمَدِينَة لِلْوَلِيدِ



أَيْ إِنَّهَا كَادَتْ ; فَلَمَّا حُذِفَتْ الْكِنَايَة سُكِّنَتْ النُّون فَهِيَ " إِنْ " الْمُخَفَّفَة وَلِذَلِكَ دَخَلَتْ اللَّام فِي " لَتُبْدِي بِهِ " أَيْ لَتُظْهِر أَمْره ; مِنْ بَدَا يَبْدُو إِذَا ظَهَرَ قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَيْ تَصِيح عِنْد إِلْقَائِهِ : وَا ابْنَاهُ السُّدِّيّ : كَادَتْ تَقُول لَمَّا حُمِلَتْ لِإِرْضَاعِهِ وَحَضَانَته هُوَ اِبْنِي وَقِيلَ : إِنَّهُ لَمَّا شَبَّ سَمِعْت النَّاس يَقُولُونَ مُوسَى بْن فِرْعَوْن ; فَشَقَّ عَلَيْهَا وَضَاقَ صَدْرهَا , وَكَادَتْ تَقُول هُوَ اِبْنِي وَقِيلَ : الْهَاء فِي " بِهِ " عَائِدَة إِلَى الْوَحْي تَقْدِيره : إِنْ كَانَتْ لَتُبْدِي بِالْوَحْيِ الَّذِي أَوْحَيْنَاهُ إِلَيْهَا أَنْ نَرُدّهُ عَلَيْهَا وَالْأَوَّل أَظْهَر قَالَ اِبْن مَسْعُود : كَادَتْ تَقُول أَنَا أُمّه وَقَالَ الْفَرَّاء : إِنْ كَانَتْ لَتُبْدِي بِاسْمِهِ لِضِيقِ صَدْرهَا وَقَالَ : " لَتُبْدِي بِهِ " وَلَمْ يَقُلْ : لَتُبْدِيهِ ; لِأَنَّ حُرُوف الصِّفَات قَدْ تُزَاد فِي الْكَلَام ; تَقُول : أَخَذْت الْحَبْل وَبِالْحَبْلِ وَقِيلَ : أَيْ لَتُبْدِي الْقَوْل بِهِ


قَالَ قَتَادَة : بِالْإِيمَانِ السُّدِّيّ : بِالْعِصْمَةِ وَقِيلَ : بِالصَّبْرِ وَالرَّبْط عَلَى الْقَلْب : إِلْهَام الصَّبْر



مِنْ الْمُؤْمِنِينَ " أَيْ مِنْ الْمُصَدِّقِينَ بِوَعْدِ اللَّه حِين قَالَ لَهَا : " إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْك " [ الْقَصَص : 7 ] وَقَالَ " لَتُبْدِي بِهِ " وَلَمْ يَقُلْ لَتُبْدِيهِ ; لِأَنَّ حُرُوف الصِّفَات قَدْ تُزَاد فِي الْكَلَام ; تَقُول : أَخَذْت الْحَبْل وَبِالْحَبْلِ . وَقِيلَ : أَيْ لَتُبْدِي الْقَوْل بِهِ .
وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَسورة القصص الآية رقم 11
أَيْ قَالَتْ أُمّ مُوسَى لِأُخْتِ مُوسَى : اِتَّبِعِي أَثَره حَتَّى تَعْلَمِي خَبَره وَاسْمهَا مَرْيَم بِنْت عِمْرَان ; وَافَقَ اِسْمهَا اِسْم مَرْيَم أُمّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام ; ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيّ وَالثَّعْلَبِيّ وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيّ عَنْ الضَّحَّاك : أَنَّ اِسْمهَا كَلْثَمَة وَقَالَ السُّهَيْلِيّ : كُلْثُوم ; جَاءَ ذَلِكَ فِي حَدِيث رَوَاهُ الزُّبَيْر بْن بَكَّار أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِخَدِيجَةَ : ( أَشَعَرْت أَنَّ اللَّه زَوَّجَنِي مَعَك فِي الْجَنَّة مَرْيَم بِنْت عِمْرَان وَكُلْثُوم أُخْت مُوسَى وَآسِيَة اِمْرَأَة فِرْعَوْن ) فَقَالَتْ : اللَّه أَخْبَرَك بِهَذَا ؟ فَقَالَ : ( نَعَمْ ) فَقَالَتْ : بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ



فَبَصُرَتْ بِهِ عَ جُنُب " أَيْ بُعْد ; قَالَ مُجَاهِد وَمِنْهُ الْأَجْنَبِيّ قَالَ الشَّاعِر : فَلَا تَحْرِمَنِّي نَائِلًا عَنْ جَنَابَة /و فَإِنِّي اِمْرُؤٌ وَسْط الْقِبَاب غَرِيب ش وَأَصْله عَنْ مَكَان جُنُب وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : " عَنْ جُنُب " أَيْ عَنْ جَانِب وَقَرَأَ النُّعْمَان بْن سَالِم : " عَنْ جَانِب " أَيْ عَنْ نَاحِيَة وَقِيلَ : عَنْ شَوْق ; وَحَكَى أَبُو عَمْرو بْن الْعَلَاء أَنَّهَا لُغَة لِجُذَامٍ ; يَقُولُونَ : جَنَبْت إِلَيْك أَيْ اِشْتَقْت وَقِيلَ : " عَنْ جُنُب " أَيْ عَنْ مُجَانَبَة لَهَا مِنْهُ فَلَمْ يَعْرِفُوا أَنَّهَا أُمّه بِسَبِيلٍ وَقَالَ قَتَادَة : جَعَلَتْ تَنْظُر إِلَيْهِ بِنَاحِيَةٍ كَأَنَّهَا لَا تُرِيدهُ , وَكَانَ يَقْرَأ : " عَنْ جَنْب " بِفَتْحِ الْجِيم وَإِسْكَان النُّون



لَا يَشْعُرُونَ " أَنَّهَا أُخْته لِأَنَّهَا كَانَتْ تَمْشِي عَلَى سَاحِل الْبَحْر حَتَّى رَأَتْهُمْ قَدْ أَخَذُوهُ
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَسورة القصص الآية رقم 12
عَلَيْهِ الْمَرَاضِع مِنْ قَبْل " أَيْ مَنَعْنَاهُ مِنْ الِارْتِضَاع مِنْ قَبْل ; أَيْ مِنْ قَبْل مَجِيء أُمّه وَأُخْته وَ " الْمَرَاضِع " جَمْع مُرْضِع وَمَنْ قَالَ مَرَاضِيع فَهُوَ جَمْع مِرْضَاع , وَمِفْعَال يَكُون لِلتَّكْثِيرِ , وَلَا تَدْخُل الْهَاء فِيهِ فَرْقًا بَيْن الْمُؤَنَّث وَالْمُذَكَّر لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجَارٍ عَلَى الْفِعْل , وَلَكِنْ مَنْ قَالَ مِرْضَاعَة جَاءَ بِالْهَاءِ لِلْمُبَالَغَةِ ; كَمَا يُقَال مِطْرَابَة قَالَ اِبْن عَبَّاس : لَا يُؤْتَى بِمُرْضِعٍ فَيَقْبَلهَا وَهَذَا تَحْرِيم مَنْع لَا تَحْرِيم شَرْع ; قَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : جَالَتْ لِتَصْرَعنِي فَقُلْت لَهَا اُقْصُرِي إِنِّي اِمْرُؤٌ صَرْعِي عَلَيْك حَرَام أَيْ مُمْتَنِع



عَلَى أَهْل بَيْت يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ " فَلَمَّا رَأَتْ أُخْته ذَلِكَ قَالَتْ : " هَلْ أَدُلّكُمْ عَلَى أَهْل بَيْت يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ " الْآيَة فَقَالُوا لَهَا عِنْد قَوْلهَا : " وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ " وَمَا يُدْرِيك ؟ لَعَلَّك تَعْرِفِينَ أَهْله ؟ فَقَالَتْ : لَا , وَلَكِنَّهُمْ يَحْرِصُونَ عَلَى مَسَرَّة الْمَلِك , وَيَرْغَبُونَ فِي ظِئْره وَقَالَ السُّدِّيّ وَابْن جُرَيْج : قِيلَ لَهَا لَمَّا قَالَتْ : " وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ " قَدْ عَرَفْت أَهْل هَذَا الصَّبِيّ فَدُلِّينَا عَلَيْهِمْ , فَقَالَتْ : أَرَدْت وَهُمْ لِلْمَلِكِ نَاصِحُونَ فَدَلَّتْهُمْ عَلَى أُمّ مُوسَى , فَانْطَلَقَتْ إِلَيْهَا بِأَمْرِهِمْ فَجَاءَتْ بِهَا , وَالصَّبِيّ عَلَى يَد فِرْعَوْن يُعَلِّلهُ شَفَقَة عَلَيْهِ , وَهُوَ يَبْكِي يَطْلُب الرَّضَاع , فَدَفَعَهُ إِلَيْهَا ; فَلَمَّا وَجَدَ الصَّبِيّ رِيح أُمَّة قَبِلَ ثَدْيهَا وَقَالَ اِبْن زَيْد اسْتَرَابُوهَا حِين قَالَتْ ذَلِكَ فَقَالَتْ : وَهُمْ لِلْمَلِكِ نَاصِحُونَ وَقِيلَ : إِنَّهَا لَمَّا قَالَتْ : " هَلْ أَدُلّكُمْ عَلَى أَهْل بَيْت يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ " وَكَانُوا يُبَالِغُونَ فِي طَلَب مُرْضِعَة يَقْبَل ثَدْيهَا فَقَالُوا : مَنْ هِيَ ؟ فَقَالَتْ : أُمِّي , فَقِيلَ : لَهَا لُبُن ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ! لَبَن هَارُون وَكَانَ وُلِدَ فِي سَنَة لَا يُقْتَل فِيهَا الصِّبْيَان فَقَالُوا صَدَقَتْ وَاَللَّه



نَاصِحُونَ " أَيْ فِيهِمْ شَفَقَة وَنُصْح , فَرُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِأُمِّ مُوسَى حِين اِرْتَضَعَ مِنْهَا : كَيْف اِرْتَضَعَ مِنْك وَلَمْ يَرْتَضِع مِنْ غَيْرك ؟ فَقَالَتْ : إِنِّي اِمْرَأَة طَيِّبَة الرِّيح طَيِّبَة اللَّبَن , لَا أَكَاد أُوتَى بِصَبِيٍّ إِلَّا اِرْتَضَعَ مِنِّي قَالَ أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيّ : وَكَانَ فِرْعَوْن يُعْطِي أُمّ مُوسَى كُلّ يَوْم دِينَارًا قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ : فَإِنْ قُلْت كَيْف حَلَّ لَهَا أَنْ تَأْخُذ الْأَجْر عَلَى إِرْضَاع وَلَدهَا ؟ قُلْت : مَا كَانَتْ تَأْخُذهُ عَلَى أَنَّهُ أَجْر عَلَى الرَّضَاع , وَلَكِنَّهُ مَال حَرْبِيّ تَأْخُذهُ عَلَى وَجْه الِاسْتِبَاحَة .
فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَسورة القصص الآية رقم 13
أَيْ رَدَدْنَاهُ وَقَدْ عَطَفَ اللَّه قَلْب الْعَدُوّ عَلَيْهِ , وَوَفَّيْنَا لَهَا بِالْوَعْدِ


أَيْ بِوَلَدِهَا



أَيْ بِفِرَاقِ وَلَدهَا


" أَيْ لِتَعْلَم وُقُوعه فَإِنَّهَا كَانَتْ عَالِمَة بِأَنَّ رَدّه إِلَيْهَا سَيَكُونُ .



وَلَكِنَّ أَكْثَرهمْ لَا يَعْلَمُونَ " يَعْنِي أَكْثَر آلَ فِرْعَوْن لَا يَعْلَمُونَ ; أَيْ كَانُوا فِي غَفْلَة عَنْ التَّقْرِير وَسِرّ الْقَضَاء وَقِيلَ : أَيْ أَكْثَر النَّاس لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ وَعْد اللَّه فِي كُلّ مَا وَعَدَ حَقّ
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَسورة القصص الآية رقم 14
وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا " قَدْ مَضَى الْكَلَام فِي الْأَشُدّ فِي [ الْأَنْعَام ] وَقَوْل رَبِيعَة وَمَالِك أَنَّهُ الْحُلُم أَوْلَى مَا قِيلَ فِيهِ , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاح " [ النِّسَاء : 6 ] فَإِنَّ ذَلِكَ أَوَّل الْأَشُدّ , وَأَقْصَاهُ أَرْبَع وَثَلَاثُونَ سَنَة , وَهُوَ قَوْل سُفْيَان الثَّوْرِيّ , " وَاسْتَوَى " قَالَ اِبْن عَبَّاس : بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَة وَالْحُكْم : الْحِكْمَة قَبْل النُّبُوَّة وَقِيلَ : الْفِقَة فِي الدِّين وَقَدْ مَضَى بَيَانهَا فِي [ الْبَقَرَة ] وَغَيْرهَا وَالْعِلْم الْفَهْم فِي قَوْل السُّدِّيّ وَقِيلَ : النُّبُوَّة وَقَالَ مُجَاهِد : الْفِقْه مُحَمَّد بْن إِسْحَاق : أَيْ الْعِلْم بِمَا فِي دِينه وَدِين آبَائِهِ , وَكَانَ لَهُ تِسْعَة مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل يَسْمَعُونَ مِنْهُ , وَيَقْتَدُونَ بِهِ , وَيَجْتَمِعُونَ إِلَيْهِ , وَكَانَ هَذَا قَبْل النُّبُوَّة


" أَيْ كَمَا جَزَيْنَا أُمّ مُوسَى لَمَّا اِسْتَسْلَمَتْ لِأَمْرِ اللَّه , وَأَلْقَتْ وَلَدهَا فِي الْبَحْر , وَصَدَّقَتْ بِوَعْدِ اللَّه , فَرَدَدْنَا وَلَدهَا إِلَيْهَا بِالتُّحَفِ وَالطُّرَف وَهِيَ آمِنَة , ثُمَّ وَهَبْنَا لَهُ الْعَقْل وَالْحِكْمَة وَالنُّبُوَّة , وَكَذَلِكَ نَجْزِي كُلّ مُحْسِن ,
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌسورة القصص الآية رقم 15
أَهْلهَا . ... " قِيلَ : لَمَّا عَرَفَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ الْحَقّ فِي دِينه , عَابَ مَا عَلَيْهِ قَوْم فِرْعَوْن ; وَفَشَا ذَلِكَ , مِنْهُ فَأَخَافُوهُ فَخَافَهُمْ , فَكَانَ لَا يَدْخُل مَدِينَة فِرْعَوْن إِلَّا خَائِفًا مُسْتَخْفِيًا وَقَالَ السُّدِّيّ : كَانَ مُوسَى فِي وَقْت هَذِهِ الْقِصَّة عَلَى رَسْم التَّعَلُّق بِفِرْعَوْنَ , وَكَانَ يَرْكَب مَرَاكِبه , حَتَّى كَانَ يُدْعَى مُوسَى بْن فِرْعَوْن ; فَرَكِبَ فِرْعَوْن يَوْمًا وَسَارَ إِلَى مَدِينَة مِنْ مَدَائِن مِصْر يُقَال لَهَا مَنْف قَالَ مُقَاتِل عَلَى رَأْس فَرْسَخَيْنِ مِنْ مِصْر ثُمَّ عَلِمَ مُوسَى بِرُكُوبِ فِرْعَوْن , فَرَكِبَ بَعْده وَلَحِقَ بِتِلْكَ الْقَرْيَة فِي وَقْت الْقَائِلَة , وَهُوَ وَقْت الْغَفْلَة ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَقَالَ أَيْضًا : هُوَ بَيْن الْعِشَاء وَالْعَتَمَة وَقَالَ اِبْن إِسْحَاق : بَلْ الْمَدِينَة مِصْر نَفْسهَا , وَكَانَ مُوسَى فِي هَذَا الْوَقْت قَدْ أَظْهَرَ خِلَاف فِرْعَوْن , وَعَابَ عَلَيْهِمْ عِبَادَة فِرْعَوْن وَالْأَصْنَام , فَدَخَلَ مَدِينَة فِرْعَوْن يَوْمًا عَلَى حِين غَفْلَة مِنْ أَهْلهَا قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر وَقَتَادَة : وَقْت الظَّهِيرَة وَالنَّاس نِيَام وَقَالَ اِبْن زَيْد : كَانَ فِرْعَوْن قَدْ نَابَذَ مُوسَى وَأَخْرَجَهُ مِنْ الْمَدِينَة , وَغَابَ عَنْهَا سِنِينَ وَجَاءَ وَالنَّاس عَلَى غَفْلَة بِنِسْيَانِهِمْ لِأَمْرِهِ , وَبُعْد عَهْدهمْ بِهِ , وَكَانَ ذَلِكَ يَوْم عِيد وَقَالَ الضَّحَّاك : طَلَبَ أَنْ يَدْخُل الْمَدِينَة وَقْت غَفْلَة أَهْلهَا , فَدَخَلَهَا حِين عَلِمَ ذَلِكَ مِنْهُمْ , فَكَانَ مِنْهُ مِنْ قَتْل الرَّجُل مِنْ قَبْل أَنْ يُؤْمَر بِقَتْلِهِ , فَاسْتَغْفَرَ رَبّه فَغَفَرَ لَهُ وَيُقَال فِي الْكَلَام : دَخَلْت الْمَدِينَة حِين غَفَلَ أَهْلهَا , وَلَا يُقَال : عَلَى حِين غَفَلَ أَهْلهَا ; فَدَخَلْت " عَلَى " فِي هَذِهِ الْآيَة لِأَنَّ الْغَفْلَة هِيَ الْمَقْصُودَة ; فَصَارَ هَذَا كَمَا تَقُول : جِئْت عَلَى غَفْلَة , وَإِنْ شِئْت قُلْت : جِئْت عَلَى حِين غَفْلَة , وَكَذَا الْآيَة



وَالْمَعْنَى : إِذَا نَظَرَ إِلَيْهِمَا النَّاظِر قَالَ هَذَا مِنْ شِيعَته ; أَيْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل


وَهَذَا مِنْ عَدُوّهُ " أَيْ مِنْ قَوْم فِرْعَوْن



أَيْ طَلَبَ نَصْره وَغَوْثه , وَكَذَا قَالَ فِي الْآيَة بَعْدهَا : " فَإِذَا الَّذِي اِسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخهُ " أَيْ يَسْتَغِيث بِهِ عَلَى قِبْطِيّ آخَر وَإِنَّمَا أَغَاثَهُ لِأَنَّ نَصْر الْمَظْلُوم دِين فِي الْمِلَل كُلّهَا عَلَى الْأُمَم , وَفَرْض فِي جَمِيع الشَّرَائِع قَالَ قَتَادَة : أَرَادَ الْقِبْطِيّ أَنْ يُسَخِّر الْإِسْرَائِيلِيّ لِيَحْمِل حَطَبًا لِمَطْبَخِ فِرْعَوْن فَأَبَى عَلَيْهِ , فَاسْتَغَاثَ بِمُوسَى قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : وَكَانَ خَبَّازًا لِفِرْعَوْنَ



فَوَكْزَة مُوسَى . . " قَالَ قَتَادَة : بِعَصَاهُ وَقَالَ مُجَاهِد : بِكَفِّهِ ; أَيْ دَفَعَهُ وَالْوَكْز وَاللَّكْز وَاللَّهْز وَاللَّهْد بِمَعْنًى وَاحِد , وَهُوَ الضَّرْب بِجُمْعِ الْكَفّ مَجْمُوعًا كَعَقْدِ ثَلَاثَة وَسَبْعِينَ وَقَرَأَ اِبْن مَسْعُود : " فَلَكْزَة " وَقِيلَ : اللَّكْز فِي اللَّحْي وَالْوَكْز عَلَى الْقَلْب وَحَكَى الثَّعْلَبِيّ أَنَّ فِي مُصْحَف عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود " فَنَكَزَهُ " بِالنُّونِ وَالْمَعْنَى وَاحِد وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَة : اللَّكْز الضَّرْب بِالْجُمْعِ عَلَى الصَّدْر وَقَالَ أَبُو زَيْد : فِي جَمِيع الْجَسَد , وَاللَّهْز : الضَّرْب بِجُمْعِ الْيَد فِي الصَّدْر مِثْل اللَّكْز ; عَنْ أَبِي عُبَيْدَة أَيْضًا وَقَالَ أَبُو زَيْد : هُوَ بِالْجُمْعِ فِي اللَّهَازِم وَالرَّقَبَة ; وَالرِّجْل مِلْهَز بِكَسْرِ الْمِيم وَقَالَ الْأَصْمَعِيّ : نَكَزَهُ ; أَيْ ضَرَبَهُ وَدَفَعَهُ الْكِسَائِيّ : نَهَزَهُ مِثْل نَكَزَهُ وَوَكَزَهُ , أَيْ ضَرَبَهُ وَدَفَعَهُ وَلَهَدَهُ لَهْدًا أَيْ دَفَعَهُ لِذُلِّهِ فَهُوَ مَلْهُود ; وَكَذَلِكَ لَهَدَهُ ; قَالَ طَرَفَة يَذُمّ رَجُلًا : بَطِيء عَنْ الدَّاعِي سَرِيع إِلَى الْخَنَا ذَلُول بِأَجْمَاعِ الرِّجَال مُلَهَّد أَيْ مُدَفَّع وَإِنَّمَا شُدِّدَ لِلْكَثْرَةِ وَقَالَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا : فَلَهَدَنِي تَعْنِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهْدَة أَوْجَعَنِي ; خَرَّجَهُ مُسْلِم فَفَعَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام ذَلِكَ وَهُوَ لَا يُرِيد قَتْله , إِنَّمَا قَصَدَ دَفْعه فَكَانَتْ فِيهِ نَفْسه , وَهُوَ مَعْنَى : " فَقَضَى عَلَيْهِ " وَكُلّ شَيْء أَتَيْت عَلَيْهِ وَفَرَغْت مِنْهُ فَقَدْ قَضَيْت عَلَيْهِ قَالَ : قَدْ عَضَّهُ فَقَضَى عَلَيْهِ الْأَشْجَع


الشَّيْطَان . .. " أَيْ مِنْ إِغْوَائِهِ قَالَ الْحَسَن : لَمْ يَكُنْ يَحِلّ قَتْل الْكَافِر يَوْمئِذٍ فِي تِلْكَ الْحَال ; لِأَنَّهَا كَانَتْ حَال كَفّ عَنْ الْقِتَال . " إِنَّهُ عَدُوّ مُضِلّ مُبِين " خَبَر بَعْد خَبَر
قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُسورة القصص الآية رقم 16
إِنِّي ظَلَمْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ . ... " نَدِمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام عَلَى ذَلِكَ الْوَكْز الَّذِي كَانَ فِيهِ ذَهَاب النَّفْس , فَحَمَلَهُ نَدَمه عَلَى الْخُضُوع لِرَبِّهِ وَالِاسْتِغْفَار مِنْ ذَنْبه قَالَ قَتَادَة : عَرَفَ وَاَللَّه الْمَخْرَج فَاسْتَغْفَرَ ; ثُمَّ لَمْ يَزَلْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَدِّد ذَلِكَ عَلَى نَفْسه , مَعَ عِلْمه بِأَنَّهُ قَدْ غُفِرَ لَهُ , حَتَّى أَنَّهُ فِي الْقِيَامَة يَقُول : إِنِّي قَتَلْت نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا وَإِنَّمَا عَدَّدَهُ عَلَى نَفْسه ذَنْبًا وَقَالَ : " ظَلَمْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي " مِنْ أَجْل أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ يَقْتُل حَتِّي يُؤْمَر , وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَنْبِيَاء يُشْفِقُونَ مِمَّا لَا يُشْفِق مِنْهُ غَيْرهمْ قَالَ النَّقَّاش : لَمْ يَقْتُلهُ عَنْ عَمْد مُرِيدًا لِلْقَتْلِ , وَإِنَّمَا وَكَزَهُ وَكْزَة يُرِيد بِهَا دَفْع ظُلْمه قَالَ وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ هَذَا كَانَ قَبْل النُّبُوَّة وَقَالَ كَعْب : كَانَ إِذْ ذَاكَ اِبْن اِثْنَتَيْ عَشْرَة سَنَة , وَكَانَ قَتْله مَعَ ذَلِكَ خَطَأ ; فَإِنَّ الْوَكْزَة وَاللَّكْزَة فِي الْغَالِب لَا تَقْتُل وَرَوَى مُسْلِم عَنْ سَالِم بْن عَبْد اللَّه أَنَّهُ قَالَ : يَا أَهْل الْعِرَاق مَا أَسْأَلكُمْ عَنْ الصَّغِيرَة وَأَرْكَبكُمْ لِلْكَبِيرَةِ سَمِعْت أَبِي عَبْد اللَّه بْن عُمَر يَقُول سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( إِنَّ الْفِتْنَة تَجِيء مِنْ هَاهُنَا وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ نَحْو الْمَشْرِق - مِنْ حَيْثُ يَطْلُع قَرْنَا الشَّيْطَان وَأَنْتُمْ بَعْضكُمْ يَضْرِب رِقَاب بَعْض وَإِنَّمَا قَتَلَ مُوسَى الَّذِي قَتَلَ مِنْ آلَ فِرْعَوْن خَطَأ فَقَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " وَقَتَلْت نَفْسًا فَنَجَّيْنَاك مِنْ الْغَمّ وَفَتَنَّاك فُتُونًا " [ طه : 40 ] )

قُلْت : قَوْله : " فَغَفَرَ لَهُ " يَدُلّ عَلَى الْمَغْفِرَة ; وَاَللَّه أَعْلَم
قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَسورة القصص الآية رقم 17
بِمَا أَنْعَمْت عَلَيَّ فَلَنْ أَكُون ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ " فِيهِ مَسْأَلَتَانِ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى " قَالَ رَبّ بِمَا أَنْعَمْت عَلَيَّ " أَيْ مِنْ الْمَعْرِفَة وَالْحُكْم وَالتَّوْحِيد " فَلَنْ أَكُون ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ " أَيْ عَوْنًا لِلْكَافِرِينَ قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَلَمْ يَقُلْ بِمَا أَنْعَمْت عَلَيَّ مِنْ الْمَغْفِرَة ; لِأَنَّ هَذَا قَبْل الْوَحْي , وَمَا كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ اللَّه غَفَرَ لَهُ ذَلِكَ الْقَتْل وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ : " بِمَا أَنْعَمْت عَلَيَّ " فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدهمَا : مِنْ الْمَغْفِرَة ; وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْمَهْدَوِيّ وَالثَّعْلَبِيّ قَالَ الْمَهْدَوِيّ : " بِمَا أَنْعَمْت عَلَيَّ " مِنْ الْمَغْفِرَة فَلَمْ تُعَاقِبنِي الْوَجْه الثَّانِي : مِنْ الْهِدَايَة

وَقِيلَ بِمَا أَنْعَمْت عَلَيَّ مِنْ الْهِدَايَة

قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ قَوْله تَعَالَى : " بِمَا أَنْعَمْت عَلَيَّ " يَجُوز أَنْ يَكُون قَسَمًا جَوَابه مَحْذُوف تَقْدِيره ; أُقْسِم بِإِنْعَامِك عَلَيَّ بِالْمَغْفِرَةِ لَأَتُوبَنَّ " فَلَنْ أَكُون ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ " وَأَنْ يَكُون اِسْتِعْطَافًا كَأَنَّهُ قَالَ : رَبّ اِعْصِمْنِي بِحَقِّ مَا أَنْعَمْت عَلَيَّ مِنْ الْمَغْفِرَة فَلَنْ أَكُون إِنْ عَصَمْتنِي ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ وَأَرَادَ بِمُظَاهَرَةِ الْمُجْرِمِينَ إِمَّا صُحْبَة فِرْعَوْن وَانْتِظَامه فِي جُمْلَته , وَتَكْثِير سَوَاده , حَيْثُ كَانَ يَرْكَب بِرُكُوبِهِ كَالْوَلَدِ مَعَ الْوَالِد , وَكَانَ يُسَمَّى اِبْن فِرْعَوْن ; وَإِمَّا بِمُظَاهَرَةِ مَنْ أَدَّتْ مُظَاهَرَته إِلَى الْجُرْم وَالْإِثْم , كَمُظَاهَرَةِ الْإِسْرَائِيلِيّ الْمُؤَدِّيَة إِلَى الْقَتْل الَّذِي لَمْ يَحِلّ لَهُ قَتْله وَقِيلَ : أَرَادَ إِنِّي وَإِنْ أَسَأْت فِي هَذَا الْقَتْل الَّذِي لَمْ أُومَرْ بِهِ فَلَا أَتْرُك نُصْرَة الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُجْرِمِينَ , فَعَلَى هَذَا كَانَ الْإِسْرَائِيلِيّ مُؤْمِنًا وَنُصْرَة الْمُؤْمِن وَاجِبه فِي جَمِيع الشَّرَائِع وَقِيلَ فِي بَعْض الرِّوَايَات : إِنَّ ذَلِكَ الْإِسْرَائِيلِيّ كَانَ كَافِرًا وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ إِنَّهُ مِنْ شِيعَته لِأَنَّهُ كَانَ إِسْرَائِيلِيًّا وَلَمْ يُرِدْ الْمُوَافَقَة فِي الدِّين , فَعَلَى هَذَا نَدِمَ لِأَنَّهُ أَعَانَ كَافِر عَلَى كَافِر , فَقَالَ : لَا أَكُون بَعْدهَا ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ وَقِيلَ : لَيْسَ هَذَا خَبَرًا بَلْ هُوَ دُعَاء ; أَيْ فَلَا أَكُون بَعْد هَذَا ظَهِيرًا أَيْ فَلَا تَجْعَلنِي يَا رَبّ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ وَقَالَ الْفَرَّاء : الْمَعْنَى ; اللَّهُمَّ فَلَنْ أَكُون بَعْد ظَهِير لِلْمُجْرِمِينَ , وَزَعَمَ أَنَّ قَوْله هَذَا هُوَ قَوْل اِبْن عَبَّاس قَالَ النَّحَّاس : وَأَنْ يَكُون بِمَعْنَى الْخَبَر أَوْلَى وَأَشْبَه بِنَسَقِ الْكَلَام كَمَا يُقَال : لَا أَعْصِيك لِأَنَّك أَنْعَمْت عَلَيَّ ; وَهَذَا قَوْل اِبْن عَبَّاس عَلَى الْحَقِيقَة لَا مَا حَكَاهُ الْفَرَّاء , لِأَنَّ اِبْن عَبَّاس قَالَ : لَمْ يَسْتَثْنِ فَابْتُلِيَ مِنْ ثَانِي يَوْم ; وَالِاسْتِثْنَاء لَا يَكُون فِي الدُّعَاء لَا يُقَال : اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِي إِنْ شِئْت ; وَأَعْجَب الْأَشْيَاء أَنَّ الْفَرَّاء رَوَى عَنْ اِبْن عَبَّاس هَذَا ثُمَّ حَكَى عَنْهُ قَوْله

قُلْت : قَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى مُلَخَّصًا مُبَيَّنًا فِي سُورَة [ النَّمْل ] وَأَنَّهُ خَبَر لَا دُعَاء وَعَنْ اِبْن عَبَّاس : لَمْ يَسْتَثْنِ فَابْتُلِيَ بِهِ مَرَّة أُخْرَى ; يَعْنِي لَمْ يَقُلْ فَلَنْ أَكُون إِنْ شَاءَ اللَّه وَهَذَا نَحْو قَوْله : " وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا " [ هُود : 113 ]

الثَّانِيَة قَالَ سَلَمَة بْن نُبَيْط : بَعَثَ عَبْد الرَّحْمَن بْن مُسْلِم إِلَى الضَّحَّاك بِعَطَاءِ أَهْل بُخَارَى وَقَالَ : أَعْطِهِمْ ; فَقَالَ : اُعْفُنِي ; فَلَمْ يَزَلْ يَسْتَعْفِيه حَتَّى أَعْفَاهُ فَقِيلَ لَهُ مَا عَلَيْك أَنْ تُعْطِيهِمْ وَأَنْتَ لَا تَرْزَؤُهُمْ شَيْئًا ؟ وَقَالَ : لَا أُحِبّ أَنْ أُعِين الظُّلْمَة عَلَى شَيْء مِنْ أَمْرهمْ وَقَالَ عُبَيْد اللَّه بْن الْوَلِيد الْوَصَّافِيّ قُلْت لِعَطَاءِ بْن أَبِي رَبَاح : إِنَّ لِي أَخًا يَأْخُذ بِقَلَمِهِ , وَإِنَّمَا يَحْسِب مَا يَدْخُل وَيَخْرُج , وَلَهُ عِيَال وَلَوْ تَرَكَ ذَلِكَ لَاحْتَاجَ وَادَّانَ ؟ فَقَالَ : مَنْ الرَّأْس ؟ قُلْت : خَالِد بْن عَبْد اللَّه الْقَسْرِيّ , قَالَ : أَمَا تَقْرَأ مَا قَالَ الْعَبْد الصَّالِح : " رَبّ بِمَا أَنْعَمْت عَلَيَّ فَلَنْ أَكُون ظَهِير لِلْمُجْرِمِينَ " قَالَ اِبْن عَبَّاس : فَلَمْ يَسْتَثْنِ فَابْتُلِيَ بِهِ ثَانِيَة فَأَعَانَهُ اللَّه , فَلَا يُعِينهُمْ أَخُوك فَإِنَّ اللَّه يُعِينهُ قَالَ عَطَاء : فَلَا يَحِلّ لِأَحَدٍ أَنْ يُعِين ظَالِمًا وَلَا يَكْتُب لَهُ وَلَا يَصْحَبهُ , وَأَنَّهُ إِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ صَارَ مُعِينًا لِلظَّالِمِينَ وَفِي الْحَدِيث : ( يُنَادِي مُنَادٍ يَوْم الْقِيَامَة أَيْنَ الظَّلَمَة وَأَشْبَاه الظَّلَمَة وَأَعْوَان الظَّلَمَة حَتَّى مَنْ لَاقَ لَهُمْ دَوَاة أَوْ بَرَى لَهُمْ قَلَمًا فَيُجْمَعُونَ فِي تَابُوت مِنْ حَدِيد فَيُرْمَى بِهِ فِي جَهَنَّم ) وَيَرْوِي عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( مَنْ مَشَى مَعَ مَظْلُوم لِيُعِينَهُ عَلَى مَظْلِمَته ثَبَّتَ اللَّه قَدَمَيْهِ عَلَى الصِّرَاط يَوْم الْقِيَام يَوْم تَزِلّ فِيهِ الْأَقْدَام وَمَنْ مَشَى مَعَ ظَالِم لِيُعِينَهُ عَلَى ظُلْمه أَزَلَّ اللَّه قَدَمَيْهِ عَلَى الصِّرَاط يَوْم تُدْحَض فِيهِ الْأَقْدَام ) وَفِي الْحَدِيث : ( مَنْ مَشَى مَعَ ظَالِم فَقَدْ أَجْرَمَ ) فَالْمَشْي مَعَ الظَّالِم لَا يَكُون جُرْمًا إِلَّا إِذَا مَشَى مَعَهُ لِيُعِينَهُ , وَلِأَنَّهُ اِرْتَكَبَ نَهْي اللَّه تَعَالَى فِي قَوْل سُبْحَانه وَتَعَالَى : " وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْم وَالْعُدْوَان " [ الْمَائِدَة : 2 ]
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌسورة القصص الآية رقم 18
قَدْ تَقَدَّمَ فِي [ طه ] وَغَيْرهَا أَنَّ الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِمْ يَخَافُونَ ; رَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ غَيْر ذَلِكَ , وَأَنَّ الْخَوْف لَا يُنَافِي الْمَعْرِفَة بِاَللَّهِ وَلَا التَّوَكُّل عَلَيْهِ فَقِيلَ : أَصْبَحَ خَائِفًا مِنْ قَتْل النَّفْس أَنْ يُؤْخَذ بِهَا وَقِيلَ خَائِفًا مِنْ قَوْمه أَنْ يُسَلِّمُوهُ وَقِيلَ : خَائِفًا مِنْ اللَّه تَعَالَى

وَ " أَصْبَحَ " يَحْتَمِل أَنْ يَكُون بِمَعْنَى صَارَ أَيْ لَمَّا قَتَلَ صَارَ خَائِفًا وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون دَخَلَ فِي الصَّبَاح , أَيْ فِي صَبَاح الْيَوْم الَّذِي يَلِي يَوْمه " وَخَائِفًا " مَنْصُوب عَلَى أَنَّهُ خَبَر " أَصْبَحَ " , وَإِنْ شِئْت عَلَى الْحَال , وَيَكُون الظَّرْف فِي مَوْضِع الْخَبَر



يَتَرَقَّب " قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : يَتَلَفَّت مِنْ الْخَوْف وَقِيلَ : يَنْتَظِر الطَّلَب , وَيَنْتَظِر مَا يَتَحَدَّث بِهِ النَّاس وَقَالَ قَتَادَة : " يَتَرَقَّب " أَيْ يَتَرَقَّب الطَّلَب وَقِيلَ : خَرَجَ يَسْتَخْبِر الْخَبَر وَلَمْ يَكُنْ أَحَد عَلِمَ بِقَتْلِ الْقِبْطِيّ غَيْر الْإِسْرَائِيلِيّ



الَّذِي اِسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخهُ " أَيْ فَإِذَا صَاحِبه الْإِسْرَائِيلِيّ الَّذِي خَلَّصَهُ بِالْأَمْسِ يُقَاتِل قِبْطِيًّا آخَر أَرَادَ أَنْ يُسَخِّرهُ وَالِاسْتِصْرَاخ الِاسْتِغَاثَة وَهُوَ مِنْ الصُّرَاخ , وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْتَغِيث يَصْرُخ وَيُصَوِّت فِي طَلَب الْغَوْث قَالَ : كُنَّا إِذَا مَا أَتَانَا صَارِخ فَزِع كَانَ الصُّرَاخ لَهُ قَرْع الظَّنَابِيب قِيلَ : كَانَ هَذَا الْإِسْرَائِيلِيّ الْمُسْتَنْصِر السَّامِرِيّ اسْتَسْخَرَهُ طَبَّاخ فِرْعَوْن فِي حَمْل الْحَطَب إِلَى الْمَطْبَخ ; ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيّ وَ " الَّذِي " رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ " وَيَسْتَصْرِخهُ " فِي مَوْضِع الْخَبَر وَيَجُوز أَنْ يَكُون فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى الْحَال وَأَمْس لِلْيَوْمِ الَّذِي قَبْل يَوْمك , وَهُوَ مَبْنِيّ عَلَى الْكَسْر لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ فَإِذَا دَخَلَهُ الْأَلِف وَاللَّام أَوْ الْإِضَافَة تَمَكَّنَ فَأُعْرِبَ بِالرَّفْعِ وَالْفَتْح عِنْد أَكْثَر النَّحْوِيِّينَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْنِيه وَفِيهِ الْأَلِف وَاللَّام وَحَكَى سِيبَوَيْهِ وَغَيْره أَنَّ مِنْ الْعَرَب مَنْ يُجْرِي أَمْس مَجْرَى مَا لَا يَنْصَرِف فِي مَوْضِع الرَّفْع خَاصَّة , وَرُبَّمَا اُضْطُرَّ الشَّاعِر فَفَعَلَ هَذَا فِي الْخَفْض وَالنَّصْب وَقَالَ الشَّاعِر : لَقَدْ رَأَيْت عَجَبًا مُذْ أَمْس فَخَفَضَ بِمُذْ مَا مَضَى وَاللُّغَة الْجَيِّدَة الرَّفْع , فَأُجْرِيَ أَمْس فِي الْخَفْض مَجْرَاهُ فِي الرَّفْع عَلَى اللُّغَة الثَّانِيَة .



لَهُ مُوسَى إِنَّك لَغَوِيّ مُبِين " وَالْغَوِيّ الْخَائِب , أَيْ لِأَنَّك تُشَادّ مَنْ لَا تُطِيقهُ وَقِيلَ : مُضِلّ بَيِّن الضَّلَالَة ; قَتَلْت بِسَبَبِك أَمْس رَجُلًا , وَتَدْعُونِي الْيَوْم لِآخَرَ وَالْغَوِيّ فَعِيل مِنْ أَغْوَى يُغْوِي , وَهُوَ بِمَعْنَى مُغْوٍ ; وَهُوَ كَالْوَجِيعِ وَالْأَلِيم بِمَعْنَى الْمُوجِع وَالْمُؤْلِم وَقِيلَ : الْغَوِيّ بِمَعْنَى الْغَاوِي أَيْ إِنَّك لَغَوِيّ فِي قِتَال مَنْ لَا تُطِيق دَفْع شَرّه عَنْك , وَقَالَ الْحَسَن : إِنَّمَا قَالَ لِلْقِبْطِيِّ : " إِنَّك لَغَوِيّ مُبِين " فِي اِسْتِسْخَار هَذَا الْإِسْرَائِيلِيّ
فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَسورة القصص الآية رقم 19
هَمَّ أَنْ يَبْطِش بِهِ , وَيُقَال : بَطَشَ يَبْطِش وَيَبْطُش وَالضَّمّ أَقْيَس لِأَنَّهُ فِعْل لَا يَتَعَدَّى قَالَ اِبْن جُبَيْر أَرَادَ مُوسَى أَنْ يَبْطِش بِالْقِبْطِيِّ فَتَوَهَّمَ الْإِسْرَائِيلِيّ أَنَّهُ يُرِيدهُ , لِأَنَّهُ أَغْلَظَ لَهُ فِي الْقَوْل فَقَالَ : " أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلنِي كَمَا قَتَلْت نَفْسًا بِالْأَمْسِ " فَسَمِعَ الْقِبْطِيّ الْكَلَام فَأَفْشَاهُ وَقِيلَ : أَرَادَ أَنْ يَبْطِش الْإِسْرَائِيلِيّ بِالْقِبْطِيِّ فَنَهَاهُ مُوسَى فَخَافَ مِنْهُ ; فَقَالَ : " أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلنِي كَمَا قَتَلْت نَفْسًا بِالْأَمْسِ "




إِلَّا أَنْ تَكُون جَبَّارًا فِي الْأَرْض " أَيْ قَتَّالًا وَقَالَ عِكْرِمَة وَالشَّعْبِيّ : لَا يَكُون الْإِنْسَان جَبَّارًا حَتَّى يَقْتُل نَفْسَيْنِ بِغَيْرِ حَقّ


تَكُون مِنْ الْمُصْلِحِينَ " أَيْ مِنْ الَّذِينَ يُصْلِحُونَ بَيْن النَّاس
وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَسورة القصص الآية رقم 20
" قَالَ أَكْثَر أَهْل التَّفْسِير : هَذَا الرَّجُل هُوَ حزقيل بْن صَبُورَا مُؤْمِن آل فِرْعَوْن , وَكَانَ اِبْن عَمّ فِرْعَوْن ; ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ وَقِيلَ : طَالُوت ; ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيّ وَقَالَ الْمَهْدَوِيّ عَنْ قَتَادَة : شَمْعُون مُؤْمِن آلَ فِرْعَوْن وَقِيلَ : شمعان ; قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : لَا يُعْرَف شمعان بِالشِّينِ الْمُعْجَمَة إِلَّا مُؤْمِن آل فِرْعَوْن وَرُوِيَ أَنَّ فِرْعَوْن أَمَرَ بِقَتْلِ مُوسَى فَسَبَقَ ذَلِكَ الرَّجُل بِالْخَبَرِ ; فَ " قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأ يَأْتَمِرُونَ بِك "


إِنَّ الْمَلَأ يَأَمِرُونَ بِك . ... " أَيْ يَتَشَاوَرُونَ فِي قَتْلك بِالْقِبْطِيِّ الَّذِي قَتَلْته بِالْأَمْسِ وَقِيلَ : يَأْمُر بَعْضهمْ بَعْضًا قَالَ الْأَزْهَرِيّ : اِئْتَمَرَ الْقَوْم وَتَآمَرُوا أَيْ أُمّ بَعْضهمْ بَعْضًا ; نَظِيره قَوْله : " وَأْتَمِرُوا بَيْنكُمْ بِمَعْرُوفٍ " [ الطَّلَاق : 6 ] وَقَالَ النَّمِر بْن تَوْلَب : ش أَرَى النَّاس قَدْ أَحْدَثُوا شِيمَة /و وَفِي كُلّ حَادِثَة يُؤْتَمَر
فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَسورة القصص الآية رقم 21
خَائِفًا يَتَرَقَّب " أَيْ يَنْتَظِر الطَّلَب


قَالَ رَبّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْم الظَّالِمِينَ " قِيلَ : الْجَبَّار الَّذِي يَفْعَل مَا يُرِيدهُ مِنْ الضَّرْب وَالْقَتْل بِظُلْمٍ , لَا يَنْظُر فِي الْعَوَاقِب , وَلَا يَدْفَع بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَن وَقِيلَ : الْمُتَعَظِّم الَّذِي لَا يَتَوَاضَع لِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِسورة القصص الآية رقم 22
تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَن قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِينِي سَوَاء السَّبِيل " لَمَّا خَرَجَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَارًّا بِنَفْسِهِ مُنْفَرِدًا خَائِفًا , لَا شَيْء مَعَهُ مِنْ زَادَ وَلَا رَاحِلَة وَلَا حِذَاء نَحْو مَدْيَن , لِلنَّسَبِ الَّذِي بَيْنه وَبَيْنهمْ ; لِأَنَّ مَدْيَن مِنْ وَلَد إِبْرَاهِيم , وَمُوسَى مِنْ وَلَد يَعْقُوب بْن إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم ; وَرَأَى حَاله وَعَدَم مَعْرِفَته بِالطَّرِيقِ , وَخَلَّوْهُ مِنْ زَادَ وَغَيْره , أَسْنَدَ أَمْره إِلَى اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ : " عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِينِي سَوَاء السَّبِيل " وَهَذِهِ حَالَة الْمُضْطَرّ

قُلْت : رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَتَقَوَّت وَرَق الشَّجَر , وَمَا وَصَلَ حَتَّى سَقَطَ خُفّ قَدَمَيْهِ قَالَ أَبُو مَالِك : وَكَانَ فِرْعَوْن وَجَّهَ فِي طَلَبه وَقَالَ لَهُمْ : اُطْلُبُوهُ فِي ثَنِيَّات الطَّرِيق , فَإِنَّ مُوسَى لَا يَعْرِف الطَّرِيق فَجَاءَهُ مَلَك رَاكِبًا فَرَسًا وَمَعَهُ عَنَزَة , فَقَالَ لِمُوسَى اِتَّبِعْنِي فَاتَّبَعَهُ فَهَدَاهُ إِلَى الطَّرِيق , فَيُقَال : إِنَّهُ أَعْطَاهُ الْعَنَزَة فَكَانَتْ عَصَاهُ وَيُرْوَى أَنَّ عَصَاهُ إِنَّمَا أَخَذَهَا لِرَعْيِ الْغَنَم مِنْ مَدْيَن وَهُوَ أَكْثَر وَأَصَحّ قَالَ مُقَاتِل وَالسُّدِّيّ : إِنَّ اللَّه بَعَثَ إِلَيْهِ جِبْرِيل ; فَاَللَّه أَعْلَم وَبَيْن مَدْيَن وَمِصْر ثَمَانِيَة أَيَّام ; قَالَ اِبْن جُبَيْر وَالنَّاس وَكَانَ مُلْك مَدْيَن لِغَيْرِ فِرْعَوْن
وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌسورة القصص الآية رقم 23
عَلَيْهِ أُمَّة مِنْ النَّاس يَسْقُونَ " مَشَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى وَرَدَ مَاء مَدْيَن أَيْ بَلَغَهَا وَوُرُوده الْمَاء مَعْنَاهُ بَلَغَهُ لَا أَنَّهُ دَخَلَ فِيهِ وَلَفْظَة الْوُرُود قَدْ تَكُون بِمَعْنَى الدُّخُول فِي الْمَوْرُود , وَقَدْ تَكُون بِمَعْنَى الِاطِّلَاع عَلَيْهِ وَالْبُلُوغ إِلَيْهِ إِنْ لَمْ يَدْخُل فَوُرُود مُوسَى هَذَا الْمَاء كَانَ بِالْوُصُولِ إِلَيْهِ ; وَمِنْهُ قَوْل زُهَيْر : فَلَمَّا وَرَدْنَ الْمَاء زُرْقًا جِمَامه وَضَعْنَ عِصِيّ الْحَاضِر الْمُتَخَيِّم وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَعَانِي فِي قَوْله : " وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدهَا " [ مَرْيَم : 71 ] وَمَدْيَن لَا تَنْصَرِف إِذْ هِيَ بَلْدَة مَعْرُوفَة قَالَ الشَّاعِر : رُهْبَان مَدْيَن لَوْ رَأَوْك تَنَزَّلُوا وَالْعُصْم مِنْ شَعَف الْجِبَال الْفَادِر وَقِيلَ : قَبِيلَة مِنْ وَلَد مَدْيَن بْن إِبْرَاهِيم ; وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِيهِ فِي [ الْأَعْرَاف ] وَالْأُمَّة : الْجَمْع الْكَثِير وَ " يَسْقُونَ " مَعْنَاهُ مَاشِيَتهمْ


تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِر الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخ كَبِير " " مِنْ دُونهمْ " مَعْنَاهُ نَاحِيَة إِلَى الْجِهَة الَّتِي جَاءَ مِنْهَا , فَوَصَلَ إِلَى الْمَرْأَتَيْنِ قَبْل وُصُوله إِلَى الْأُمَّة , وَوَجَدَهُمَا تَذُودَانِ وَمَعْنَاهُ تَمْنَعَانِ وَتَحْبِسَانِ , وَمِنْهُ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( فَلَيُذَادَنَّ رِجَال عَنْ حَوْضِي ) وَفِي بَعْض الْمَصَاحِف : " اِمْرَأَتَيْنِ حَابِسَتَيْنِ تَذُودَانِ " يُقَال : ذَادَ يَذُود إِذَا حَبَسَ وَذُدْت الشَّيْء حَبَسْته ; قَالَ الشَّاعِر : أَبِيت عَلَى بَاب الْقَوَافِي كَأَنَّمَا أَذُود بِهَا سِرْبًا مِنْ الْوَحْش نُزِّعَا أَيْ أَحْبِس وَأَمْنَع وَقِيلَ : " تَذُودَانِ " تَطْرُدَانِ ; قَالَ : لَقَدْ سَلَبَتْ عَصَاك بَنُو تَمِيم فَمَا تَدْرِي بِأَيِّ عَصًا تَذُود أَيْ تَطْرُد وَتَكُفّ وَتَمْنَع اِبْن سَلَام : تَمْنَعَانِ غَنَمهمَا لِئَلَّا تَخْتَلِط بِغَنَمِ النَّاس ; فَحُذِفَ الْمَفْعُول : إِمَّا إِيهَامًا عَلَى الْمُخَاطَب , وَإِمَّا اِسْتِغْنَاء بِعِلْمِهِ قَالَ اِبْن عَبَّاس : تَذُودَانِ غَنَمهمَا عَنْ الْمَاء خَوْفًا مِنْ السُّقَاة الْأَقْوِيَاء قَتَادَة : تَذُودَانِ النَّاس عَنْ غَنَمهمَا ; قَالَ النَّحَّاس : وَالْأَوَّل أَوْلَى ; لِأَنَّ بَعْده " قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِر الرِّعَاء " وَلَوْ كَانَتَا تَذُودَانِ عَنْ غَنَمهمَا النَّاس لَمْ تُخْبِرَا عَنْ سَبَب تَأْخِير سَقْيهمَا حَتَّى يُصْدِر الرِّعَاء فَلَمَّا رَأَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام ذَلِكَ مِنْهُمَا " قَالَ مَا خَطْبكُمَا " [ الْقَصَص : 23 ] أَيْ شَأْنكُمَا ; قَالَ رُؤْبَة يَا عَجَبًا مَا خَطْبه وَخَطْبِي اِبْن عَطِيَّة : وَكَانَ اِسْتِعْمَال السُّؤَال بِالْخَطْبِ إِنَّمَا هُوَ فِي مُصَاب , أَوْ مُضْطَهَد , أَوْ مَنْ يُشْفَق عَلَيْهِ , أَوْ يَأْتِي بِمُنْكَرٍ مِنْ الْأَمْر , فَكَأَنَّهُ بِالْجُمْلَةِ فِي شَرّ ; فَأَخْبَرَتَاهُ بِخَبَرِهِمَا , وَأَنَّ أَبَاهُمَا شَيْخ كَبِير ; فَالْمَعْنَى : لَا يَسْتَطِيع لِضَعْفِهِ أَنْ يُبَاشِر أَمْر غَنَمه , وَأَنَّهُمَا لِضَعْفِهِمَا وَقِلَّة طَاقَتهمَا لَا تَقْدِرَانِ عَلَى مُزَاحَمَة الْأَقْوِيَاء , وَأَنَّ عَادَتهمَا التَّأَنِّي حَتَّى يُصْدِر النَّاس عَنْ الْمَاء وَيُخَلَّى ; وَحِينَئِذٍ تَرِدَانِ وَقَرَأَ اِبْن عَامِر وَأَبُو عَمْرو : " يَصْدُر " مِنْ صَدَرَ , وَهُوَ ضِدّ وَرَدَ أَيْ يَرْجِع الرِّعَاء وَالْبَاقُونَ " يُصْدِر " بِضَمِّ الْيَاء مِنْ أَصْدَرَ ; أَيْ حَتَّى يُصْدِرُوا مَوَاشِيهمْ مِنْ وِرْدهمْ وَالرِّعَاء جَمْع رَاعٍ ; مِثْل تَاجِر وَتِجَار , وَصَاحِب وَصِحَاب قَالَتْ فِرْقَة : كَانَتْ الْآبَار مَكْشُوفَة , وَكَانَ زَحْم النَّاس يَمْنَعهُمَا , فَلَمَّا أَرَادَ مُوسَى أَنْ يَسْقِي لَهُمَا زَحَمَ النَّاس وَغَلَبَهُمْ عَلَى الْمَاء حَتَّى سَقَى , فَعَنْ هَذَا الْغَلَب الَّذِي كَانَ مِنْهُ وَصَفَتْهُ إِحْدَاهُمَا بِالْقُوَّةِ وَقَالَتْ فِرْقَة : إِنَّهُمَا كَانَتَا تَتَّبِعَانِ فُضَالَتهمْ فِي الصَّهَارِيج , فَإِنْ وَجَدَتَا فِي الْحَوْض بَقِيَّة كَانَ ذَلِكَ سَقْيهمَا , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ بَقِيَّة عَطِشَتْ غَنَمهمَا , فَرَقَّ لَهُمَا مُوسَى , فَعَمَدَ إِلَى بِئْر كَانَتْ مُغَطَّاة وَالنَّاس يَسْقُونَ مِنْ غَيْرهَا , وَكَانَ حَجَرهَا لَا يَرْفَعهُ إِلَّا سَبْعَة , قَالَ اِبْن زَيْد اِبْن جُرَيْج : عَشَرَة اِبْن عَبَّاس : ثَلَاثُونَ الزَّجَّاج : أَرْبَعُونَ ; فَرَفَعَهُ وَسَقَى لِلْمَرْأَتَيْنِ ; فَعَنْ رَفْع الصَّخْرَة وَصِفَته بِالْقُوَّةِ وَقِيلَ : إِنَّ بِئْرهمْ كَانَتْ وَاحِدَة , وَإِنَّهُ رَفَعَ عَنْهَا الْحَجَر بَعْد اِنْفِصَال السُّقَاة , إِذْ كَانَتْ عَادَة الْمَرْأَتَيْنِ شُرْب الْفَضَلَات

إِنْ قِيلَ كَيْف سَاغَ لِنَبِيِّ اللَّه الَّذِي هُوَ شُعَيْب صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْضَى لِابْنَتَيْهِ بِسَقْيِ الْمَاشِيَة ؟ قِيلَ لَهُ : لَيْسَ ذَلِكَ بِمَحْظُورٍ وَالدِّين لَا يَأْبَاهُ ; وَأَمَّا الْمُرُوءَة فَالنَّاس مُخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ , وَالْعَادَة مُتَبَايِنَة فِيهِ , وَأَحْوَال الْعَرَب فِيهِ خِلَاف أَحْوَال الْعَجَم , وَمَذْهَب أَهْل الْبَدْو غَيْر مَذْهَب الْحَضَر , خُصُوصًا إِذَا كَانَتْ الْحَالَة حَالَة ضَرُورَة
فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌسورة القصص الآية رقم 24
لَهُمَا " رَوَى عَمْرو بْن مَيْمُون عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب أَنَّهُ قَالَ : لَمَّا اِسْتَقَى الرُّعَاة غَطَّوْا عَلَى الْبِئْر صَخْرَة لَا يَقْلَعهَا إِلَّا عَشَرَة رِجَال , فَجَاءَ مُوسَى فَاقْتَلَعَهَا وَاسْتَقَى ذَنُوبًا وَاحِدًا لَمْ تَحْتَجْ إِلَى غَيْره فَسَقَى لَهُمَا



تَوَلَّى إِلَى الظِّلّ فَقَالَ رَبّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْت إِلَيَّ مِنْ خَيْر فَقِير " تَوَلَّى إِلَى ظِلّ سَمُرَة ; قَالَهُ اِبْن مَسْعُود وَتَعَرَّضَ لِسُؤَالِ مَا يُطْعِمهُ بِقَوْلِهِ : " إِنِّي لِمَا أَنْزَلْت إِلَيَّ مِنْ خَيْر فَقِير " وَكَانَ لَمْ يَذُقْ طَعَامًا سَبْعَة أَيَّام , وَقَدْ لَصِقَ بَطْنه بِظَهْرِهِ ; فَعَرَّضَ بِالدُّعَاءِ وَلَمْ يُصَرِّح بِسُؤَالٍ ; هَكَذَا رَوَى جَمِيع الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ طَلَبَ فِي هَذَا الْكَلَام مَا يَأْكُلهُ ; فَالْخَيْر يَكُون بِمَعْنَى الطَّعَام كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَة , وَيَكُون بِمَعْنَى الْمَال كَمَا قَالَ : " إِنْ تَرَكَ خَيْرًا " [ الْبَقَرَة : 180 ] وَقَوْل : " وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْر لَشَدِيد " [ الْعَادِيَات : 8 ] وَيَكُون بِمَعْنَى الْقُوَّة كَمَا قَالَ : " أَهُمْ خَيْر أَمْ قَوْم تُبَّع " [ الدُّخَان : 37 ] وَيَكُون بِمَعْنَى الْعِبَادَة كَقَوْلِ : " وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْل الْخَيْرَات " [ الْأَنْبِيَاء : 73 ] قَالَ اِبْن عَبَّاس : وَكَانَ قَدْ بَلَغَ بِهِ الْجُوع , وَاخْضَرَّ لَوْنه مِنْ أَكْل الْبَقْل فِي بَطْنه , وَإِنَّهُ لَأَكْرَم الْخَلْق عَلَى اللَّه وَيُرْوَى أَنَّهُ لَمْ يَصِل إِلَى مَدْيَن حَتَّى سَقَطَ بَاطِن قَدَمَيْهِ وَفِي هَذَا مُعْتَبَر وَإِشْعَار بِهَوَانِ الدُّنْيَا عَلَى اللَّه وَقَالَ أَبُو بَكْر بْن طَاهِر فِي قَوْله : " إِنِّي لِمَا أَنْزَلْت إِلَى مِنْ خَيْر فَقِير " أَيْ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْت مِنْ فَضْلك وَغِنَاك فَقِير إِلَى أَنْ تُغْنِينِي بِك عَمَّنْ سِوَاك

قُلْت : مَا ذَكَرَهُ أَهْل التَّفْسِير أَوْلَى ; فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى إِنَّمَا أَغْنَاهُ بِوَاسِطَةِ شُعَيْب
فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَسورة القصص الآية رقم 25
عَلَى اِسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوك لِيَجْزِيَك أَجْر مَا سَقَيْت لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَص قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْت مِنْ الْقَوْم الظَّلِمِينَ " فِي هَذَا الْكَلَام اِخْتِصَار يَدُلّ عَلَيْهِ هَذَا الظَّاهِر ; قَدَّرَهُ اِبْن إِسْحَاق : فَذَهَبَتَا إِلَى أَبِيهِمَا سَرِيعَتَيْنِ , وَكَانَتْ عَادَتْهُمَا الْإِبْطَاء فِي السَّقْي , فَحَدَّثَتَاهُ بِمَا كَانَ مِنْ الرَّجُل الَّذِي سَقَى لَهُمَا , فَأَمَرَ الْكُبْرَى مِنْ بِنْتَيْهِ - وَقِيلَ الصُّغْرَى أَنْ تَدْعُوهُ لَهُ , " فَجَاءَتْ " عَلَى مَا فِي هَذِهِ الْآيَة قَالَ عَمْرو بْن مَيْمُون : وَلَمْ تَكُنْ سَلْفَعًا مِنْ النِّسَاء , خَرَّاجَة وَلَّاجَة وَقِيلَ : جَاءَتْهُ سَاتِرَة وَجْههَا بِكُمِّ دِرْعهَا ; قَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَرُوِيَ أَنَّ اِسْم إِحْدَاهُمَا ليا وَالْأُخْرَى صفوريا اِبْنَتَا يثرون , ويثرون وَهُوَ شُعَيْب عَلَيْهِ السَّلَام وَقِيلَ : اِبْن أَبِي شُعَيْب , وَأَنَّ شُعَيْبًا كَانَ قَدْ مَاتَ وَأَكْثَر النَّاس عَلَى أَنَّهُمَا اِبْنَتَا شُعَيْب عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ ظَاهِر الْقُرْآن , قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَإِلَى مَدْيَن أَخَاهُمْ شُعَيْبًا " [ الْأَعْرَاف : 85 ] كَذَا فِي سُورَة [ الْأَعْرَاف ] وَفِي سُورَة الشُّعَرَاء : " كَذَّبَ أَصْحَاب الْأَيْكَة الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْب " [ الشُّعَرَاء : 176 - 177 ] قَالَ قَتَادَة : بَعَثَ اللَّه تَعَالَى شُعَيْبًا إِلَى أَصْحَاب الْأَيْكَة وَأَصْحَاب مَدْيَن وَقَدْ مَضَى فِي [ الْأَعْرَاف ] الْخِلَاف فِي اِسْم أَبِيهِ فَرُوِيَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لَمَّا جَاءَتْهُ بِالرِّسَالَةِ قَامَ يَتْبَعهَا , وَكَانَ بَيْن مُوسَى وَبَيْن أَبِيهَا ثَلَاثَة أَمْيَال , فَهَبَّتْ رِيح فَضَمَّتْ قَمِيصهَا فَوَصَفَتْ عَجِيزَتهَا , فَتَحَرَّجَ مُوسَى مِنْ النَّظَر إِلَيْهَا فَقَالَ : اِرْجِعِي خَلْفِي وَأَرْشِدِينِي إِلَى الطَّرِيق بِصَوْتِك وَقِيلَ : إِنَّ مُوسَى قَالَ اِبْتِدَاء : كُونِي وَرَائِي فَإِنِّي رَجُل عِبْرَانِيّ لَا أَنْظُر فِي أَدْبَار النِّسَاء , وَدُلِّينِي عَلَى الطَّرِيق يَمِينًا أَوْ يَسَارًا ; فَذَلِكَ سَبَب وَصْفهَا لَهُ بِالْأَمَانَةِ ; قَالَ اِبْن عَبَّاس فَوَصَلَ مُوسَى إِلَى دَاعِيه فَقَصَّ عَلَيْهِ أَمْره مِنْ أَوَّله إِلَى آخِره فَآنَسَهُ بِقَوْلِهِ : " لَا تَخَفْ نَجَوْت مِنْ الْقَوْم الظَّالِمِينَ " وَكَانَتْ مَدْيَن خَارِجَة عَنْ مَمْلَكَة فِرْعَوْن وَقَرَّبَ إِلَيْهِ طَعَامًا فَقَالَ مُوسَى : لَا آكُل ; إِنَّا أَهْل بَيْت لَا نَبِيع دِيننَا بِمِلْءِ الْأَرْض ذَهَبًا ; فَقَالَ شُعَيْب : لَيْسَ هَذَا عِوَض السَّقْي , وَلَكِنْ عَادَتِي وَعَادَة آبَائِي قِرَى الضَّيْف , وَإِطْعَام الطَّعَام ; فَحِينَئِذٍ أَكَلَ مُوسَى
قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُسورة القصص الآية رقم 26
اِسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْر مَنْ اِسْتَأْجَرْت الْقَوِيّ الْأَمِين " دَلِيل عَلَى أَنَّ الْإِجَارَة كَانَتْ عِنْدهمْ مَشْرُوعَة مَعْلُومَة , وَكَذَلِكَ كَانَتْ فِي كُلّ مِلَّة وَهِيَ مِنْ ضَرُورَة الْخَلِيقَة , وَمَصْلَحَة الْخُلْطَة بَيْن النَّاس ; خِلَاف لِلْأَصَمِّ حَيْثُ كَانَ عَنْ سَمَاعهَا أَصَمّ لَمَّا أَرَادَ مُوسَى أَنْ يَسْقِي لَهُمَا زَحَمَ النَّاس وَغَلَبَهُمْ عَلَى الْمَاء حَتَّى سَقَى , فَعَنْ هَذَا الْغَلَب الَّذِي كَانَ مِنْهُ وَصَفَتْهُ إِحْدَاهُمَا بِالْقُوَّةِ
قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَسورة القصص الآية رقم 27
أُنْكِحك " فِيهِ عَرْض الْوَلِيّ بِنْته عَلَى الرَّجُل ; وَهَذِهِ سُنَّة قَائِمَة ; عَرَضَ صَالِح مَدْيَن اِبْنَته عَلَى صَالِح بَنِي إِسْرَائِيل , وَعَرَضَ عُمَر بْن الْخَطَّاب اِبْنَته حَفْصَة عَلَى أَبِي بَكْر وَعُثْمَان , وَعَرَضَتْ الْمَوْهُوبَة نَفْسهَا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَمِنْ الْحَسَن عَرْض الرَّجُل وَلِيَّته , وَالْمَرْأَة نَفْسهَا عَلَى الرَّجُل الصَّالِح , اِقْتِدَاء بِالسَّلَفِ الصَّالِح قَالَ اِبْن عُمَر : لَمَّا تَأَيَّمَتْ حَفْصَة قَالَ عُمَر لِعُثْمَانَ : إِنْ شِئْت أُنْكِحك حَفْصَة بِنْت عُمَر ; الْحَدِيث اِنْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيّ

وَفِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى أَنَّ النِّكَاح إِلَى الْوَلِيّ لَا حَظّ لِلْمَرْأَةِ فِيهِ , لِأَنَّ صَالِح مَدْيَن تَوَلَّاهُ , وَبِهِ قَالَ فُقَهَاء الْأَمْصَار وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَة وَقَدْ مَضَى

هَذِهِ الْآيَة تَدُلّ عَلَى أَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يُزَوِّج اِبْنَته الْبِكْر الْبَالِغ مِنْ غَيْر اِسْتِئْمَار , وَبِهِ قَالَ مَالِك وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَة , وَهُوَ ظَاهِر قَوِيّ فِي الْبَاب , وَاحْتِجَاجه بِهَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُعَوِّل عَلَى الْإِسْرَائِيلِيَّات ; كَمَا تَقَدَّمَ وَبِقَوْلِ مَالِك فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة قَالَ الشَّافِعِيّ وَكَثِير مِنْ الْعُلَمَاء وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : إِذَا بَلَغَتْ الصَّغِيرَة فَلَا يُزَوِّجهَا أَحَد إِلَّا بِرِضَاهَا ; لِأَنَّهَا بَلَغَتْ حَدّ التَّكْلِيف , فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ صَغِيرَة فَإِنَّهُ يُزَوِّجهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا لِأَنَّهُ لَا إِذْن لَهَا وَلَا رِضًا , بِغَيْرِ خِلَاف

اِسْتَدَلَّ أَصْحَاب الشَّافِعِيّ بِقَوْلِهِ : " إِنِّي أُرِيد أَنْ أُنْكِحك " عَلَى أَنَّ النِّكَاح مَوْقُوف عَلَى لَفْظ التَّزْوِيج وَالْإِنْكَاح وَبِهِ قَالَ رَبِيعَة وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو عُبَيْد وَدَاوُد وَمَالِك عَلَى اِخْتِلَاف عَنْهُ وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي الْمَشْهُور : يَنْعَقِد النِّكَاح بِكُلِّ لَفْظ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : يَنْعَقِد بِكُلِّ لَفْظ يَقْتَضِي التَّمْلِيك عَلَى التَّأْبِيد ; أَمَّا الشَّافِعِيَّة فَلَا حُجَّة لَهُمْ فِي الْآيَة لِأَنَّهُ شَرْع مَنْ قَبْلنَا وَهُمْ لَا يَرَوْنَهُ حُجَّة فِي شَيْء فِي الْمَشْهُور عِنْدهمْ وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَالثَّوْرِيّ وَالْحَسَن بْن حَيّ فَقَالُوا : يَنْعَقِد النِّكَاح بِلَفْظِ الْهِبَة وَغَيْره إِذَا كَانَ قَدْ أُشْهِدَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الطَّلَاق يَقَع بِالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَة , قَالُوا : فَكَذَلِكَ النِّكَاح قَالُوا : وَاَلَّذِي خُصَّ بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعَرِّي الْبُضْع مِنْ الْعِوَض لَا النِّكَاح بِلَفْظِ الْهِبَة , وَتَابَعَهُمْ اِبْن الْقَاسِم فَقَالَ : إِنْ وَهَبَ اِبْنَته وَهُوَ يُرِيد إِنْكَاحهَا فَلَا أَحْفَظ عَنْ مَالِك فِيهِ شَيْئًا , وَهُوَ عِنْدِي جَائِز كَالْبَيْعِ قَالَ أَبُو عُمَر : الصَّحِيح أَنَّهُ لَا يَنْعَقِد نِكَاح بِلَفْظِ الْهِبَة , كَمَا لَا يَنْعَقِد بِلَفْظِ النِّكَاح هِبَة شَيْء مِنْ الْأَمْوَال وَأَيْضًا فَإِنَّ النِّكَاح مُفْتَقِر إِلَى التَّصْرِيح لِتَقَع الشَّهَادَة عَلَيْهِ , وَهُوَ ضِدّ الطَّلَاق فَكَيْف يُقَاسَ عَلَيْهِ , وَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّ النِّكَاح لَا يَنْعَقِد بِقَوْلِ : أَبَحْت لَك وَأَحْلَلْت لَك فَكَذَلِكَ الْهِبَة وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اِسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجهنَّ بِكَلِمَةِ اللَّه ) يَعْنِي الْقُرْآن , وَلَيْسَ فِي الْقُرْآن عَقْد النِّكَاح بِلَفْظِ الْهِبَة , وَإِنَّمَا فِيهِ التَّزْوِيج وَالنِّكَاح , وَفِي إِجَازَة النِّكَاح بِلَفْظِ الْهِبَة إِبْطَال بَعْض خُصُوصِيَّة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ



يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ عَرْض لَا عَقْد , لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَقْدًا لَعَيَّنَ الْمَعْقُود عَلَيْهَا لَهُ ; لِأَنَّ الْعُلَمَاء إِنْ كَانُوا قَدْ اِخْتَلَفُوا فِي جَوَاز الْبَيْع إِذَا قَالَ : بِعْتُك أَحَد عَبْدَيَّ هَذَيْنَ بِثَمَنِ كَذَا ; فَإِنَّهُمْ اِتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوز فِي النِّكَاح ; لِأَنَّهُ خِيَار وَشَيْء مِنْ الْخِيَار لَا يُلْصَق بِالنِّكَاحِ

قَالَ مَكِّيّ : فِي هَذِهِ الْآيَة خَصَائِص فِي النِّكَاح مِنْهَا أَنَّهُ لَمْ يُعَيِّن الزَّوْجَة وَلَا حَدّ أَوَّل الْأَمَد , وَجَعَلَ الْمَهْر إِجَارَة , وَدَخَلَ وَلَمْ يَنْقُد شَيْئًا قُلْت : فَهَذِهِ أَرْبَع مَسَائِل تَضَمَّنَتْهَا هَذِهِ الْمَسْأَلَة [ الْأُولَى ] التَّعْيِين , قَالَ عُلَمَاؤُنَا : أَمَّا التَّعْيِين فَيُشْبِه أَنَّهُ كَانَ فِي ثَانِي حَال الْمُرَاوَضَة , وَإِنَّمَا عَرَضَ الْأَمْر مُجْمَلًا , وَعَيَّنَ بَعْد ذَلِكَ وَقَدْ قِيلَ : إِنَّهُ زَوَّجَهُ صفوريا وَهِيَ الصُّغْرَى يُرْوَى عَنْ أَبِي ذَرّ قَالَ : قَالَ لِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنْ سُئِلْت أَيّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى فَقُلْ خَيْرهمَا وَأَوْفَاهُمَا وَإِنْ سُئِلْت أَيّ الْمَرْأَتَيْنِ تَزَوَّجَ فَقُلْ الصُّغْرَى وَهِيَ الَّتِي جَاءَتْ خَلْفه وَهِيَ الَّتِي قَالَتْ : " يَا أَبَتِ اِسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْر مَنْ اِسْتَأْجَرْت الْقَوِيّ الْأَمِين " ) . قِيلَ : إِنَّ الْحِكْمَة فِي تَزْوِيجه الصُّغْرَى مِنْهُ قَبْل الْكُبْرَى وَإِنْ كَانَتْ الْكُبْرَى أَحْوَج إِلَى الرِّجَال أَنَّهُ تَوَقَّعَ أَنْ يَمِيل إِلَيْهَا ; لِأَنَّهُ رَآهَا فِي رِسَالَته , وَمَاشَاهَا فِي إِقْبَاله إِلَى أَبِيهَا مَعَهَا , فَلَوْ عَرَضَ عَلَيْهِ الْكُبْرَى رُبَّمَا أَظْهَرَ لَهُ الِاخْتِيَار وَهُوَ يُضْمِر غَيْره وَقِيلَ غَيْر هَذَا ; وَاَللَّه أَعْلَم وَفِي بَعْض الْأَخْبَار أَنَّهُ تَزَوَّجَ بِالْكُبْرَى ; حَكَاهُ الْقُشَيْرِيّ [ الثَّانِيَة ] وَأَمَّا ذِكْر أَوَّل الْمُدَّة فَلَيْسَ فِي الْآيَة مَا يَقْتَضِي إِسْقَاطه بَلْ هُوَ مَسْكُوت عَنْهُ ; فَإِمَّا رَسَمَاهُ , وَإِلَّا فَهُوَ مِنْ أَوَّل وَقْت الْعَقْد [ الثَّالِثَة ] وَأَمَّا النِّكَاح بِالْإِجَارَةِ فَظَاهِر مِنْ الْآيَة , وَهُوَ أَمْر قَدْ قَرَّرَهُ شَرْعنَا , وَجَرَى فِي حَدِيث الَّذِي لَمْ يَكُنْ عِنْده إِلَّا شَيْء مِنْ الْقُرْآن ; رَوَاهُ الْأَئِمَّة ; وَفِي بَعْض طُرُقه : فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا تَحْفَظ مِنْ الْقُرْآن ) فَقَالَ : سُورَة الْبَقَرَة وَاَلَّتِي تَلِيهَا ; قَالَ : ( فَعَلِّمْهَا عِشْرِينَ آيَة وَهِيَ اِمْرَأَتك ) وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة عَلَى ثَلَاثَة أَقْوَال : فَكَرِهَهُ مَالِك , وَمَنَعَهُ اِبْن الْقَاسِم , وَأَجَازَهُ اِبْن حَبِيب ; وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه ; قَالُوا : يَجُوز أَنْ تَكُون مَنْفَعَة الْحُرّ صَدَاقًا كَالْخِيَاطَةِ وَالْبِنَاء وَتَعْلِيم الْقُرْآن وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : لَا يَصِحّ , وَجَوَّزَ أَنْ يَتَزَوَّجهَا بِأَنْ يُخْدِمهَا عَبْده سَنَة , أَوْ يُسْكِنهَا دَاره سَنَة ; لِأَنَّ الْعَبْد وَالدَّار مَال , وَلَيْسَ خِدْمَتهَا بِنَفْسِهِ مَالًا وَقَالَ أَبُو الْحَسَن الْكَرْخِيّ : إِنَّ عَقْد النِّكَاح بِلَفْظِ الْإِجَارَة جَائِز ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " فَآتُوهُنَّ أُجُورهنَّ " [ النِّسَاء : 24 ] وَقَالَ أَبُو بَكْر الرَّازِيّ : لَا يَصِحّ لِأَنَّ الْإِجَارَة عَقْد مُؤَقَّت , وَعَقْد النِّكَاح مُؤَبَّد , فَهُمَا مُتَنَافِيَانِ وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم : يَنْفَسِخ قَبْل الْبِنَاء وَيَثْبُت بَعْده . وَقَالَ أَصْبَغ : إِنْ نَقَدَ مَعَهُ شَيْئًا فَفِيهِ اِخْتِلَاف , وَإِنْ لَمْ يَنْقُد فَهُوَ أَشَدّ , فَإِنْ تَرَكَ مَضَى عَلَى كُلّ حَال بِدَلِيلِ قِصَّة شُعَيْب ; قَالَ مَالِك وَابْن الْمَوَّاز وَأَشْهَب وَعَوَّلَ عَلَى هَذِهِ الْآيَة جَمَاعَة مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ وَالْمُتَقَدِّمِينَ فِي هَذِهِ النَّازِلَة ; قَالَ اِبْن خُوَيْز مَنْدَاد تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَة النِّكَاح عَلَى الْإِجَارَة وَالْعَقْد صَحِيح , وَيُكْرَه أَنْ تُجْعَل الْإِجَارَة مَهْرًا , وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُون الْمَهْر مَالًا كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ : " أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ " [ النِّسَاء : 24 ] هَذَا قَوْل أَصْحَابنَا جَمِيعًا [ الرَّابِعَة ] وَأَمَّا قَوْله : وَدَخَلَ وَلَمْ يَنْقُد فَقَدْ اِخْتَلَفَ النَّاس فِي هَذَا ; هَلْ دَخَلَ حِين عَقَدَ أَمْ حِين سَافَرَ , فَإِنْ كَانَ حِين عَقَدَ فَمَاذَا نَقَدَ ؟ وَقَدْ مَنَعَ عُلَمَاؤُنَا مِنْ الدُّخُول حَتَّى يَنْقُد وَلَوْ رُبْع دِينَار ; قَالَهُ اِبْن الْقَاسِم فَإِنْ دَخَلَ قَبْل أَنْ يَنْقُد مَضَى , لِأَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابنَا قَالُوا : تَعْجِيل الصَّدَاق أَوْ شَيْء مِنْهُ مُسْتَحَبّ عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الصَّدَاق رِعْيَة الْغَنَم فَقَدْ نَقَدَ الشُّرُوع فِي الْخِدْمَة ; وَإِنْ كَانَ دَخَلَ حِين سَافَرَ فَطُول الِانْتِظَار فِي النِّكَاح جَائِز إِنْ كَانَ مَدَى الْعُمْر بِغَيْرِ شَرْط وَأَمَّا إِنْ كَانَ بِشَرْطِ فَلَا يَجُوز إِلَّا أَنْ يَكُون الْغَرَض صَحِيحًا مِثْل التَّأَهُّب لِلْبِنَاءِ أَوْ اِنْتِظَار صَلَاحِيَّة الزَّوْجَة لِلدُّخُولِ إِنْ كَانَتْ صَغِيرَة ; نَصَّ عَلَيْهِ عُلَمَاؤُنَا

فِي هَذِهِ الْآيَة اِجْتِمَاع إِجَارَة وَنِكَاح , وَقَدْ اِخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَة أَقْوَال : [ الْأَوَّل ] قَالَ فِي ثُمَانِيَّة أَبِي زَيْد : يُكْرَه اِبْتِدَاء فَإِنْ وَقَعَ مَضَى [ الثَّانِي ] قَالَ مَالِك وَابْن الْقَاسِم فِي الْمَشْهُور : لَا يَجُوز وَيُفْسَخ قَبْل الدُّخُول وَبَعْده ; لِاخْتِلَافِ مَقَاصِدهمَا كَسَائِرِ الْعُقُود الْمُتَبَايِنَة [ الثَّالِث ] أَجَازَهُ أَشْهَب وَأَصْبَغ قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح وَعَلَيْهِ تَدُلّ الْآيَة ; وَقَدْ قَالَ مَالِك النِّكَاح أَشْبَه شَيْء بِالْبُيُوعِ , فَأَيّ فَرْق بَيْن إِجَارَة وَبَيْع أَوْ بَيْن بَيْع وَنِكَاح فَرْع : وَإِنْ أَصْدَقَهَا تَعْلِيم شِعْر مُبَاح صَحَّ ; قَالَ الْمُزَنِيّ : وَذَلِكَ مِثْل قَوْل الشَّاعِر : يَقُول الْعَبْد فَائِدَتِي وَمَالِي وَتَقْوَى اللَّه أَفْضَل مَا اِسْتَفَادَا وَإِنْ أَصْدَقَهَا تَعْلِيم شِعْر فِيهِ هَجْو أَوْ فُحْش كَانَ كَمَا لَوْ أَصْدَقَهَا خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا



أَنْ تَأْجُرنِي ثَمَانِي حِجَج فَإِنْ أَتْمَمْت عَشْرًا فَمِنْ عِنْدك وَمَا أُرِيد أَنْ أَشُقّ عَلَيْك سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّه مِنْ الصَّالِحِينَ " جَرَى ذِكْر الْخِدْمَة مُطْلَقًا وَقَالَ مَالِك : إِنَّهُ جَائِز وَيُحْمَل عَلَى الْعُرْف , فَلَا يَحْتَاج فِي التَّسْمِيَة إِلَى الْخِدْمَة وَهُوَ ظَاهِر قِصَّة مُوسَى , فَإِنَّهُ ذَكَرَ إِجَارَة مُطْلَقَة وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ : لَا يَجُوز حَتَّى يُسَمَّى لِأَنَّهُ مَجْهُول وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيّ : [ بَاب مَنْ اِسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَبَيَّنَ لَهُ الْأَجَل وَلَمْ يُبَيِّن لَهُ الْعَمَل ] لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " عَلَى أَنْ تَأْجُرنِي ثَمَانِي حِجَج " . قَالَ الْمُهَلَّب : لَيْسَ كَمَا تَرْجَمَ ; لِأَنَّ الْعَمَل عِنْدهمْ كَانَ مَعْلُومًا مِنْ سَقْي وَحَرْث وَرَعْي وَمَا شَاكَلَ أَعْمَال الْبَادِيَة فِي مَهْنَة أَهْلهَا , فَهَذَا مُتَعَارَف وَإِنْ لَمْ يُبَيِّن لَهُ أَشْخَاص الْأَعْمَال وَلَا مَقَادِيرهَا ; مِثْل أَنْ يَقُول لَهُ : إِنَّك تَحْرُث كَذَا مِنْ السَّنَة , وَتَرْعَى كَذَا مِنْ السَّنَة , فَهَذَا إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْمَعْهُود مِنْ خِدْمَة الْبَادِيَة , وَإِنَّمَا الَّذِي لَا يَجُوز عِنْد الْجَمِيع أَنْ تَكُون الْمُدَّة مَجْهُولَة , وَالْعَمَل مَجْهُول غَيْر مَعْهُود لَا يَجُوز حَتَّى يُعْلَم قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَقَدْ ذَكَرَ أَهْل التَّفْسِير أَنَّهُ عَيَّنَ لَهُ رِعْيَة الْغَنَم , وَلَمْ يُرْوَ مِنْ طَرِيق صَحِيحَة , وَلَكِنْ قَالُوا : إِنَّ صَالِح مَدْيَن لَمْ يَكُنْ لَهُ عَمَل إِلَّا رِعْيَة الْغَنَم , فَكَانَ مَا عُلِمَ مِنْ حَاله قَائِمًا مَقَام التَّعْيِين لِلْخِدْمَةِ فِيهِ

أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ جَائِز أَنْ يَسْتَأْجِر الرَّاعِي شُهُورًا مَعْلُومَة , بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَة , لِرِعَايَةِ غَنَم مَعْدُودَة ; فَإِنْ كَانَتْ مَعْدُودَة مُعَيَّنَة , فَفِيهَا تَفْصِيل لِعُلَمَائِنَا ; قَالَ اِبْن الْقَاسِم : لَا يَجُوز حَتَّى يَشْتَرِط الْخَلْف إِنْ مَاتَتْ , وَهِيَ رِوَايَة ضَعِيفَة جِدًّا ; وَقَدْ اِسْتَأْجَرَ صَالِح مَدْيَن مُوسَى عَلَى غَنَمه , وَقَدْ رَآهَا وَلَمْ يَشْتَرِط خَلْفًا ; وَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَة غَيْر مُسَمَّاة وَلَا مُعَيَّنَة جَازَتْ عِنْد عُلَمَائِنَا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ : لَا تَجُوز لِجَهَالَتِهَا ; وَعَوَّلَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى الْعُرْف حَسْبَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا ; وَأَنَّهُ يُعْطَى بِقَدْرِ مَا تَحْتَمِل قُوَّته وَزَادَ بَعْض عُلَمَائِنَا أَنَّهُ لَا يَجُوز حَتَّى يَعْلَم الْمُسْتَأْجِر قَدْر قُوَّته , وَهُوَ صَحِيح فَإِنَّ صَالِح مَدْيَن عَلِمَ قَدْر قُوَّة مُوسَى بِرَفْعِ الْحَجَر .

قَالَ مَالِك : وَلَيْسَ عَلَى الرَّاعِي ضَمَان وَهُوَ مُصَدَّق فِيمَا هَلَكَ أَوْ سُرِقَ , لِأَنَّهُ أَمِين كَالْوَكِيلِ وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيّ : [ بَاب إِذَا أَبْصَرَ الرَّاعِي أَوْ الْوَكِيل شَاة تَمُوت أَوْ شَيْئًا يَفْسُد فَأَصْلَحَ مَا يَخَاف الْفَسَاد ] وَسَاقَ حَدِيث كَعْب بْن مَالِك عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُمْ غَنَم تَرْعَى بِسَلْعٍ , فَأَبْصَرَتْ جَارِيَة لَنَا بِشَاةٍ مِنْ غَنَمنَا مَوْتًا فَكَسَرَتْ حَجَرًا فَذَبَحَتْهَا بِهِ , فَقَالَ لَهُمْ : لَا تَأْكُلُوا حَتَّى أَسْأَل النَّبِيّ أَوْ أُرْسِلَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يَسْأَلهُ وَأَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فَأَمَرَهُ بِأَكْلِهَا ; قَالَ عَبْد اللَّه : فَيُعْجِبنِي أَنَّهَا أَمَة وَأَنَّهَا ذَبَحَتْ قَالَ الْمُهَلَّب : فِيهِ مِنْ الْفِقْه تَصْدِيق الرَّاعِي وَالْوَكِيل فِيمَا ائْتُمِنَا عَلَيْهِ حَتَّى يَظْهَر عَلَيْهِمَا دَلِيل الْخِيَانَة وَالْكَذِب ; وَهَذَا قَوْل مَالِك وَجَمَاعَة وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم : إِذَا خَافَ الْمَوْت عَلَى شَاة فَذَبَحَهَا لَمْ يَضْمَن وَيُصَدَّق إِذَا جَاءَ بِهَا مَذْبُوحَة وَقَالَ غَيْره : يَضْمَن حَتَّى يُبَيِّن مَا قَالَ

وَاخْتَلَفَ اِبْن الْقَاسِم وَأَشْهَب إِذَا أَنْزَى الرَّاعِي عَلَى إِنَاث الْمَاشِيَة بِغَيْرِ إِذْن أَرْبَابهَا فَهَلَكَتْ ; فَقَالَ اِبْن الْقَاسِم : لَا ضَمَان عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْإِنْزَاء مِنْ إِصْلَاح الْمَال وَنَمَائِهِ وَقَالَ أَشْهَب : عَلَيْهِ الضَّمَان ; وَقَوْل اِبْن الْقَاسِم أَشْبَه بِدَلِيلِ حَدِيث كَعْب , وَأَنَّهُ لَا ضَمَان عَلَيْهِ فِيمَا تَلِفَ عَلَيْهِ بِاجْتِهَادِهِ , إِنْ كَانَ مِنْ أَهْل الصَّلَاح , وَمِمَّنْ يُعْلَم إِشْفَاقه عَلَى الْمَال ; وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَهْل الْفُسُوق وَالْفَسَاد وَأَرَادَ صَاحِب الْمَال أَنْ يُضَمِّنهُ فَعَلَ ; لِأَنَّهُ لَا يُصَدَّق أَنَّهُ رَأَى بِالشَّاةِ مَوْتًا لِمَا عُرِفَ مِنْ فِسْقه .

لَمْ يُنْقَل مَا كَانَتْ أُجْرَة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام ; وَلَكِنْ رَوَى يَحْيَى بْن سَلَّام أَنَّ صَالِح مَدْيَن جَعَلَ لِمُوسَى كُلّ سَخْلَة تُوضَع خِلَاف لَوْن أُمّهَا , فَأَوْحَى اللَّه إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاك بَيْنهنَّ يَلِدْنَ خِلَاف شَبَههنَّ كُلّهنَّ وَقَالَ غَيْر يَحْيَى : بَلْ جَعَلَ لَهُ كُلّ بَلْقَاء تُولَد لَهُ , فَوَلَدْنَ لَهُ كُلّهنَّ بُلْقًا وَذَكَرَ الْقُشَيْرِيّ أَنَّ شُعَيْبًا لَمَّا اِسْتَأْجَرَ مُوسَى قَالَ لَهُ : اُدْخُلْ بَيْت كَذَا وَخُذْ عَصَا مِنْ الْعِصِيّ الَّتِي فِي الْبَيْت , فَأَخْرَجَ مُوسَى عَصًا , وَكَانَ أَخْرَجَهَا آدَم مِنْ الْجَنَّة , وَتَوَارَثَهَا الْأَنْبِيَاء حَتَّى صَارَتْ إِلَى شُعَيْب , فَأَمَرَهُ شُعَيْب أَنْ يُلْقِيهَا فِي الْبَيْت وَيَأْخُذ عَصًا أُخْرَى , فَدَخَلَ وَأَخْرَجَ تِلْكَ الْعَصَا ; وَكَذَلِكَ سَبْع مَرَّات كُلّ ذَلِكَ لَا تَقَع بِيَدِهِ غَيْر تِلْكَ , فَعَلِمَ شُعَيْب أَنَّ لَهُ شَأْنًا ; فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ لَهُ : سُقْ الْأَغْنَام إِلَى مَفْرِق الطَّرِيق , فَخُذْ عَنْ يَمِينك وَلَيْسَ بِهَا عُشْب كَثِير , وَلَا تَأْخُذ عَنْ يَسَارك فَإِنَّ بِهَا عُشْبًا كَثِيرًا وَتِنِّينًا كَبِيرًا لَا يَقْبَل الْمَوَاشِي , فَسَاقَ الْمَوَاشِي إِلَى مَفْرِق الطَّرِيق , فَأَخَذَتْ نَحْو الْيَسَار وَلَمْ يَقْدِر عَلَى ضَبْطهَا , فَنَامَ مُوسَى وَخَرَجَ التِّنِّين , فَقَامَتْ الْعَصَا وَصَارَتْ شُعْبَتَاهَا حَدِيدًا وَحَارَبَتْ التِّنِّين حَتَّى قَتَلَتْهُ , وَعَادَتْ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام , فَلَمَّا اِنْتَبَهَ مُوسَى رَأَى الْعَصَا مَخْضُوبَة بِالدَّمِ , وَالتِّنِّين مَقْتُولًا ; فَعَادَ إِلَى شُعَيْب عِشَاء , وَكَانَ شُعَيْب ضَرِيرًا فَمَسَّ الْأَغْنَام , فَإِذَا أَثَر الْخِصْب بَادٍ عَلَيْهَا , فَسَأَلَهُ عَنْ الْقِصَّة فَأَخْبَرَهُ بِهَا , فَفَرِحَ شُعَيْب وَقَالَ : كُلّ مَا تَلِد هَذِهِ الْمَوَاشِي هَذِهِ السَّنَة قَالِب لَوْن أَيْ ذَات لَوْنَيْنِ فَهُوَ لَك ; فَجَاءَتْ جَمِيع السِّخَال تِلْكَ السَّنَة ذَات لَوْنَيْنِ , فَعَلِمَ شُعَيْب أَنَّ لِمُوسَى عِنْد اللَّه مَكَانَة . وَرَوَى عُيَيْنَة بْن حِصْن أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( أَجَّرَ مُوسَى نَفْسه بِشِبَعِ بَطْنه وَعِفَّة فَرْجه ) فَقَالَ لَهُ شُعَيْب لَك مِنْهَا يَعْنِي مِنْ نِتَاج غَنَمه مَا جَاءَتْ بِهِ قَالِب لَوْن لَيْسَ فِيهَا عَزُوز وَلَا فَشُوش وَلَا كَمُوش وَلَا ضَبُوب وَلَا ثَعُول قَالَ الْهَرَوِيّ : الْعَزُوز الْبَكِيئَة ; مَأْخُوذ مِنْ الْعِزَاز وَهِيَ الْأَرْض الصُّلْبَة , وَقَدْ تَعَزَّزَتْ الشَّاة وَالْفَشُوش الَّتِي يَنْفَش لَبَنهَا مِنْ غَيْر حَلْب وَذَلِكَ لِسِعَةِ الْإِحْلِيل , وَمِثْله الْفَتُوح وَالثَّرُور وَمِنْ أَمْثَالهمْ : لَأَفُشَّنَّكَ فَشّ الْوَطْبِ أَيْ لَأُخْرِجَنَّ غَضَبك وَكِبْرك مِنْ رَأْسك وَيُقَال : فَشَّ السِّقَاء إِذَا أَخْرَجَ مِنْهُ الرِّيح وَمِنْهُ الْحَدِيث : ( إِنَّ الشَّيْطَان يَفُشّ بَيْن أَلْيَتَيْ أَحَدكُمْ حَتَّى يُخَيَّل إِلَيْهِ أَنَّهُ أَحْدَثَ ) أَيْ يَنْفُخ نَفْخًا ضَعِيفًا وَالْكَمُوش : الصَّغِيرَة الضَّرْع , وَهِيَ الْكَمِيشَة أَيْضًا ; سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِانْكِمَاشِ ضَرْعهَا وَهُوَ تُقَلِّصهُ ; وَمِنْهُ يُقَال : رَجُل كَمِيش الْإِزَار وَالْكَشُود مِثْل الْكَمُوش وَالضَّبُوب الضَّيِّقَة ثُقْب الْإِحْلِيل وَالضَّبّ الْحَلْب بِشِدَّةِ الْعَصْر وَالثَّعُول الشَّاة الَّتِي لَهَا زِيَادَة حَلَمَة وَهِيَ الثَّعْل وَالثَّعْل زِيَادَة السِّنّ , وَتِلْكَ الزِّيَادَة هِيَ الرَّاءُول وَرَجُل أَثْعَل وَالثَّعْل ضِيق مَخْرَج اللَّبَن قَالَ الْهَرَوِيّ : وَتَفْسِير قَالِب لَوْن فِي الْحَدِيث أَنَّهَا جَاءَتْ عَلَى غَيْر أَلْوَان أُمَّهَاتهَا

الْإِجَارَة بِالْعِوَضِ الْمَجْهُول لَا تَجُوز ; فَإِنَّ وِلَادَة الْغَنَم غَيْر مَعْلُومَة , وَإِنَّ مِنْ الْبِلَاد الْخِصْبَة مَا يُعْلَم وِلَاد الْغَنَم فِيهَا قَطْعًا وَعِدَّتهَا وَسَلَامَة سِخَالهَا كَدِيَارِ مِصْر وَغَيْرهَا , بَيْد أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوز فِي شَرَعْنَا ; لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْغَرَر , وَنَهَى عَنْ الْمَضَامِين وَالْمَلَاقِيح وَالْمَضَامِين مَا فِي بُطُون الْإِنَاث , وَالْمَلَاقِيح مَا فِي أَصْلَاب الْفُحُول وَعَلَى خِلَاف ذَلِكَ قَالَ الشَّاعِر : مَلْقُوحَة فِي بَطْن نَاب حَامِل وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة [ الْحِجْر ] بَيَانه عَلَى أَنَّ رَاشِد بْن مَعْمَر أَجَازَ الْإِجَارَة عَلَى الْغَنَم بِالثُّلُثِ وَالرُّبْع وَقَالَ اِبْن سِيرِينَ وَعَطَاء : يَنْسِج الثَّوْب بِنَصِيبٍ مِنْهُ ; وَبِهِ قَالَ أَحْمَد

الْكَفَاءَة فِي النِّكَاح مُعْتَبَرَة ; وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء هَلْ فِي الدِّين وَالْمَال وَالْحَسَب , أَوْ فِي بَعْض ذَلِكَ وَالصَّحِيح جَوَاز نِكَاح الْمَوَالِي لِلْعَرَبِيَّاتِ وَالْفَرْشِيَّات ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " إِنَّ أَكْرَمكُمْ عِنْد اللَّه أَتْقَاكُمْ " [ الْحُجُرَات : 13 ] وَقَدْ جَاءَ مُوسَى إِلَى صَالِح مَدْيَن غَرِيبًا طَرِيدًا خَائِفًا وَحِيدَا جَائِعًا عُرْيَانًا فَأَنْكَحَهُ اِبْنَته لَمَّا تَحَقَّقَ مِنْ دِينه وَرَأَى مِنْ حَاله , وَأَعْرَضَ عَمَّا سِوَى ذَلِكَ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَة مُسْتَوْعَبَة وَالْحَمْد لِلَّهِ

قَالَ بَعْضهمْ : هَذَا الَّذِي جَرَى مِنْ شُعَيْب لَمْ يَكُنْ ذِكْرًا لِصَدَاقِ الْمَرْأَة , وَإِنَّمَا كَانَ اِشْتِرَاطًا لِنَفْسِهِ عَلَى مَا يَفْعَلهُ الْأَعْرَاب ; فَإِنَّهَا تَشْتَرِط صَدَاق بَنَاتهَا , وَتَقُول لِي كَذَا فِي خَاصَّة نَفْسِي , وَتَرَكَ الْمَهْر مُفَوِّضًا ; وَنِكَاح التَّفْوِيض جَائِز قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : هَذَا الَّذِي تَفْعَلهُ الْأَعْرَاب هُوَ حُلْوَان وَزِيَادَة عَلَى الْمَهْر , وَهُوَ حَرَام لَا يَلِيق بِالْأَنْبِيَاءِ ; فَأَمَّا إِذَا اِشْتَرَطَ الْوَلِيّ شَيْئًا لِنَفْسِهِ , فَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِيمَا يُخْرِجهُ الزَّوْج مِنْ يَده وَلَا يَدْخُل فِي يَد الْمَرْأَة عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدهمَا : أَنَّهُ جَائِز وَالْآخَر : لَا يَجُوز وَاَلَّذِي يَصِحّ عِنْدِي التَّقْسِيم ; فَإِنَّ الْمَرْأَة لَا تَخْلُو أَنْ تَكُون بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا ; فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا جَازَ ; لِأَنَّ نِكَاحهَا بِيَدِهَا , وَإِنَّمَا يَكُون لِلْوَلِيِّ مُبَاشَرَة الْعَقْد , وَلَا يَمْتَنِع أَخْذ الْعِوَض عَلَيْهِ كَمَا يَأْخُذهُ الْوَكِيل عَلَى عَقْد الْبَيْع , وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا كَانَ الْعَقْد بِيَدِهِ , وَكَأَنَّهُ عِوَض فِي النِّكَاح لِغَيْرِ الزَّوْج وَذَلِكَ بَاطِل ; فَإِنْ وَقَعَ فُسِخَ قَبْل الْبِنَاء , وَثَبَتَ بَعْده عَلَى مَشْهُور الرِّوَايَة وَالْحَمْد اللَّه

لَمَّا ذَكَرَ الشَّرْط وَأَعْقَبَهُ بِالطَّوْعِ فِي الْعَشْر خَرَجَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا عَلَى حُكْمه , وَلَمْ يَلْحَق الْآخَر بِالْأَوَّلِ , وَلَا اِشْتَرَكَ الْفَرْض وَالطَّوْع ; وَلِذَلِكَ يُكْتَب فِي الْعُقُود الشُّرُوط الْمُتَّفَق عَلَيْهَا , ثُمَّ يُقَال وَتَطَوَّعَ بِكَذَا , فَيَجْرِي الشَّرْط عَلَى سَبِيله , وَالطَّوْع عَلَى حُكْمه , وَانْفَصَلَ الْوَاجِب مِنْ التَّطَوُّع وَقِيلَ : وَمِنْ لَفْظ شُعَيْب حَسَن فِي لَفْظ الْعُقُود فِي النِّكَاح أَنْكَحَهُ إِيَّاهَا أَوْلَى مِنْ أَنْكَحَهَا إِيَّاهُ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي [ الْأَحْزَاب ] وَجَعَلَ شُعَيْب الثَّمَانِيَة الْأَعْوَام شَرْطًا , وَوَكَّلَ الْعَاشِرَة إِلَى الْمُرُوءَة
قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌسورة القصص الآية رقم 28
ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنك وَأَيّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْت فَلَا عُدْوَان عَلَيَّ " لَمَّا فَرَغَ كَلَام شُعَيْب قَرَّرَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَكَرَّرَ مَعْنَاهُ عَلَى جِهَة التَّوَثُّق فِي أَنَّ الشَّرْط إِنَّمَا وَقَعَ فِي ثَمَانِ حِجَج وَ " أَيّمَا " اِسْتِفْهَام مَنْصُوب بِ " قَضَيْت وَ " الْأَجَلَيْنِ " مَخْفُوض بِإِضَافَةِ " أَيْ " إِلَيْهِمَا وَ " مَا " صِلَة لِلتَّأْكِيدِ وَفِيهِ مَعْنَى الشَّرْط وَجَوَابه " فَلَا عُدْوَان " وَأَنَّ " عُدْوَان " مَنْصُوب بِ " لَا " وَقَالَ اِبْن كَيْسَان : " مَا " فِي مَوْضِع خَفْض بِإِضَافَةِ " أَيْ " إِلَيْهَا وَهِيَ نَكِرَة وَ " الْأَجَلَيْنِ " بَدَل مِنْهَا وَكَذَلِكَ فِي قَوْل : " فَبِمَا رَحْمَة مِنْ اللَّه " [ آل عِمْرَانَ : 159 ] أَيْ رَحْمَة بَدَل مِنْ مَا ; قَالَ مَكِّيّ : وَكَانَ يَتَلَطَّف فِي أَلَّا يَجْعَل شَيْئًا زَائِدًا فِي الْقُرْآن وَيُخَرِّج لَهُ وَجْهًا يُخْرِجهُ مِنْ الزِّيَادَة وَقَرَأَ الْحَسَن : " أَيْمَا " بِسُكُونِ الْيَاء وَقَرَأَ اِبْن مَسْعُود : " أَيّ الْأَجَلَيْنِ مَا قَضَيْت " وَقَرَأَ الْجُمْهُور : " عُدْوَان " بِضَمِّ الْعَيْن وَأَبُو حَيْوَة بِكَسْرِهَا ; وَالْمَعْنَى : لَا تَبِعَة عَلَيَّ وَلَا طَلَب فِي الزِّيَادَة عَلَيْهِ وَالْعُدْوَان التَّجَاوُز فِي غَيْر الْوَاجِب , وَالْحِجَج السُّنُونَ قَالَ الشَّاعِر : لِمَنْ الدِّيَار بِقِنَّةِ الْحَجَر أَقْوَيْنَ مِنْ حِجَج وَمِنْ دَهْر الْوَاحِدَة حِجَّة بِكَسْرِ الْحَاء



قِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْل مُوسَى وَقِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْل وَالِد الْمَرْأَة فَاكْتَفَى الصَّالِحَانِ صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِمَا فِي الْإِشْهَاد عَلَيْهِمَا بِاَللَّهِ وَلَمْ يُشْهِدَا أَحَدًا مِنْ الْخَلْق , وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي وُجُوب الْإِشْهَاد فِي النِّكَاح ; عَلَى قَوْلَيْنِ : [ أَحَدهمَا ] أَنَّهُ لَا يَنْعَقِد إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ [ وَقَالَ مَالِك ] : إِنَّهُ يَنْعَقِد دُون شُهُود ; لِأَنَّهُ عَقْد مُعَاوَضَة فَلَا يُشْتَرَط فِيهِ الْإِشْهَاد , وَإِنَّمَا يُشْتَرَط فِيهِ الْإِعْلَان وَالتَّصْرِيح , وَفَرْق مَا بَيْن النِّكَاح وَالسِّفَاح الدُّفّ وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَة فِي [ الْبَقَرَة ] مُسْتَوْفَاة وَفِي الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة : أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل سَأَلَ بَعْض بَنِي إِسْرَائِيل أَنْ يُسْلِفهُ أَلْف دِينَار فَقَالَ اِيتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدهُمْ , فَقَالَ كَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا ; فَقَالَ اِيتِنِي بِكَفِيلٍ ; فَقَالَ كَفَى بِاَللَّهِ كَفِيلًا قَالَ صَدَقْت فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ ; وَذَكَرَ الْحَدِيث
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَسورة القصص الآية رقم 29
مُوسَى الْأَجَل " قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : سَأَلَنِي رَجُل مِنْ النَّصَارَى أَيّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى فَقُلْت : لَا أَدْرِي حَتَّى أَقْدَم عَلَى حَبْر الْعَرَب فَأَسْأَلهُ - يَعْنِي اِبْن عَبَّاس - فَقَدِمْت عَلَيْهِ فَسَأَلْته ; فَقَالَ : قَضَى أَكْمَلهمَا وَأَوْفَاهُمَا فَأَعْلَمْت النَّصْرَانِيّ فَقَالَ : صَدَقَ وَاَللَّه هَذَا الْعَالِم وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ فِي ذَلِكَ جِبْرِيل فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَضَى عَشْر سِنِينَ وَحَكَى الطَّبَرِيّ عَنْ مُجَاهِد أَنَّهُ قَضَى عَشْرًا وَعَشْرًا بَعْدهَا ; رَوَاهُ الْحَكَم بْن أَبَان عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا ضَعِيف


" قِيلَ : فِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ الرَّجُل يَذْهَب بِأَهْلِهِ حَيْثُ شَاءَ , لِمَا لَهُ عَلَيْهَا مِنْ فَضْل الْقِوَامِيَّة وَزِيَادَة الدَّرَجَة إِلَّا أَنْ يَلْتَزِم لَهَا أَمْرًا فَالْمُؤْمِنُونَ عِنْد شُرُوطهمْ , وَأَحَقّ الشُّرُوط أَنْ يُوَفَّى بِهِ مَا اِسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوج


نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ اُمْكُثُوا إِنِّي آنَسْت نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَة مِنْ النَّار لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ " قَالَ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره : هَذَا حِين قَضَى مُوسَى الْأَجَل وَسَارَ بِأَهْلِهِ وَهُوَ مُقْبِل مِنْ مَدْيَن يُرِيد مِصْر , وَكَانَ قَدْ أَخْطَأَ الطَّرِيق , وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام رَجُلًا غَيُورًا , يَصْحَب النَّاس بِاللَّيْلِ وَيُفَارِقهُمْ بِالنَّهَارِ غَيْرَة مِنْهُ , لِئَلَّا يَرَوْا اِمْرَأَته فَأَخْطَأَ الرُّفْقَة - لِمَا سَبَقَ فِي عِلْم اللَّه تَعَالَى - وَكَانَتْ لَيْلَة مُظْلِمَة . وَقَالَ مُقَاتِل : وَكَانَ لَيْلَة الْجُمْعَة فِي الشِّتَاء . وَهْب بْن مُنَبِّه : اِسْتَأْذَنَ مُوسَى شُعَيْبًا فِي الرُّجُوع إِلَى وَالِدَته فَأَذِنَ لَهُ فَخَرَجَ بِأَهْلِهِ بِغَنَمِهِ , وَوُلِدَ لَهُ فِي الطَّرِيق فِي لَيْلَة شَاتِيَة بَارِدَة مُثْلِجَة , وَقَدْ حَادَ عَنْ الطَّرِيق وَتَفَرَّقَتْ مَاشِيَته , فَقَدَحَ مُوسَى النَّار فَلَمْ تُورِ الْمِقْدَحَة شَيْئًا , إِذْ بَصُرَ بِنَارٍ مِنْ بَعِيد عَلَى يَسَار الطَّرِيق " فَقَالَ لِأَهْلِهِ اُمْكُثُوا " أَيْ أَقِيمُوا بِمَكَانِكُمْ " إِنِّي آنَسْت نَارًا " أَيْ أَبْصَرْت . قَالَ اِبْن عَبَّاس فَلَمَّا تَوَجَّهَ نَحْو النَّار فَإِذَا النَّار فِي شَجَرَة عُنَّاب , فَوَقَفَ مُتَعَجِّبًا مِنْ حُسْن ذَلِكَ الضَّوْء ; وَشِدَّة خُضْرَة تِلْكَ الشَّجَرَة , فَلَا شِدَّة حَرّ النَّار تُغَيِّر حُسْن خُضْرَة الشَّجَرَة , وَلَا كَثْرَة مَاء الشَّجَرَة وَلَا نِعْمَة الْخُضْرَة تُغَيِّرَانِ حُسْن ضَوْء النَّار . وَذَكَرَ الْمَهْدَوِيّ : فَرَأَى النَّار - فِيمَا رُوِيَ - وَهِيَ فِي شَجَرَة مِنْ الْعُلَّيْق , فَقَصَدَهَا فَتَأَخَّرَتْ عَنْهُ , فَرَجَعَ وَأَوْجَسَ فِي نَفْسه خِيفَة , ثُمَّ دَنَتْ مِنْهُ وَكَلَّمَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الشَّجَرَة . الْمَاوَرْدِيّ : كَانَتْ عِنْد مُوسَى نَارًا , وَكَانَتْ عِنْد اللَّه تَعَالَى نُورًا . وَقَرَأَ حَمْزَة " لِأَهُلْهُ اُمْكُثُوا " بِضَمِّ الْهَاء قَالَ النَّحَّاس هَذَا عَلَى لُغَة مَنْ قَالَ : مَرَرْت بِهِ يَا رَجُل ; فَجَاءَ بِهِ عَلَى الْأَصْل , وَهُوَ جَائِز إِلَّا أَنَّ حَمْزَة خَالَفَ أَصْله فِي هَذَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ خَاصَّة . وَقَالَ : " اُمْكُثُوا " وَلَمْ يَقُلْ أَقِيمُوا , لِأَنَّ الْإِقَامَة تَقْتَضِي الدَّوَام , وَالْمُكْث لَيْسَ كَذَلِكَ " وَآنَسْت " أَبْصَرْت , قَالَهُ اِبْن الْأَعْرَابِيّ . وَمِنْهُ قَوْله " فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا " [ النِّسَاء : 6 ] أَيْ عَلِمْتُمْ . وَأَنِسْت الصَّوْت سَمِعْته , وَالْقَبَس شُعْلَة مِنْ نَار , وَكَذَلِكَ الْمِقْبَاس . يُقَال قَبَسْت مِنْهُ نَارًا أَقْبِس قَبْسًا فَأَقْبَسَنِي أَيْ أَعْطَانِي مِنْهُ قَبَسًا , وَكَذَلِكَ اِقْتَبَسْت مِنْهُ نَارًا وَاقْتَبَسْت مِنْهُ عِلْمًا أَيْضًا أَيْ اِسْتَفَدْته , قَالَ الْيَزِيدِيّ : أَقْبَسْت الرَّجُل عِلْمًا وَقَبَسْته نَارًا ; فَإِنْ كُنْت طَلَبْتهَا لَهُ قُلْت أَقْبَسْتُهُ . وَقَالَ الْكِسَائِيّ : أَقْبَسْتُهُ نَارًا أَوْ عِلْمًا سَوَاء . وَقَالَ : وَقَبَسْته أَيْضًا فِيهِمَا . وَالْجِذْوَة بِكَسْرِ الْجِيم قِرَاءَة الْعَامَّة , وَضَمَّهَا حَمْزَة وَيَحْيَى , وَفَتَحَهَا عَاصِم وَالسُّلَمِيّ وَزِرّ بْن حُبَيْش قَالَ الْجَوْهَرِيّ : الْجِذْوَة وَالْجَذْوَة وَالْجُذْوَة الْجَمْرَة الْمُلْتَهِبَة وَالْجَمْع جِذًا وَجُذًا وَجَذًا قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْل تَعَالَى : " أَوْ جَذْوَة مِنْ النَّار " أَيْ قِطْعَة مِنْ الْجَمْر ; قَالَ : وَهِيَ بِلُغَةِ جَمِيع الْعَرَب وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : وَالْجَذْوَة مِثْل الْجِذْمَة وَهِيَ الْقِطْعَة الْغَلِيظَة مِنْ الْخَشَب كَانَ فِي طَرَفهَا نَار أَوْ لَمْ يَكُنْ قَالَ اِبْن مُقْبِل : بَاتَتْ حَوَاطِب لَيْلَى يَلْتَمِسْنَ لَهَا جَزْل الْجِذَا غَيْر خَوَّار وَلَا دَعِر وَقَالَ : وَأَلْقَى عَلَى قَيْس مِنْ النَّار جِذْوَة شَدِيدًا عَلَيْهَا حَمْيهَا وَلَهِيبهَا
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَسورة القصص الآية رقم 30
يَعْنِي الشَّجَرَة قُدِّمَ ضَمِيرهَا عَلَيْهَا


" مِنْ " الْأُولَى وَالثَّانِيَة لِابْتِدَاءِ الْغَايَة , أَيْ أَتَاهُ النِّدَاء مِنْ شَاطِئ الْوَادِي مِنْ قِبَل الشَّجَرَة وَ " مِنْ الشَّجَرَة " بَدَل مِنْ قَوْله : " مِنْ شَاطِئ الْوَادِ " بَدَل الِاشْتِمَال , لِأَنَّ الشَّجَرَة كَانَتْ نَابِتَة عَلَى الشَّاطِئ , وَشَاطِئ الْوَادِي وَشَطّه جَانِبه , وَالْجَمْع شُطَّان وَشَوَاطِئ , وَذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيّ , وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَيُقَال شَاطِئ الْأَوْدِيَة وَلَا يُجْمَع وَشَاطَأْت الرَّجُل إِذَا مَشَيْت عَلَى شَاطِئ وَمَشَى هُوَ عَلَى شَاطِئ آخَر


أَيْ عَنْ يَمِين مُوسَى وَقِيلَ : عَنْ يَمِين الْجَبَل



وَقَرَأَ الْأَشْهَب الْعُقَيْلِيّ : " فِي الْبَقْعَة " بِفَتْحِ الْبَاء وَقَوْلهمْ بِقَاع يَدُلّ عَلَى بَقْعَة , كَمَا يُقَال جَفْنَة وَجِفَان وَمَنْ قَالَ بُقْعَة قَالَ بُقَع مِثْل غُرْفَة وَغُرَف " وَمِنْ الشَّجَرَة " أَيْ مِنْ نَاحِيَة الشَّجَرَة قِيلَ : كَانَتْ شَجَرَة الْعُلَّيْق وَقِيلَ : سَمُرَة وَقِيلَ : عَوْسَج وَمِنْهَا كَانَتْ عَصَاهُ , ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيّ وَقِيلَ : عُنَّاب , وَالْعَوْسَج إِذَا عَظُمَ يُقَال لَهُ الْغَرْقَد وَفِي الْحَدِيث : ( إِنَّهُ مِنْ شَجَر الْيَهُود فَإِذَا نَزَلَ عِيسَى وَقَتَلَ الْيَهُود الَّذِينَ مَعَ الدَّجَّال فَلَا يَخْتَفِي أَحَد مِنْهُمْ خَلْف شَجَرَة إِلَّا نَطَقَتْ وَقَالَتْ يَا مُسْلِم هَذَا يَهُودِيّ وَرَائِي تَعَالَ فَاقْتُلْهُ إِلَّا الْغَرْقَد فَإِنَّهُ مِنْ شَجَر الْيَهُود فَلَا يَنْطِق ) خَرَّجَهُ مُسْلِم قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَكَلَّمَ اللَّه تَعَالَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام مِنْ فَوْق عَرْشه وَأَسْمَعَهُ كَلَامه مِنْ الشَّجَرَة عَلَى مَا شَاءَ وَلَا يَجُوز أَنْ يُوصَف الْحَقّ تَعَالَى بِالِانْتِقَالِ وَالزَّوَال وَشِبْه ذَلِكَ مِنْ صِفَات الْمَخْلُوقِينَ قَالَ أَبُو الْمَعَالِي : وَأَهْل الْمَعَانِي وَأَهْل الْحَقّ يَقُولُونَ مَنْ كَلَّمَهُ اللَّه تَعَالَى وَخَصَّهُ بِالرُّتْبَةِ الْعُلْيَا وَالْغَايَة الْقُصْوَى , فَيُدْرِك كَلَامه الْقَدِيم الْمُتَقَدِّس عَنْ مُشَابَهَة الْحُرُوف وَالْأَصْوَات وَالْعِبَارَات وَالنَّغَمَات وَضُرُوب اللُّغَات , كَمَا أَنَّ مَنْ خَصَّهُ اللَّه بِمَنَازِل الْكَرَامَات وَأَكْمَلَ عَلَيْهِ نِعْمَته , وَرَزَقَهُ رُؤْيَته يَرَى اللَّه سُبْحَانه مُنَزَّهًا عَنْ مُمَاثَلَة الْأَجْسَام وَأَحْكَام الْحَوَادِث , وَلَا مِثْل لَهُ سُبْحَانه فِي ذَاته وَصِفَاته , وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى أَنَّ الرَّبّ تَعَالَى خَصَّصَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَغَيْره مِنْ الْمُصْطَفَيْنَ مِنْ الْمَلَائِكَة بِكَلَامِهِ قَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق : اِتَّفَقَ أَهْل الْحَقّ عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى خَلَقَ فِي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام مَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي أَدْرَكَ بِهِ كَلَامه كَانَ اِخْتِصَاصه فِي سَمَاعه , وَأَنَّهُ قَادِر عَلَى مِثْله فِي جَمِيع خَلْقه وَاخْتَلَفُوا فِي نَبِيّنَا عَلَيْهِ السَّلَام هَلْ سَمِعَ لَيْلَة الْإِسْرَاء كَلَام اللَّه , وَهَلْ سَمِعَ جِبْرِيل كَلَامه عَلَى قَوْلَيْنِ ; وَطَرِيق أَحَدهمَا النَّقْل الْمَقْطُوع بِهِ وَذَلِكَ مَفْقُود , وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ سَمَاع الْخَلْق لَهُ عِنْد قِرَاءَة الْقُرْآن عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ سَمِعُوا الْعِبَارَة الَّتِي عَرَفُوا بِهَا مَعْنَاهُ دُون سَمَاعه لَهُ فِي عَيْنه وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن سَعْد بْن كِلَاب : إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَهِمَ كَلَام اللَّه الْقَدِيم مِنْ أَصْوَات مَخْلُوقَة أَثْبَتَهَا اللَّه تَعَالَى فِي بَعْض الْأَجْسَام قَالَ أَبُو الْمَعَالِي : وَهَذَا مَرْدُود ; بَلْ يَجِب اِخْتِصَاص مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام بِإِدْرَاكِ كَلَام اللَّه تَعَالَى خَرْقًا لِلْعَادَةِ , وَلَوْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام اِخْتِصَاص بِتَكْلِيمِ اللَّه إِيَّاهُ وَالرَّبّ تَعَالَى أَسْمَعَهُ كَلَامه الْعَزِيز , وَخَلَقَ لَهُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا , حَتَّى عَلِمَ أَنَّ مَا سَمِعَهُ كَلَام اللَّه , وَأَنَّ الَّذِي كَلَّمَهُ وَنَادَاهُ هُوَ اللَّه رَبّ الْعَالَمِينَ , وَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَقَاصِيص أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ : سَمِعْت كَلَام رَبِّي بِجَمِيعِ جَوَارِحِي , وَلَمْ أَسْمَعهُ مِنْ جِهَة وَاحِدَة مِنْ جِهَاتِي وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي [ الْبَقَرَة ] مُسْتَوْفًى




" أَنْ " فِي مَوْضِع نَصْب بِحَذْفِ حَرْف الْجَرّ أَيْ بِ " أَنْ يَا مُوسَى " " إِنِّي أَنَا اللَّه رَبّ الْعَالَمِينَ " نَفْي لِرُبُوبِيَّةِ غَيْره سُبْحَانه وَصَارَ بِهَذَا الْكَلَام مِنْ أَصْفِيَاء اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَا مِنْ رُسُله ; لِأَنَّهُ لَا يَصِير رَسُولًا إِلَّا بَعْد أَمْره بِالرِّسَالَةِ , وَالْأَمْر بِهَا إِنَّمَا كَانَ بَعْد هَذَا الْكَلَام
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3