الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَسورة النحل الآية رقم 1
سُورَة النَّحْل وَهِيَ مَكِّيَّة كُلّهَا فِي قَوْل الْحَسَن وَعِكْرِمَة وَعَطَاء وَجَابِر . وَتُسَمَّى سُورَة النِّعَم بِسَبَبِ مَا عَدَّدَ اللَّه فِيهَا مِنْ نِعَمه عَلَى عِبَاده . وَقِيلَ : هِيَ مَكِّيَّة غَيْر قَوْله تَعَالَى : " وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ " [ النَّحْل : 126 ] الْآيَة ; نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ فِي شَأْن التَّمْثِيل بِحَمْزَة وَقَتْلَى أُحُد . وَغَيْر قَوْله تَعَالَى : " وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرك إِلَّا بِاَللَّهِ " [ النَّحْل : 127 ] . وَغَيْر قَوْله : " ثُمَّ إِنَّ رَبّك لِلَّذِينَ هَاجَرُوا " [ النَّحْل : 110 ] الْآيَة . وَأَمَّا قَوْله : " وَاَلَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّه مِنْ بَعْد مَا ظُلِمُوا " [ النَّحْل : 41 ] فَمَكِّيّ , فِي شَأْن هِجْرَة الْحَبَشَة . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : هِيَ مَكِّيَّة إِلَّا ثَلَاث آيَات مِنْهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ بَعْد قَتْل حَمْزَة , وَهِيَ قَوْله : " وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّه ثَمَنًا قَلِيلًا " إِلَى قَوْله " بِأَحْسَن مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " [ النَّحْل : 95 ] .

" أَتَى أَمْر اللَّه فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ " قِيلَ : " أَتَى " بِمَعْنَى يَأْتِي ; فَهُوَ كَقَوْلِك : إِنْ أَكْرَمْتنِي أَكْرَمْتُك . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَخْبَار اللَّه تَعَالَى فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَل سَوَاء ; لِأَنَّهُ آتٍ لَا مَحَالَة , كَقَوْلِهِ : " وَنَادَى أَصْحَاب الْجَنَّة أَصْحَاب النَّار " [ الْأَعْرَاف : 44 ] . و " أَمْر اللَّه " عِقَابه لِمَنْ أَقَامَ عَلَى الشِّرْك وَتَكْذِيب رَسُوله . قَالَ الْحَسَن وَابْن جُرَيْج وَالضَّحَّاك : إِنَّهُ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآن مِنْ فَرَائِضه وَأَحْكَامه . وَفِيهِ بُعْد ; لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَل أَنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَة اِسْتَعْجَلَ فَرَائِض اللَّه مِنْ قَبْل أَنْ تُفْرَض عَلَيْهِمْ , وَأَمَّا مُسْتَعْجِلُو الْعَذَاب وَالْعِقَاب فَذَلِكَ مَنْقُول عَنْ كَثِير مِنْ كُفَّار قُرَيْش وَغَيْرهمْ , حَتَّى قَالَ النَّضْر بْن الْحَارِث : " اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدك " الْآيَة , فَاسْتَعْجَلَ الْعَذَاب .

قُلْت : قَدْ يَسْتَدِلّ الضَّحَّاك بِقَوْلِ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : وَافَقْت رَبِّي فِي ثَلَاث : فِي مَقَام إِبْرَاهِيم , وَفِي الْحِجَاب , وَفِي أُسَارَى بَدْر ; خَرَّجَهُ مُسْلِم وَالْبُخَارِيّ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَة الْبَقَرَة . وَقَالَ الزَّجَّاج : هُوَ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنْ الْمُجَازَاة عَلَى كُفْرهمْ , وَهُوَ كَقَوْلِهِ : " حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرنَا وَفَارَ التَّنُّور " [ هُود : 40 ] . وَقِيلَ : هُوَ يَوْم الْقِيَامَة أَوْ مَا يَدُلّ عَلَى قُرْبهَا مِنْ أَشْرَاطهَا . قَالَ اِبْن عَبَّاس : لَمَّا نَزَلَتْ " اِقْتَرَبَتْ السَّاعَة وَانْشَقَّ الْقَمَر " [ الْقَمَر : 1 ] قَالَ الْكُفَّار : إِنَّ هَذَا يَزْعُم أَنَّ الْقِيَامَة قَدْ قَرُبَتْ , فَأَمْسِكُوا عَنْ بَعْض مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ , فَأَمْسَكُوا وَانْتَظَرُوا فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا , فَقَالُوا : مَا نَرَى شَيْئًا فَنَزَلَتْ " اِقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ " [ الْأَنْبِيَاء : 1 ] الْآيَة . فَأَشْفَقُوا وَانْتَظَرُوا قُرْب السَّاعَة , فَامْتَدَّتْ الْأَيَّام فَقَالُوا : مَا نَرَى شَيْئًا فَنَزَلَتْ " أَتَى أَمْر اللَّه " فَوَثَبَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ وَخَافُوا ; فَنَزَلَتْ " فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ " فَاطْمَأَنُّوا , فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( بُعِثْت أَنَا وَالسَّاعَة كَهَاتَيْنِ ) وَأَشَارَ بِأُصْبُعَيْهِ : السَّبَّابَة وَاَلَّتِي تَلِيهَا . يَقُول : ( إِنْ كَادَتْ لَتَسْبِقنِي فَسَبَقْتهَا ) . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : كَانَ بَعْث النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَشْرَاط السَّاعَة , وَأَنَّ جِبْرِيل لَمَّا مَرَّ بِأَهْلِ السَّمَوَات مَبْعُوثًا إِلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا اللَّه أَكْبَر , قَدْ قَامَتْ السَّاعَة .


أَيْ تَنْزِيهًا لَهُ عَمَّا يَصِفُونَهُ بِهِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَقْدِر عَلَى قِيَام السَّاعَة , وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : لَا يَقْدِر أَحَد عَلَى بَعْث الْأَمْوَات , فَوَصَفُوهُ بِالْعَجْزِ الَّذِي لَا يُوصَف بِهِ إِلَّا الْمَخْلُوق , وَذَلِكَ شِرْك . وَقِيلَ : " عَمَّا يُشْرِكُونَ " أَيْ عَنْ إِشْرَاكهمْ . وَقِيلَ : " مَا " بِمَعْنَى الَّذِي أَيْ اِرْتَفَعَ عَنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بِهِ .
يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِسورة النحل الآية رقم 2
قَرَأَ الْمُفَضَّل عَنْ عَاصِم " تَنَزَّل الْمَلَائِكَة " وَالْأَصْل تَتَنَزَّل , فَالْفِعْل مُسْنَد إِلَى الْمَلَائِكَة . وَقَرَأَ الْكِسَائِيّ عَنْ أَبِي بَكْر عَنْ عَاصِم بِاخْتِلَافٍ عَنْهُ وَالْأَعْمَش " تُنَزَّل الْمَلَائِكَة " غَيْر مُسَمَّى الْفَاعِل . وَقَرَأَ الْجُعْفِيّ عَنْ أَبِي بَكْر عَنْ عَاصِم " تُنَزِّل الْمَلَائِكَة " بِالنُّونِ مُسَمَّى الْفَاعِل , الْبَاقُونَ " يُنَزِّل " بِالْيَاءِ مُسَمَّى الْفَاعِل , وَالضَّمِير فِيهِ لِاسْمِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ . وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَة " تُنْزِل الْمَلَائِكَة " بِالنُّونِ وَالتَّخْفِيف . وَقَرَأَ الْأَعْمَش " تَنْزِل " بِفَتْحِ التَّاء وَكَسْر الزَّاي , مِنْ النُّزُول . " الْمَلَائِكَةُ " رَفْعًا مِثْل " تَنَزَّل الْمَلَائِكَة " [ الْقَدْر : 4 ]



أَيْ بِالْوَحْيِ وَهُوَ النُّبُوَّة ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس . نَظِيره " يُلْقِي الرُّوح مِنْ أَمْره عَلَى مَنْ يَشَاء مِنْ عِبَاده " [ غَافِر : 15 ] . الرَّبِيع بْن أَنَس : بِكَلَامِ اللَّه وَهُوَ الْقُرْآن . وَقِيلَ : هُوَ بَيَان الْحَقّ الَّذِي يَجِب اِتِّبَاعه . وَقِيلَ أَرْوَاح الْخَلْق ; قَالَهُ مُجَاهِد , لَا يَنْزِل مَلَك إِلَّا وَمَعَهُ رُوح . وَكَذَا رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ الرُّوح خَلْق مِنْ خَلْق اللَّه عَزَّ وَجَلَّ كَصُوَرِ اِبْن آدَم , لَا يَنْزِل مِنْ السَّمَاء مَلَك إِلَّا وَمَعَهُ وَاحِد مِنْهُمْ . وَقِيلَ بِالرَّحْمَةِ ; قَالَهُ الْحَسَن وَقَتَادَة . وَقِيلَ بِالْهِدَايَةِ ; لِأَنَّهَا تَحْيَا بِهَا الْقُلُوب كَمَا تَحْيَا بِالْأَرْوَاحِ الْأَبْدَان , وَهُوَ مَعْنَى قَوْل الزَّجَّاج . قَالَ الزَّجَّاج : الرُّوح مَا كَانَ فِيهِ مِنْ أَمْر اللَّه حَيَاة بِالْإِرْشَادِ إِلَى أَمْره . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : الرُّوح هُنَا جِبْرِيل . وَالْبَاء فِي قَوْله : " بِالرُّوحِ " بِمَعْنَى مَعَ , كَقَوْلِك : خَرَجَ بِثِيَابِهِ , أَيْ مَعَ ثِيَابه .


أَيْ بِأَمْرِهِ .


أَيْ عَلَى الَّذِينَ اِخْتَارَهُمْ اللَّه لِلنُّبُوَّةِ . وَهَذَا رَدّ لِقَوْلِهِمْ : " لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآن عَلَى رَجُل مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم " [ الزُّخْرُف : 31 ] .



تَحْذِير مِنْ عِبَادَة الْأَوْثَان , وَلِذَلِكَ جَاءَ الْإِنْذَار ; لِأَنَّ أَصْله التَّحْذِير مِمَّا يُخَاف مِنْهُ . وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله : " فَاتَّقُونِ " . و " أَنْ " فِي مَوْضِع نَصْب بِنَزْعِ الْخَافِض , أَيْ بِأَنْ أَنْذِرُوا أَهْل الْكُفْر بِأَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه , " فَأَنْ " فِي مَحَلّ نَصْب بِسُقُوطِ الْخَافِض أَوْ بِوُقُوعِ الْإِنْذَار عَلَيْهِ .
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَسورة النحل الآية رقم 3
أَيْ لِلزَّوَالِ وَالْفَنَاء . وَقِيلَ : " بِالْحَقِّ " أَيْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى قُدْرَته , وَأَنَّ لَهُ أَنْ يَتَعَبَّد الْعِبَاد بِالطَّاعَةِ وَأَنْ يُحْيِي الْخَلْق بَعْد الْمَوْت .


أَيْ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَام الَّتِي لَا تَقْدِر عَلَى خَلْق شَيْء .
خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌسورة النحل الآية رقم 4
لَمَّا ذَكَرَ الدَّلِيل عَلَى تَوْحِيده ذَكَرَ بَعْده الْإِنْسَان وَمُنَاكَدَته وَتَعَدِّي طَوْره . و " الْإِنْسَان " اِسْم لِلْجِنْسِ . وَرُوِيَ أَنَّ الْمُرَاد بِهِ أُبَيّ بْن خَلَف الْجُمَحِيّ , جَاءَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَظْمٍ رَمِيم فَقَالَ : أَتَرَى يُحْيِي اللَّه هَذَا بَعْد مَا قَدْ رَمَّ . وَفِي هَذَا أَيْضًا نَزَلَ " أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَة فَإِذَا هُوَ خَصِيم مُبِين " [ يس : 77 ] أَيْ خَلَقَ الْإِنْسَان مِنْ مَاء يَخْرُج مِنْ بَيْن الصُّلْب وَالتَّرَائِب , فَنَقَلَهُ أَطْوَارًا إِلَى أَنْ وُلِدَ وَنَشَأَ بِحَيْثُ يُخَاصِم فِي الْأُمُور . فَمَعْنَى الْكَلَام التَّعَجُّب مِنْ الْإِنْسَان " وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقه " [ يس : 78 ]


أَيْ مُخَاصِم , كَالنَّسِيبِ بِمَعْنَى الْمُنَاسِب . أَيْ يُخَاصِم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي قُدْرَته .


أَيْ ظَاهِر الْخُصُومَة . وَقِيلَ : يُبَيِّن عَنْ نَفْسه الْخُصُومَة بِالْبَاطِلِ . وَالْمُبِين : هُوَ الْمُفْصِح عَمَّا فِي ضَمِيره بِمَنْطِقِهِ .
وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَسورة النحل الآية رقم 5
لَمَّا ذَكَرَ الْإِنْسَان ذَكَرَ مَا مَنَّ بِهِ عَلَيْهِ . وَالْأَنْعَام : الْإِبِل وَالْبَقَر وَالْغَنَم . وَأَكْثَر مَا يُقَال : نَعَم وَأَنْعَام لِلْإِبِلِ , وَيُقَال لِلْمَجْمُوعِ وَلَا يُقَال لِلْغَنَمِ مُفْرَدَة . قَالَ حَسَّان : عَفَتْ ذَات الْأَصَابِع فَالْجِوَاء إِلَى عَذْرَاء مَنْزِلهَا خَلَاء دِيَار مِنْ بَنِي الْحَسْحَاس قَفْر تُعَفِّيهَا الرَّوَامِس وَالسَّمَاء وَكَانَتْ لَا يَزَال بِهَا أَنِيس خِلَال مُرُوجهَا نَعَم وَشَاء فَالنَّعَم هُنَا الْإِبِل خَاصَّة . وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَالنَّعَم وَاحِد الْأَنْعَام وَهِيَ الْمَال الرَّاعِيَة , وَأَكْثَر مَا يَقَع هَذَا الِاسْم عَلَى الْإِبِل . قَالَ الْفَرَّاء : هُوَ ذَكَر لَا يُؤَنَّث , يَقُولُونَ : هَذَا نَعَم وَارِد , وَيُجْمَع عَلَى نُعْمَان مِثْل حَمَل وَحُمْلَان . وَالْأَنْعَام تُذَكَّر وَتُؤَنَّث ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " مِمَّا فِي بُطُونه " [ النَّحْل : 66 ] . وَفِي مَوْضِع " مِمَّا فِي بُطُونهَا " [ الْمُؤْمِنُونَ : 21 ] . وَانْتَصَبَ الْأَنْعَام عَطْفًا عَلَى الْإِنْسَان , أَوْ بِفِعْلٍ مُقَدَّر , وَهُوَ أَوْجَه .


الدِّفْء : السَّخَانَة , وَهُوَ مَا اُسْتُدْفِئَ بِهِ مِنْ أَصْوَافهَا وَأَوْبَارهَا وَأَشْعَارهَا , مَلَابِس وَلُحُف وَقُطُف . وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس : دِفْؤُهَا نَسْلهَا ; وَاَللَّه أَعْلَم قَالَ الْجَوْهَرِيّ فِي الصِّحَاح : الدِّفْء نِتَاج الْإِبِل وَأَلْبَانهَا وَمَا يُنْتَفَع بِهِ مِنْهَا ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " لَكُمْ فِيهَا دِفْء " . وَفِي الْحَدِيث ( لَنَا مِنْ دِفْئِهِمْ مَا سَلَّمُوا بِالْمِيثَاقِ ) . وَالدِّفْء أَيْضًا السُّخُونَة , تَقُول مِنْهُ : دَفِئَ الرَّجُل دَفَاءَة مِثْل كَرِهَ كَرَاهَة . وَكَذَلِكَ دَفِئَ دَفَأ مِثْل ظَمِئَ ظَمَأ . وَالِاسْم الدِّفْء بِالْكَسْرِ وَهُوَ الشَّيْء الَّذِي يُدْفِئك , وَالْجَمْع الْأَدْفَاء . تَقُول : مَا عَلَيْهِ دِفْء ; لِأَنَّهُ اِسْم . وَلَا تَقُول : مَا عَلَيْك دَفَاءَة ; لِأَنَّهُ مَصْدَر . وَتَقُول : اُقْعُدْ فِي دِفْء هَذَا الْحَائِط أَيْ كِنّه . وَرَجُل دَفِئ عَلَى فَعِل إِذَا لَبِسَ مَا يُدْفِئهُ . وَكَذَلِكَ رَجُل دَفْآن وَامْرَأَة دَفْأَى . وَقَدْ أَدْفَأَهُ الثَّوْب وَتَدَفَّأَ هُوَ بِالثَّوْبِ وَاسْتَدْفَأَ بِهِ , وَأَدْفَأ بِهِ وَهُوَ اِفْتَعَلَ ; أَيْ مَا لَبِسَ مَا يُدْفِئهُ . وَدَفُؤَتْ لَيْلَتنَا , وَيَوْم دَفِيء عَلَى فَعِيل وَلَيْلَة دَفِيئَة , وَكَذَلِكَ الثَّوْب وَالْبَيْت . وَالْمُدْفِئَة الْإِبِل الْكَثِيرَة ; لِأَنَّ بَعْضهَا يُدْفِئ بَعْضًا بِأَنْفَاسِهَا , وَقَدْ يُشَدَّد . وَالْمُدْفَأَة الْإِبِل الْكَثِيرَة الْأَوْبَار وَالشُّحُوم ; عَنْ الْأَصْمَعِيّ . وَأَنْشَدَ الشَّمَّاخ : وَكَيْفَ يَضِيع صَاحِب مُدْفَآت عَلَى أَثْبَاجِهِنَّ مِنْ الصَّقِيع


قَالَ اِبْن عَبَّاس : الْمَنَافِع نَسْل كُلّ دَابَّة . مُجَاهِد : الرُّكُوب وَالْحَمْل وَالْأَلْبَان وَاللُّحُوم وَالسَّمْن .



أَفْرَدَ مَنْفَعَة الْأَكْل بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا مُعْظَم الْمَنَافِع . وَقِيلَ : الْمَعْنَى وَمِنْ لُحُومهَا تَأْكُلُونَ عِنْد الذَّبْح .

دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَة عَلَى لِبَاس الصُّوف , وَقَدْ لَبِسَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَنْبِيَاء قَبْله كَمُوسَى وَغَيْره . وَفِي حَدِيث الْمُغِيرَة : فَغَسَلَ وَجْهه وَعَلَيْهِ جُبَّة مِنْ صُوف شَامِيَّة ضَيِّقَة الْكُمَّيْنِ . .. الْحَدِيث , خَرَّجَهُ مُسْلِم وَغَيْره . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهُوَ شِعَار الْمُتَّقِينَ وَلِبَاس الصَّالِحِينَ وَشَارَة الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ , وَاخْتِيَار الزُّهَّاد وَالْعَارِفِينَ , وَهُوَ يَلْبَس لَيِّنًا وَخَشِنًا وَجَيِّدًا وَمُقَارِبًا وَرَدِيئًا , وَإِلَيْهِ نُسِبَ جَمَاعَة مِنْ النَّاس الصُّوفِيَّة ; لِأَنَّهُ لِبَاسهمْ فِي الْغَالِب , فَالْيَاء لِلنَّسَبِ وَالْهَاء لِلتَّأْنِيثِ . وَقَدْ أَنْشَدَنِي بَعْض أَشْيَاخهمْ بِالْبَيْتِ الْمُقَدَّس طَهَّرَهُ اللَّه : تَشَاجَرَ النَّاس فِي الصُّوفِيّ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ وَظَنُّوهُ مُشْتَقًّا مِنْ الصُّوف وَلَسْت أَنْحَل هَذَا الِاسْم غَيْر فَتًى صَافَى فَصُوفِيَ حَتَّى سُمِّيَ الصُّوفِيّ
وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَسورة النحل الآية رقم 6
الْجَمَال مَا يُتَجَمَّل بِهِ وَيُتَزَيَّن . وَالْجَمَال : الْحُسْن . وَقَدْ جَمُلَ الرَّجُل - بِالضَّمِّ - جَمَالًا فَهُوَ جَمِيل , وَالْمَرْأَة جَمِيلَة , وَجُمَلَاء أَيْضًا ; عَنْ الْكِسَائِيّ . وَأَنْشَدَ : فَهِيَ جَمْلَاء كَبَدْرٍ طَالِع بَذَّتْ الْخَلْق جَمِيعًا بِالْجَمَالِ وَقَوْل أَبِي ذُؤَيْب : جَمَالك أَيّهَا الْقَلْب الْقَرِيح يُرِيد : اِلْزَمْ تَجَمُّلك وَحَيَاءَك وَلَا تَجْزَع جَزَعًا قَبِيحًا . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فَالْجَمَال يَكُون فِي الصُّورَة وَتَرْكِيب الْخِلْقَة , وَيَكُون فِي الْأَخْلَاق الْبَاطِنَة , وَيَكُون فِي الْأَفْعَال . فَأَمَّا جَمَال الْخِلْقَة فَهُوَ أَمْر يُدْرِكهُ الْبَصَر وَيُلْقِيه إِلَى الْقَلْب مُتَلَائِمًا , فَتَتَعَلَّق بِهِ النَّفْس مِنْ غَيْر مَعْرِفَة بِوَجْهِ ذَلِكَ وَلَا نِسْبَته لِأَحَدٍ مِنْ الْبَشَر . وَأَمَّا جَمَال الْأَخْلَاق فَكَوْنهَا عَلَى الصِّفَات الْمَحْمُودَة مِنْ الْعِلْم وَالْحِكْمَة وَالْعَدْل وَالْعِفَّة , وَكَظْم الْغَيْظ وَإِرَادَة الْخَيْر لِكُلِّ أَحَد . وَأَمَّا جَمَال الْأَفْعَال فَهُوَ وُجُودهَا مُلَائِمَة لِمَصَالِح الْخَلْق وَقَاضِيَة لِجَلْبِ الْمَنَافِع فِيهِمْ وَصَرْف الشَّرّ عَنْهُمْ . وَجَمَال الْأَنْعَام وَالدَّوَابّ مِنْ جَمَال الْخِلْقَة , وَهُوَ مَرْئِيّ بِالْأَبْصَارِ مُوَافِق لِلْبَصَائِرِ . وَمِنْ جَمَالهَا كَثْرَتهَا وَقَوْل النَّاس إِذَا رَأَوْهَا هَذِهِ نَعَم فُلَان ; قَالَهُ السُّدِّيّ . وَلِأَنَّهَا إِذَا رَاحَتْ تَوَفَّرَ حُسْنهَا وَعَظُمَ شَأْنهَا وَتَعَلَّقَتْ الْقُلُوب بِهَا ; لِأَنَّهَا إِذْ ذَاكَ أَعْظَم مَا تَكُون أَسْنِمَة وَضُرُوعًا ; قَالَهُ قَتَادَة . وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَدَّمَ الرَّوَاح عَلَى السَّرَاح لِتَكَامُلِ دَرّهَا وَسُرُور النَّفْس بِهَا إِذْ ذَاكَ . وَاَللَّه أَعْلَم . وَرَوَى أَشْهَب عَنْ مَالِك قَالَ : يَقُول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " وَلَكُمْ فِيهَا جَمَال حِين تُرِيحُونَ وَحِين تَسْرَحُونَ " وَذَلِكَ فِي الْمَوَاشِي حِين تَرُوح إِلَى الْمَرْعَى وَتَسْرَح عَلَيْهِ . وَالرَّوَاح رُجُوعهَا بِالْعَشِيِّ مِنْ الْمَرْعَى , وَالسَّرَاح بِالْغَدَاةِ ; تَقُول : سَرَحْت الْإِبِل أَسْرَحهَا سَرْحًا وَسُرُوحًا إِذَا غَدَوْت بِهَا إِلَى الْمَرْعَى فَخَلَّيْتهَا , وَسَرَحَتْ هِيَ . الْمُتَعَدِّي وَاللَّازِم وَاحِد .
وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌسورة النحل الآية رقم 7
فِيهِ ثَلَاث مَسَائِل : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " وَتَحْمِل أَثْقَالكُمْ " الْأَثْقَال أَثْقَال النَّاس مِنْ مَتَاع وَطَعَام وَغَيْره , وَهُوَ مَا يُثْقِل الْإِنْسَان حَمْله . وَقِيلَ : الْمُرَاد أَبْدَانهمْ ; يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : " وَأَخْرَجَتْ الْأَرْض أَثْقَالهَا " [ الزَّلْزَلَة : 2 ] . وَالْبَلَد مَكَّة , فِي قَوْل عِكْرِمَة . وَقِيلَ : هُوَ مَحْمُول عَلَى الْعُمُوم فِي كُلّ بَلَد مَسْلَكه عَلَى الظَّهْر . وَشِقّ الْأَنْفُس : مَشَقَّتهَا وَغَايَة جَهْدهَا . وَقِرَاءَة الْعَامَّة بِكَسْرِ الشِّين . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَالشِّقّ الْمَشَقَّة ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُس " وَهَذَا قَدْ يُفْتَح , حَكَاهُ أَبُو عُبَيْدَة . قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَكَسْر الشِّين وَفَتْحهَا فِي " شِقّ " مُتَقَارِبَانِ , وَهُمَا بِمَعْنَى الْمَشَقَّة , وَهُوَ مِنْ الشِّقّ فِي الْعَصَا وَنَحْوهَا ; لِأَنَّهُ يَنَال مِنْهَا كَالْمَشَقَّةِ مِنْ الْإِنْسَان . وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ : وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر " إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُس " وَهُمَا لُغَتَانِ , مِثْل رِقّ وَرَقّ وَجِصّ وَجَصّ وَرِطْل وَرَطْل . وَيُنْشَد قَوْل الشَّاعِر بِكَسْرِ الشِّين وَفَتْحهَا : وَذِي إِبِل يَسْعَى وَيَحْسِبهَا لَهُ أَخِي نَصَب مِنْ شِقّهَا وَدُؤُوب وَيَجُوز أَنْ يَكُون بِمَعْنَى الْمَصْدَر , مِنْ شَقَقْت عَلَيْهِ أَشُقّ شَقًّا . وَالشِّقّ أَيْضًا بِالْكَسْرِ النِّصْف , يُقَال : أَخَذْت شِقّ الشَّاة وَشِقَّة الشَّاة . وَقَدْ يَكُون الْمُرَاد مِنْ الْآيَة هَذَا الْمَعْنَى ; أَيْ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِنَقْصٍ مِنْ الْقُوَّة وَذَهَاب شِقّ مِنْهَا , أَيْ لَمْ تَكُونُوا تَبْلُغُوهُ إِلَّا بِنِصْفِ قُوَى أَنْفُسكُمْ وَذَهَاب النِّصْف الْآخَر . وَالشِّقّ أَيْضًا النَّاحِيَة مِنْ الْجَبَل . وَفِي حَدِيث أُمّ زَرْع : وَجَدَنِي فِي أَهْل غُنَيْمَة بِشِقٍّ . قَالَ أَبُو عُبَيْد : هُوَ اِسْم مَوْضِع . وَالشِّقّ أَيْضًا : الشَّقِيق , يُقَال : هُوَ أَخِي وَشِقّ نَفْسِي . وَشِقّ اِسْم كَاهِن مِنْ كُهَّان الْعَرَب . وَالشِّقّ أَيْضًا : الْجَانِب ; وَمِنْهُ قَوْل اِمْرِئِ الْقَيْس : إِذَا مَا بَكَى مَنْ خَلْفهَا اِنْصَرَفَتْ لَهُ بِشِقٍّ وَتَحْتِي شِقّهَا لَمْ يُحَوَّل فَهُوَ مُشْتَرَك .

الثَّانِيَة مَنَّ اللَّه سُبْحَانه بِالْأَنْعَامِ عُمُومًا , وَخَصَّ الْإِبِل هُنَا بِالذِّكْرِ فِي حَمْل الْأَثْقَال عَلَى سَائِر الْأَنْعَام ; فَإِنَّ الْغَنَم لِلسَّرْحِ وَالذَّبْح , وَالْبَقَر لِلْحَرْثِ , وَالْإِبِل لِلْحَمْلِ . وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( بَيْنَمَا رَجُل يَسُوق بَقَرَة لَهُ قَدْ حَمَلَ عَلَيْهَا اِلْتَفَتَتْ إِلَيْهِ الْبَقَرَة فَقَالَتْ إِنِّي لَمْ أُخْلَق لِهَذَا وَلَكِنِّي إِنَّمَا خُلِقْت لِلْحَرْثِ فَقَالَ النَّاس سُبْحَان اللَّه تَعَجُّبًا وَفَزَعًا أَبَقَرَة تَكَلَّم ) ؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَإِنِّي أُومِن بِهِ وَأَبُو بَكْر وَعُمَر ) . فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّ الْبَقَر لَا يُحْمَل عَلَيْهَا وَلَا تُرْكَب , وَإِنَّمَا هِيَ لِلْحَرْثِ وَلِلْأَكْلِ وَالنَّسْل وَالرِّسْل .

الثَّالِثَة فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى جَوَاز السَّفَر بِالدَّوَابِّ وَحَمْل الْأَثْقَال عَلَيْهَا . وَلَكِنْ عَلَى قَدْر مَا تَحْتَمِلهُ مِنْ غَيْر إِسْرَاف فِي الْحَمْل مَعَ الرِّفْق فِي السَّيْر . وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرِّفْقِ بِهَا وَالْإِرَاحَة لَهَا وَمُرَاعَاة التَّفَقُّد لِعَلَفِهَا وَسَقْيهَا . وَرَوَى مُسْلِم مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا سَافَرْتُمْ فِي الْخِصْب فَأَعْطُوا الْإِبِل حَظّهَا مِنْ الْأَرْض وَإِذَا سَافَرْتُمْ فِي السَّنَة فَبَادِرُوا بِهَا نِقْيَهَا ) رَوَاهُ مَالِك فِي الْمُوَطَّأ عَنْ أَبِي عُبَيْد عَنْ خَالِد بْن مَعْدَان . وَرَوَى مُعَاوِيَة بْن قُرَّة قَالَ : كَانَ لِأَبِي الدَّرْدَاء جَمَل يُقَال لَهُ دمون , فَكَانَ يَقُول : يَا دمون , لَا تُخَاصِمنِي عِنْد رَبّك . فَالدَّوَابّ عُجْم لَا تَقْدِر أَنْ تَحْتَال لِنَفْسِهَا مَا تَحْتَاج إِلَيْهِ , وَلَا تَقْدِر أَنْ تُفْصِح بِحَوَائِجِهَا , فَمَنْ اِرْتَفَقَ بِمَرَافِقِهَا ثُمَّ ضَيَّعَهَا مِنْ حَوَائِجهَا فَقَدْ ضَيَّعَ الشُّكْر وَتَعَرَّضَ لِلْخُصُومَةِ بَيْن يَدَيْ اللَّه تَعَالَى . وَرَوَى مَطَر بْن مُحَمَّد قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا اِبْن خَالِد قَالَ حَدَّثَنَا الْمُسَيِّب بْن آدَم قَالَ . رَأَيْت عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ضَرَبَ جَمَّالًا وَقَالَ : تَحْمِل عَلَى بَعِيرك مَا لَا يُطِيق .
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَسورة النحل الآية رقم 8
قَوْله تَعَالَى : " وَالْخَيْل " بِالنَّصْبِ مَعْطُوف , أَيْ وَخَلَقَ الْخَيْل . وَقَرَأَ اِبْن أَبِي عَبْلَة " وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحَمِير " بِالرَّفْعِ فِيهَا كُلّهَا . وَسُمِّيَتْ الْخَيْل خَيْلًا لِاخْتِيَالِهَا فِي الْمِشْيَة . وَوَاحِد الْخَيْل خَائِل , كَضَائِنٍ وَاحِد ضَيْن . وَقِيلَ لَا وَاحِد لَهُ . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي " آل عِمْرَان " وَذَكَرْنَا الْأَحَادِيث هُنَاكَ وَلَمَّا أَفْرَدَ سُبْحَانه الْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحَمِير بِالذِّكْرِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَدْخُل تَحْت لَفْظ الْأَنْعَام وَقِيلَ دَخَلَتْ وَلَكِنْ أَفْرَدَهَا بِالذِّكْرِ لِمَا يَتَعَلَّق بِهَا مِنْ الرُّكُوب ; فَإِنَّهُ يَكْثُر فِي الْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحَمِير .

قَالَ الْعُلَمَاء : مَلَّكَنَا اللَّه تَعَالَى الْأَنْعَام وَالدَّوَابّ وَذَلَّلَهَا لَنَا , وَأَبَاحَ لَنَا تَسْخِيرهَا وَالِانْتِفَاع بِهَا رَحْمَة مِنْهُ تَعَالَى لَنَا , وَمَا مَلَكَهُ الْإِنْسَان وَجَازَ لَهُ تَسْخِيره مِنْ الْحَيَوَان فَكِرَاؤُهُ لَهُ جَائِز بِإِجْمَاعِ أَهْل الْعِلْم , لَا اِخْتِلَاف بَيْنهمْ فِي ذَلِكَ . وَحُكْم كِرَاء الرَّوَاحِل وَالدَّوَابّ مَذْكُور فِي كُتُب الْفِقْه .

لَا خِلَاف بَيْن الْعُلَمَاء فِي اِكْتِرَاء الدَّوَابّ وَالرَّوَاحِل لِلْحَمْلِ عَلَيْهَا وَالسَّفَر بِهَا ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَتَحْمِل أَثْقَالكُمْ " [ النَّحْل : 7 ] الْآيَة . وَأَجَازُوا أَنْ يُكْرِي الرَّجُل الدَّابَّة وَالرَّاحِلَة إِلَى مَدِينَة بِعَيْنِهَا وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ أَيْنَ يَنْزِل مِنْهَا , وَكَمْ مِنْ مَنْهَل يَنْزِل فِيهِ , وَكَيْفَ صِفَة سَيْره , وَكَمْ يَنْزِل فِي طَرِيقه , وَاجْتَزَءُوا بِالْمُتَعَارَفِ بَيْن النَّاس فِي ذَلِكَ . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَالْكِرَاء يَجْرِي مَجْرَى الْبُيُوع فِيمَا يَحِلّ مِنْهُ وَيَحْرُم . قَالَ اِبْن الْقَاسِم فِيمَنْ اِكْتَرَى دَابَّة إِلَى مَوْضِع كَذَا بِثَوْبٍ مَرَوِيّ وَلَمْ يَصِف رُقْعَته وَذَرْعه : لَمْ يَجُزْ ; لِأَنَّ مَالِكًا لَمْ يُجِزْ هَذَا فِي الْبَيْع , وَلَا يُجِيز فِي ثَمَن الْكِرَاء إِلَّا مَا يَجُوز فِي ثَمَن الْبَيْع .

قُلْت : وَلَا يُخْتَلَف فِي هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّه ; لِأَنَّ ذَلِكَ إِجَارَة . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَأَجْمَعَ كُلّ مَنْ يُحْفَظ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْم عَلَى أَنَّ مَنْ اِكْتَرَى دَابَّة لِيَحْمِل عَلَيْهَا عَشَرَة أَقْفِزَة قَمْح فَحَمَلَ عَلَيْهَا مَا اِشْتَرَطَ فَتَلِفَتْ أَنْ لَا شَيْء عَلَيْهِ . وَهَكَذَا إِنْ حَمَلَ عَلَيْهَا عَشَرَة أَقْفِزَة شَعِير . وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ اِكْتَرَى دَابَّة لِيَحْمِل عَلَيْهَا عَشَرَة أَقْفِزَة فَحَمَلَ عَلَيْهَا أَحَد عَشَر قَفِيزًا , فَكَانَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر يَقُولَانِ : هُوَ ضَامِن لَقِيمَة الدَّابَّة وَعَلَيْهِ الْكِرَاء . وَقَالَ اِبْن أَبِي لَيْلَى : عَلَيْهِ قِيمَتهَا وَلَا أَجْر عَلَيْهِ . وَفِيهِ قَوْل ثَالِث - وَهُوَ أَنَّ عَلَيْهِ الْكِرَاء وَعَلَيْهِ جُزْء مِنْ أَجْر وَجُزْء مِنْ قِيمَة الدَّابَّة بِقَدْرِ مَا زَادَ مِنْ الْحِمْل ; وَهَذَا قَوْل النُّعْمَان وَيَعْقُوب وَمُحَمَّد . وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم صَاحِب مَالِك : لَا ضَمَان عَلَيْهِ فِي قَوْل مَالِك إِذَا كَانَ الْقَفِيز الزَّائِد لَا يَفْدَح الدَّابَّة , وَيُعْلَم أَنَّ مِثْله لَا تَعْطَب فِيهِ الدَّابَّة , وَلِرَبِّ الدَّابَّة أَجْر الْقَفِيز الزَّائِد مَعَ الْكِرَاء الْأَوَّل ; لِأَنَّ عَطَبهَا لَيْسَ مِنْ أَجْل الزِّيَادَة . وَذَلِكَ بِخِلَافِ مُجَاوَزَة الْمَسَافَة ; لِأَنَّ مُجَاوَزَة الْمَسَافَة تَعَدٍّ كُلّه فَيَضْمَن إِذَا هَلَكَتْ فِي قَلِيله وَكَثِيره . وَالزِّيَادَة عَلَى الْحَمْل الْمُشْتَرَط اِجْتَمَعَ فِيهِ إِذْنٌ وَتَعَدٍّ , فَإِذَا كَانَتْ الزِّيَادَة لَا تَعْطَب فِي مِثْلهَا عُلِمَ أَنَّ هَلَاكهَا مِمَّا أُذِنَ لَهُ فِيهِ .

وَاخْتَلَفَ أَهْل الْعِلْم فِي الرَّجُل يَكْتَرِي الدَّابَّة بِأَجْرٍ مَعْلُوم إِلَى مَوْضِع مُسَمًّى , فَيَتَعَدَّى فَيَتَجَاوَز ذَلِكَ الْمَكَان ثُمَّ يَرْجِع إِلَى الْمَكَان الْمَأْذُون لَهُ فِي الْمَصِير إِلَيْهِ . فَقَالَتْ طَائِفَة : إِذَا جَاوَزَ ذَلِكَ الْمَكَان ضَمِنَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي التَّعَدِّي كِرَاء ; هَكَذَا قَالَ الثَّوْرِيّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : الْأَجْر لَهُ فِيمَا سَمَّى , وَلَا أَجْر لَهُ فِيمَا لَمْ يُسَمِّ ; لِأَنَّهُ خَالَفَ فَهُوَ ضَامِن , وَبِهِ قَالَ يَعْقُوب . وَقَالَ الشَّافِعِيّ : عَلَيْهِ الْكِرَاء الَّذِي سَمَّى , وَكِرَاء الْمِثْل فِيمَا جَاوَزَ ذَلِكَ , وَلَوْ عَطِبَتْ لَزِمَهُ قِيمَتهَا . وَنَحْوه قَالَ الْفُقَهَاء السَّبْعَة , مَشْيَخَة أَهْل الْمَدِينَة قَالُوا : إِذَا بَلَغَ الْمَسَافَة ثُمَّ زَادَ فَعَلَيْهِ كِرَاء الزِّيَادَة إِنْ سَلِمَتْ وَإِنْ هَلَكَتْ ضَمِنَ . وَقَالَ أَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر : عَلَيْهِ الْكِرَاء وَالضَّمَان . قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَبِهِ نَقُول . وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم : إِذَا بَلَغَ الْمُكْتَرِي الْغَايَة الَّتِي اِكْتَرَى إِلَيْهَا ثُمَّ زَادَ مِيلًا وَنَحْوه أَوْ أَمْيَالًا أَوْ زِيَادَة كَثِيرَة فَعَطِبَتْ الدَّابَّة , فَلِرَبِّهَا كِرَاؤُهُ الْأَوَّل وَالْخِيَار فِي أَخْذه كِرَاء الزَّائِد بَالِغًا مَا بَلَغَ , أَوْ قِيمَة الدَّابَّة يَوْم التَّعَدِّي . اِبْن الْمَوَّاز : وَقَدْ رَوَى أَنَّهُ ضَامِن وَلَوْ زَادَ خُطْوَة . وَقَالَ اِبْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك فِي زِيَادَة الْمِيل وَنَحْوه : وَأَمَّا مَا يَعْدِل النَّاس إِلَيْهِ فِي الْمَرْحَلَة فَلَا يَضْمَن . وَقَالَ اِبْن حَبِيب عَنْ اِبْن الْمَاجِشُون وَأَصْبَغ : إِذَا كَانَتْ الزِّيَادَة يَسِيرَة أَوْ جَاوَزَ الْأَمَد الَّذِي تَكَارَاهَا إِلَيْهِ بِيَسِيرٍ , ثُمَّ رَجَعَ بِهَا سَالِمَة إِلَى مَوْضِع تَكَارَاهَا إِلَيْهِ فَمَاتَتْ , أَوْ مَاتَتْ فِي الطَّرِيق إِلَى الْمَوْضِع الَّذِي تَكَارَاهَا إِلَيْهِ , فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا كِرَاء الزِّيَادَة , كَرَدِّهِ لِمَا تَسَلَّفَ مِنْ الْوَدِيعَة . وَلَوْ زَادَ كَثِيرًا مِمَّا فِيهِ مَقَام الْأَيَّام الْكَثِيرَة الَّتِي يَتَغَيَّر فِي مِثْلهَا سُوقهَا فَهُوَ ضَامِن , كَمَا لَوْ مَاتَتْ فِي مُجَاوَزَة الْأَمَد أَوْ الْمَسَافَة ; لِإِنَّهُ إِذَا كَانَتْ زِيَادَة يَسِيرَة مِمَّا يُعْلَم أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَعْنِ عَلَى قَتْلهَا فَهَلَاكهَا بَعْد رَدّهَا إِلَى الْمَوْضِع الْمَأْذُون لَهُ فِيهِ كَهَلَاكِ مَا تَسَلَّفَ مِنْ الْوَدِيعَة بَعْد رَدّه لَا مَحَالَة . وَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَة كَثِيرَة فَتِلْكَ الزِّيَادَة قَدْ أَعَانَتْ عَلَى قَتْلهَا .

قَالَ اِبْن الْقَاسِم وَابْن وَهْب قَالَ مَالِك قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحَمِير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَة " فَجَعَلَهَا لِلرُّكُوبِ وَالزِّينَة وَلَمْ يَجْعَلهَا لِلْأَكْلِ ; وَنَحْوه عَنْ أَشْهَب . وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابنَا : لَا يَجُوز أَكْل لُحُوم الْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحَمِير ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا نَصَّ عَلَى الرُّكُوب وَالزِّينَة دَلَّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ . وَقَالَ فِي [ الْأَنْعَام ] " وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ " مَعَ مَا اِمْتَنَّ اللَّه مِنْهَا مِنْ الدِّفْء وَالْمَنَافِع , فَأَبَاحَ لَنَا أَكْلهَا بِالذَّكَاةِ الْمَشْرُوعَة فِيهَا . وَبِهَذِهِ الْآيَة اِحْتَجَّ اِبْن عَبَّاس وَالْحَكَم بْن عُيَيْنَة , قَالَ الْحَكَم : لُحُوم الْخَيْل حَرَام فِي كِتَاب اللَّه , وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَة وَاَلَّتِي قَبْلهَا وَقَالَ : هَذِهِ لِلْأَكْلِ وَهَذِهِ لِلرُّكُوبِ . وَسُئِلَ اِبْن عَبَّاس عَنْ لُحُوم الْخَيْل فَكَرِهَهَا , وَتَلَا هَذِهِ الْآيَة وَقَالَ : هَذِهِ لِلرُّكُوبِ , وَقَرَأَ الْآيَة الَّتِي قَبْلهَا " وَالْأَنْعَام خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْء وَمَنَافِع " ثُمَّ قَالَ : هَذِهِ لِلْأَكْلِ . وَبِهِ قَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابهمَا وَالْأَوْزَاعِيّ وَمُجَاهِد وَأَبُو عُبَيْد وَغَيْرهمْ , وَاحْتَجُّوا بِمَا خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَغَيْرهمْ عَنْ صَالِح بْن يَحْيَى بْن الْمِقْدَام بْن مَعْدِيكَرِبَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه عَنْ خَالِد بْن الْوَلِيد , أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى يَوْم خَيْبَر عَنْ أَكْل لُحُوم الْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحَمِير , وَكُلّ ذِي نَابَ مِنْ السِّبَاع أَوْ مِخْلَب مِنْ الطَّيْر . لَفْظ الدَّارَقُطْنِيّ . وَعِنْد النَّسَائِيّ أَيْضًا عَنْ خَالِد بْن الْوَلِيد أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : ( لَا يَحِلّ أَكْل لُحُوم الْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحَمِير ) . وَقَالَ الْجُمْهُور مِنْ الْفُقَهَاء وَالْمُحَدِّثِينَ : هِيَ مُبَاحَة . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَة . وَشَذَّتْ طَائِفَة فَقَالَتْ بِالتَّحْرِيمِ ; مِنْهُمْ الْحَكَم كَمَا ذَكَرْنَا , وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَة . حَكَى الثَّلَاث رِوَايَات عَنْهُ الرُّويَانِيّ فِي بَحْر الْمَذْهَب عَلَى مَذْهَب الشَّافِعِيّ .

قُلْت : الصَّحِيح الَّذِي يَدُلّ عَلَيْهِ النَّظَر وَالْخَبَر جَوَاز أَكْل لُحُوم الْخَيْل , وَأَنَّ الْآيَة وَالْحَدِيث لَا حُجَّة فِيهِمَا لَازِمَة . أَمَّا الْآيَة فَلَا دَلِيل فِيهَا عَلَى تَحْرِيم الْخَيْل . إِذْ لَوْ دَلَّتْ عَلَيْهِ لَدَلَّتْ عَلَى تَحْرِيم لُحُوم الْحُمُر , وَالسُّورَة مَكِّيَّة , وَأَيّ حَاجَة كَانَتْ إِلَى تَجْدِيد تَحْرِيم لُحُوم الْحُمُر عَام خَيْبَر وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْأَخْبَار تَحْلِيل الْخَيْل عَلَى مَا يَأْتِي . وَأَيْضًا لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْأَنْعَام ذَكَرَ الْأَغْلَب مِنْ مَنَافِعهَا وَأَهَمّ مَا فِيهَا , وَهُوَ حَمْل الْأَثْقَال وَالْأَكْل , وَلَمْ يَذْكُر الرُّكُوب وَلَا الْحَرْث بِهَا وَلَا غَيْر ذَلِكَ مُصَرَّحًا بِهِ , وَقَدْ تُرْكَب وَيُحْرَث بِهَا ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَنْعَام لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ " [ غَافِر : 79 ] . وَقَالَ فِي الْخَيْل : " لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَة " فَذَكَرَ أَيْضًا أَغْلَب مَنَافِعهَا وَالْمَقْصُود مِنْهَا , وَلَمْ يَذْكُر حَمْل الْأَثْقَال عَلَيْهَا , وَقَدْ تُحْمَل كَمَا هُوَ مُشَاهَد فَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُر الْأَكْل . وَقَدْ بَيَّنَهُ عَلَيْهِ السَّلَام الَّذِي جَعَلَ إِلَيْهِ بَيَان مَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ مَا يَأْتِي , وَلَا يَلْزَم مِنْ كَوْنهَا خُلِقَتْ لِلرُّكُوبِ وَالزِّينَة أَلَّا تُؤْكَل , فَهَذِهِ الْبَقَرَة قَدْ أَنْطَقَهَا خَالِقهَا الَّذِي أَنْطَقَ كُلّ شَيْء فَقَالَتْ : إِنَّمَا خُلِقَتْ لِلْحَرْثِ . فَيَلْزَم مَنْ عَلَّلَ أَنَّ الْخَيْل لَا تُؤْكَل لِأَنَّهَا خُلِقَتْ لِلرُّكُوبِ أَلَّا تُؤْكَل الْبَقَر لِأَنَّهَا خُلِقَتْ لِلْحَرْثِ . وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَاز أَكْلهَا , فَكَذَلِكَ الْخَيْل بِالسُّنَّةِ الثَّابِتَة فِيهَا . رَوَى مُسْلِم مِنْ حَدِيث جَابِر قَالَ : نَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم خَيْبَر عَنْ لُحُوم الْحُمُر الْأَهْلِيَّة وَأَذِنَ فِي لُحُوم الْخَيْل . وَقَالَ النَّسَائِيّ عَنْ جَابِر : أَطْعَمَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم خَيْبَر لُحُوم الْخَيْل وَنَهَانَا عَنْ لُحُوم الْحُمُر . وَفِي رِوَايَة عَنْ جَابِر قَالَ : كُنَّا نَأْكُل لُحُوم الْخَيْل عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَإِنْ قِيلَ : الرِّوَايَة عَنْ جَابِر بِأَنَّهُمْ أَكَلُوهَا فِي خَيْبَر حِكَايَة حَال وَقَضِيَّة فِي عَيْن , فَيَحْتَمِل أَنْ يَكُونُوا ذَبَحُوا لِضَرُورَةٍ , وَلَا يُحْتَجّ بِقَضَايَا الْأَحْوَال . قُلْنَا : الرِّوَايَة عَنْ جَابِر وَإِخْبَاره بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ لُحُوم الْخَيْل عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُزِيل ذَلِكَ الِاحْتِمَال , وَلَئِنْ سَلَّمْنَاهُ فَمَعَنَا حَدِيث أَسْمَاء قَالَتْ : نَحَرْنَا فَرَسًا عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ بِالْمَدِينَةِ فَأَكَلْنَاهُ ; رَوَاهُ مُسْلِم . وَكُلّ تَأْوِيل مِنْ غَيْر تَرْجِيح فِي مُقَابَلَة النَّصّ فَإِنَّمَا هُوَ دَعْوَى , لَا يُلْتَفَت إِلَيْهِ وَلَا يُعَرَّج عَلَيْهِ . وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ زِيَادَة حَسَنَة تَرْفَع كُلّ تَأْوِيل فِي حَدِيث أَسْمَاء , قَالَتْ أَسْمَاء : كَانَ لَنَا فَرَس عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَتْ أَنْ تَمُوت فَذَبَحْنَاهَا فَأَكَلْنَاهَا . فَذَبْحهَا إِنَّمَا كَانَ لِخَوْفِ الْمَوْت عَلَيْهَا لَا لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْوَال . وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق . فَإِنْ قِيلَ : حَيَوَان مِنْ ذَوَات الْحَوَافِر فَلَا يُؤْكَل كَالْحِمَارِ ؟ قُلْنَا : هَذَا قِيَاس الشَّبَه وَقَدْ اِخْتَلَفَ أَرْبَاب الْأُصُول فِي الْقَوْل بِهِ , وَلَئِنْ سَلَّمْنَاهُ فَهُوَ مُنْتَقِض بِالْخِنْزِيرِ ; فَإِنَّهُ ذُو ظِلْف وَقَدْ بَايَنَ ذَوَات الْأَظْلَاف , وَعَلَى أَنَّ الْقِيَاس إِذَا كَانَ فِي مُقَابَلَة النَّصّ فَهُوَ فَاسِد الْوَضْع لَا اِلْتِفَات إِلَيْهِ . قَالَ الطَّبَرِيّ : وَفِي إِجْمَاعهمْ عَلَى جَوَاز رُكُوب مَا ذُكِرَ لِلْأَكْلِ دَلِيل عَلَى جَوَاز أَكْل مَا ذُكِرَ لِلرُّكُوبِ .

وَأَمَّا الْبِغَال فَإِنَّهَا تُلْحَق بِالْحَمِيرِ , إِنْ قُلْنَا إِنَّ الْخَيْل لَا تُؤْكَل ; فَإِنَّهَا تَكُون مُتَوَلِّدَة مِنْ عَيْنَيْنِ لَا يُؤْكَلَانِ . وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْخَيْل تُؤْكَل , فَإِنَّهَا عَيْن مُتَوَلِّدَة مِنْ مَأْكُول وَغَيْر مَأْكُول فَغُلِّبَ التَّحْرِيم عَلَى مَا يَلْزَم فِي الْأُصُول . وَكَذَلِكَ ذَبْح الْمَوْلُود بَيْن كَافِرَيْنِ أَحَدهمَا مِنْ أَهْل الذَّكَاة وَالْآخَر لَيْسَ مِنْ أَهْلهَا , لَا تَكُون ذَكَاة وَلَا تَحِلّ بِهِ الذَّبِيحَة . وَقَدْ مَضَى فِي " الْأَنْعَام " الْكَلَام فِي تَحْرِيم الْحُمُر فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ وَقَدْ عُلِّلَ تَحْرِيم أَكْل الْحِمَار بِأَنَّهُ أَبْدَى جَوْهَره الْخَبِيث حَيْثُ نَزَا عَلَى ذَكَر وَتَلَوَّط ; فَسُمِّيَ رِجْسًا .

فِي الْآيَة دَلِيل عَلَى أَنَّ الْخَيْل لَا زَكَاة فِيهَا ; لِأَنَّ اللَّه سُبْحَانه مَنَّ عَلَيْنَا بِمَا أَبَاحَنَا مِنْهَا وَكَرَّمَنَا بِهِ مِنْ مَنَافِعهَا , فَغَيْر جَائِز أَنْ يَلْزَم فِيهَا كُلْفَة إِلَّا بِدَلِيلٍ . وَقَدْ رَوَى مَالِك عَنْ عَبْد اللَّه بْن دِينَار عَنْ سُلَيْمَان بْن يَسَار عَنْ عِرَاك بْن مَالِك عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِم فِي عَبْده وَلَا فَرَسه صَدَقَة ) . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَيْسَ فِي الْخَيْل وَالرَّقِيق زَكَاة إِلَّا زَكَاة الْفِطْر فِي الرَّقِيق ) . وَبِهِ قَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمَّد . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : إِنْ كَانَتْ إِنَاثًا كُلّهَا أَوْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا , فَفِي كُلّ فَرَس دِينَار إِذَا كَانَتْ سَائِمَة , وَإِنْ شَاءَ قَوَّمَهَا فَأَخْرَجَ عَنْ كُلّ مِائَتَيْ دِرْهَم خَمْسَة دَرَاهِم . وَاحْتَجَّ بِأَثَرٍ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( فِي الْخَيْل السَّائِمَة فِي كُلّ فَرَس دِينَار ) وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْخَيْل ثَلَاثَة . .. ) الْحَدِيث . وَفِيهِ : ( وَلَمْ يَنْسَ حَقّ اللَّه فِي رِقَابهَا وَلَا ظُهُورهَا ) . وَالْجَوَاب عَنْ الْأَوَّل أَنَّهُ حَدِيث لَمْ يَرْوِهِ إِلَّا غَوْرَك السَّعْدِيّ عَنْ جَعْفَر عَنْ مُحَمَّد عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِر . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : تَفَرَّدَ بِهِ غَوْرَك عَنْ جَعْفَر وَهُوَ ضَعِيف جِدًّا , وَمَنْ دُونه ضُعَفَاء . وَأَمَّا الْحَدِيث فَالْحَقّ الْمَذْكُور فِيهِ هُوَ الْخُرُوج عَلَيْهَا إِذَا وَقَعَ النَّفِير وَتَعَيَّنَ بِهَا لِقِتَالِ الْعَدُوّ إِذَا تَعَيَّنَ ذَلِكَ عَلَيْهِ , وَيَحْمِل الْمُنْقَطِعِينَ عَلَيْهَا إِذَا اِحْتَاجُوا لِذَلِكَ , وَهَذَا وَاجِب عَلَيْهِ إِذَا تَعَيَّنَ ذَلِكَ , كَمَا يَتَعَيَّن عَلَيْهِ أَنْ يُطْعِمهُمْ عِنْد الضَّرُورَة , فَهَذِهِ حُقُوق اللَّه فِي رِقَابهَا . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا هُوَ الْحَقّ الَّذِي فِي ظُهُورهَا وَبَقِيَ الْحَقّ الَّذِي فِي رِقَابهَا ; قِيلَ : قَدْ رُوِيَ ( لَا يَنْسَى حَقّ اللَّه فِيهَا ) وَلَا فَرْق بَيْن قَوْله : ( حَقّ اللَّه فِيهَا ) أَوْ ( فِي رِقَابهَا وَظُهُورهَا ) فَإِنَّ الْمَعْنَى يَرْجِع إِلَى شَيْء وَاحِد ; لِأَنَّ الْحَقّ يَتَعَلَّق بِجُمْلَتِهَا . وَقَدْ قَالَ جَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء : إِنَّ الْحَقّ هُنَا حُسْن مِلْكهَا وَتَعَهُّد شِبَعهَا وَالْإِحْسَان إِلَيْهَا وَرُكُوبهَا غَيْر مَشْقُوق عَلَيْهَا ; كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيث ( لَا تَتَّخِذُوا ظُهُورهَا كَرَاسِيّ ) . وَإِنَّمَا خَصَّ رِقَابهَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الرِّقَاب وَالْأَعْنَاق تُسْتَعَار كَثِيرًا فِي مَوَاضِع الْحُقُوق اللَّازِمَة وَالْفُرُوض الْوَاجِبَة ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤْمِنَة " [ النِّسَاء : 92 ] وَكَثُرَ عِنْدهمْ اِسْتِعْمَال ذَلِكَ وَاسْتِعَارَته حَتَّى جَعَلُوهُ فِي الرِّبَاع وَالْأَمْوَال ; أَلَا تَرَى قَوْل كُثَيِّر : غَمْر الرِّدَاء إِذَا تَبَسَّمَ ضَاحِكًا غَلِقَتْ لِضَحْكَتِهِ رِقَاب الْمَال وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحَيَوَان الَّذِي تَجِب فِيهِ الزَّكَاة لَهُ نِصَاب مِنْ جِنْسه , وَلَمَّا خَرَجَتْ الْخَيْل عَنْ ذَلِكَ عَلِمْنَا سُقُوط الزَّكَاة فِيهَا . وَأَيْضًا فَإِيجَابه الزَّكَاة فِي إِنَاثهَا مُنْفَرِدَة دُون الذُّكُور تَنَاقَضَ مِنْهُ . وَلَيْسَ فِي الْحَدِيث فَصْل بَيْنهمَا . وَنَقِيس الْإِنَاث عَلَى الذُّكُور فِي نَفْي الصَّدَقَة بِأَنَّهُ حَيَوَان مُقْتَنًى لِنَسْلِهِ لَا لِدَرِّهِ , وَلَا تَجِب الزَّكَاة فِي ذُكُوره فَلَمْ تَجِب فِي إِنَاثه كَالْبِغَالِ وَالْحَمِير . وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا زَكَاة فِي إِنَاثهَا وَإِنْ اِنْفَرَدَتْ كَذُكُورِهَا مُنْفَرِدَة , وَهَذَا الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور . قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : الْخَبَر فِي صَدَقَة الْخَيْل عَنْ عُمَر صَحِيح مِنْ حَدِيث الزُّهْرِيّ وَغَيْره . وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيث مَالِك , وَرَوَاهُ عَنْهُ جُوَيْرِيَة عَنْ الزُّهْرِيّ أَنَّ السَّائِب بْن يَزِيد قَالَ : لَقَدْ رَأَيْت أَبِي يُقَوِّم الْخَيْل ثُمَّ يَدْفَع صَدَقَتهَا إِلَى عُمَر . وَهَذَا حُجَّة لِأَبِي حَنِيفَة وَشَيْخه حَمَّاد بْن أَبِي سُلَيْمَان , لَا أَعْلَم أَحَدًا مِنْ فُقَهَاء الْأَمْصَار أَوْجَبَ الزَّكَاة فِي الْخَيْل غَيْرهمَا . تَفَرَّدَ بِهِ جُوَيْرِيَة عَنْ مَالِك وَهُوَ ثِقَة .

قَوْله تَعَالَى : " وَزِينَة " مَنْصُوب بِإِضْمَارِ فِعْل , الْمَعْنَى : وَجَعَلَهَا زِينَة . وَقِيلَ : هُوَ مَفْعُول مِنْ أَجْله . وَالزِّينَة : مَا يُتَزَيَّن بِهِ , وَهَذَا الْجَمَال وَالتَّزْيِين وَإِنْ كَانَ مِنْ مَتَاع الدُّنْيَا فَقَدْ أَذِنَ اللَّه سُبْحَانه لِعِبَادِهِ فِيهِ ; قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْإِبِل عِزّ لِأَهْلِهَا وَالْغَنَم بَرَكَة وَالْخَيْل فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْر ) . خَرَّجَهُ الْبَرْقَانِيّ وَابْن مَاجَهْ فِي السُّنَن . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْأَنْعَام وَإِنَّمَا جَمَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِزّ فِي الْإِبِل ; لِأَنَّ فِيهَا اللِّبَاس وَالْأَكْل وَاللَّبَن وَالْحَمْل وَالْغَزْو وَإِنْ نَقَصَهَا الْكَرّ وَالْفَرّ وَجَعَلَ الْبَرَكَة فِي الْغَنَم لِمَا فِيهَا مِنْ اللِّبَاس وَالطَّعَام وَالشَّرَاب وَكَثْرَة الْأَوْلَاد ; فَإِنَّهَا تَلِد فِي الْعَام ثَلَاث مَرَّات إِلَى مَا يَتْبَعهَا مِنْ السَّكِينَة , وَتَحْمِل صَاحِبهَا عَلَيْهِ مِنْ خَفْض الْجَنَاح وَلِين الْجَانِب ; بِخِلَافِ الْفَدَّادِينَ أَهْل الْوَبَر . وَقَرَنَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَيْر بِنَوَاصِي الْخَيْل بَقِيَّة الدَّهْر لِمَا فِيهَا مِنْ الْغَنِيمَة الْمُسْتَفَادَة لِلْكَسْبِ وَالْمَعَاش , وَمَا يُوصَل إِلَيْهِ مِنْ قَهْر الْأَعْدَاء وَغَلْب الْكُفَّار وَإِعْلَاء كَلِمَة اللَّه تَعَالَى .



قَالَ الْجُمْهُور : مِنْ الْخَلْق . وَقِيلَ : مِنْ أَنْوَاع الْحَشَرَات وَالْهَوَامّ فِي أَسَافِل الْأَرْض وَالْبَرّ وَالْبَحْر مِمَّا لَمْ يَرَهُ الْبَشَر وَلَمْ يَسْمَعُوا بِهِ . وَقِيلَ : وَيَخْلُق مَا لَا تَعْلَمُونَ " مِمَّا أَعَدَّ اللَّه فِي الْجَنَّة لِأَهْلِهَا وَفِي النَّار لِأَهْلِهَا , مِمَّا لَمْ تَرَهُ عَيْن وَلَمْ تَسْمَع بِهِ أُذُن وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْب بَشَر . وَقَالَ قَتَادَة وَالسُّدِّيّ : هُوَ خَلْق السُّوس فِي الثِّيَاب وَالدُّود فِي الْفَوَاكِه . اِبْن عَبَّاس : عَيْن تَحْت الْعَرْش ; حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ . الثَّعْلَبِيّ : وَقَالَ اِبْن عَبَّاس عَنْ يَمِين الْعَرْش نَهْر مِنْ النُّور مِثْل السَّمَوَات السَّبْع وَالْأَرَضِينَ السَّبْع وَالْبِحَار السَّبْع سَبْعِينَ مَرَّة , يَدْخُلهُ جِبْرِيل كُلّ سَحَر فَيَغْتَسِل فَيَزْدَاد نُورًا إِلَى نُوره وَجَمَالًا إِلَى جَمَاله وَعِظَمًا إِلَى عِظَمه , ثُمَّ يَنْتَفِض فَيُخْرِج اللَّه مِنْ كُلّ رِيشَة سَبْعِينَ أَلْف قَطْرَة , وَيُخْرِج مِنْ كُلّ قَطْرَة سَبْعَة آلَاف مَلَك , يَدْخُل مِنْهُمْ كُلّ يَوْم سَبْعُونَ أَلْف مَلَك إِلَى الْبَيْت الْمَعْمُور , وَفِي الْكَعْبَة سَبْعُونَ أَلْفًا لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة . وَقَوْل خَامِس : وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا أَرْض بَيْضَاء , مَسِيرَة الشَّمْس ثَلَاثِينَ يَوْمًا مَشْحُونَة خَلْقًا لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى يُعْصَى فِي الْأَرْض , قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه , مِنْ وَلَد آدَم ؟ قَالَ : ( لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّه خَلَقَ آدَم ) . قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه , فَأَيْنَ إِبْلِيس مِنْهُمْ ؟ قَالَ : ( لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّه خَلَقَ إِبْلِيس ) - ثُمَّ تَلَا " وَيَخْلُق مَا لَا تَعْلَمُونَ " ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ .

قُلْت : وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى مَا ذَكَرَ الْبَيْهَقِيّ عَنْ الشَّعْبِيّ قَالَ : إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا مِنْ وَرَاء الْأَنْدَلُس كَمَا بَيْننَا وَبَيْن الْأَنْدَلُس , مَا يَرَوْنَ أَنَّ اللَّه عَصَاهُ مَخْلُوق , رَضْرَاضهمْ الدُّرّ وَالْيَاقُوت وَجِبَالهمْ الذَّهَب وَالْفِضَّة , لَا يَحْرُثُونَ وَلَا يَزْرَعُونَ وَلَا يَعْمَلُونَ عَمَلًا , لَهُمْ شَجَر عَلَى أَبْوَابهمْ لَهَا ثَمَر هِيَ طَعَامهمْ وَشَجَر لَهَا أَوْرَاق عِرَاض هِيَ لِبَاسهمْ ; ذَكَرَهُ فِي بَدْء الْخَلْق مِنْ " كِتَاب الْأَسْمَاء وَالصِّفَات " . وَخَرَّجَ مِنْ حَدِيث مُوسَى بْن عُقْبَة عَنْ مُحَمَّد بْن الْمُنْكَدِر عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه الْأَنْصَارِيّ أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّث عَنْ مَلَك مِنْ مَلَائِكَة اللَّه مِنْ حَمَلَة الْعَرْش مَا بَيْن شَحْمَة أُذُنه إِلَى عَاتِقه مَسِيرَة سَبْعمِائَةِ عَام ) .
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَسورة النحل الآية رقم 9
أَيْ عَلَى اللَّه بَيَان قَصْد السَّبِيل , فَحَذَفَ الْمُضَاف وَهُوَ الْبَيَان . وَالسَّبِيل : الْإِسْلَام , أَيْ عَلَى اللَّه بَيَانه بِالرُّسُلِ وَالْحِجَج وَالْبَرَاهِين . وَقَصْد السَّبِيل : اِسْتِعَانَة الطَّرِيق ; يُقَال : طَرِيق قَاصِد أَيْ يُؤَدِّي إِلَى الْمَطْلُوب .



أَيْ وَمِنْ السَّبِيل جَائِر ; أَيْ عَادِل عَنْ الْحَقّ فَلَا يُهْتَدَى بِهِ ; وَمِنْهُ قَوْل اِمْرِئِ الْقَيْس : وَمِنْ الطَّرِيقَة جَائِر وَهُدًى قَصْد السَّبِيل وَمِنْهُ ذُو دَخَل وَقَالَ طَرَفَة : عَدَوْلِيَّةٌ أَوْ مِنْ سَفِين اِبْن يَامِن يَجُور بِهَا الْمَلَّاح طَوْرًا وَيَهْتَدِي الْعَدْوَلِيَّة سَفِينَة مَنْسُوبَة إِلَى عَدْوَلَى قَرْيَة بِالْبَحْرَيْنِ . وَالْعَدْوَلِيّ : الْمَلَّاح ; قَالَهُ فِي الصِّحَاح . وَفِي التَّنْزِيل " وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُل " [ الْأَنْعَام : 153 ] . وَقَدْ تَقَدَّمَ وَقِيلَ : الْمَعْنَى وَمِنْهُمْ جَائِر عَنْ سَبِيل الْحَقّ , أَيْ عَادِل عَنْهُ فَلَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ . وَفِيهِمْ قَوْلَانِ : أَحَدهمَا : أَنَّهُمْ أَهْل الْأَهْوَاء الْمُخْتَلِفَة ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس . الثَّانِي : مِلَل الْكُفْر مِنْ الْيَهُودِيَّة وَالْمَجُوسِيَّة وَالنَّصْرَانِيَّة . وَفِي مُصْحَف عَبْد اللَّه " وَمِنْكُمْ جَائِر " وَكَذَا قَرَأَ عَلِيّ " وَمِنْكُمْ " بِالْكَافِ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى وَعَنْهَا جَائِر ; أَيْ عَنْ السَّبِيل . ف " مِنْ " بِمَعْنَى عَنْ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : أَيْ مَنْ أَرَادَ اللَّه أَنْ يَهْدِيَهُ سَهَّلَ لَهُ طَرِيق الْإِيمَان , وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُضِلّهُ ثَقُلَ عَلَيْهِ الْإِيمَان وَفُرُوعه . وَقِيلَ : مَعْنَى " قَصْد السَّبِيل " مَسِيركُمْ وَرُجُوعكُمْ . وَالسَّبِيل وَاحِدَة بِمَعْنَى الْجَمْع , وَلِذَلِكَ أَنَّثَ الْكِنَايَة فَقَالَ : " وَمِنْهَا " وَالسَّبِيل مُؤَنَّثَة فِي لُغَة أَهْل الْحِجَاز .


بَيَّنَ أَنَّ الْمَشِيئَة لِلَّهِ تَعَالَى , وَهُوَ يُصَحِّح مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ اِبْن عَبَّاس فِي تَأْوِيل الْآيَة , وَيَرُدّ عَلَى الْقَدَرِيَّة وَمَنْ وَافَقَهَا كَمَا تَقَدَّمَ .
هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَسورة النحل الآية رقم 10
الشَّرَاب مَا يُشْرَب , وَالشَّجَر مَعْرُوف . أَيْ يُنْبِت مِنْ الْأَمْطَار أَشْجَارًا وَعُرُوشًا وَنَبَاتًا . و " تُسِيمُونَ " تَرْعُونَ إِبِلكُمْ ; يُقَال : سَامَتْ السَّائِمَة تَسُوم سَوْمًا أَيْ رَعَتْ , فَهِيَ سَائِمَة . وَالسَّوَام وَالسَّائِم بِمَعْنَى , وَهُوَ الْمَال الرَّاعِي . وَجَمْع السَّائِم وَالسَّائِمَة سَوَائِم . وَأَسَمْتهَا أَنَا أَيْ أَخْرَجْتهَا إِلَى الرَّعْي , فَأَنَا مُسِيم وَهِيَ مُسَامَة وَسَائِمَة . قَالَ : أَوْلَى لَك اِبْن مُسِمَة الْأَجْمَال وَأَصْل السَّوْم الْإِبْعَاد فِي الْمَرْعَى . وَقَالَ الزَّجَّاج : أُخِذَ مِنْ السُّومَة وَهِيَ الْعَلَامَة ; أَيْ أَنَّهَا تُؤَثِّر فِي الْأَرْض عَلَامَات بِرَعْيِهَا , أَوْ لِأَنَّهَا تُعَلَّم لِلْإِرْسَالِ فِي الْمَرْعَى .

قُلْت : وَالْخَيْل الْمُسَوَّمَة تَكُون الْمَرْعِيَّة . وَتَكُون الْمُعَلَّمَة . وَقَوْله : " مُسَوَّمِينَ " [ آل عِمْرَان : 125 ] قَالَ الْأَخْفَش تَكُون مُعَلَّمِينَ وَتَكُون مُرْسَلِينَ ; مِنْ قَوْلك : سَوَّمَ فِيهَا الْخَيْل أَيْ أَرْسَلَهَا , وَمِنْهُ السَّائِمَة , وَإِنَّمَا جَاءَ بِالْيَاءِ وَالنُّون لِأَنَّ الْخَيْل سُوِّمَتْ وَعَلَيْهَا رُكْبَانهَا .
يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَسورة النحل الآية رقم 11
قَرَأَ أَبُو بَكْر عَنْ عَاصِم " نُنْبِت " بِالنُّونِ عَلَى التَّعْظِيم . الْعَامَّة بِالْيَاءِ عَلَى مَعْنَى يُنْبِت اللَّه لَكُمْ ; يُقَال : نَبَتَتْ الْأَرْض وَأَنْبَتَتْ بِمَعْنًى , وَنَبَتَ الْبَقْل وَأَنْبَتَ بِمَعْنًى . وَأَنْشَدَ الْفَرَّاء : رَأَيْت ذَوِي الْحَاجَات حَوْل بُيُوتهمْ قَطِينًا بِهَا حَتَّى إِذَا أَنْبَتَ الْبَقْل أَيْ نَبَتَ . وَأَنْبَتَهُ اللَّه فَهُوَ مَنْبُوت , عَلَى غَيْر قِيَاس . وَأَنْبَتَ الْغُلَام نَبَتَتْ عَانَته . وَنَبَتَ الشَّجَر غَرْسه ; يُقَال : نَبَتَ أَجَلك بَيْن عَيْنَيْك . وَنَبَتَ الصَّبِيّ تَنْبِيتًا رَبَّيْته . وَالْمَنْبَت مَوْضِع النَّبَات ; يُقَال : مَا أَحْسَنَ نَابِتَة بَنِي فُلَان ; أَيْ مَا يَنْبُت عَلَيْهِ أَمْوَالهمْ وَأَوْلَادهمْ . وَنَبَتَتْ لَهُمْ نَابِتَة إِذَا نَشَأَ لَهُمْ نَشْء صِغَار . وَإِنَّ بَنِي فُلَان لَنَابِتَة شَرّ . وَالنَّوَابِت مِنْ الْأَحْدَاث الْأَغْمَار . وَالنَّبِيت حَيّ مِنْ الْيَمَن . وَالْيَنْبُوت شَجَر ; كُلّه عَنْ الْجَوْهَرِيّ . " وَالزَّيْتُون " جَمْع زَيْتُونَة . وَيُقَال لِلشَّجَرَةِ نَفْسهَا : زَيْتُونَة , وَلِلثَّمَرَةِ زَيْتُونَة . وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة " الْأَنْعَام " حُكْم زَكَاة هَذِهِ الثِّمَار فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ .


أَيْ الْإِنْزَال وَالْإِنْبَات .


أَيْ دَلَالَة " لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ " .
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَسورة النحل الآية رقم 12
أَيْ لِلسُّكُونِ وَالْأَعْمَال ; كَمَا قَالَ : " وَمِنْ رَحْمَته جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْل وَالنَّهَار لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْله " [ الْقَصَص : 73 ] .


أَيْ مُذَلَّلَات لِمَعْرِفَةِ الْأَوْقَات وَنُضْج الثِّمَار وَالزَّرْع وَالِاهْتِدَاء بِالنُّجُومِ فِي الظُّلُمَات . وَقَرَأَ اِبْن عَامِر وَأَهْل الشَّام " وَالشَّمْس وَالْقَمَر وَالنُّجُوم مُسَخَّرَات " بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاء وَالْخَبَر . الْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى مَا قَبْله . وَقَرَأَ حَفْص عَنْ عَاصِم بِرَفْعِ " وَالنُّجُوم " , " مُسَخَّرَات " خَبَره . وَقُرِئَ " وَالشَّمْس وَالْقَمَر وَالنُّجُوم " بِالنَّصْبِ . " مُسَخَّرَات " بِالرَّفْعِ , وَهُوَ خَبَر اِبْتِدَاء مَحْذُوف أَيْ هِيَ مُسَخَّرَات , وَهِيَ فِي قِرَاءَة مَنْ نَصَبَهَا حَال مُؤَكَّدَة ; كَقَوْلِهِ : " وَهُوَ الْحَقّ مُصَدِّقًا " [ الْبَقَرَة : 91 ] .


أَيْ يَعْقِلُونَ عَنْ اللَّه مَا نَبَّهَهُمْ عَلَيْهِ وَوَفَّقَهُمْ لَهُ .
وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَسورة النحل الآية رقم 13
أَيْ وَسَخَّرَ مَا ذَرَأَ فِي الْأَرْض لَكُمْ . " ذَرَأَ " أَيْ خَلَقَ ; ذَرَأَ اللَّه الْخَلْق يَذْرَؤُهُمْ ذَرْءًا خَلَقَهُمْ , فَهُوَ ذَارِئ ; وَمِنْهُ الذُّرِّيَّة وَهِيَ نَسْل الثَّقَلَيْنِ , إِلَّا أَنَّ الْعَرَب تَرَكَتْ هَمْزهَا , وَالْجَمْع الذَّرَارِيّ . يُقَال : أَنْمَى اللَّه ذَرْأَك وَذَرْوَك , أَيْ ذُرِّيَّتك . وَأَصْل الذَّرْو وَالذَّرْء التَّفْرِيق عَنْ جَمْع . وَفِي الْحَدِيث : ذَرْء النَّار ; أَيْ أَنَّهُمْ خُلِقُوا لَهَا .

مَا ذَرَأَهُ اللَّه سُبْحَانه مِنْهُ مُسَخَّر مُذَلَّل كَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَام وَالْأَشْجَار وَغَيْرهَا , وَمِنْهُ غَيْر ذَلِكَ . وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ مَالِك فِي الْمُوَطَّأ عَنْ كَعْب الْأَحْبَار قَالَ : لَوْلَا كَلِمَات أَقُولهُنَّ لَجَعَلَتْنِي يَهُود حِمَارًا . فَقِيلَ لَهُ : وَمَا هُنَّ ؟ فَقَالَ : أَعُوذ بِوَجْهِ اللَّه الْعَظِيم الَّذِي لَيْسَ شَيْء أَعْظَم مِنْهُ , وَبِكَلِمَاتِ اللَّه التَّامَّات الَّتِي لَا يُجَاوِزهُنَّ بَرّ وَلَا فَاجِر , وَبِأَسْمَاءِ اللَّه الْحُسْنَى كُلّهَا مَا عَلِمْت مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَم , مِنْ شَرّ مَا خَلَقَ وَبَرَأَ وَذَرَأَ . وَفِيهِ عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد أَنَّهُ قَالَ : أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَى عِفْرِيتًا مِنْ الْجِنّ يَطْلُبهُ بِشُعْلَةٍ مِنْ نَار , الْحَدِيث . وَفِيهِ : وَشَرّ مَا ذَرَأَ فِي الْأَرْض . وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ فِي غَيْر هَذَا الْمَوْضِع .


" مُخْتَلِفًا " نُصِبَ عَلَى الْحَال . و " أَلْوَانه " هَيْئَاته وَمَنَاظِره , يَعْنِي الدَّوَابّ وَالشَّجَر وَغَيْرهَا .


أَيْ فِي اِخْتِلَاف أَلْوَانهَا .


أَيْ لَعِبْرَة .


أَيْ يَتَّعِظُونَ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ فِي تَسْخِير هَذِهِ الْمُكَوَّنَات لَعَلَامَات عَلَى وَحْدَانِيَّة اللَّه تَعَالَى , وَأَنَّهُ لَا يَقْدِر عَلَى ذَلِكَ أَحَد غَيْره .
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَسورة النحل الآية رقم 14
تَسْخِير الْبَحْر هُوَ تَمْكِين الْبَشَر مِنْ التَّصَرُّف فِيهِ وَتَذْلِيله بِالرُّكُوبِ وَالْإِرْفَاء وَغَيْره , وَهَذِهِ نِعْمَة مِنْ نِعَم اللَّه عَلَيْنَا , فَلَوْ شَاءَ سَلَّطَهُ عَلَيْنَا وَأَغْرَقَنَا . وَقَدْ مَضَى الْكَلَام فِي الْبَحْر وَفِي صَيْده



سَمَّاهُ هُنَا لَحْمًا وَاللُّحُوم عِنْد مَالِك ثَلَاثَة أَجْنَاس : فَلَحْم ذَوَات الْأَرْبَع جِنْس , وَلَحْم ذَوَات الرِّيش جِنْس , وَلَحْم ذَوَات الْمَاء جِنْس . فَلَا يَجُوز بَيْع الْجِنْس مِنْ جِنْسه مُتَفَاضِلًا , وَيَجُوز بَيْع لَحْم الْبَقَر وَالْوَحْش بِلَحْمِ الطَّيْر وَالسَّمَك مُتَفَاضِلًا , وَكَذَلِكَ لَحْم الطَّيْر بِلَحْمِ الْبَقَر وَالْوَحْش وَالسَّمَك يَجُوز مُتَفَاضِلًا . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة : اللَّحْم كُلّهَا أَصْنَاف مُخْتَلِفَة كَأُصُولِهَا ; فَلَحْم الْبَقَر صِنْف , وَلَحْم الْغَنَم صِنْف , وَلَحْم الْإِبِل صِنْف , وَكَذَلِكَ الْوَحْش مُخْتَلِف , كَذَلِكَ الطَّيْر , وَكَذَلِكَ السَّمَك , وَهُوَ أَحَد قَوْلَيْ الشَّافِعِيّ . وَالْقَوْل الْآخَر أَنَّ الْكُلّ مِنْ النَّعَم وَالصَّيْد وَالطَّيْر وَالسَّمَك جِنْس وَاحِد لَا يَجُوز التَّفَاضُل فِيهِ . وَالْقَوْل الْأَوَّل هُوَ الْمَشْهُور مِنْ مَذْهَبه عِنْد أَصْحَابه . وَدَلِيلنَا هُوَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى فَرَّقَ بَيْن أَسْمَاء الْأَنْعَام فِي حَيَاتهَا فَقَالَ : " ثَمَانِيَة أَزْوَاج مِنْ الضَّأْن اِثْنَيْنِ وَمِنْ الْمَعْز اِثْنَيْنِ " [ الْأَنْعَام : 143 ] ثُمَّ قَالَ : " وَمِنْ الْإِبِل اِثْنَيْنِ وَمِنْ الْبَقَر اِثْنَيْنِ " فَلَمَّا أَنْ أَمَّ بِالْجَمِيعِ إِلَى اللَّحْم قَالَ : " أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَة الْأَنْعَام " [ الْمَائِدَة : 1 ] فَجَمَعَهَا بِلَحْمٍ وَاحِد لِتَقَارُبِ مَنَافِعهَا كَتَقَارُبِ لَحْم الضَّأْن وَالْمَعْز . وَقَالَ فِي مَوْضِع آخَر : " وَلَحْم طَيْر مِمَّا يَشْتَهُونَ " [ الْوَاقِعَة : 21 ] وَهَذَا جَمْع طَائِر الَّذِي هُوَ الْوَاحِد , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَلَا طَائِر يَطِير بِجَنَاحَيْهِ " [ الْأَنْعَام : 38 ] فَجَمَعَ لَحْم الطَّيْر كُلّه بِاسْمٍ وَاحِد . وَقَالَ هُنَا : " لَحْمًا طَرِيًّا " فَجَمَعَ أَصْنَاف السَّمَك بِذِكْرِ وَاحِد , فَكَانَ صِغَاره كَكِبَارِهِ فِي الْجَمْع بَيْنهمَا . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ لَحْم الْمَعْز بِلَحْمِ الْكِبَاش أَشَيْء وَاحِد ؟ فَقَالَ لَا ; وَلَا مُخَالِف لَهُ فَصَارَ كَالْإِجْمَاعِ , وَاَللَّه أَعْلَم . وَلَا حُجَّة لِلْمُخَالِفِ فِي نَهْيه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْع الطَّعَام إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ ; فَإِنَّ الطَّعَام فِي الْإِطْلَاق يَتَنَاوَل الْحِنْطَة وَغَيْرهَا مِنْ الْمَأْكُولَات وَلَا يَتَنَاوَل اللَّحْم ; أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَائِل إِذَا قَالَ : أَكَلْت الْيَوْم طَعَامًا لَمْ يَسْبِق الْفَهْم مِنْهُ إِلَى أَكْل اللَّحْم , وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مُعَارِض بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا اِخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ ) وَهَذَانِ جِنْسَانِ , وَأَيْضًا فَقَدْ اِتَّفَقْنَا عَلَى جَوَاز بَيْع اللَّحْم بِلَحْمِ الطَّيْر مُتَفَاضِلًا لَا لِعِلَّةِ أَنَّهُ بَيْع طَعَام لَا زَكَاة لَهُ بَيْع بِلَحْمٍ لَيْسَ فِيهِ الزَّكَاة , وَكَذَلِكَ بَيْع السَّمَك بِلَحْمِ الطَّيْر مُتَفَاضِلًا .

وَأَمَّا الْجَرَاد فَالْمَشْهُور عِنْدنَا جَوَاز بَيْع بَعْضه بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا . وَذُكِرَ عَنْ سَحْنُون أَنَّهُ يَمْنَع مِنْ ذَلِكَ , وَإِلَيْهِ مَالَ بَعْض الْمُتَأَخِّرِينَ وَرَآهُ مِمَّا يُدَّخَر .

اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِيمَنْ حَلَفَ أَلَّا يَأْكُل لَحْمًا ; فَقَالَ اِبْن الْقَاسِم : يَحْنَث بِكُلِّ نَوْع مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاع الْأَرْبَعَة . وَقَالَ أَشْهَب فِي الْمَجْمُوعَة . لَا يَحْنَث إِلَّا بِكُلِّ لُحُوم الْأَنْعَام دُون الْوَحْش وَغَيْره , مُرَاعَاة لِلْعُرْفِ وَالْعَادَة , وَتَقْدِيمًا لَهَا عَلَى إِطْلَاق اللَّفْظ اللُّغَوِيّ , وَهُوَ أَحْسَن .



يَعْنِي بِهِ اللُّؤْلُؤ وَالْمَرْجَان ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " يَخْرُج مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤ وَالْمَرْجَان " [ الرَّحْمَن : 22 ] . وَإِخْرَاج الْحِلْيَة إِنَّمَا هِيَ فِيمَا عُرِفَ مِنْ الْمِلْح فَقَطْ . وَقَالَ : إِنَّ فِي الزُّمُرُّد بَحْرِيًّا . وَقَدْ خُطِّئَ الْهُذَلِيّ فِي قَوْله فِي وَصْف الدُّرَّة : فَجَاءَ بِهَا مِنْ دُرَّة لَطَمِيَّة عَلَى وَجْههَا مَاء الْفُرَات يَدُوم فَجَعَلَهَا مِنْ الْمَاء الْحُلْو . فَالْحِلْيَة حَقّ وَهِيَ نِحْلَة اللَّه تَعَالَى لِآدَم وَوَلَده . خُلِقَ آدَم وَتُوِّجَ وَكُلِّلَ بِإِكْلِيلِ الْجَنَّة , وَخُتِمَ بِالْخَاتَمِ الَّذِي وَرِثَهُ عَنْهُ سُلَيْمَان بْن دَاوُد صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِمْ , وَكَانَ يُقَال لَهُ خَاتَم الْعِزّ فِيمَا رُوِيَ .

اِمْتَنَّ اللَّه سُبْحَانه عَلَى الرِّجَال وَالنِّسَاء اِمْتِنَانًا عَامًّا بِمَا يَخْرُج مِنْ الْبَحْر , فَلَا يَحْرُم عَلَيْهِمْ شَيْء مِنْهُ , وَإِنَّمَا حَرَّمَ اللَّه تَعَالَى عَلَى الرِّجَال الذَّهَب وَالْحَرِير . رَوَى الصَّحِيح عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تَلْبَسُوا الْحَرِير فَإِنَّهُ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسهُ فِي الْآخِرَة ) . وَسَيَأْتِي فِي سُورَة [ الْحَجّ ] الْكَلَام فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّه . وَرَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَب , وَجَعَلَ فَصّه مِمَّا يَلِي بَاطِن كَفّه , وَنَقَشَ فِيهِ مُحَمَّد رَسُول اللَّه ; فَاتَّخَذَ النَّاس مِثْله ; فَلَمَّا رَآهُمْ قَدْ اِتَّخَذُوهَا رَمَى بِهِ وَقَالَ : ( لَا أَلْبَسهُ أَبَدًا ) ثُمَّ اِتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّة فَاتَّخَذَ النَّاس خَوَاتِيم الْفِضَّة . قَالَ اِبْن عُمَر : فَلَبِسَ الْخَاتَم بَعْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَكْر ثُمَّ عُمَر ثُمَّ عُثْمَان , حَتَّى وَقَعَ مِنْ عُثْمَان فِي بِئْر أَرِيس . قَالَ أَبُو دَاوُد : لَمْ يَخْتَلِف النَّاس عَلَى عُثْمَان حَتَّى سَقَطَ الْخَاتَم مِنْ يَده . وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى جَوَاز التَّخَتُّم بِالْوَرِقِ عَلَى الْجُمْلَة لِلرِّجَالِ . قَالَ الْخَطَّابِيّ : وَكُرِهَ لِلنِّسَاءِ التَّخَتُّم بِالْفِضَّةِ ; لِأَنَّهُ مِنْ زِيّ الرِّجَال , فَإِنْ لَمْ يَجِدْنَ ذَهَبًا فَلْيُصَفِّرْنَهُ بِزَعْفَرَانٍ أَوْ بِشَبَهِهِ . وَجُمْهُور الْعُلَمَاء مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف عَلَى تَحْرِيم اِتِّخَاذ الرِّجَال خَاتَم الذَّهَب , إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْر بْن عَبْد الرَّحْمَن وَخَبَّاب , وَهُوَ خِلَاف شَاذّ , وَكُلّ مِنْهُمَا لَمْ يَبْلُغهُمَا النَّهْي وَالنَّسْخ . وَاَللَّه أَعْلَم . وَأَمَّا مَا رَوَاهُ أَنَس بْن مَالِك أَنَّهُ رَأَى فِي يَد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمًا مِنْ وَرِق يَوْمًا وَاحِدًا , ثُمَّ إِنَّ النَّاس اِصْطَنَعُوا الْخَوَاتِم , مِنْ وَرِق وَلَبِسُوهَا , فَطَرَحَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمه فَطَرَحَ النَّاس خَوَاتِيمهمْ - أَخْرَجَهُ الصَّحِيحَانِ وَاللَّفْظ لِلْبُخَارِيِّ - فَهُوَ عِنْد الْعُلَمَاء وَهْم مِنْ اِبْن شِهَاب ; لِأَنَّ الَّذِي نَبَذَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا هُوَ خَاتَم الذَّهَب . رَوَاهُ عَبْد الْعَزِيز بْن صُهَيْب وَقَتَادَة عَنْ أَنَس , وَهُوَ خِلَاف مَا رَوَى اِبْن شِهَاب عَنْ أَنَس فَوَجَبَ الْقَضَاء بِالْجُمْلَةِ عَلَى الْوَاحِد إِذَا خَالَفَهَا , مَعَ مَا يَشْهَد لِلْجَمَاعَةِ مِنْ حَدِيث اِبْن عُمَر .

إِذَا ثَبَتَ جَوَاز التَّخَتُّم لِلرِّجَالِ بِخَاتَمِ الْفِضَّة وَالتَّحَلِّي بِهِ , فَقَدْ كَرِهَ اِبْن سِيرِينَ وَغَيْره مِنْ الْعُلَمَاء نَقْشه وَأَنْ يَكُون فِيهِ ذِكْر اللَّه . وَأَجَازَ نَقْشه جَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء . ثُمَّ إِذَا نُقِشَ عَلَيْهِ اِسْم اللَّه أَوْ كَلِمَة حِكْمَة أَوْ كَلِمَات مِنْ الْقُرْآن وَجَعَلَهُ فِي شِمَاله , فَهَلْ يَدْخُل بِهِ الْخَلَاء وَيَسْتَنْجِي بِشِمَالِهِ ؟ خَفَّفَهُ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَمَالِك . قِيلَ لِمَالِكٍ : إِنْ كَانَ فِي الْخَاتَم ذِكْر اللَّه وَيَلْبَسهُ فِي الشِّمَال أَيُسْتَنْجَى بِهِ ؟ قَالَ : أَرْجُو أَنْ يَكُون خَفِيفًا . وَرُوِيَ عَنْهُ الْكَرَاهَة وَهُوَ الْأَوْلَى . وَعَلَى الْمَنْع مِنْ ذَلِكَ أَكْثَر أَصْحَابه . وَقَدْ رَوَى هَمَّام عَنْ اِبْن جُرَيْج عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ أَنَس قَالَ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْخَلَاء وَضَعَ خَاتَمه . قَالَ أَبُو دَاوُد : هَذَا حَدِيث مُنْكَر , وَإِنَّمَا يُعْرَف عَنْ اِبْن جُرَيْج عَنْ زِيَاد بْن سَعْد عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ أَنَس أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ وَرِق ثُمَّ أَلْقَاهُ . قَالَ أَبُو دَاوُد : لَمْ يُحَدِّث بِهَذَا إِلَّا هَمَّام .

رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ أَنَس بْن مَالِك أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّة وَنَقَشَ فِيهِ " مُحَمَّد رَسُول اللَّه " وَقَالَ : ( إِنِّي اِتَّخَذْت خَاتَمًا مِنْ وَرِق وَنَقَشْت فِيهِ مُحَمَّد رَسُول اللَّه فَلَا يَنْقُشَنَّ أَحَد عَلَى نَقْشه ) . قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فَهَذَا دَلِيل عَلَى جَوَاز نَقْش اِسْم صَاحِب الْخَاتَم عَلَى خَاتَمه . قَالَ مَالِك : وَمِنْ شَأْن الْخُلَفَاء وَالْقُضَاة نَقْش أَسْمَائِهِمْ عَلَى خَوَاتِيمهمْ , وَنَهْيه عَلَيْهِ السَّلَام : لَا يَنْقُشَنَّ أَحَد عَلَى نَقْش خَاتَمه , مِنْ أَجْل أَنَّ ذَلِكَ اِسْمه وَصِفَته بِرِسَالَةِ اللَّه لَهُ إِلَى خَلْقه . وَرَوَى أَهْل الشَّام أَنَّهُ لَا يَجُوز الْخَاتَم لِغَيْرِ ذِي سُلْطَان . وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا عَنْ أَبِي رَيْحَانَة , وَهُوَ حَدِيث لَا حُجَّة فِيهِ لِضَعْفِهِ . وَقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : ( لَا يَنْقُشَنَّ أَحَد عَلَى نَقْشه ) يَرُدّهُ وَيَدُلّ عَلَى جَوَاز اِتِّخَاذ الْخَاتَم لِجَمِيعِ النَّاس , إِذَا لَمْ يُنْقَش عَلَى نَقْش خَاتَمه . وَكَانَ نَقْش خَاتَم الزُّهْرِيّ " مُحَمَّد يَسْأَل اللَّه الْعَافِيَة " . وَكَانَ نَقْش خَاتَم مَالِك " حَسْبِيَ اللَّه وَنِعْمَ الْوَكِيل " . وَذَكَرَ التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم فِي " نَوَادِر الْأُصُول " أَنَّ نَقْش خَاتَم مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام " لِكُلِّ أَجَل كِتَاب " [ الرَّعْد : 38 ] . وَقَدْ مَضَى فِي الرَّعْد وَبَلَغَ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز أَنَّ اِبْنه اِشْتَرَى خَاتَمًا بِأَلْفِ دِرْهَم فَكَتَبَ إِلَيْهِ : إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّك اِشْتَرَيْت خَاتَمًا بِأَلْفِ دِرْهَم , فَبِعْهُ وَأَطْعِمْ مِنْهُ أَلْف جَائِع , وَاشْتَرِ خَاتَمًا مِنْ حَدِيد بِدِرْهَمٍ , وَاكْتُبْ عَلَيْهِ " رَحِمَ اللَّه اِمْرَأً عَرَفَ قَدْر نَفْسه " .

مَنْ حَلَفَ أَلَّا يَلْبَس حُلِيًّا فَلَبِسَ لُؤْلُؤًا لَمْ يَحْنَث ; وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة . قَالَ اِبْن خُوَيْز مِنْدَاد : لِأَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ الِاسْم اللُّغَوِيّ يَتَنَاوَلهُ فَلَمْ يَقْصِدهُ بِالْيَمِينِ , وَالْأَيْمَان تُخَصّ بِالْعُرْفِ ; أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ أَلَّا يَنَام عَلَى فِرَاش فَنَامَ عَلَى الْأَرْض لَمْ يَحْنَث , وَكَذَلِكَ لَا يَسْتَضِيء بِسِرَاجٍ فَجَلَسَ فِي الشَّمْس لَا يَحْنَث , وَإِنْ كَانَ اللَّه تَعَالَى قَدْ سَمَّى الْأَرْض فِرَاشًا وَالشَّمْس سِرَاجًا . وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمَّد : مَنْ حَلَفَ أَلَّا يَلْبَس حُلِيًّا وَلَبِسَ اللُّؤْلُؤ فَإِنَّهُ يَحْنَث ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَة تَلْبَسُونَهَا " وَاَلَّذِي يَخْرُج مِنْهُ : اللُّؤْلُؤ وَالْمَرْجَان .



الْفُلْك : السُّفُن , وَإِفْرَاده وَجَمْعه بِلَفْظٍ وَاحِد , وَيُذَكَّر وَيُؤَنَّث . وَلَيْسَتْ الْحَرَكَات فِي الْمُفْرَد تِلْكَ بِأَعْيَانِهَا فِي الْجَمْع , بَلْ كَأَنَّهُ بَنَى الْجَمْع بِنَاء آخَر ; يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ تَوَسُّط التَّثْنِيَة فِي قَوْلهمْ : فُلْكَان . وَالْفُلْك الْمُفْرَد مُذَكَّر ; قَالَ تَعَالَى : " فِي الْفُلْك الْمَشْحُون " [ يس : 41 ] فَجَاءَ بِهِ مُذَكَّرًا , وَقَالَ : " وَالْفُلْك الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْر " فَأَنَّثَ . وَيَحْتَمِل وَاحِدًا وَجَمْعًا ; وَقَالَ : " حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْك وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَة " [ يُونُس : 22 ] فَجَمَعَ ; فَكَأَنَّهُ يَذْهَب بِهَا إِذَا كَانَتْ وَاحِدَة إِلَى الْمَرْكَب فَيُذَكَّر , وَإِلَى السَّفِينَة فَيُؤَنَّث . وَقِيلَ : وَاحِده فَلَك ; مِثْل أَسَد وَأُسْد , وَخَشَب وَخُشْب , وَأَصْله مِنْ الدَّوَرَان , وَمِنْهُ : فُلْك السَّمَاء الَّتِي تَدُور عَلَيْهِ النُّجُوم . وَفَلَّكَتْ الْجَارِيَة اِسْتَدَارَ ثَدْيهَا ; وَمِنْهُ فَلْكَة الْمِغْزَل . وَسُمِّيَتْ السَّفِينَة فُلْكًا لِأَنَّهَا تَدُور بِالْمَاءِ أَسْهَلَ دَوْر . وَقَوْله : " مَوَاخِر " قَالَ اِبْن عَبَّاس : جَوَارِي , مِنْ جَرَتْ تَجْرِي . سَعِيد بْن جُبَيْر : مُعْتَرِضَة . الْحَسَن : مَوَاقِر . قَتَادَة وَالضَّحَّاك : أَيْ تَذْهَب وَتَجِيء , مُقْبِلَة وَمُدْبِرَة بِرِيحٍ وَاحِدَة . وَقِيلَ : " مَوَاخِر " مُلَجِّجَة فِي دَاخِل الْبَحْر ; وَأَصْل الْمَخْر شَقّ الْمَاء عَنْ يَمِين وَشِمَال . مَخَرَتْ السَّفِينَة تَمْخَر وَتَمْخُر مَخْرًا وَمُخُورًا إِذَا جَرَتْ تَشُقّ الْمَاء مَعَ صَوْت ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " وَتَرَى الْفُلْك مَوَاخِر فِيهِ " يَعْنِي جَوَارِي . وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَمَخَرَ السَّابِح إِذَا شَقَّ الْمَاء بِصَدْرِهِ , وَمَخَرَ الْأَرْض شَقَّهَا لِلزِّرَاعَةِ , وَمَخَرَهَا بِالْمَاءِ إِذَا حَبَسَ الْمَاء فِيهَا حَتَّى تَصِير أَرِيضَة ; أَيْ خَلِيقَة بِجَوْدَةِ نَبَات الزَّرْع . وَقَالَ الطَّبَرِيّ : الْمَخْر فِي اللُّغَة صَوْت هُبُوب الرِّيح ; وَلَمْ يُقَيِّد كَوْنه فِي مَاء , وَقَالَ : إِنَّ مِنْ ذَلِكَ قَوْل وَاصِل مَوْلَى أَبِي عُيَيْنَة : إِذَا أَرَادَ أَحَدكُمْ الْبَوْل فَلْيَتَمَخَّرْ الرِّيح ; أَيْ لِيَنْظُر فِي صَوْتهَا فِي الْأَجْسَام مِنْ أَيْنَ تَهُبّ , فَيَتَجَنَّب اِسْتِقْبَالهَا لِئَلَّا تَرُدّ عَلَيْهِ بَوْله .


أَيْ وَلِتَرْكَبُوهُ لِلتِّجَارَةِ وَطَلَب الرِّبْح .



هَذَا وَمَا كَانَ مِثْله فِيمَا وَرَدَ فِي كَلَام اللَّه تَعَالَى مِنْ قَوْله : " لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ , لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ , لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ , لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ " فِيهِ ثَلَاث تَأْوِيلَات .

الْأَوَّل : أَنَّ " لَعَلَّ " عَلَى بَابهَا مِنْ التَّرَجِّي وَالتَّوَقُّع , وَالتَّرَجِّي وَالتَّوَقُّع إِنَّمَا هُوَ فِي حَيِّز الْبَشَر ; فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ : اِفْعَلُوا ذَلِكَ عَلَى الرَّجَاء مِنْكُمْ وَالطَّمَع أَنْ تَعْقِلُوا وَأَنْ تَذْكُرُوا وَأَنْ تَتَّقُوا . هَذَا قَوْل سِيبَوَيْهِ وَرُؤَسَاء اللِّسَان قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ : " اِذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْن إِنَّهُ طَغَى . فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّر أَوْ يَخْشَى " [ طَه : 43 - 44 ] قَالَ مَعْنَاهُ : اِذْهَبَا عَلَى طَمَعكُمَا وَرَجَائِكُمَا أَنْ يَتَذَكَّر أَوْ يَخْشَى . وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْل أَبُو الْمَعَالِي .

الثَّانِي : أَنَّ الْعَرَب اِسْتَعْمَلَتْ " لَعَلَّ " مُجَرَّدَة مِنْ الشَّكّ بِمَعْنَى لَام كَيْ . فَالْمَعْنَى لِتَعْقِلُوا وَلِتَذْكُرُوا وَلِتَتَّقُوا ; وَعَلَى ذَلِكَ يَدُلّ قَوْل الشَّاعِر : وَقُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا الْحُرُوب لَعَلَّنَا نَكُفّ وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلّ مَوْثِق فَلَمَّا كَفَفْنَا الْحَرْب كَانَتْ عُهُودكُمْ كَلَمْعِ سَرَاب فِي الْمَلَا مُتَأَلِّق الْمَعْنَى : كُفُّوا الْحُرُوب لِنَكُفّ , وَلَوْ كَانَتْ " لَعَلَّ " هُنَا شَكًّا لَمْ يُوَثِّقُوا لَهُمْ كُلّ مَوْثِق ; وَهَذَا الْقَوْل عَنْ قُطْرُب وَالطَّبَرِيّ .

الثَّالِث : أَنْ تَكُون " لَعَلَّ " بِمَعْنَى التَّعَرُّض لِلشَّيْءِ , كَأَنَّهُ قِيلَ : اِفْعَلُوا مُتَعَرِّضِينَ لِأَنْ تَشْكُرُوا أَوْ لِأَنْ تَعْقِلُوا , أَوْ لِأَنْ تَذْكُرُوا أَوْ لِأَنْ تَتَّقُوا
وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَسورة النحل الآية رقم 15
أَيْ جِبَالًا ثَابِتَة . رَسَا يَرْسُو إِذَا ثَبُتَ وَأَقَامَ . قَالَ : فَصَبَرْت عَارِفَة لِذَلِكَ حُرَّة تَرْسُو إِذَا نَفْس الْجَبَان تَطَلَّع



أَيْ لِئَلَّا تَمِيد ; عِنْد الْكُوفِيِّينَ . وَكَرَاهِيَة أَنْ تَمِيد ; عَلَى قَوْل الْبَصْرِيِّينَ . وَالْمَيْد : الِاضْطِرَاب يَمِينًا وَشِمَالًا ; مَادَ الشَّيْء يَمِيد مَيْدًا إِذَا تَحَرَّكَ ; وَمَادَتْ الْأَغْصَان تَمَايَلَتْ , وَمَادَ الرَّجُل تَبَخْتَرَ . قَالَ وَهْب بْن مُنَبِّه : خَلَقَ اللَّه الْأَرْض فَجَعَلَتْ تَمِيد وَتَمُور , فَقَالَتْ الْمَلَائِكَة . إِنَّ هَذِهِ غَيْر مُقِرَّة أَحَدًا عَلَى ظَهْرهَا فَأَصْبَحَتْ وَقَدْ أُرْسِيَتْ بِالْجِبَالِ , وَلَمْ تَدْرِ الْمَلَائِكَة مِمَّ خُلِقَتْ الْجِبَال . وَقَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : لَمَّا خَلَقَ اللَّه الْأَرْض قَمَصَتْ وَمَالَتْ وَقَالَتْ : أَيْ رَبّ ! أَتَجْعَلُ عَلَيَّ مَنْ يَعْمَل بِالْمَعَاصِي وَالْخَطَايَا , وَيُلْقِي عَلَيَّ الْجِيَف وَالنَّتْن ! فَأَرْسَى اللَّه تَعَالَى فِيهَا مِنْ الْجِبَال مَا تَرَوْنَ وَمَا لَا تَرَوْنَ . وَرَوَى التِّرْمِذِيّ فِي آخِر " كِتَاب التَّفْسِير " حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بَشَّار حَدَّثَنَا يَزِيد بْن هَارُون أَخْبَرَنَا الْعَوَّام بْن حَوْشَب عَنْ سُلَيْمَان بْن أَبِي سُلَيْمَان عَنْ أَنَس بْن مَالِك عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَمَّا خَلَقَ اللَّه الْأَرْض جَعَلَتْ تَمِيد فَخَلَقَ الْجِبَال فَعَادَ بِهَا عَلَيْهَا فَاسْتَقَرَّتْ فَعَجِبَتْ الْمَلَائِكَة مِنْ شِدَّة الْجِبَال قَالُوا يَا رَبّ هَلْ مِنْ خَلْقك شَيْء أَشَدّ مِنْ الْجِبَال قَالَ نَعَمْ الْحَدِيد قَالُوا يَا رَبّ فَهَلْ مِنْ خَلْقك شَيْء أَشَدّ مِنْ الْحَدِيد قَالَ نَعَمْ النَّار فَقَالُوا يَا رَبّ فَهَلْ مِنْ خَلْقك شَيْء أَشَدّ مِنْ النَّار قَالَ نَعَمْ الْمَاء قَالُوا يَا رَبّ فَهَلْ مِنْ خَلْقك شَيْء أَشَدّ مِنْ الْمَاء قَالَ نَعَمْ الرِّيح قَالُوا يَا رَبّ فَهَلْ مِنْ خَلْقك شَيْء أَشَدّ مِنْ الرِّيح قَالَ نَعَمْ اِبْن آدَم تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ بِيَمِينِهِ يُخْفِيهَا مِنْ شِمَاله ) . قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيث غَرِيب لَا نَعْرِفهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْه .

قُلْت : وَفِي هَذِهِ الْآيَة أَدَلّ دَلِيل عَلَى اِسْتِعْمَال الْأَسْبَاب , وَقَدْ كَانَ قَادِرًا عَلَى سُكُونهَا دُون الْجِبَال . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى


أَيْ وَجَعَلَ فِيهَا أَنْهَارًا , أَوْ أَلْقَى فِيهَا أَنْهَارًا .


أَيْ طُرُقًا وَمَسَالِك .



أَيْ إِلَى حَيْثُ تَقْصِدُونَ مِنْ الْبِلَاد فَلَا تَضِلُّونَ وَلَا تَتَحَيَّرُونَ .
وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَسورة النحل الآية رقم 16
قَالَ اِبْن عَبَّاس : الْعَلَامَات مَعَالِم الطُّرُق بِالنَّهَارِ ; أَيْ جَعَلَ لِلطَّرِيقِ عَلَامَات يَقَع الِاهْتِدَاء بِهَا .



يَعْنِي بِاللَّيْلِ , وَالنَّجْم يُرَاد بِهِ النُّجُوم . وَقَرَأَ اِبْن وَثَّاب " وَبِالنُّجُمِ " . الْحَسَن : بِضَمِّ النُّون وَالْجِيم جَمِيعًا وَمُرَاده النُّجُوم , فَقَصَرَهُ ; كَمَا قَالَ الشَّاعِر : إِنَّ الْفَقِير بَيْننَا قَاضٍ حَكَم أَنْ تَرِد الْمَاء إِذَا غَابَ النُّجُم وَكَذَلِكَ الْقَوْل لِمَنْ قَرَأَ " النُّجْم " إِلَّا أَنَّهُ سَكَّنَ اِسْتِخْفَافًا . وَيَجُوز أَنْ يَكُون النُّجُم جَمْع نَجْم كَسُقُفٍ وَسَقْف . وَاخْتُلِفَ فِي النُّجُوم ; فَقَالَ الْفَرَّاء : الْجَدْي وَالْفَرْقَدَانِ . وَقِيلَ : الثُّرَيَّا . قَالَ الشَّاعِر : حَتَّى إِذَا مَا اِسْتَقَلَّ النَّجْم فِي غَلَس وَغُودِرَ الْبَقْل مَلْوِيّ وَمَحْصُود أَيْ مِنْهُ مَلْوِيّ وَمِنْهُ مَحْصُود , وَذَلِكَ عِنْد طُلُوع الثُّرَيَّا يَكُون . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : الْعَلَامَات الْجِبَال . وَقَالَ مُجَاهِد : هِيَ النُّجُوم ; لِأَنَّ مِنْ النُّجُوم مَا يُهْتَدَى بِهَا , وَمِنْهَا مَا يَكُون عَلَامَة لَا يُهْتَدَى بِهَا ; وَقَالَهُ قَتَادَة وَالنَّخَعِيّ . وَقِيلَ : تَمَّ الْكَلَام عِنْد قَوْله " وَعَلَامَات " ثُمَّ اِبْتَدَأَ وَقَالَ : " وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ " . وَعَلَى الْأَوَّل : أَيْ وَجَعَلَ لَكُمْ عَلَامَات وَنُجُومًا تَهْتَدُونَ بِهَا . وَمِنْ الْعَلَامَات الرِّيَاح يُهْتَدَى بِهَا . وَفِي الْمُرَاد بِالِاهْتِدَاءِ قَوْلَانِ : أَحَدهمَا : فِي الْأَسْفَار , وَهَذَا قَوْل الْجُمْهُور . الثَّانِي : فِي الْقِبْلَة . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : سَأَلْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْله تَعَالَى : " وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ " قَالَ : ( هُوَ الْجَدْي يَا ابْن عَبَّاس , عَلَيْهِ قِبْلَتكُمْ وَبِهِ تَهْتَدُونَ فِي بَرّكُمْ وَبَحْركُمْ ) ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ .

قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : أَمَّا جَمِيع النُّجُوم فَلَا يَهْتَدِي بِهَا إِلَّا الْعَارِف بِمَطَالِعِهَا وَمَغَارِبهَا , وَالْفَرْق بَيْن الْجَنُوبِيّ وَالشَّمَالِيّ مِنْهَا , وَذَلِكَ قَلِيل فِي الْآخَرِينَ . وَأَمَّا الثُّرَيَّا فَلَا يَهْتَدِي بِهَا إِلَّا مَنْ يَهْتَدِي بِجَمِيعِ النُّجُوم . وَإِنَّمَا الْهَدْي لِكُلِّ أَحَد بِالْجَدْيِ وَالْفَرْقَدَيْنِ ; لِأَنَّهَا مِنْ النُّجُوم الْمُنْحَصِرَة الْمَطَالِع الظَّاهِرَة السَّمْت الثَّابِتَة فِي الْمَكَان , فَإِنَّهَا تَدُور عَلَى الْقُطْب الثَّابِت دَوَرَانًا مُحَصَّلًا , فَهِيَ أَبَدًا هُدَى الْخَلْق فِي الْبَرّ إِذَا عَمِيَتْ الطُّرُق , وَفِي الْبَحْر عِنْد مَجْرَى السُّفُن , وَفِي الْقِبْلَة إِذَا جُهِلَ السَّمْت , وَذَلِكَ عَلَى الْجُمْلَة بِأَنْ تَجْعَل الْقُطْب عَلَى ظَهْر مَنْكِبك الْأَيْسَر فَمَا اِسْتَقْبَلْت فَهُوَ سَمْت الْجِهَة .

قُلْت : وَسَأَلَ اِبْن عَبَّاس رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّجْم فَقَالَ : ( هُوَ الْجَدْي عَلَيْهِ قِبْلَتكُمْ وَبِهِ تَهْتَدُونَ فِي بَرّكُمْ وَبَحْركُمْ ) . وَذَلِكَ أَنَّ آخِر الْجَدْي بَنَات نَعْش الصُّغْرَى وَالْقُطْب الَّذِي تَسْتَوِي عَلَيْهِ الْقِبْلَة بَيْنهَا .

قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَحُكْم اِسْتِقْبَال الْقِبْلَة عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا : أَنْ يَرَاهَا وَيُعَايِنهَا فَيَلْزَمهُ اِسْتِقْبَالهَا وَإِصَابَتهَا وَقَصْد جِهَتهَا بِجَمِيعِ بَدَنه . وَالْآخَر : أَنْ تَكُون الْكَعْبَة بِحَيْثُ لَا يَرَاهَا فَيَلْزَمهُ التَّوَجُّه نَحْوهَا وَتِلْقَاءَهَا بِالدَّلَائِلِ , وَهِيَ الشَّمْس وَالْقَمَر وَالنُّجُوم وَالرِّيَاح وَكُلّ مَا يُمْكِن بِهِ مَعْرِفَة جِهَتهَا , وَمَنْ غَابَتْ عَنْهُ وَصَلَّى مُجْتَهِدًا إِلَى غَيْر نَاحِيَتهَا وَهُوَ مِمَّنْ يُمْكِنهُ الِاجْتِهَاد فَلَا صَلَاة لَهُ ; فَإِذَا صَلَّى مُجْتَهِدًا مُسْتَدِلًّا ثُمَّ اِنْكَشَفَ لَهُ بَعْد الْفَرَاغ مِنْ صَلَاته أَنَّهُ صَلَّى إِلَى غَيْر الْقِبْلَة أَعَادَ إِنْ كَانَ فِي وَقْتهَا , وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى فَرْضه عَلَى مَا أُمِرَ بِهِ . وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي " الْبَقَرَة " مُسْتَوْفًى وَالْحَمْد لِلَّهِ
أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَسورة النحل الآية رقم 17
قَوْله تَعَالَى : " أَفَمَنْ يَخْلُق " هُوَ اللَّه تَعَالَى . " كَمَنْ لَا يَخْلُق " يُرِيد الْأَصْنَام . " أَفَلَا تَذَكَّرُونَ " أَخْبَرَ عَنْ الْأَوْثَان الَّتِي لَا تَخْلُق وَلَا تَضُرّ وَلَا تَنْفَع , كَمَا يُخْبِر عَمَّنْ يَعْقِل عَلَى مَا تَسْتَعْمِلهُ الْعَرَب فِي ذَلِكَ ; فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا فَذُكِرَتْ بِلَفْظِ " مِنْ " كَقَوْلِهِ : " أَلَهُمْ أَرْجُل " [ الْأَعْرَاف : 195 ] . وَقِيلَ : لِاقْتِرَانِ الضَّمِير فِي الذِّكْر بِالْخَالِقِ . قَالَ الْفَرَّاء : هُوَ كَقَوْلِ الْعَرَب : اِشْتَبَهَ عَلَيَّ الرَّاكِب وَجَمَله فَلَا أَدْرِي مَنْ ذَا وَمَنْ ذَا ; وَإِنْ كَانَ أَحَدهمَا غَيْر إِنْسَان . قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَيُسْأَل ب " مَنْ " عَنْ الْبَارِئ تَعَالَى وَلَا يُسْأَل عَنْهُ ب " مَا " ; لِأَنَّ " مَا " إِنَّمَا يُسْأَل بِهَا عَنْ الْأَجْنَاس , وَاَللَّه تَعَالَى لَيْسَ بِذِي جِنْس , وَلِذَلِكَ أَجَابَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام حِين قَالَ لَهُ : " فَمَنْ رَبّكُمَا يَا مُوسَى " [ طَه : 49 ] وَلَمْ يُجِبْ حِين قَالَ لَهُ : " وَمَا رَبّ الْعَالَمِينَ " [ الشُّعَرَاء : 23 ] إِلَّا بِجَوَابِ " مَنْ " وَأَضْرَبَ عَنْ جَوَاب " مَا " حِين كَانَ السُّؤَال فَاسِدًا . وَمَعْنَى الْآيَة : مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى خَلْق الْأَشْيَاء الْمُتَقَدِّمَة الذِّكْر كَانَ بِالْعِبَادَةِ أَحَقّ مِمَّنْ هُوَ مَخْلُوق لَا يَضُرّ وَلَا يَنْفَع ; " هَذَا خَلْق اللَّه فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونه " [ لُقْمَان : 11 ] " أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الْأَرْض " [ فَاطِر : 40 ] .
وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌسورة النحل الآية رقم 18
أَيْ إِنْ تَعُدُّوا نِعَم اللَّه . " لَا تُحْصُوهَا " وَلَا تُطِيقُوا عَدَّهَا , وَلَا تَقُومُوا بِحَصْرِهَا لِكَثْرَتِهَا , كَالسَّمْعِ وَالْبَصَر وَتَقْوِيم الصُّوَر إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ الْعَافِيَة وَالرِّزْق ; نِعَم لَا تُحْصَى وَهَذِهِ النِّعَم مِنْ اللَّه , فَلِمَ تُبَدِّلُونَ نِعْمَة اللَّه بِالْكُفْرِ ؟ ! وَهَلَّا اِسْتَعَنْتُمْ بِهَا عَلَى الطَّاعَة ؟ !
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَسورة النحل الآية رقم 19
أَيْ مَا تُبْطِنُونَهُ وَمَا تُظْهِرُونَهُ . وَقَدْ تَقَدَّمَ جَمِيع هَذَا مُسْتَوْفًى
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَسورة النحل الآية رقم 20
قَوْله تَعَالَى " وَاَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُون اللَّه " قِرَاءَة الْعَامَّة " تَدْعُونَ " بِالتَّاءِ لِأَنَّ مَا قَبْله خِطَاب . رَوَى أَبُو بَكْر عَنْ عَاصِم وَهُبَيْرَة عَنْ حَفْص " يَدْعُونَ " بِالْيَاءِ , وَهِيَ قِرَاءَة يَعْقُوب . فَأَمَّا قَوْله : " مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ " فَكُلّهمْ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَاب ; إِلَّا مَا رَوَى هُبَيْرَة عَنْ حَفْص عَنْ عَاصِم أَنَّهُ قَرَأَ بِالْيَاءِ . " لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا " أَيْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى خَلْق شَيْء " وَهُمْ يُخْلَقُونَ " .
أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَسورة النحل الآية رقم 21
أَيْ هُمْ أَمْوَات , يَعْنِي الْأَصْنَام , لَا أَرْوَاح فِيهَا وَلَا تَسْمَع وَلَا تُبْصِر , أَيْ هِيَ جَمَادَات فَكَيْفَ تَعْبُدُونَهَا وَأَنْتُمْ أَفْضَل مِنْهَا بِالْحَيَاةِ .



" وَمَا يَشْعُرُونَ " يَعْنِي الْأَصْنَام . " أَيَّانَ يُبْعَثُونَ " وَقَرَأَ السُّلَمِيّ , " إِيَّان " بِكَسْرِ الْهَمْزَة , وَهُمَا لُغَتَانِ , مَوْضِعه نُصِبَ ب " يُبْعَثُونَ " وَهِيَ فِي مَعْنَى الِاسْتِفْهَام . وَالْمَعْنَى : لَا يَدْرُونَ مَتَى يُبْعَثُونَ . وَعَبَّرَ عَنْهَا كَمَا عَبَّرَ عَنْ الْآدَمِيِّينَ ; لِأَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهَا تَعْقِل عَنْهُمْ وَتَعْلَم وَتَشْفَع لَهُمْ عِنْد اللَّه تَعَالَى , فَجَرَى خِطَابهمْ عَلَى ذَلِكَ . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ اللَّه يَبْعَث الْأَصْنَام يَوْم الْقِيَامَة وَلَهَا أَرْوَاح فَتَتَبَرَّأ مِنْ عِبَادَتهمْ , وَهِيَ فِي الدُّنْيَا جَمَاد لَا تَعْلَم مَتَى تُبْعَث . قَالَ اِبْن عَبَّاس ; تُبْعَث الْأَصْنَام وَتُرَكَّب فِيهَا الْأَرْوَاح وَمَعَهَا شَيَاطِينهَا فَيَتَبَرَّءُونَ مِنْ عَبَدَتهَا , ثُمَّ يُؤْمَر بِالشَّيَاطِينِ وَالْمُشْرِكِينَ إِلَى النَّار . وَقِيلَ : إِنَّ الْأَصْنَام تُطْرَح فِي النَّار مَعَ عَبَدَتهَا يَوْم الْقِيَامَة ; دَلِيله " إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُون اللَّه حَصَب جَهَنَّم " [ الْأَنْبِيَاء : 98 ] . وَقِيلَ : تَمَّ الْكَلَام عِنْد قَوْله : " لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ " ثُمَّ اِبْتَدَأَ فَوَصَفَ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ أَمْوَات , وَهَذَا الْمَوْت مَوْت كُفْر . " وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ " أَيْ وَمَا يَدْرِي الْكُفَّار مَتَى يُبْعَثُونَ , أَيْ وَقْت الْبَعْث ; لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ حَثَى يَسْتَعِدُّوا لِلِقَاءِ اللَّه وَقِيلَ : أَيْ وَمَا يُدْرِيهِمْ مَتَى السَّاعَة , وَلَعَلَّهَا تَكُون قَرِيبًا .
إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَسورة النحل الآية رقم 22
لَمَّا بَيَّنَ اِسْتِحَالَة الْإِشْرَاك بِاَللَّهِ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْمَعْبُود وَاحِد لَا رَبّ غَيْره وَلَا مَعْبُود سِوَاهُ .


أَيْ لَا تَقْبَل الْوَعْظ وَلَا يَنْفَع فِيهَا الذِّكْر , وَهَذَا رَدّ عَلَى الْقَدَرِيَّة .


مُتَكَبِّرُونَ مُتَعَظِّمُونَ عَنْ قَبُول الْحَقّ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الْبَقَرَة " مَعْنَى الِاسْتِكْبَار
لاَ جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَسورة النحل الآية رقم 23
أَيْ مِنْ الْقَوْل وَالْعَمَل فَيُجَازِيهِمْ . قَالَ الْخَلِيل : " لَا جَرَمَ " كَلِمَة تَحْقِيق وَلَا تَكُون إِلَّا جَوَابًا ; يُقَال : فَعَلُوا ذَلِكَ ; فَيُقَال : لَا جَرَمَ سَيَنْدَمُونَ . أَيْ حَقًّا أَنَّ لَهُمْ النَّار . وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِي هَذَا فِي " هُود " مُسْتَوْفًى



أَيْ لَا يُثِيبهُمْ وَلَا يُثْنِي عَلَيْهِمْ . وَعَنْ الْحُسَيْن بْن عَلِيّ أَنَّهُ مَرَّ بِمَسَاكِين قَدْ قَدَّمُوا كِسَرًا بَيْنهمْ وَهُمْ يَأْكُلُونَ فَقَالُوا : الْغِذَاء يَا أَبَا عَبْد اللَّه , فَنَزَلَ وَجَلَسَ مَعَهُمْ وَقَالَ : " إِنَّهُ لَا يُحِبّ الْمُسْتَكْبِرِينَ " فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ : قَدْ أَجَبْتُكُمْ فَأَجِيبُونِي ; فَقَامُوا مَعَهُ إِلَى مَنْزِله فَأَطْعَمَهُمْ وَسَقَاهُمْ وَأَعْطَاهُمْ وَانْصَرَفُوا . قَالَ الْعُلَمَاء . وَكُلّ ذَنْب يُمْكِن التَّسَتُّر مِنْهُ وَإِخْفَاؤُهُ إِلَّا الْكِبْر ; فَإِنَّهُ فِسْق يَلْزَمهُ الْإِعْلَان , وَهُوَ أَصْل الْعِصْيَان كُلّه . وَفِي الْحَدِيث الصَّحِيح ( إِنَّ الْمُسْتَكْبِرِينَ يُحْشَرُونَ أَمْثَال الذَّرّ يَوْم الْقِيَامَة يَطَؤُهُمْ النَّاس بِأَقْدَامِهِمْ لِتَكَبُّرهمْ ) . أَوْ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( تُصَغَّر لَهُمْ أَجْسَامهمْ فِي الْمَحْشَر حَتَّى يَضُرّهُمْ صِغَرهَا وَتُعَظَّم لَهُمْ فِي النَّار حَتَّى يَضُرّهُمْ عِظَمهَا ) .
وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَسورة النحل الآية رقم 24
قَوْله تَعَالَى " وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبّكُمْ " يَعْنِي وَإِذَا قِيلَ لِمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْره مِمَّنْ لَا يُؤْمِن بِالْآخِرَةِ وَقُلُوبهمْ مُنْكِرَة بِالْبَعْثِ " مَاذَا أَنْزَلَ رَبّكُمْ " . قِيلَ : الْقَائِل النَّضْر بْن الْحَارِث , وَأَنَّ الْآيَة نَزَلَتْ فِيهِ , وَكَانَ خَرَجَ إِلَى الْحِيرَة فَاشْتَرَى أَحَادِيث " كَلَيْلَة وَدِمْنَة " فَكَانَ يَقْرَأ عَلَى قُرَيْش وَيَقُول : مَا يَقْرَأ مُحَمَّد عَلَى أَصْحَابه إِلَّا أَسَاطِير الْأَوَّلِينَ ; أَيْ لَيْسَ هُوَ مِنْ تَنْزِيل رَبّنَا . وَقِيلَ : إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمْ الْقَائِلُونَ لَهُمْ اِخْتِبَارًا فَأَجَابُوا بِقَوْلِهِمْ : " أَسَاطِير الْأَوَّلِينَ " فَأَقَرُّوا بِإِنْكَارِ شَيْء هُوَ أَسَاطِير الْأَوَّلِينَ . وَالْأَسَاطِير : الْأَبَاطِيل وَالتُّرَّهَات . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْأَنْعَام وَالْقَوْل فِي " مَاذَا أَنْزَلَ رَبّكُمْ " كَالْقَوْلِ فِي " مَاذَا يُنْفِقُونَ " [ الْبَقَرَة : 215 ] وَقَوْله : " أَسَاطِير الْأَوَّلِينَ " . خَبَر اِبْتِدَاء مَحْذُوف , التَّقْدِير : الَّذِي أَنْزَلَهُ أَسَاطِير الْأَوَّلِينَ .
لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَسورة النحل الآية رقم 25
قِيلَ : هِيَ لَام كَيٍّ , وَهِيَ مُتَعَلِّقَة بِمَا قَبْلهَا . وَقِيلَ : لَام الْعَاقِبَة , كَقَوْلِهِ : " لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا " [ الْقَصَص : 8 ] . أَيْ قَوْلهمْ فِي الْقُرْآن وَالنَّبِيّ أَدَّاهُمْ إِلَى أَنْ حَمَلُوا أَوْزَارهمْ ; أَيْ ذُنُوبهمْ . وَقِيلَ : هِيَ لَام الْأَمْر , وَالْمَعْنَى التَّهَدُّد .


لَمْ يَتْرُكُوا مِنْهَا شَيْئًا لِنَكْبَةٍ أَصَابَتْهُمْ فِي الدُّنْيَا بِكُفْرِهِمْ .


قَالَ مُجَاهِد : يَحْمِلُونَ وِزْر مَنْ أَضَلُّوهُ وَلَا يَنْقُص مِنْ إِثْم الْمُضَلّ شَيْء . وَفِي الْخَبَر ( أَيّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى ضَلَالَة فَاتُّبِعَ فَإِنَّ عَلَيْهِ مِثْل أَوْزَار مَنْ اِتَّبَعَهُ مِنْ غَيْر أَنْ يَنْقُص مِنْ أَوْزَارهمْ شَيْء وَأَيّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى هُدًى فَاتُّبِعَ فَلَهُ مِثْل أُجُورهمْ مِنْ غَيْر أَنْ يَنْقُص مِنْ أُجُورهمْ شَيْء ) خَرَّجَهُ مُسْلِم بِمَعْنَاهُ . و " مِنْ " لِلْجِنْسِ لَا لِلتَّبْعِيضِ ; فَدُعَاة الضَّلَالَة عَلَيْهِمْ مِثْل أَوْزَار مَنْ اِتَّبَعَهُمْ .


أَيْ يُضِلُّونَ الْخَلْق جَهْلًا مِنْهُمْ بِمَا يَلْزَمهُمْ مِنْ الْآثَام ; إِذْ لَوْ عَلِمُوا لَمَا أَضَلُّوا .


أَيْ بِئْسَ الْوِزْر الَّذِي يَحْمِلُونَهُ . وَنَظِير هَذِهِ الْآيَة " وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالهمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالهمْ " [ الْعَنْكَبُوت : 13 ] وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِر " الْأَنْعَام " بَيَان قَوْله : " وَلَا تَزِر وَازِرَة وِزْر أُخْرَى " [ الْأَنْعَام : 164 ] .
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَسورة النحل الآية رقم 26
أَيْ سَبَقَهُمْ بِالْكُفْرِ أَقْوَام مَعَ الرُّسُل الْمُتَقَدِّمِينَ فَكَانَتْ الْعَاقِبَة الْجَمِيلَة لِلرُّسُلِ .


قَالَ اِبْن عَبَّاس وَزَيْد بْن أَسْلَمَ وَغَيْرهمَا : إِنَّهُ النُّمْرُود بْن كَنْعَان وَقَوْمه , أَرَادُوا صُعُود السَّمَاء وَقِتَال أَهْله ; فَبَنَوْا الصَّرْح لِيَصْعَدُوا مِنْهُ بَعْد أَنْ صَنَعَ بِالنُّسُورِ مَا صَنَعَ , فَخَرَّ . كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي آخِر سُورَة [ إِبْرَاهِيم ] . وَمَعْنَى " فَأَتَى اللَّه بُنْيَانهمْ " أَيْ أَتَى أَمْره الْبُنْيَان , إِمَّا زَلْزَلَة أَوْ رِيحًا فَخَرَّبَتْهُ . قَالَ اِبْن عَبَّاس وَوَهْب : كَانَ طُول الصَّرْح فِي السَّمَاء خَمْسَة آلَاف ذِرَاع , وَعَرْضه ثَلَاثَة آلَاف . وَقَالَ كَعْب وَمُقَاتِل : كَانَ طُول فَرْسَخَيْنِ , فَهَبَّتْ رِيح فَأَلْقَتْ رَأْسه فِي الْبَحْر وَخَرَّ عَلَيْهِمْ الْبَاقِي . وَلَمَّا سَقَطَ الصَّرْح تَبَلْبَلَتْ أَلْسُن النَّاس مِنْ الْفَزَع يَوْمئِذٍ , فَتَكَلَّمُوا بِثَلَاثَةٍ وَسَبْعِينَ لِسَانًا , فَلِذَلِكَ سُمِّيَ بَابِل , وَمَا كَانَ لِسَان قَبْل ذَلِكَ إِلَّا السُّرْيَانِيَّة . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي " الْبَقَرَة " وَقَرَأَ اِبْن هُرْمُز وَابْن مُحَيْصِن " السُّقُف " بِضَمِّ السِّين وَالْقَاف جَمِيعًا . وَضَمَّ مُجَاهِد السِّين وَأَسْكَنَ الْقَاف تَخْفِيفًا ; كَمَا تَقَدَّمَ فِي " وَبِالنَّجْمِ " فِي الْوَجْهَيْنِ . وَالْأَشْبَه أَنْ يَكُون جَمْع سَقْف . وَالْقَوَاعِد : أُصُول الْبِنَاء , وَإِذَا اِخْتَلَّتْ الْقَوَاعِد سَقَطَ الْبِنَاء . وَقَوْله : " مِنْ فَوْقهمْ " قَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ : وُكِّدَ لِيُعْلِمك أَنَّهُمْ كَانُوا حَالِّينَ تَحْته . وَالْعَرَب تَقُول : خَرَّ عَلَيْنَا سَقْف وَوَقَعَ عَلَيْنَا حَائِط إِذَا كَانَ يَمْلِكهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَقَعَ عَلَيْهِ . فَجَاءَ بِقَوْلِهِ : " مِنْ فَوْقهمْ " لِيُخْرِج هَذَا الشَّكّ الَّذِي فِي كَلَام الْعَرَب فَقَالَ : " مِنْ فَوْقهمْ " أَيْ عَلَيْهِمْ وَقَعَ وَكَانُوا تَحْته فَهَلَكُوا وَمَا أُفْلِتُوا . وَقِيلَ : إِنَّ الْمُرَاد بِالسَّقْفِ السَّمَاء ; أَيْ إِنَّ الْعَذَاب أَتَاهُمْ مِنْ السَّمَاء الَّتِي هِيَ فَوْقهمْ ; قَالَ اِبْن عَبَّاس . وَقِيلَ : إِنَّ قَوْله : " فَأَتَى اللَّه بُنْيَانهمْ مِنْ الْقَوَاعِد " تَمْثِيل , وَالْمَعْنَى : أَهْلَكَهُمْ فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَقَطَ عَلَيْهِ بُنْيَانه . وَقِيلَ : الْمَعْنَى أَحْبَطَ اللَّه أَعْمَالهمْ فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَقَطَ بُنْيَانه . وَقِيلَ : الْمَعْنَى أَبْطَلَ مَكْرهمْ وَتَدْبِيرهمْ فَهَلَكُوا كَمَا هَلَكَ مَنْ نَزَلَ عَلَيْهِ السَّقْف مِنْ فَوْقه . وَعَلَى هَذَا اُخْتُلِفَ فِي الَّذِينَ خَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْف ; فَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَابْن زَيْد مَا تَقَدَّمَ . وَقِيلَ : إِنَّهُ بُخْتَنَصَّر وَأَصْحَابه ; قَالَ بَعْض الْمُفَسِّرِينَ . وَقِيلَ : الْمُرَاد الْمُقْتَسِمُونَ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللَّه فِي سُورَة الْحِجْر ; قَالَ الْكَلْبِيّ . وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيل يَخْرُج وَجْه التَّمْثِيل , وَاَللَّه أَعْلَم .


أَيْ مِنْ حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّهُمْ فِي أَمَان . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : يَعْنِي الْبَعُوضَة الَّتِي أَهْلَكَ اللَّه بِهَا نُمْرُودًا .
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَسورة النحل الآية رقم 27
أَيْ يَفْضَحهُمْ بِالْعَذَابِ وَيُذِلّهُمْ بِهِ وَيُهِينهُمْ


أَيْ بِزَعْمِكُمْ وَفِي دَعْوَاكُمْ , أَيْ الْآلِهَة الَّتِي عَبَدْتُمْ دُونِي , وَهُوَ سُؤَال تَوْبِيخ . وَقَرَأَ اِبْن كَثِير " شُرَكَايَ " بِيَاءٍ مَفْتُوحَة مِنْ غَيْر هَمْز , وَالْبَاقُونَ بِالْهَمْزِ .


أَيْ تُعَادُونَ أَنْبِيَائِي بِسَبَبِهِمْ , فَلْيَدْفَعُوا عَنْكُمْ هَذَا الْعَذَاب . وَقَرَأَ نَافِع " تُشَاقُّونِ " بِكَسْرِ النُّون عَلَى الْإِضَافَة , أَيْ تُعَادُونَنِي فِيهِمْ . وَفَتَحَهَا الْبَاقُونَ .


قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَيْ الْمَلَائِكَة . وَقِيلَ الْمُؤْمِنُونَ .


أَيْ الْهَوَان وَالذُّلّ يَوْم الْقِيَامَة .


أَيْ الْعَذَاب . " عَلَى الْكَافِرِينَ " .
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَسورة النحل الآية رقم 28
هَذَا مِنْ صِفَة الْكَافِرِينَ . و " ظَالِمِي أَنْفُسهمْ " نُصِبَ عَلَى الْحَال ; أَيْ وَهُمْ ظَالِمُونَ أَنْفُسهمْ إِذْ أَوْرَدُوهَا مَوَارِد الْهَلَاك . " فَأَلْقَوْا السَّلَم " أَيْ الِاسْتِسْلَام . أَيْ أَقَرُّوا لِلَّهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَانْقَادُوا عِنْد الْمَوْت وَقَالُوا : " مَا كُنَّا نَعْمَل مِنْ سُوء " أَيْ مِنْ شِرْك . فَقَالَتْ لَهُمْ الْمَلَائِكَة : " بَلَى " قَدْ كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ الْأَسْوَاء . " إِنَّ اللَّه عَلِيم بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ " وَقَالَ عِكْرِمَة . نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة بِالْمَدِينَةِ فِي قَوْم أَسْلَمُوا بِمَكَّة وَلَمْ يُهَاجِرُوا , فَأَخْرَجَتْهُمْ قُرَيْش إِلَى بَدْر كُرْهًا فَقُتِلُوا بِهَا ; فَقَالَ : " الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَة " بِقَبْضِ أَرْوَاحهمْ . " ظَالِمِي أَنْفُسهمْ " فِي مَقَامهمْ بِمَكَّة وَتَرْكهمْ الْهِجْرَة . " فَأَلْقَوْا السَّلَم " يَعْنِي فِي خُرُوجهمْ مَعَهُمْ . وَفِيهِ ثَلَاثَة أَوْجُه : أَحَدهَا : أَنَّهُ الصُّلْح ; قَالَهُ الْأَخْفَش . الثَّانِي : الِاسْتِسْلَام ; قَالَهُ قُطْرُب . الثَّالِث : الْخُضُوع ; قَالَهُ مُقَاتِل . " مَا كُنَّا نَعْمَل مِنْ سُوء " يَعْنِي مِنْ كُفْر . " بَلَى إِنَّ اللَّه عَلِيم بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ " يَعْنِي أَنَّ أَعْمَالهمْ أَعْمَال الْكُفَّار . وَقِيلَ : إِنَّ بَعْض الْمُسْلِمِينَ لَمَّا رَأَوْا قِلَّة الْمُؤْمِنِينَ رَجَعُوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ ; فَنَزَلَتْ فِيهِمْ . وَعَلَى الْقَوْل الْأَوَّل فَلَا يَخْرُج كَافِر وَلَا مُنَافِق مِنْ الدُّنْيَا حَتَّى يَنْقَاد وَيَسْتَسْلِم , وَيَخْضَع وَيَذِلّ , وَلَا تَنْفَعهُمْ حِينَئِذٍ تَوْبَة وَلَا إِيمَان ; كَمَا قَالَ : " فَلَمْ يَكُ يَنْفَعهُمْ إِيمَانهمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسنَا " [ غَافِر : 85 ] . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى وَتَقَدَّمَ فِي " الْأَنْفَال " إِنَّ الْكُفَّار يُتَوَفَّوْنَ بِالضَّرْبِ وَالْهَوَان وَكَذَلِكَ فِي " الْأَنْعَام " وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَاب التَّذْكِرَة
فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَسورة النحل الآية رقم 29
أَيْ يُقَال لَهُمْ ذَلِكَ عِنْد الْمَوْت . وَقِيلَ : هُوَ بِشَارَة لَهُمْ بِعَذَابِ الْقَبْر ; إِذْ هُوَ بَاب مِنْ أَبْوَاب جَهَنَّم لِلْكَافِرِينَ . وَقِيلَ : لَا تَصِل أَهْل الدَّرَكَة الثَّانِيَة إِلَيْهَا مَثَلًا إِلَّا بِدُخُولِ الدَّرَكَة الْأُولَى ثُمَّ الثَّانِيَة ثُمَّ الثَّالِثَة هَكَذَا . وَقِيلَ : لِكُلِّ دَرَكَة بَاب مُفْرَد , فَالْبَعْض يَدْخُلُونَ مِنْ بَاب وَالْبَعْض يَدْخُلُونَ مِنْ بَاب آخَر . فَاَللَّه أَعْلَم .


أَيْ مَاكِثِينَ فِيهَا .


أَيْ مَقَام


الَّذِينَ تَكَبَّرُوا عَنْ الْإِيمَان وَعَنْ عِبَادَة اللَّه تَعَالَى , وَقَدْ بَيَّنَهُمْ بِقَوْلِهِ الْحَقّ : " إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه يَسْتَكْبِرُونَ " [ الصَّافَّات : 35 ] .
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَسورة النحل الآية رقم 30
أَيْ قَالُوا : أَنْزَلَ خَيْرًا ; وَتَمَّ الْكَلَام . و " مَاذَا " عَلَى هَذَا اِسْم وَاحِد . وَكَانَ يَرِد الرَّجُل مِنْ الْعَرَب مَكَّة فِي أَيَّام الْمَوْسِم فَيَسْأَل الْمُشْرِكِينَ عَنْ مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام فَيَقُولُونَ : سَاحِر أَوْ شَاعِر أَوْ كَاهِن أَوْ مَجْنُون . وَيَسْأَل الْمُؤْمِنِينَ فَيَقُولُونَ : أَنْزَلَ اللَّه عَلَيْهِ الْخَيْر وَالْهُدَى , وَالْمُرَاد الْقُرْآن . وَقِيلَ : إِنَّ هَذَا يُقَال لِأَهْلِ الْإِيمَان يَوْم الْقِيَامَة . قَالَ الثَّعْلَبِيّ : فَإِنْ قِيلَ : لِمَ اِرْتَفَعَ الْجَوَاب فِي قَوْله : " أَسَاطِير الْأَوَّلِينَ " [ النَّحْل : 24 ] وَانْتَصَبَ فِي قَوْله : " خَيْرًا " فَالْجَوَاب أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالتَّنْزِيلِ , فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا : الَّذِي يَقُولهُ مُحَمَّد هُوَ أَسَاطِير الْأَوَّلِينَ . وَالْمُؤْمِنِينَ آمَنُوا بِالنُّزُولِ فَقَالُوا : أَنْزَلَ خَيْرًا , وَهَذَا مَفْهُوم مَعْنَاهُ مِنْ الْإِعْرَاب , وَالْحَمْد لِلَّهِ .



قِيلَ : هُوَ مِنْ كَلَام اللَّه عَزَّ وَجَلَّ . وَقِيلَ : هُوَ مِنْ جُمْلَة كَلَام الَّذِينَ اِتَّقَوْا . وَالْحَسَنَة هُنَا : الْجَنَّة ; أَيْ مَنْ أَطَاعَ اللَّه فَلَهُ الْجَنَّة غَدًا . وَقِيلَ : " لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا " الْيَوْم حَسَنَة فِي الدُّنْيَا مِنْ النَّصْر وَالْفَتْح وَالْغَنِيمَة


أَيْ مَا يَنَالُونَ فِي الْآخِرَة مِنْ ثَوَاب الْجَنَّة خَيْر وَأَعْظَم مِنْ دَار الدُّنْيَا ; لِفَنَائِهَا وَبَقَاء الْآخِرَة .


فِيهِ وَجْهَانِ : قَالَ الْحَسَن : الْمَعْنَى وَلَنِعْمَ دَار الْمُتَّقِينَ الدُّنْيَا ; لِأَنَّهُمْ نَالُوا بِالْعَمَلِ فِيهَا ثَوَاب الْآخِرَة وَدُخُول الْجَنَّة . وَقِيلَ : الْمَعْنَى وَلَنِعْمَ دَار الْمُتَّقِينَ الْآخِرَة ; وَهَذَا قَوْل الْجُمْهُور . وَعَلَى هَذَا تَكُون " جَنَّات عَدْن " بَدَلًا مِنْ الدَّار فَلِذَلِكَ اِرْتَفَعَ .
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5