الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5الصفحة 6الصفحة 7الصفحة 8الصفحة 9الصفحة 10
المسورة البقرة الآية رقم 1
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى { الم } قَالَ أَبُو جَعْفَر : اخْتَلَفَتْ تَرَاجِمَة الْقُرْآن فِي تَأْوِيل قَوْل اللَّه تَعَالَى ذِكْره : { الم } فَقَالَ بَعْضهمْ : هُوَ اسْم مِنْ أَسْمَاء الْقُرْآن . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 184 - حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر , عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله : { الم } قَالَ : اسْم مِنْ أَسَمَاء الْقُرْآن 185 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْن إبْرَاهِيم الْآمِلِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَة مُوسَى بْن مَسْعُود قَالَ : حَدَّثَنَا شِبْل عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد قَالَ : { الم } اسْم مِنْ أَسَمَاء الْقُرْآن 186 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم بْن الْحَسَن , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن دَاوُد , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ قَالَ : { الم } اسْم مِنْ أَسَمَاء الْقُرْآن . وَقَالَ بَعْضهمْ : هُوَ فَوَاتِح يَفْتَح اللَّه بِهَا الْقُرْآن . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 187 - حَدَّثَنِي هَارُونَ بْن إدْرِيس الْأَصَمّ الْكُوفِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن مُحَمَّد الْمُحَارِبِيّ , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ مُجَاهِد , قَالَ : { الم } فَوَاتِح يَفْتَح اللَّه بِهَا الْقُرْآن . حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن حَازِم الْغِفَارِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْم , قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَان , عَنْ مُجَاهِد , قَالَ : { الم } فَوَاتِح . حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : حَدَّثَنَا إسْحَاق بْن الْحَجَّاج , عَنْ يَحْيَى بْن آدَم , عَنْ سُفْيَان , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد , قَالَ : { الم } و { حم } و { المص } و { ص } فَوَاتِح افْتَتَحَ اللَّه بِهَا . حَدَّثَنَا الْقَاسِم بْن الْحَسَن , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ مُجَاهِد مِثْل حَدِيث هَارُونَ بْن إدْرِيس . وَقَالَ بَعْضهمْ : هُوَ اسْم لِلسُّورَةِ . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 188 - حَدَّثَنِي يُونُس بْن عَبْد الْأَعْلَى , قَالَ : أَنْبَأَنَا عَبْد اللَّه بْن وَهْب , قَالَ : سَأَلْت عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد بْن أُسْلَم , عَنْ قَوْل اللَّه : { الم ذَلِكَ الْكِتَاب } و { الم تَنْزِيل } و { المر تِلْكَ } فَقَالَ : قَالَ أَبِي : إنَّمَا هِيَ أَسَمَاء السُّوَر . وَقَالَ بَعْضهمْ : هُوَ اسْم اللَّه الْأَعْظَم . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 189 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن مَهْدِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا شُعْبَة , قَالَ : سَأَلْت السُّدِّيّ عَنْ { حم } و { طسم } و { الم } فَقَالَ قَالَ ابْن عَبَّاس : هُوَ اسْم اللَّه الْأَعْظَم . حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو النُّعْمَان , قَالَ : حَدَّثَنَا شُعْبَة عَنْ إسْمَاعِيل السُّدِّيّ , عَنْ مُرَّةالْهَمْدَانِيّ , قَالَ : قَالَ عَبْد اللَّه فَذَكَر نَحْوه . 190 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ : حَدَّثَنَا إسْحَاق بْن الْحَجَّاج , عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن مُوسَى , عَنْ إسْمَاعِيل , عَنْ الشَّعْبِيّ قَالَ : فَوَاتِح السُّوَر مِنْ أَسَمَاء اللَّه . وَقَالَ بَعْضهمْ : هُوَ قَسَم أَقْسَمَ اللَّه بِهِ وَهِيَ مِنْ أَسْمَائِهِ . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 191 - حَدَّثَنِي يَحْيَى بْن عُثْمَان بْن صَالِح السَّهْمِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن صَالِح , قَالَ : حَدَّثَنِي مُعَاوِيَة بْن صَالِح , عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة , عَنْ ابْن عَبَّاس , قَالَ : هُوَ قَسَم أَقَسَمَ اللَّه بِهِ وَهُوَ مِنْ أَسَمَاء اللَّه . 192 حَدَّثَنَا يَعْقُوب بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن عُلَيَّة , قَالَ : حَدَّثَنَا خَالِد الْحِذَاء عَنْ عِكْرِمَة قَالَ : { الم } قَسَم . وَقَالَ بَعْضهمْ : هُوَ حُرُوف مُقَطَّعَة مِنْ أَسَمَاء وَأَفْعَال , كُلّ حَرْف مِنْ ذَلِكَ لِمَعْنًى غَيْر مَعْنَى الْحَرْف الْآخَر . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 193 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا وَكِيع , وَحَدَّثَنَا سُفْيَان بِنَّ وَكِيع , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن أَبِي شَرِيك , عَنْ عَطَاء بْن السَّائِب , عَنْ أَبِي الضُّحَى , عَنْ ابْن عَبَّاس : { الم } قَالَ : أَنَا اللَّه أَعْلَم . 194 - وَحَدَّثَنَا عَنْ أَبِي عُبَيْد قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو الْيَقِظَانِ , عَنْ عَطَاء بْن السَّائِب , عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , قَالَ قَوْله : { الم } قَالَ : أَنَا اللَّه أَعْلَم . 195 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ الْهَمْدَانِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو بْن حَمَّاد الْقَنَّاد , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسِبَاط بْن نَصْر , عَنْ إسْمَاعِيل السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة الْهَمْدَانِيّ , عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الم } قَالَ : أَمَّا : { الم } فَهُوَ حَرْف اُشْتُقَّ مِنْ حُرُوف هِجَاء أَسَمَاء اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ . 196 حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مَعْمَر , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبَّاس بْن زِيَاد الْبَاهِلِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا شُعْبَة , عَنْ أَبِي بِشْر , عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله : { الم } و { حم } و { ن } قَالَ : اسْم مُقَطَّع . وَقَالَ بَعْضهمْ : هِيَ حُرُوف هِجَاء مَوْضُوع . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 197 - حَدَّثَنَا عَنْ مَنْصُور بْن أَبِي نُوَيْرَة , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيد الْمُؤَدِّب , عَنْ خَصِيف , عَنْ مُجَاهِد , قَالَ : فَوَاتِح السُّوَر كُلّهَا { ق } و { ص } و { حم } و { طسم } و { الر } وَغَيْر ذَلِك هِجَاء مَوْضُوع . وَقَالَ بَعْضهمْ : هِيَ حُرُوف يَشْتَمِل كُلّ حَرْف مِنْهَا عَلَى مَعَانٍ شَتَّى مُخْتَلِفَة ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 198 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْن إبْرَاهِيم الطَّبَرِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا إسْحَاق بْن الْحَجَّاج , عَنْ عَبْد اللَّه بْن أَبِي جَعْفَر الرَّازِّي قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي , عَنْ الرَّبِيع بْن أَنْسَ فِي قَوْل اللَّه تَعَالَى ذِكْره : { الم } قَالَ : هَذِهِ الْأَحْرُف مِنْ التِّسْعَة وَالْعِشْرِينَ حَرْفًا , دَارَتْ فِيهَا الْأَلْسَن كُلُّهَا , لَيْسَ مِنْهَا حَرْف إلَّا وَهُوَ مِفْتَاح اسْم مِنْ أَسْمَائِهِ , وَلَيْسَ مِنْهَا حَرْف إلَّا وَهُوَ فِي آلَائِه وَبَلَائِهِ , وَلَيْسَ مِنْهَا حَرْف إلَّا وَهُوَ مُدَّة قَوْم وَآجَالهمْ . وَقَالَ عِيسَى ابْن مَرْيَم : " وَعَجِيب يَنْطِقُونَ فِي أَسْمَائِهِ , وَيَعِيشُونَ فِي رِزْقه , فَكَيْف يَكْفُرُونَ " ؟ قَالَ : الْأَلِف : مِفْتَاح اسْمه " اللَّه " , وَاللَّام : مِفْتَاح اسْمه " لَطِيف " , وَالْمِيم : مِفْتَاح اسْمه " مَجِيد " ; وَالْأَلِف : آلَاء اللَّه , وَاللَّام : لُطْفه , وَالْمِيم : مَجْده ; الْأَلِف : سَنَة , وَاللَّام ثَلَاثُونَ سَنَة , وَالْمِيم : أَرْبَعُونَ سَنَة . حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا حِكَام عَنْ أَبِي جَعْفَر , عَنْ الرَّبِيع بِنَحْوِهِ . وَقَالَ بَعْضهمْ : هِيَ حُرُوف مِنْ حِسَاب الْجُمَل , كَرِهْنَا ذِكْر الَّذِي حُكِيَ ذَلِكَ عَنْهُ , إذْ كَانَ الَّذِي رَوَاهُ مِمَّنْ لَا يُعْتَمَد عَلَى رِوَايَته وَنَقْله , وَقَدْ مَضَتْ الرِّوَايَة بِنَظِيرِ ذَلِكَ مِنْ الْقَوْل عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس . وَقَالَ بَعْضهمْ : لِكُلِّ كِتَاب سِرّ , وَسِرّ الْقُرْآن فَوَاتِحه . وَأَمَّا أَهْل الْعَرَبِيَّة فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى ذَلِكَ , فَقَالَ بَعْضهمْ : هِيَ حُرُوف مِنْ حُرُوف الْمُعْجَم اُسْتُغْنِيَ بِذِكْرِ مَا ذُكِرَ مِنْهَا فِي أَوَائِل السُّوَر عَنْ ذِكْر بِوَاقِيهَا الَّتِي هِيَ تَتِمَّة الثَّمَانِيَة وَالْعِشْرِينَ حَرْفًا , كَمَا اسْتَغْنَى الْمُخْبِر عَمَّنْ أَخْبَرَ عَنْهُ أَنَّهُ فِي حُرُوف الْمُعْجَم الثَّمَانِيَة وَالْعِشْرِينَ بِذِكْرِ " أ ب ت ث " عَنْ ذِكْر بِوَاقِي حُرُوفهَا الَّتِي هِيَ تَتِمَّة الثَّمَانِيَة وَالْعِشْرِينَ , قَالَ : وَلِذَلِكَ رَفَعَ { ذَلِكَ الْكِتَابُ } لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَام : الْأَلِف وَاللَّام وَالْمِيم مِنْ الْحُرُوف الْمُقَطَّعَة { ذَلِكَ الْكِتَاب } الَّذِي أَنَزَلْته إلَيْك مَجْمُوعًا { لَا رَيْبَ فِيهِ . .. } . فَإِنْ قَالَ قَائِل : فَإِنَّ " أ ب ت ث " قَدْ صَارَتْ كَالِاسْمِ فِي حُرُوف الْهِجَاء كَمَا صَارَتْ الْحَمْد اسْمًا لِفَاتِحَةِ الْكِتَاب . قِيلَ لَهُ : لَمَّا كَانَ جَائِزًا أَنْ يَقُول الْقَائِل : ابْنِي فِي " ط ظ " , وَكَانَ مَعْلُومًا بِقِيلِهِ ذَلِك لَوْ قَالَهُ أَنَّهُ يُرِيد الْخَبَر عَنْ ابْنه أَنَّهُ فِي الْحُرُوف الْمُقَطَّعَة , عُلِمَ بِذَلِك أَنَّ " أ ب ت ث " لَيْسَ لَهَا بِاسْمٍ , وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ آثِر فِي الذِّكْر مِنْ سَائِرهَا . قَالَ : وَإِنَّمَا خُولِفَ بَيْن ذِكْر حُرُوف الْمُعْجَم فِي فَوَاتِح السُّوَر , فَذُكِرَتْ فِي أَوَائِلهَا مُخْتَلِفَة , وَذِكْرهَا إذَا ذُكِرَتْ بِأَوَائِلِهَا الَّتِي هِيَ " أ ب ت ث " مُؤْتَلِفَة لِيَفْصِل بَيْن الْخَبَر عَنْهَا , إذَا أُرِيدَ بِذِكْرِ مَا ذُكِرَ مِنْهَا مُخْتَلِفًا الدَّلَالَة عَلَى الْكَلَام الْمُتَّصِل , وَإِذَا أُرِيدَ بِذِكْرِ مَا ذُكِرَ مِنْهَا مُؤْتَلَفًا الدَّلَالَة عَلَى الْحُرُوف الْمُقَطَّعَة بِأَعْيَانِهَا . وَاسْتُشْهِدُوا - الْإِجَازَة قَوْل الْقَائِل : ابْنِي فِي " ط ظ " , وَمَا أَشَبَه ذَلِك مِنْ الْخَبَر عَنْهُ أَنَّهُ فِي حُرُوف الْمُعْجَم , وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ قِيله فِي الْبَيَان يَقُوم مَقَام قَوْله : " ابْنِي فِي أ ب ت ث " بِرِجْزِ بَعْض الرِّجَاز مِنْ بَنِي أَسَد : لَمَّا رَأَيْت أَمْرهَا فِي حُطِّي وَفَنَكَتْ فِي كَذِب وَلَطّ أَخَذْت مِنْهَا بِقُرُونٍ شُمْطٍ فَلَمْ يَزَلْ ضَرْبِي بِهَا وَمُعْطِي حَتَّى عَلَا الرَّأْس دَم يُغَطِّي فَزَعَمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ الْخَبَر عَنْ الْمَرْأَة أَنَّهَا فِي " أبي جاد " , فَأَقَامَ قَوْله : " لَمَّا رَأَيْت أَمْرهَا فِي حُطِّي " مَقَام خَبَره عَنْهَا أَنَّهَا فِي " أبي جاد " , إذْ كَانَ ذَاكَ مِنْ قَوْله يَدُلّ سَامِعه عَلَى مَا يَدُلّهُ عَلَيْهِ قَوْله : لَمَّا رَأَيْت أَمْرهَا فِي أبي جاد . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ اُبْتُدِئَتْ بِذَلِكَ أَوَائِل السُّوَر لِيُفْتَح لِاسْتِمَاعِهِ أَسَمَاع الْمُشْرِكِينَ , إذْ تَوَاصَوْا بِالْإِعْرَاضِ عَنْ الْقُرْآن , حَتَّى إذَا اسْتَمَعُوا لَهُ تُلِيَ عَلَيْهِمْ الْمُؤَلَّف مِنْهُ . وَقَالَ بَعْضهمْ : الْحُرُوف الَّتِي هِيَ فَوَاتِح السُّوَر حُرُوف يَسْتَفْتِح اللَّه بِهَا كَلَامه . فَإِنْ قِيلَ : هَلْ يَكُون مِنْ الْقُرْآن مَا لَيْسَ لَهُ مَعْنًى ؟ فَإِنَّ مَعْنَى هَذَا أَنَّهُ افْتَتَحَ بِهَا لِيُعْلَم أَنَّ السُّورَة الَّتِي قَبْلهَا قَدْ انْقَضَتْ , وَأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ فِي أُخْرَى , فَجَعَلَ هَذَا عَلَامَة انْقِطَاع مَا بَيْنهمَا , وَذَلِكَ فِي كَلَام الْعَرَب يُنْشِد الرَّجُل مِنْهُمْ الشِّعْر فَيَقُول : بَلْ . ... وَبَلْدَة مَا الْإِنْس مِنْ آهَالِهَا وَيَقُول : لَا بَلْ . .. مَا هَاجَ أَحْزَانًا وَشَجْوًا قَدْ شَجَا وَ " بَلْ " لَيْسَتْ مِنْ الْبَيْت وَلَا تَعُدْ فِي وَزْنه , وَلَكِنْ يَقْطَع بِهَا كَلَامًا وَيَسْتَأْنِف الْآخَر . قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَلِكُلِّ قَوْل مِنْ الْأَقْوَال الَّتِي قَالَهَا الَّذِينَ وَصَفْنَا قَوْلهمْ فِي ذَلِكَ وَجْه مَعْرُوف . فَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا : { الم } اسْم مِنْ أَسَمَاء الْقُرْآن , فَلِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ وَجْهَانِ : أَحَدهمَا أَنْ يَكُونُوا أَرَادُوا أَنَّ : { الم } اسْم لِلْقُرْآنِ كَمَا الْفُرْقَان اسْم لَهُ . وَإِذَا كَانَ مَعْنَى قَائِل ذَلِكَ كَذَلِكَ , كَانَ تَأْوِيل قَوْله : { الم } ذَلِكَ الْكِتَاب عَلَى مَعْنَى الْقَسَم ; كَأَنَّهُ قَالَ : وَالْقُرْآن هَذَا الْكِتَاب لَا رِيبَ فِيهِ . وَالْآخَر مِنْهُمَا أَنْ يَكُونُوا أَرَادُوا أَنَّهُ اسْم مِنْ أَسَمَاء السُّورَة الَّتِي تُعْرَف بِهِ كَمَا تُعْرَف سَائِر الْأَشْيَاء بِأَسْمَائِهَا الَّتِي هِيَ لَهَا أَمَارَات تُعْرَف بِهَا , فَيَفْهَم السَّامِع مِنْ الْقَائِل يَقُول : قَرَأْت الْيَوْم { المص } و { ن } أَيْ السُّورَة الَّتِي قَرَأَهَا مِنْ سُوَر الْقُرْآن , كَمَا يُفْهَم عَنْهُ إذَا قَالَ : لَقِيت الْيَوْم عَمْرًا وَزَيْدًا , وَهُمَا بِزَيْدٍ وَعُمَر وَعَارِفَانِ مِنْ الَّذِي لَقِيَ مِنْ النَّاس . وَإِنْ أُشْكِلَ مَعْنَى ذَلِكَ عَلَى امْرِئٍ فَقَالَ : وَكَيْفَ يَجُوز أَنْ يَكُون ذَلِكَ كَذَلِكَ وَنَظَائِر الم المر فِي الْقُرْآن جَمَاعَة مِنْ السُّوَر ؟ وَإِنَّمَا تَكُون الْأَسْمَاء أَمَارَات , إذَا كَانَتْ مُمَيَّزَة بَيْن الْأَشْخَاص , فَأَمَّا إذَا كَانَتْ غَيْر مُمَيَّزَة فَلَيْسَتْ أَمَارَات . قِيلَ : إنَّ الْأَسْمَاء وَإِنْ كَانَتْ قَدْ صَارَتْ لَاشْتَرَاك كَثِير مِنْ النَّاس فِي الْوَاحِد مِنْهَا غَيْر مُمَيَّزَة إلَّا بِمَعَانٍ أُخَر مَعَهَا مِنْ ضَمّ نِسْبَة الْمُسَمَّى بِهَا إلَيْهَا أَوْ نَعْته أَوْ صِفَته بِمَا يُفَرَّق بَيْنه وَبَيْن غَيْره مِنْ أَشْكَالهَا , فَإِنَّهَا وُضِعَتْ ابْتِدَاءً لِلتَّمْيِيزِ لَا شَكَّ ثُمَّ اُحْتِيجَ عِنْد الِاشْتِرَاك إلَى الْمَعَانِي الْمُفَرِّقَة بَيْن الْمُسَمَّى بِهَا . فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي أَسَمَاء السُّوَر , جَعَلَ كُلّ اسْم - فِي قَوْل قَائِل هَذِهِ الْمَقَالَة - أَمَارَة لِلْمُسَمَّى بِهِ مِنْ السُّوَر فَلَمَّا شَارَكَ الْمُسَمَّى بِهِ فِيهِ غَيْره مِنْ سُوَر الْقُرْآن احْتَاجَ الْمُخْبِر عَنْ سُورَة مِنْهَا أَنْ يَضُمَّ إلَى اسْمهَا الْمُسَمَّى بِهِ مِنْ ذَلِكَ مَا يُفَرَّق بِهِ لِلسَّامِعِ بَيْن الْخَبَر عَنْهَا وَعَنْ غَيْرهَا مِنْ نَعْت وَصِفَة أَوْ غَيْر ذَلِكَ , فَيَقُول الْمُخْبِر عَنْ نَفْسه إنَّهُ تَلَا سُورَة الْبَقَرَة إذَا سَمَّاهَا بِاسْمِهَا الَّذِي هُوَ { الم } قَرَأْت { الم } الْبَقَرَة , وَفِي آلِ عِمْرَان : قَرَأْت { الم } آل عُمْرَانِ , و { الم ذَلِكَ الْكِتَاب } و { الم اللَّه لَا إلَه إلَّا هُوَ الْحَيّ الْقَيُّوم } . كَمَا لَوْ أَرَادَ الْخَبَر عَنْ رَجُلَيْنِ اسْم كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا عَمْرو , غَيْر أَنَّ أَحَدهمَا تَمِيمِيّ وَالْآخَر أَزْدِيّ , لَلَزِمَهُ أَنْ يَقُول لِمَنْ أَرَادَ إخْبَاره عَنْهُمَا : لَقِيت عَمْرًا التَّمِيمِيّ وَعَمْرًا الْأَزْدِيّ , إذْ كَانَ لَا فَرْق بَيْنهمَا وَبَيْن غَيْرهمَا مِمَّنْ يُشَارِكهُمَا فِي أَسْمَائِهِمَا إلَّا بِنِسْبَتِهِمَا كَذَلِكَ , فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْل مَنْ تَأَوَّلَ فِي الْحُرُوف الْمُقَطَّعَة أَنَّهَا أَسَمَاء لِلسُّوَرِ . وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا : ذَلِك فَوَاتِح يَفْتَتِح اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِهَا كَلَامه , فَإِنَّهُمْ وَجَّهُوا ذَلِكَ إلَى نَحْو الْمَعْنَى الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَمَّنْ حُكِينَا عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعَرَبِيَّة أَنَّهُ قَالَ : ذَلِكَ أَدِلَّة عَلَى انْقِضَاء سُورَة وَابْتِدَاء فِي أُخْرَى وَعَلَامَة لِانْقِطَاعِ مَا بَيْنهمَا , كَمَا جُعِلَتْ " بَلْ " فِي ابْتِدَاء قَصِيدَة دَلَالَة عَلَى ابْتِدَاء فِيهَا وَانْقِضَاء أُخْرَى قَبْلهَا كَمَا ذَكَرْنَا عَنْ الْعَرَب إذَا أَرَادُوا الِابْتِدَاء فِي إنْشَاد قَصِيد ة , قَالُوا : بَلْ . ... مَا هَاجَ أَحْزَانًا وَشَجْوًا قَدْ شَجَا و " بَلْ " لَيْسَتْ مِنْ الْبَيْت وَلَا دَاخِلَة فِي وَزْنه , وَلَكِنْ لِيَدُلّ بِهِ عَلَى قَطْع كَلَام وَابْتِدَاء آخَر . وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا : ذَلِكَ حُرُوف مُقَطَّعَة بَعْضهَا مِنْ أَسَمَاء اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , وَبَعْضهَا مِنْ صِفَاته , وَلِكُلِّ حَرْف مِنْ ذَلِكَ مَعْنًى غَيْر مَعْنَى الْحَرْف الْآخَر . فَإِنَّهُمْ نَحْوًا بِتَأْوِيلِهِمْ ذَلِكَ نَحْو قَوْل الشَّاعِر : قُلْنَا لَهَا قِفِي لَنَا قَالَتْ قَافْ لَا تَحْسِبِي أَنَّا نَسِينَا الْإِيجَاف يَعْنِي بِقَوْلِهِ : قَالَتْ قَافْ : قَالَتْ قَدْ وَقَفْت . فَدَلَّتْ بِإِظْهَارِ الْقَاف مِنْ وَوَقَفْت وَعَلَى مُرَادهَا مِنْ تَمَام الْكَلِمَة الَّتِي هِيَ " وَقَفْت " , فَصَرَفُوا قَوْله : { الم } وَمَا أَشَبَه ذَلِكَ إلَى نَحْو هَذَا الْمَعْنَى , فَقَالَ بَعْضهمْ : الْأَلِف أَلِف " أَنَا " , وَاللَّام لَامَ " اللَّه " , وَالْمِيم مِيم " أَعْلَم " , وَكُلّ حَرْف مِنْهَا دَالّ عَلَى كَلِمَة تَامَّة . قَالُوا : فَجُمْلَة هَذِهِ الْحُرُوف الْمُقَطَّعَة إذَا ظَهَرَ مَعَ كُلّ حَرْف مِنْهُنَّ تَمَام حُرُوف الْكَلِمَة " أَنَا " اللَّه أَعْلَم " . قَالُوا : وَكَذَلِكَ سَائِر جَمِيع مَا فِي أَوَائِل سُوَر الْقُرْآن مِنْ ذَلِكَ , فَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَبِهَذَا التَّأْوِيل . قَالُوا : وَمُسْتَفِيض ظَاهِر فِي كَلَام الْعَرَب أَنْ يُنْقِص الْمُتَكَلِّم مِنْهُمْ مِنْ الْكَلِمَة الْأَحْرُف إذَا كَانَ فِيمَا بَقِيَ دَلَالَة عَلَى مَا حُذِفَ مِنْهَا , وَيَزِيد فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا إذَا لَمْ تَكُنْ الزِّيَادَة مُلَبِّسَة مَعْنَاهَا عَلَى سَامِعهَا كَحَذْفِهِمْ فِي النَّقْص فِي التَّرْخِيم مِنْ " حَارِث " " الثَّاء " فَيَقُولُونَ : يَا حَارِ , وَمِنْ " مَالِك " " الْكَاف " فَيَقُولُونَ : يَا مَالِ , وَأَمَّا أَشَبَه ذَلِكَ . وَكَقَوْلِ رَاجِزهمْ مَا لِلظَّلِيمِ عَالٍ كَيْف لَا يَا يَنْقَدّ عَنْهُ جِلْده إذَا يَا كَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقُول : إذَا يَفْعَل كَذَا وَكَذَا , فَاكْتَفَى بِالْيَاءِ مِنْ وَيَفْعَل . . وَكَمَا قَالَ آخَر مِنْهُمْ : بِالْخَيْرِ خَيْرَات وَإِنْ شَرًّافَا يُرِيد فَشَرًّا . وَلَا أُرِيدَ الشَّرّ إلَّا أَنَّ تا يُرِيد إلَّا أَنْ تَشَاء . فَاكْتَفَى بِالتَّاءِ وَالْفَاء فِي الْكَلِمَتَيْنِ جَمِيعًا مِنْ سَائِر حُرُوفهمَا , وَمَا أَشَبَه ذَلِكَ مِنْ الشَّوَاهِد الَّتِي يَطُول الْكِتَاب بِاسْتِيعَابِهِ . وَكَمَا : 199 - حَدَّثَنِي يَعْقُوب بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن عُلَيَّة , عَنْ أَيُّوب وَابْن عَوْن , عَنْ مُحَمَّد , قَالَ : لَمَّا مَاتَ يَزِيد بْن مُعَاوِيَة , قَالَ لِي عَبْدَة : إنِّي لَا أَرَاهَا إلَّا كَائِنَة فِتْنَة فَافْزَعْ مِنْ ضَيْعَتك وَالْحَقّ بِأَهْلِك ! قُلْت : فَمَا تَأْمُرنِي ؟ قَالَ : أَحَبّ إلَيَّ لَك أَنَّ تا - قَالَ أَيُّوب وَابْن عَوْن بِيَدِهِ تَحْت خَدّه الْأَيْمَن يَصِف الِاضْطِجَاع - حَتَّى تَرَى أَمْرًا تَعْرِفهُ قَالَ أَبُو جَعْفَر : يَعْنِي ب " تا " تَضْطَجِع , فَاجْتَزَأَ بِالتَّاءِ مِنْ تَضْطَجِع . وَكَمَا قَالَ الْآخَر فِي الزِّيَادَة فِي الْكَلَام عَلَى النَّحْو الَّذِي وَصَفْت : أَقُول إذْ خَرَّتْ عَلَى الْكَلْكَال يَا نَاقَتِي مَا جُلْت مِنْ مِجَالِ يُرِيد الْكَلْكَل . وَكَمَا قَالَ الْآخَر : إنَّ شَكْلِي وَإِنَّ شَكْلَك شَتَّى فَالْزَمِي الْخُصّ , وَاخْفِضِي تَبْيَضِضِّي فَزَادَ ضَادًا وَلَيْسَتْ فِي الْكَلِمَة . قَالُوا : فَكَذَلِكَ مَا نَقَصَ مِنْ تَمَام حُرُوف كُلّ كَلِمَة مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَات الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّهَا تَتِمَّة حُرُوف { الم } وَنَظَائِرهَا , نَظِير مَا نَقَصَ مِنْ الْكَلَام الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْ الْعَرَب فِي أَشْعَارهَا وَكَلَامهَا . وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا : كُلّ حَرْف مِنْ { الم } وَنَظَائِرهَا دَالّ عَلَى مَعَانٍ شَتَّى نَحْو الَّذِي ذَكَرْنَا عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس , فَإِنَّهُمْ وَجَّهُوا ذَلِكَ إلَى مِثْل الَّذِي وَجْهه إلَيْهِ مَنْ قَالَ هُوَ بِتَأْوِيلٍ : " أَنَا اللَّه أَعْلَم " فِي أَنَّ كُلّ حَرْف مِنْهُ بَعْض حُرُوف كَلِمَة تَامَّة اُسْتُغْنِيَ بِدَلَالَتِهِ عَلَى تَمَامه عَنْ ذِكْر تَمَامه , وَإِنْ كَانُوا لَهُ مُخَالِفِينَ فِي كُلّ حَرْف مِنْ ذَلِكَ , أَهُوَ مِنْ الْكَلِمَة الَّتِي ادَّعَى أَنَّهُ مِنْهَا قَائِلُو الْقَوْل الْأَوَّل أَمْ مِنْ غَيْرهَا ؟ فَقَالُوا : بَلْ الْأَلِف مِنْ { الم } مِنْ كَلِمَات شَتَّى هِيَ دَالَّة عَلَى مَعَانِي جَمِيع ذَلِكَ وَعَلَى تَمَامه . قَالُوا : وَإِنَّمَا أُفْرِدَ كُلّ حَرْف مِنْ ذَلِكَ وَقُصِرَ بِهِ عَنْ تَمَام حُرُوف الْكَلِمَة أَنَّ جَمِيع حُرُوف الْكَلِمَة لَوْ أُظْهِرَتْ لَمْ تَدُلّ الْكَلِمَة الَّتِي تُظْهِر بَعْض هَذِهِ الْحُرُوف الْمُقَطَّعَة بَعْض لَهَا , إلَّا عَلَى مَعْنًى وَاحِد لَا عَلَى مَعْنَيَيْنِ وَأَكْثَر مِنْهُمَا . قَالُوا : وَإِذَا كَانَ لَا دَلَالَة فِي ذَلِكَ لَوْ أَظُهِرَ جَمِيعهَا إلَّا عَلَى مَعْنَاهَا الَّذِي هُوَ مَعْنًى وَاحِد , وَكَانَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ أَرَادَ الدَّلَالَة بِكُلِّ حَرْف مِنْهَا عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَة لِشَيْءٍ وَاحِد , لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنَّ يُفْرِد الْحَرْف الدَّال عَلَى تِلْكَ الْمَعَانِي , لِيَعْلَم الْمُخَاطَبُونَ بِهِ أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَقْصِد قَصْد مَعْنًى وَاحِد وَدَلَالَة عَلَى شَيْء وَاحِد بِمَا خَاطَبَهُمْ بِهِ , وَأَنَّهُ إنَّمَا قَصَدَ الدَّلَالَة [ بِهِ ] عَلَى أَشْيَاء كَثِيرَة . قَالُوا : فَالْأَلِف مِنْ { الم } مُقْتَضِيَة مَعَانِي كَثِيرَة , مِنْهَا : إتْمَام اسْم الرَّبّ الَّذِي هُوَ اللَّه , وَتَمَام اسْم نَعْمَاء اللَّه الَّتِي هِيَ آلَاء اللَّه , وَالدَّلَالَة عَلَى أَجَلّ قَوْم أَنَّهُ سَنَة , إذَا كَانَتْ الْأَلِف فِي حِسَاب الْجُمَل وَاحِدًا . وَاللَّام مُقْتَضِيَة تَمَام اسْم اللَّه الَّذِي هُوَ لَطِيف , وَتَمَام اسْم فَضْله الَّذِي هُوَ لُطْف , وَالدَّلَالَة عَلَى أَجَلّ قَوْم أَنَّهُ ثَلَاثُونَ سَنَة . وَالْمِيم مُقْتَضِيَة تَمَام اسْم اللَّه الَّذِي هُوَ مَجِيد , وَتَمَام اسْم عَظَمَته الَّتِي هِيَ مَجْد , وَالدَّلَالَة عَلَى أَجَلّ قَوْم أَنَّهُ أَرْبَعُونَ سَنَة . فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَام فِي تَأْوِيل قَائِل الْقَوْل الْأَوَّل : أَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ افْتَتَحَ كَلَامه بِوَصْفِ نَفْسه بِأَنَّهُ الْعَالِم الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْء , وَجَعَلَ ذَلِكَ لِعِبَادِهِ مَنْهَجًا يَسْلُكُونَهُ فِي مُفْتَتَح خُطَبهمْ وَرَسَائِلهمْ وَمُهِمّ أُمُورهمْ , وَابْتِلَاء مِنْهُ لَهُمْ لِيَسْتَوْجِبُوا بِهِ عَظِيم الثَّوَاب فِي دَار الْجَزَاء , كَمَا افْتَتَحَ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ , و { الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض } 6 1 وَمَا أَشَبَه ذَلِكَ مِنْ السُّوَر الَّتِي جَعَلَ مَفَاتِحهَا الْحَمْد لِنَفْسِهِ . وَكَمَا جَعَلَ مَفَاتِح بَعْضهَا تَعْظِيم نَفْسه وَإِجْلَالهَا بِالتَّسْبِيحِ كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ { سُبْحَان الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا } 17 1 وَمَا أَشَبَه ذَلِك مِنْ سَائِر سُوَر الْقُرْآن الَّتِي جَعَلَ مَفَاتِح بَعْضهَا تَحْمِيد نَفْسه , وَمَفَاتِح بَعْضهَا تَمْجِيدهَا , وَمَفَاتِح بَعْضهَا تَعْظِيمهَا وَتَنْزِيههَا . فَكَذَلِك جَعَلَ مَفَاتِح السُّوَر الْأُخْرَى الَّتِي أَوَائِلهَا بَعْض حُرُوف الْمُعْجَم مَدَائِح نَفْسه أَحْيَانًا بِالْعِلْمِ , وَأَحْيَانًا بِالْعَدْلِ وَالْإِنْصَاف , وَأَحْيَانًا بِالْإِفْضَالِ وَالْإِحْسَان بِإِيجَازِ وَاخْتِصَار , ثُمَّ اقْتِصَاص الْأُمُور بَعْد ذَلِكَ . وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيل يَجِب أَنْ يَكُون الْأَلِف وَاللَّام وَالْمِيم فِي أَمَاكِن الرَّفْع مَرْفُوعًا بَعْضهَا بِبَعْضِ دُون قَوْله : { ذَلِكَ الْكِتَاب } وَيَكُون ذَلِكَ الْكِتَاب خَبَر مُبْتَدَأ مُنْقَطِعًا عَنْ مَعْنَى { الم } , وَكَذَلِكَ " ذَلِكَ " فِي تَأْوِيل قَوْل قَائِل هَذَا الْقَوْل الثَّانِي مَرْفُوع بَعْضه بِبَعْضٍ , وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا مَعْنَاهُ مَعْنَى قَوْل قَائِل الْقَوْل الْأَوَّل . وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا : هُنَّ حُرُوف مِنْ حُرُوف حِسَاب الْجُمَّلِ دُون مَا خَالَفَ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي , فَإِنَّهُمْ قَالُوا : لَا نَعْرِف لِلْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَة مَعْنًى يُفْهَم سِوَى حِسَاب الْجُمَّل وَسِوَى تَهَجِّي قَوْل الْقَائِل : { الم } وَقَالُوا : غَيْر جَائِز أَنْ يُخَاطِب اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ عِبَاده إلَّا بِمَا يَفْهَمُونَهُ وَيَعْقِلُونَهُ عَنْهُ . فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ - وَكَانَ قَوْله : { الم } لَا يُعْقَل لَهَا وَجْه تَوَجَّهَ إلَيْهِ إلَّا أَحَد الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا , فَبَطَلَ أَحَد وَجْهِيّه , وَهُوَ أَنْ يَكُون مُرَادًا بِهَا تَهَجِّي . { الم } - صَحَّ وَثَبَتَ أَنَّهُ مُرَاد بِهِ الْوَجْه الثَّانِي وَهُوَ حِسَاب الْجُمَّل ; لِأَنَّ قَوْل الْقَائِل : { الم } لَا يَجُوز أَنْ يَلِيه مِنْ الْكَلَام ذَلِكَ الْكِتَاب لِاسْتِحَالَةِ مَعْنَى الْكَلَام وَخُرُوجه عَنْ الْمَعْقُول إذَا وَلِيَ { الم } ذَلِكَ الْكِتَاب . وَاحْتَجُّوا لِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ أَيْضًا بِمَا : 200 - حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّد بْن حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة بْن الْفَضْل . قَالَ : حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن إسْحَاق , قَالَ : حَدَّثَنِي الْكَلْبِيّ , عَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه بْن رِئَاب , قَالَ : مَرَّ أَبُو يَاسِر بْن أَخْطَب بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَتْلُو فَاتِحَة سُورَة الْبَقَرَة : { الم ذَلِكَ الْكِتَاب لَا رَيْبَ فِيهِ } فَأَتَى أَخَاهُ حُيَيّ بْن أَخْطَب فِي رِجَال مِنْ يَهُود فَقَالَ : تَعْلَمُونَ وَاَللَّه لَقَدْ سَمِعْت مُحَمَّدًا يَتْلُو فِيمَا أَنَزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ : { الم ذَلِكَ الْكِتَاب } فَقَالُوا : أَنْت سَمِعْته ؟ قَالَ : نَعَمْ فَمَشَى حُيَيّ بْن أَخْطَب فِي أُولَئِكَ النَّفَر مِنْ يَهُود إلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسَلَّمَ , فَقَالُوا : يَا مُحَمَّد أَلَمْ يَذْكُر لَنَا أَنَّك تَتْلُو فِيمَا أَنَزَلَ عَلَيْك : { الم ذَلِكَ الْكِتَاب } ؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " بَلَى " فَقَالُوا : أَجَاءَك بِهَذَا جِبْرِيل مِنْ عِنْد اللَّه ؟ قَالَ : " نَعَمْ " ! قَالُوا : لَقَدْ بَعَثَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَبْلَك أَنْبِيَاء مَا نَعْلَمهُ بَيَّنَ لِنَبِيٍّ مِنْهُمْ مَا مُدَّة مُلْكه وَمَا أَجَل أُمَّته غَيْرك ! فَقَالَ حُيَيّ بْن أَخْطَب : وَأَقْبَلَ عَلَى مَنْ كَانَ مَعَهُ , فَقَالَ لَهُمْ : الْأَلِف وَاحِدَة , وَاللَّام ثَلَاثُونَ , وَالْمِيم أَرْبَعُونَ , فَهَذِهِ إحْدَى وَسَبْعُونَ سَنَة , قَالَ : فَقَالَ لَهُمْ : أَتَدْخُلُونَ فِي دِين نَبِيّ إنَّمَا مُدَّة مُلْكه وَأَجَل أُمَّته إحْدَى وَسَبْعُونَ سَنَة ؟ قَالَ : ثُمَّ أَقَبْل عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ : يَا مُحَمَّد هَلْ مَعَ هَذَا غَيْره ؟ قَالَ : " نَعَمْ " ! قَالَ : مَاذَا ؟ قَالَ : " المص " قَالَ : هَذِهِ أَثْقَل وَأَطْوَل : الْأَلِف وَاحِدَة , وَاللَّام ثَلَاثُونَ , وَالْمِيم أَرْبَعُونَ , وَالصَّاد تِسْعُونَ . فَهَذِهِ مِائَة وَإِحْدَى وَسِتُّونَ سَنَة ; هَلْ مَعَ هَذَا يَا مُحَمَّد غَيْره ؟ قَالَ : " نَعَمْ " ! قَالَ : مَاذَا ؟ قَالَ : " الر " قَالَ : هَذِهِ أَثْقَل وَأَطْوَل الْأَلِف وَاحِدَة , وَاللَّام ثَلَاثُونَ , وَالرَّاء مِائَتَانِ , فَهَذِهِ إحْدَى وَثَلَاثُونَ وَمِائَتَا سَنَة ; فَقَالَ : هَلْ مَعَ هَذَا غَيْره يَا مُحَمَّد ؟ قَالَ : " نَعَمْ المر " , قَالَ : فَهَذِهِ أَثْقَل وَأَطْوَل : الْأَلِف وَاحِدَة وَاللَّام ثَلَاثُونَ , وَالْمِيم أَرْبَعُونَ , وَالرَّاء مِائَتَانِ , فَهَذِهِ إحْدَى وَسَبْعُونَ وَمِائَتَا سَنَة . ثُمَّ قَالَ : لَقَدْ لَبِسَ عَلَيْنَا أَمْرك يَا مُحَمَّد , حَتَّى مَا نَدْرِي أَقَلِيلًا أُعْطِيت أَمْ كَثِيرًا ! ثُمَّ قَامُوا عَنْهُ , فَقَالَ أَبُو يَاسِر لِأَخِيهِ حُيَيّ بْن أَخْطَب وَلِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْأَحْبَار : مَا يُدْرِيكُمْ لَعَلَّهُ قَدْ جَمَعَ هَذَا كُلّه لِمُحَمَّدٍ : إحْدَى وَسَبْعُونَ , وَإِحْدَى وَسِتُّونَ وَمِائَة , وَمِائَتَانِ وَإِحْدَى وَثَلَاثُونَ , وَمِائَتَانِ وَإِحْدَى وَسَبْعُونَ , فَذَلِكَ سَبْعمِائَةِ سَنَة وَأَرْبَع وَثَلَاثُونَ , فَقَالُوا : لَقَدْ تَشَابَهَ عَلَيْنَا أَمْره . وَيَزْعُمُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْآيَات نَزَلَتْ فِيهِمْ : { هُوَ الَّذِي أَنَزَلَ عَلَيْك الْكِتَاب مِنْهُ آيَات مُحْكَمَات هُنَّ أُمّ الْكِتَاب وَأُخَر مُتَشَابِهَات } . 3 7 فَقَالُوا : قَدْ صَرَّحَ هَذَا الْخَبَر بِصِحَّةِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّأْوِيل وَفَسَاد مَا قَالَهُ مُخَالِفُونَا فِيهِ . وَالصَّوَاب مِنْ الْقَوْل عِنْدِي فِي تَأْوِيل مَفَاتِح السُّوَر الَّتِي هِيَ حُرُوف الْمُعْجَم : أَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ جَعَلَهَا حُرُوفًا مُقَطَّعَة وَلَمْ يَصِل بَعْضهَا بِبَعْضٍ فَيَجْعَلهَا كَسَائِرِ الْكَلَام الْمُتَّصِل الْحُرُوف ; لِأَنَّهُ عَزَّ ذِكْره أَرَادَ بِلَفْظِهِ الدَّلَالَة بِكُلٍّ حَرْف مِنْهُ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَة لَا عَلَى مَعْنًى وَاحِد , كَمَا قَالَ الرَّبِيع بْن أَنَس , وَإِنْ كَانَ الرَّبِيع قَدْ اقْتَصَرَ بِهِ عَلَى مَعَانٍ ثَلَاثَة دُون مَا زَادَ عَلَيْهَا . وَالصَّوَاب فِي تَأْوِيل ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّ كُلّ حَرْف مِنْهُ يَحْوِي مَا قَالَهُ الرَّبِيع وَمَا قَالَهُ سَائِر الْمُفَسِّرِينَ غَيْره فِيهِ , سِوَى مَا ذَكَرْت مِنْ الْقَوْل عَمَّنْ ذُكِرَتْ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعَرَبِيَّة أَنَّهُ كَانَ يُوَجِّه تَأْوِيل ذَلِكَ إلَى أَنَّهُ حُرُوف هِجَاء اُسْتُغْنِيَ بِذِكْرِ مَا ذُكِرَ مِنْهُ فِي مَفَاتِح السُّوَر عَنْ ذِكْر تَتِمَّة الثَّمَانِيَة وَالْعِشْرِينَ حَرْفًا مِنْ حُرُوف الْمُعْجَم بِتَأْوِيلِ : أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوف , ذَلِكَ الْكِتَاب , مَجْمُوعَة لَا رَيْبَ فِيهِ , فَإِنَّهُ قَوْل خَطَأ فَاسِد لِخُرُوجِهِ عَنْ أَقْوَال جَمِيع الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ , وَمَنْ بَعْدهمْ مِنْ الْخَالِفِينَ مِنْ أَهْل التَّفْسِير وَالتَّأْوِيل , فَكَفَى دَلَالَة عَلَى خَطَئِهِ شَهَادَة الْحُجَّة شَهَادَة الْحُجَّة عَلَيْهِ بِالْخَطَأِ مَعَ إبْطَال قَائِل ذَلِكَ قَوْله الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْهُ , إذْ صَارَ إلَى الْبَيَان عَنْ رَفْع ذَلِكَ الْكِتَاب بِقَوْلِهِ مَرَّة إنَّهُ مَرْفُوع كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ وَمَرَّة أُخْرَى أَنَّهُ مَرْفُوع بِالرَّاجِعِ مِنْ ذِكْره فِي قَوْله : { لَا رَيْبَ فِيهِ } وَمَرَّة بِقَوْلِهِ : { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } وَذَلِكَ تَرْك مِنْهُ لِقَوْلِهِ إنَّ { الم } رَافِعَة { ذَلِكَ الْكِتَاب } وَخُرُوج مِنْ الْقَوْل الَّذِي ادَّعَاهُ فِي تَأْوِيل { الم ذَلِكَ الْكِتَاب } وَأَنَّ تَأْوِيل ذَلِكَ : هَذِهِ الْحُرُوف ذَلِكَ الْكِتَاب . فَإِنَّ قَالَ لَنَا قَائِل : وَكَيْف يَجُوز أَنْ يَكُون حَرْف وَاحِد شَامِلًا الدَّلَالَة عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَة مُخْتَلِفَة ؟ قِيلَ : كَمَا جَازَ أَنْ تَكُون كَلِمَة وَاحِدَة تَشْتَمِل عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَة مُخْتَلِفَة كَقَوْلِهِمْ لِلْجَمَاعَةِ مِنْ النَّاس : أُمَّة , وَلِلْحِينِ مِنْ الزَّمَان : أُمَّة , وَلِلرَّجُلِ الْمُتَعَبِّد الْمُطِيع لِلَّهِ : أُمَّة , وَلِلدِّينِ وَالْمِلَّة : أُمَّة . وَكَقَوْلِهِمْ لِلْجَزَاءِ وَالْقِصَاص : دِين , وَلِلسُّلْطَانِ وَالطَّاعَة : دِين , وَلِلتَّذَلُّلِ : دِين , وَلِلْحِسَابِ : دِين ; فِي أَشْبَاه لِذَلِكَ كَثِيرَة يَطُول الْكِتَاب بِإِحْصَائِهَا مِمَّا يَكُون مِنْ الْكَلَام بِلَفْظٍ وَاحِد , وَهُوَ مُشْتَمِل عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَة . وَكَذَلِكَ قَوْل اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ : " الم وَالمر " , و " المص " وَمَا أَشَبَه ذَلِكَ مِنْ حُرُوف الْمُعْجَم الَّتِي هِيَ فَوَاتِح أَوَائِل السُّوَر , كُلّ حَرْف مِنْهَا دَالّ عَلَى مَعَانٍ شَتَّى , شَامِل جَمِيعهَا مِنْ أَسَمَاء اللَّه عَزَّ وَجَلّ وَصِفَاته مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ الْأَقْوَال الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْهُمْ ; وَهُنَّ مَعَ ذَلِكَ فَوَاتِح السُّوَر كَمَا قَالَهُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ . وَلَيْسَ كَوْن ذَلِكَ مِنْ حُرُوف أَسَمَاء اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ وَصِفَاته بِمَانِعِهَا أَنْ تَكُون لِلسُّوَرِ فَوَاتِح ; لِأَنَّ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ قَدْ افْتَتَحَ كَثِيرًا مِنْ سُوَر الْقُرْآن بِالْحَمْدِ لِنَفْسِهِ وَالثَّنَاء عَلَيْهَا , وَكَثِيرًا مِنْهَا بِتَمْجِيدِهَا وَتَعْظِيمهَا , فَغَيْر مُسْتَحِيل أَنَّ يَبْتَدِئ بَعْض ذَلِكَ بِالْقَسَمِ بِهَا . فَاَلَّتِي اُبْتُدِئَ أَوَائِلهَا بِحُرُوفِ الْمُعْجَم أَحَد مَعَانِي أَوَائِلهَا أَنَّهُنَّ فَوَاتِح مَا افْتَتَحَ بِهِنَّ مِنْ سُوَر الْقُرْآن , وَهُنَّ مِمَّا أَقَسَمَ بِهِنَّ ; لِأَنَّ أَحَد مَعَانِيهنَّ أَنَّهُنَّ مِنْ حُرُوف أَسَمَاء اللَّه تَعَالَى ذِكْره وَصِفَاته عَلَى مَا قَدَّمْنَا الْبَيَان عَنْهَا , وَلَا شَكَّ فِي صِحَّة مَعْنَى الْقَسَم بِاَللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاته , وَهُنَّ مِنْ حُرُوف حِسَاب الْجُمَّل , وَهُنَّ لِلسُّوَرِ الَّتِي افْتَتَحَتْ بِهِنَّ شِعَار وَاسَمَاء . فَذَلِكَ يَحْوِي مَعَانِي جَمِيع مَا وَصَفْنَا مِمَّا بَيَّنَّا مِنْ وُجُوهه , لِأَنَّ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ لَوْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهُ الدَّلَالَة عَلَى مَعْنًى وَاحِد مِمَّا يَحْتَمِلهُ ذَلِكَ دُون سَائِر الْمَعَانِي غَيْره , لَأَبَانَ ذَلِكَ لَهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إبَانَة غَيْر مُشْكِلَة , إذْ كَانَ جَلّ ثَنَاؤُهُ إنَّمَا أَنَزَلَ كِتَابه عَلَى رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ . وَفِي تَرْكه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إبَانَة ذَلِكَ أَنَّهُ مُرَاد بِهِ مِنْ وُجُوه تَأْوِيله الْبَعْض دُون الْبَعْض أَوْضَح الدَّلِيل عَلَى أَنَّهُ مُرَاد بِهِ جَمِيع وُجُوهه الَّتِي هُوَ لَهَا مُحْتَمَل , إذْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِيلًا فِي الْعَقْل وَجْه مِنْهَا أَنْ يَكُون مِنْ تَأْوِيله وَمَعْنَاهُ كَمَا كَانَ غَيْر مُسْتَحِيل اجْتِمَاع الْمَعَانِي الْكَثِيرَة لِلْكَلِمَةِ الْوَاحِدَة بِاللَّفْظِ الْوَاحِد فِي كَلَام وَاحِد . وَمِنْ أَبَى مَا قُلْنَاهُ فِي ذَلِكَ سُئِلَ الْفَرَق بَيْن ذَلِكَ وَبَيْن سَائِر الْحُرُوف الَّتِي تَأْتِي بِلَفْظِ وَاحِد مَعَ اشْتِمَالهَا عَلَى الْمَعَانِي الْكَثِيرَة الْمُخْتَلِفَة كَالْأُمَّةِ وَالدِّين وَمَا أَشَبَه ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاء وَالْأَفْعَال . فَلَنْ يَقُول فِي أَحَد ذَلِكَ قَوْلًا إلَّا أُلْزِمَ فِي الْأُخَر مِثْله . وَكَذَلِكَ يَسْأَل كُلّ مَنْ تَأَوَّلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْه دُون الْأَوْجُه الْأُخَر الَّتِي وَصَفْنَا عَنْ الْبُرْهَان عَلَى دَعْوَاهُ مِنْ الْوَجْه الَّذِي يُحِبّ التَّسْلِيم لَهُ ثُمَّ يُعَارِض بِقَوْلِهِ يُخَالِفهُ فِي ذَلِكَ , وَيَسْأَل الْفَرَق بَيْنه وَبَيْنه : مِنْ أَصْل , أَوْ مِمَّا يَدُلّ عَلَيْهِ أَصْل , فَلَنْ يَقُول فِي أَحَدهمَا قَوْلًا إلَّا أُلْزِمَ فِي الْأُخَر مِثْله . وَأَمَّا الَّذِي زَعَمَ مِنْ النَّحْوِيِّينَ أَنَّ ذَلِكَ نَظِير " بَلْ " فِي قَوْل الْمُنْشِد شِعْرًا : بَلْ . .. مَا هَاجَ أَحْزَانًا وَشَجْوًا قَدْ شَجَا وَأَنَّهُ لَا مَعْنَى لَهُ , وَإِنَّمَا هُوَ زِيَادَة فِي الْكَلَام مَعْنَاهُ الطَّرْح ; فَإِنَّهُ أَخْطَأَ مِنْ وُجُوه شَتَّى : أَحَدهَا : أَنَّهُ وَصَفَ اللَّه تَعَالَى ذِكْره بِأَنَّهُ خَاطَبَ الْعَرَب بِغَيْرِ مَا هُوَ مِنْ لُغَتهَا وَغَيْر مَا هُوَ فِي لُغَة أَحَد مِنْ الْآدَمِيِّينَ , إذْ كَانَتْ الْعَرَب وَإِنْ كَانَتْ قَدْ كَانَتْ تَفْتَتِح أَوَائِل إنْشَادهَا مَا أَنَشَدَتْ مِنْ الشِّعْر ب " بَلْ " , فَإِنَّهُ مَعْلُوم مِنْهَا أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ تَبْتَدِئ شَيْئًا مِنْ الْكَلَام ب " الم " و " الر " و" المص " بِمَعْنَى ابْتِدَائِهَا ذَلِكَ ب " بَلْ " . وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ ابْتِدَائِهَا , وَكَانَ اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ إنَّمَا خَاطَبَهُمْ بِمَا خَاطَبَهُمْ مِنْ الْقُرْآن بِمَا يَعْرِفُونَ مِنْ لُغَاتهمْ وَيَسْتَعْمِلُونَ بَيْنهمْ مِنْ مَنْطِقهمْ فِي جَمِيع آيِهِ , فَلَا شَكَّ أَنَّ سَبِيل مَا وَصَفْنَا مِنْ حُرُوف الْمُعْجَم الَّتِي اُفْتُتِحَتْ بِهَا أَوَائِل السُّوَر الَّتِي هُنَّ لَهَا فَوَاتِح سَبِيل سَائِر الْقُرْآن فِي أَنَّهُ لَمْ يَعْدِل بِهَا عَنْ لُغَاتهمْ الَّتِي كَانُوا بِهَا عَارِفِينَ وَلَهَا بَيْنهمْ فِي مَنْطِقهمْ مُسْتَعْمَلِينَ ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ سَبِيل لُغَاتهمْ وَمَنْطِقهمْ كَانَ خَارِجًا عَنْ مَعْنَى الْإِبَانَة الَّتِي وَصَفَ اللَّه عَزَّ وَجَلّ بِهَا الْقُرْآن , فَقَالَ تَعَالَى ذِكْره : { نَزَلَ بِهِ الرُّوح الْأَمِين عَلَى قَلْبك لِتَكُونَ مِنْ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِين } . 26 193 : 195 وَأَنَّى يَكُون مُبِينًا مَا لَا يَعْقِلهُ وَلَا يَفْقَههُ أَحَد مِنْ الْعَالَمِينَ فِي قَوْل قَائِل هَذِهِ الْمَقَالَة , وَلَا يُعْرَف فِي مَنْطِق أَحَد مِنْ الْمَخْلُوقِينَ فِي قَوْلِهِ ؟ وَفِي إخْبَار اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ عَنْهُ أَنَّهُ عَرَبِيّ مُبِين مَا يُكَذِّب هَذِهِ الْمَقَالَة , وَيُنْبِئ عَنْهُ أَنَّ الْعَرَب كَانُوا بِهِ عَالِمِينَ وَهُوَ لَهَا مُسْتَبِين . فَذَلِكَ أَحَد أَوَجْه خَطَئِهِ . وَالْوَجْه الثَّانِي مِنْ خَطَئِهِ فِي ذَلِكَ : إضَافَته إلَى اللَّه جَلّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ خَاطَبَ عِبَاده بِمَا لَا فَائِدَة لَهُمْ فِيهِ وَلَا مَعْنًى لَهُ مِنْ الْكَلَام الَّذِي سَوَاء الْخِطَاب بِهِ وِتْرك الْخِطَاب بِهِ , وَذَلِكَ إضَافَة الْعَبَث الَّذِي هُوَ مَنْفِيّ فِي قَوْل جَمِيع الْمُوَحِّدِينَ عَنْ اللَّه , إلَى اللَّه تَعَالَى ذِكْره . وَالْوَجْه الثَّالِث مِنْ خَطَئِهِ : أَنَّ " بَلْ " فِي كَلَام الْعَرَب مَفْهُوم تَأْوِيلهَا وَمَعْنَاهَا , وَأَنَّهَا تُدْخِلهَا فِي كَلَامهَا رُجُوعًا عَنْ كَلَام لَهَا قَدْ تَقَضَّى كَقَوْلِهِمْ : مَا جَاءَنِي أَخُوك بَلْ أَبُوك ; وَمَا رَأَيْت عَمْرًا بَلْ عَبْد اللَّه , وَمَا أَشَبَه ذَلِكَ مِنْ الْكَلَام , كَمَا قَالَ أَعْشَى بَنِي ثَعْلَبَة : وَلَأَشْرَبَنَّ ثَمَانِيًّا وَثَمَانِيًّا وَثَلَاث عَشْرَة وَاثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعًا وَمَضَى فِي كَلِمَته حَتَّى بَلَغَ قَوْله : بِالْجُلَّسَان وَطَيِّب أَرْدَانه بَالوَنَّ يَضْرِب لِي يَكُرّ الْأُصْبُعَا ثُمَّ قَالَ : بَلْ عَدَّ هَذَا فِي قَرِيض غَيْره وَاذْكُرْ فَتًى سَمْح الْخَلِيقَة أَرَوْعًا فَكَأَنَّهُ قَالَ : دَعْ هَذَا وَخُذْ فِي قَرِيض غَيْره . ف " بَلْ " إنَّمَا يَأْتِي فِي كَلَام الْعَرَب عَلَى هَذَا النَّحْو مِنْ الْكَلَام . فَأَمَّا إفْسَاحًا لِكَلَامِهَا مُبْتَدَأ بِمَعْنَى التَّطْوِيل وَالْحَذْف مِنْ غَيْر أَنْ يَدُلّ عَلَى مَعْنًى , فَذَلِكَ مِمَّا لَا نَعْلَم أَحَدًا ادَّعَاهُ مِنْ أَهْل الْمُعْرِفَة بِلِسَانِ الْعَرَب وَمَنْطِقهَا , سِوَى الَّذِي ذَكَرْت قَوْله , فَيَكُون ذَلِكَ أَصْلًا يُشْبِه بِهِ حُرُوف الْمُعْجَم الَّتِي هِيَ فَوَاتِح سُوَر الْقُرْآن الَّتِي اُفْتُتِحَتْ بِهَا لَوْ كَانَ لَهُ مُشْبَهَة , فَكَيْف وَهِيَ مِنْ الشَّبَه بِهِ بَعِيدَة ؟
ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَسورة البقرة الآية رقم 2
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { ذَلِكَ الْكِتَاب } قَالَ عَامَّة الْمُفَسِّرِينَ : تَأْوِيل قَوْل اللَّه تَعَالَى : { ذَلِكَ الْكِتَاب } هَذَا الْكِتَاب . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 201 - حَدَّثَنِي هَارُونَ بْن إدْرِيس الْأَصَمّ الْكُوفِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن مُحَمَّد الْمُحَارِبِيّ , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ مُجَاهِد : { ذَلِكَ الْكِتَاب } قَالَ : هُوَ هَذَا الْكِتَاب . 202 - حَدَّثَنِي يَعْقُوب بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن عُلَيَّة , قَالَ : أَخْبَرَنَا خَالِد الْحِذَاء , عَنْ عِكْرِمَة , قَالَ : { ذَلِكَ الْكِتَاب } هَذَا الْكِتَاب . 203 - حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إسْحَاق الْأَهْوَازِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الزَّبِيرِي قَالَ : حَدَّثَنَا الْحَكَم بْن ظُهَيْر , عَنْ السُّدِّيّ فِي قَوْله : { ذَلِكَ الْكِتَاب } قَالَ : هَذَا الْكِتَاب 204 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم بْن الْحَسَن , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن دَاوُد , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج عَنْ ابْن جُرَيْجٍ قَوْله : { ذَلِكَ الْكِتَاب } هَذَا الْكِتَاب . قَالَ : قَالَ ابْن عَبَّاس : { ذَلِكَ الْكِتَاب } : هَذَا الْكِتَاب . فَإِنْ قَالَ قَائِل : وَكَيْفَ يَجُوز أَنْ يَكُون " ذَلِكَ " بِمَعْنَى " هَذَا " ؟ و " هَذَا " لَا شَكَّ إشَارَة إلَى حَاضِر مُعَايَن , و " ذَلِكَ " إشَارَة إلَى غَائِب غَيْر حَاضِر وَلَا مُعَايَن ؟ قِيلَ : جَازَ ذَلِكَ لِأَنَّ كُلّ مَا تَقَضَّى وَقَرُبَ تَقَضِّيه مِنْ الْأَخْبَار فَهُوَ وَإِنْ صَارَ بِمَعْنًى غَيْر الْحَاضِر , فَكَالْحَاضِرِ عِنْد الْمُخَاطَب ; وَذَلِكَ كَالرَّجُلِ يُحَدِّث الرَّجُل الْحَدِيث , فَيَقُول السَّامِع : إنَّ ذَلِكَ وَاَللَّه لَكُمَا قُلْت , وَهَذَا وَاَللَّه كَمَا قُلْت , وَهُوَ وَاَللَّه كَمَا ذَكَرْت . فَيُخْبِر عَنْهُ مُرَّة بِمَعْنَى الْغَائِب إذْ كَانَ قَدْ تَقَضَّى وَمَضَى , وَمَرَّة بِمَعْنَى الْحَاضِر لِقُرْبِ جَوَابه مِنْ كَلَام مُخْبِره كَأَنَّهُ غَيْر مُنْقَضٍ , فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْله : { ذَلِكَ الْكِتَاب } لِأَنَّهُ جَلَّ ذِكْره لَمَّا قَدِمَ قَبْل ذَلِكَ الْكِتَاب { الم } الَّتِي ذَكَرْنَا تَصْرِفهَا فِي وُجُوههَا مِنْ الْمَعَانِي عَلَى مَا وَصَفْنَا , قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا مُحَمَّد هَذَا الَّذِي ذَكَرْته وَبَيَّنْته لَك الْكِتَاب . وَلِذَلِكَ حَسَن وَضَعَ " ذَلِكَ " فِي مَكَان " هَذَا " , لِأَنَّهُ أُشِير بِهِ إلَى الْخَبَر عَمَّا تَضَمَّنَهُ قَوْله : { الم } مِنْ الْمَعَانِي بَعْد تَقَضِّي الْخَبَر عَنْهُ { الم } , فَصَارَ لِقُرْبِ الْخَبَر عَنْهُ مِنْ تَقَضِّيه كَالْحَاضِرِ الْمُشَار إلَيْهِ , فَأَخْبَرَ عَنْهُ بِذَلِكَ لِانْقِضَائِهِ وَمُصِير الْخَبَر عَنْهُ كَالْخَبَرِ عَنْ الْغَائِب . وَتَرْجَمَهُ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهُ بِمَعْنَى " هَذَا " لِقُرْبِ الْخَبَر عَنْهُ مِنْ انْقِضَائِهِ , فَكَانَ كَالْمُشَاهَدِ الْمُشَار إلَيْهِ بِهَذَا نَحْو الَّذِي وَصَفْنَا مِنْ الْكَلَام الْجَارِي بَيْن النَّاس فِي مُحَاوَرَاتهمْ , وَكَمَا قَالَ جَلَّ ذِكْره : { وَاذْكُرْ إسْمَاعِيل وَاَلْيَسَع وَذَا الْكِفْل وَكُلّ مِنْ الْأَخْيَار هَذَا ذِكْر } 38 48 : 49 فَهَذَا مَا فِي " ذَلِكَ " إذَا عَنَى بِهَا " هَذَا " . وَقَدْ يَحْتَمِل قَوْله جَلَّ ذِكْره : { ذَلِكَ الْكِتَاب } أَنْ يَكُون مَعْنِيًّا بِهِ السُّوَر الَّتِي نَزَلَتْ قَبْل سُورَة الْبَقَرَة بِمَكَّة وَالْمَدِينَة , فَكَأَنَّهُ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا مُحَمَّد اُعْلُمْ أَنَّ مَا تَضَمَّنَتْهُ سُوَر الْكِتَاب الَّتِي قَدْ أَنَزَلْتهَا إلَيْك هُوَ الْكِتَاب الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ . ثُمَّ تَرْجَمَهُ الْمُفَسِّرُونَ بِأَنَّ مَعْنَى " ذَلِكَ " : " هَذَا الْكِتَاب " , إذْ كَانَتْ تِلْكَ السُّوَر الَّتِي نَزَلَتْ قَبْل سُورَة الْبَقَرَة مِنْ حَمَلَة جَمِيع كِتَابنَا هَذَا الَّذِي أَنَزَلَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَبِيّنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَكَانَ التَّأْوِيل الْأَوَّل أَوْلَى بِمَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ ; لِأَنَّ ذَلِكَ أَظْهَر مَعَانِي قَوْلهمْ الَّذِي قَالُوهُ فِي ذَلِكَ . وَقَدْ وَجْه مَعْنَى ذَلِكَ بَعْضهمْ إلَى نَظِير مَعْنَى بَيْت خُفَاف بْن نُدْبَة السُّلَمِيّ : فَإِنْ تَكُ خَيْلِي قَدْ أُصِيب صَمِيمهَا فَعَمْدًا عَلَى عَيْن تَيَمَّمْت مَالِكًا أَقُول لَهُ وَالرُّمْح يَأْطُر مَتْنه تَأْمُل خُفَافًا إنَّنِي أَنَا ذَلِكَا كَأَنَّهُ أَرَادَ : تَأَمَّلْنِي أَنَا ذَلِكَ . فَرَأَى أَنَّ " ذَلِكَ الْكِتَاب " بِمَعْنَى " هَذَا " نَظِير مَا أَظْهَرَ خُفَاف مِنْ اسْمه عَلَى وَجْه الْخَبَر عَنْ الْغَائِب وَهُوَ مُخْبِر عَنْ نَفْسه , فَكَذَلِكَ أَظَهَرَ " ذَلِكَ " بِمَعْنَى الْخَبَر عَنْ الْغَائِب , وَالْمَعْنَى فِيهِ الْإِشَارَة إلَى الْحَاضِر الْمُشَاهَد وَالْقَوْل الْأَوَّل أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْكِتَاب لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْعِلَل . وَقَدْ قَالَ بَعْضهمْ : { ذَلِكَ الْكِتَاب } يَعْنِي بِهِ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل , وَإِذًا وَجْه تَأْوِيل ذَلِكَ إلَى هَذَا الْوَجْه فَلَا مُؤْنَة فِيهِ عَلَى مُتَأَوِّله كَذَلِكَ لِأَنَّ " ذَلِكَ " يَكُون حِينَئِذٍ إخْبَارًا عَنْ غَائِب عَلَى صِحَّة .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { لَا رَيْبَ فِيهِ } وَتَأْوِيل قَوْله : { لَا رَيْبَ فِيهِ } " لَا شَكَّ فِيهِ " , كَمَا : 205 - حَدَّثَنِي هَارُونَ بْن إدْرِيس الْأَصَمّ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن الْمُحَارِبِيّ عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ مُجَاهِد { لَا رَيْبَ فِيهِ } , قَالَ : لَا شَكَّ فِيهِ . 206 - حَدَّثَنِي سَلَّامُ بْن سَالِم الْخُزَاعِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا خَلَف بْن يَاسِين الْكُوفِيّ , عَنْ عَبْد الْعَزِيز بْن أَبِي رَوَّادٍ عَنْ عَطَاء : { لَا رَيْبَ فِيهِ } قَالَ : لَا شَكَّ فِيهِ . 207 - حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن إسْحَاق الْأَهْوَازِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الزَّبِيرِي , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحَكَم بْن ظُهَيْر , عَنْ السُّدِّيّ , قَالَ : { لَا رَيْبَ فِيهِ } لَا شَكَّ فِيهِ . 208 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ الْهَمْدَانِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذِكْره عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة الْهَمْدَانِيّ , عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا رَيْبَ فِيهِ } : لَا شَكَّ فِيهِ . 209 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة بْن الْفَضْل عَنْ مُحَمَّد بْن إسْحَاق , عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت , عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس : { لَا رَيْبَ فِيهِ } قَالَ : لَا شَكَّ فِيهِ . * حَدَّثَنَا الْقَاسِم بْن الْحَسَن قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , قَالَ : قَالَ ابْن عَبَّاس : { لَا رَيْبَ فِيهِ } يَقُول لَا شَكَّ فِيهِ . 210 - حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر عَنْ قَتَادَةَ : { لَا رَيْبَ فِيهِ } يَقُول : لَا شَكَّ فِيهِ . 211 - وَحَدَّثَنَا عَنْ عَمَّار بْن الْحَسَن , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس قَوْله : { لَا رَيْبَ فِيهِ } يَقُول : لَا شَكَّ فِيهِ . وَهُوَ مَصْدَر مِنْ قَوْلك : رَابَنِي الشَّيْء يَرِيبنِي رَيْبًا . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل سَاعِدَة بْن جُؤَيَّةَ الْهُذَلِيّ . فَقَالُوا تَرَكْنَا الْحَيّ قَدْ حَصِرُوا بِهِ فَلَا رَيْبَ أَنْ قَدْ كَانَ ثَمَّ لَحِيم وَيُرْوَى : " حُصِرُوا " , و " حَصِرُوا " , وَالْفَتْح أَكْثَر , وَالْكَسْر جَائِز . يَعْنِي بِقَوْلِهِ : " حُصِرُوا بِهِ " أَطَافُوا بِهِ , وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ , { لَا رَيْبَ فِيهِ } لَا شَكَّ فِيهِ , وَبِقَوْلِهِ : " أَنْ قَدْ كَانَ ثُمَّ لَحِيم " يَعْنِي قَتِيلًا , يُقَال , قَدْ لُحِمَ إذَا قُتِلَ . وَالْهَاء الَّتِي فِي وَفِيهِ . عَائِده عَلَى الْكِتَاب , كَأَنَّهُ قَالَ : لَا شَكَّ فِي ذَلِكَ الْكِتَاب أَنَّهُ مِنْ عِنْد اللَّه هُدًى لِلْمُتَّقِينَ

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { هُدًى } . 212 - حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن حَازِم الْغِفَارِيّ , قَالَ , حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْم , قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَان , عَنْ بَيَان , عَنْ الشَّعْبِيّ . { هُدًى } قَالَ , هُدًى مِنْ الضَّلَالَة . 213 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ , حَدَّثَنَا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط بْن نَصْر , عَنْ إسْمَاعِيل السُّدِّيّ , فِي خَيْر ذِكْره . عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة الْهَمْدَانِيّ , عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } يَقُول : نُور لِلْمُتَّقِينَ . وَالْهُدَى فِي هَذَا الْمَوْضِع مَصْدَر مِنْ قَوْلك هَدَيْت فُلَانًا الطَّرِيق - إذَا أَرَشَدْته إلَيْهِ . وَدَلَّلْته عَلَيْهِ , وَبَيَّنْته لَهُ - أُهْدِيه هُدًى وَهِدَايَةً . فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِل : أَوْ مَا كِتَاب اللَّه نُورًا إلَّا لِلْمُتَّقِينَ وَلَا رَشَادًا إلَّا لِلْمُؤْمِنِينَ ؟ قِيلَ . ذَلِكَ كَمَا وَصَفَهُ رَبّنَا عَزَّ وَجَلَّ , وَلَوْ كَانَ نُورًا لِغَيْرِ الْمُتَّقِينَ , وَرَشَادًا لِغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَخْصُصْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ الْمُتَّقِينَ بِأَنَّهُ لَهُمْ هُدًى , بَلْ كَانَ يَعُمّ بِهِ جَمِيع الْمُنْذِرِينَ ; وَلَكِنَّهُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ , وَشِفَاء لِمَا فِي صُدُور الْمُؤْمِنِينَ , وَوَقِرَ فِي آذَانِ الْمُكَذِّبِينَ , وَعَمَى لِأَبْصَارِ الْجَاحِدِينَ . وَحُجَّة لِلَّهِ بَالِغَة عَلَى الْكَافِرِينَ ; فَالْمُؤْمِن بِهِ مُهْتَدٍ , وَالْكَافِر بِهِ مَحْجُوج . وَقَوْله : { هُدًى } يَحْتَمِل أَوْجُهًا مِنْ الْمَعَانِي ; أَحَدهَا : أَنْ يَكُون نَصَبًا لِمَعْنَى الْقَطْع مِنْ الْكِتَاب لِأَنَّهُ نَكَرَة وَالْكِتَاب مَعْرِفَة , فَيَكُون التَّأْوِيل حِينَئِذٍ : الم ذَلِكَ الْكِتَاب هَادِيًا لِلْمُتَّقِينَ . و " ذَلِكَ " مَرْفُوع ب " الم " , و " الم " بِهِ , و " الْكِتَاب " نَعْت ل " ذَلِكَ " . وَقَدْ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون نَصْبًا عَلَى الْقَطْع مَنْ رَاجَعَ ذِكْرَ الْكِتَاب الَّذِي فِي " فِيهِ " , فَيَكُون مَعْنَى ذَلِكَ حِينَئِذٍ : الم الَّذِي لَا رَيْب فِيهِ هَادِيًا . وَقَدْ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون أَيْضًا نَصْبًا عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ , أَعْنِي عَلَى وَجْه الْقَطْع مِنْ الْهَاء الَّتِي فِي " فِيهِ " , وَمِنْ الْكِتَاب عَلَى أَنَّ " الم " كَلَام تَامّ , كَمَا قَالَ ابْن عَبَّاس إنَّ مَعْنَاهُ : أَنَا اللَّه أَعْلَم . ثُمَّ يَكُون " ذَلِكَ الْكِتَاب " خَبَرًا مُسْتَأْنَفًا , وَيَرْفَع حِينَئِذٍ الْكِتَاب ب " ذَلِكَ " و " ذَلِكَ " بِالْكِتَابِ , وَيَكُون " هُدًى " قَطْعًا مِنْ الْكِتَاب , وَعَلَى أَنْ يُرْفَع " ذَلِكَ " بِالْهَاءِ الْعَائِدَة عَلَيْهِ الَّتِي فِي " فِيهِ " , وَالْكِتَاب نَعْت لَهُ , وَالْهُدَى قَطْع مِنْ الْهَاء الَّتِي فِي " فِيهِ " . وَإِنْ جُعِلَ الْهُدَى فِي مَوْضِع رَفْع لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُون " ذَلِكَ الْكِتَاب " إلَّا خَبَرًا مُسْتَأْنَفًا و " الم " كَلَامًا تَامًّا مُكْتَفِيًا بِنَفْسِهِ إلَّا مِنْ وَجْه وَاحِد ; وَهُوَ أَنْ يُرْفَع حِينَئِذٍ " هُدًى " بِمَعْنَى الْمَدْح كَمَا قَالَ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ : { الم تِلْكَ آيَات الْكِتَاب الْحَكِيم هُدًى وَرَحْمَة لِلْمُحْسِنِينَ } 31 1 : 3 فِي قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ " رَحْمَة " بِالرَّفْعِ عَلَى الْمَدْح لِلْآيَاتِ . وَالرَّفْع فِي " هُدًى " حِينَئِذٍ يَجُوز مِنْ ثَلَاثَة أَوَجْه , أَحَدهَا : مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ مَدْح مُسْتَأْنَف . وَالْآخَر : عَلَى أَنْ يَجْعَل الرَّافِع " ذَلِكَ " , وَالْكِتَاب نَعْت ل " ذَلِكَ " . وَالثَّالِث : أَنْ يَجْعَل تَابِعًا لِمَوْضِعِ " لَا رَيْب فِيهِ " , وَيَكُون " ذَلِكَ الْكِتَاب " مَرْفُوعًا بِالْعَائِدِ فِي " فِيهِ " , فَيَكُون كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْره : { وَهَذَا كِتَاب أَنَزَلْنَاهُ مُبَارَك } . 6 92 وَقَدْ زَعَمَ بَعْض الْمُتَقَدِّمِينَ فِي الْعِلْم بِالْعَرَبِيَّةِ مِنْ الْكُوفِيِّينَ أَنَّ " الم " رَافِع " ذَلِكَ الْكِتَاب " بِمَعْنَى : هَذِهِ الْحُرُوف مِنْ حُرُوف الْمُعْجَم , ذَلِكَ الْكِتَاب الَّذِي وَعُدْتُك أَنْ أُوحِيه إلَيْك . ثُمَّ نَقَضَ ذَلِكَ مِنْ قَوْله فَأَسْرَعَ نَقْضه , وَهَدَمَ مَا بَنَى فَأَسْرَعَ هَدْمه , فَزَعَمَ أَنَّ الرَّفْع فِي " هُدًى " مِنْ وَجْهَيْنِ وَالنَّصْب مِنْ وَجْهَيْنِ , وَأَنَّ أَحَد وَجْهَيْ الرَّفْع أَنْ يَكُون " الْكِتَاب " نَعْتًا ل " ذَلِكَ " , و " الْهُدَى " فِي مَوْضِع رَفْع خَبَر ل " ذَلِكَ " كَأَنَّك قُلْت : ذَلِكَ لَا شَكَّ فِيهِ . قَالَ : وَإِنْ جَعَلْت " لَا رَيْب فِيهِ " خَبَره رَفَعْت أَيْضًا " هُدًى " بِجَعْلِهِ تَابِعًا لِمَوْضِعِ " لَا رَيْب فِيهِ " كَمَا قَالَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { وَهَذَا كِتَاب أَنَزَلْنَاهُ مُبَارَك } كَأَنَّهُ قَالَ : وَهَذَا كِتَاب هُدًى مِنْ صِفَته كَذَا وَكَذَا . قَالَ : وَأَمَّا أَحَد وَجْهَيْ النَّصْب , فَأَنْ تَجْعَل " الْكِتَاب " خَبَرًا ل " ذَلِكَ " وَتَنْصِب " هُدًى " عَلَى الْقَطْع ; لِأَنَّ " هُدًى " نَكَرَة اتَّصَلَتْ بِمُعْرِفَةٍ وَقَدْ تَمَّ خَبَرهَا فَتَنْصِبهَا , لِأَنَّ النَّكَرَة لَا تَكُون دَلِيلًا عَلَى مَعْرِفَةٍ , وَإِنْ شِئْت نَصَبْت " هُدًى " عَلَى الْقَطْع مِنْ الْهَاء الَّتِي فِي " فِيهِ " كَأَنَّك قُلْت : لَا شَكَّ فِيهِ هَادِيًا . قَالَ أَبُو جَعْفَر : فَتَرْك الْأَصْل الَّذِي أَصْله فِي " الم " وَأَنَّهَا مَرْفُوعَة ب " ذَلِكَ الْكِتَاب " وَنَبَذَهُ وَرَاء ظَهْره . وَاللَّازِم لَهُ عَلَى الْأَصْل الَّذِي كَانَ أَصْله أَنْ لَا يُجِيز الرَّفْع فِي " هُدًى " بِحَالِ إلَّا مِنْ وَجْه وَاحِد , وَذَلِكَ مِنْ قَبْل الِاسْتِئْنَاف إذْ كَانَ مَدْحًا . فَأَمَّا عَلَى وَجْه الْخَبَر لِذَلِكَ , أَوْ عَلَى وَجْه الْإِتْبَاع لِمَوْضِعِ " لَا رَيْب فِيهِ " , فَكَانَ اللَّازِم لَهُ عَلَى قَوْله أَنْ يَكُون خَطَأ , وَذَلِكَ أَنَّ " الم " إذَا رَفَعْت " ذَلِكَ الْكِتَاب " فَلَا شَكَّ أَنَّ " هُدًى " غَيْر جَائِز حِينَئِذٍ أَنْ يَكُون خَبَرًا " ذَلِكَ " بِمَعْنَى الرَّافِع لَهُ , أَوْ تَابِعًا لِمَوْضِعِ لَا رَيْب فِيهِ , لِأَنَّ مَوْضِعه حِينَئِذٍ نُصِبَ لِتَمَامِ الْخَبَر قَبْله وَانْقِطَاعه بِمُخَالَفَتِهِ إيَّاهُ عَنْهُ .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { لِلْمُتَّقِينَ } . 214 - حَدَّثَنَا سُفْيَان بْن وَكِيع , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ سُفْيَان , عَنْ رَجُل , عَنْ الْحَسَن قَوْله : { لِلْمُتَّقِينَ } قَالَ : اتَّقُوا مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ وَأَدُّوا مَا اُفْتُرِضَ عَلَيْهِمْ . 215 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة بْن الْفَضْل , عَنْ مُحَمَّد بْن إسْحَاق , عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس : { لِلْمُتَّقِينَ } أَيْ الَّذِينَ يَحْذَرُونَ مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عُقُوبَته فِي تَرْك مَا يَعْرِفُونَ مِنْ الْهُدَى , وَيَرْجُونَ رَحْمَته بِالتَّصْدِيقِ بِمَا جَاءَ بِهِ . 216 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة الْهَمْدَانِيّ , عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } قَالَ : هُمْ الْمُؤْمِنُونَ . 217 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن عَيَّاش , قَالَ : سَأَلَنِي الْأَعْمَش عَنْ الْمُتَّقِينَ , قَالَ : فَأَجَبْته , فَقَالَ لِي : سُئِلَ عَنْهَا الْكَلْبِيّ ! فَسَأَلْته فَقَالَ : الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِر الْإِثْم . قَالَ : فَرَجَعْت إلَى الْأَعْمَش , فَقَالَ : نَرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرهُ . 218 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْن إبْرَاهِيم الطَّبَرِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا إسْحَاق بْن الْحَجَّاج عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَبْد اللَّه , قَالَ : حَدَّثَنَا عُمَر أَبُو حَفْص , عَنْ سَعِيد بْن أَبِي عَرُوبَة , عَنْ قَتَادَةَ . { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } هُمْ مِنْ نَعْتهمْ وَوَصْفهمْ فَأَثْبَتَ صِفَتهمْ فَقَالَ : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } 219 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا عُثَان بْن سَعِيد , قَالَ حَدَّثَنَا بِشْر بْن عَمَّار , عَنْ أَبِي رَوْق عَنْ الضَّحَّاك عَنْ ابْن عَبَّاس : { لِلْمُتَّقِينَ } قَالَ : الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَتَّقُونَ الشِّرْك وَيَعْمَلُونَ بِطَاعَتِي . وَأَوْلَى التَّأْوِيلَات بِقَوْلِ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } تَأْوِيل مِنْ وَصْف الْقَوْم بِأَنَّهُمْ الَّذِينَ اتَّقُوا اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي رُكُوب مَا نَهَاهُمْ عَنْ رُكُوبه , فَتَجَنَّبُوا مَعَاصِيه وَاتَّقُوهُ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ فَرَائِضه فَأَطَاعُوهُ بِأَدَائِهَا . وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إنَّمَا وَصَفَهُمْ بِالتَّقْوَى فَلَمْ يَحْصُر تَقْوَاهُمْ إيَّاهُ عَلَى بَعْضهَا مِنْ أَهْل مِنْهُمْ دُون بَعْض . فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ النَّاس أَنْ يَحْصُر مَعْنَى ذَلِكَ عَلَى وَصْفهمْ بِشَيْءٍ مِنْ تَقْوَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ دُون شَيْء إلَّا بِحَجَّةٍ يَجِب التَّسْلِيم لَهَا , لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَّة الْقَوْم لَوْ كَانَ مَحْصُورًا عَلَى خَاصٍّ مِنْ مَعَانِي التَّقْوَى دُون الْعَالِم مِنْهَا لَمْ يَدَع اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ بَيَان ذَلِكَ لِعِبَادِهِ , أَمَّا فِي كِتَابه , وَإِمَّا عَلَى لِسَان رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; إذْ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْل دَلِيل عَلَى اسْتِحَالَة وَصْفهمْ بِعُمُومِ التَّقْوَى . فَقَدْ تَبَيَّنَ إذًا بِذَلِكَ فَسَاد قَوْل مَنْ زَعَمَ أَنَّ تَأْوِيل ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ : الَّذِينَ اتَّقَوْا الشِّرْك وَبَرَءُوا مِنْ النِّفَاق ; لِأَنَّهُ قَدْ يَكُون كَذَلِكَ وَهُوَ فَاسِق غَيْر مُسْتَحَقّ أَنْ يَكُون مِنْ الْمُتَّقِينَ . إلَّا أَنْ يَكُون عِنْد قَائِل هَذَا الْقَوْل مَعْنَى النِّفَاق رُكُوب الْفَوَاحِش الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَتَضْيِيع فَرَائِضه الَّتِي فَرَضَهَا عَلَيْهِ , فَإِنَّ جَمَاعَة مِنْ أَهْل الْعِلْم قَدْ كَانَتْ تُسَمِّي مِنْ كَانَ يَقَع ذَلِكَ مُنَافِقًا , فَيَكُون - وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا فِي تَسْمِيَته مَنْ كَانَ كَذَلِكَ بِهَذَا الِاسْم - مُصِيبًا تَأْوِيل قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لِلْمُتَّقِينَ .
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَسورة البقرة الآية رقم 3
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى . { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } 220 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ , قَالَ حَدَّثَنَا سَلَمَة بْن الْفَضْل , عَنْ مُحَمَّد بْن إسْحَاق , عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت , عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ ابْن عَبَّاس : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } قَالَ : يُصَدِّقُونَ . حَدَّثَنِي يَحْيَى بْن عُثْمَان بْن صَالِح السَّهْمِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو صَالِح , قَالَ : حَدَّثَنِي مُعَاوِيَة بْن صَالِح عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة , عَنْ ابْن عَبَّاس : { يُؤْمِنُونَ } يُصَدِّقُونَ . 221 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : حَدَّثَنَا إسْحَاق بْن الْحَجَّاج , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع : { يُؤْمِنُونَ } يَخْشَوْنَ . 222 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الْأَعْلَى الصَّنْعَانِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن ثَوْر عَنْ مَعْمَر , قَالَ : قَالَ الزُّهْرِيّ : الْإِيمَان : الْعَمَل . 223 - وَحَدَّثَنَا عَنْ عَمَّار بْن الْحَسَن , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن أَبِي جَعْفَر عَنْ أَبِيهِ عَنْ الْعَلَاء بْن الْمُسَيِّب بْن رَافِع , عَنْ أَبِي إسْحَاق , عَنْ أَبِي الْأَحْوَص عَنْ عَبْد اللَّه , قَالَ : الْإِيمَان : التَّصْدِيق . وَمَعْنَى الْإِيمَان عِنْد الْعَرَب : التَّصْدِيق , فَيَدَّعِي الْمُصَدِّق بِالشَّيْءِ قَوْلًا مُؤْمِنًا بِهِ , وَيَدَّعِي الْمُصَدِّق قَوْله بِفِعْلِهِ مُؤْمِنًا . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } 12 17 يَعْنِي : وَمَا أَنْتَ بِمُصَدِّقٍ لَنَا فِي قَوْلنَا . وَقَدْ تَدْخُل الْخَشْيَة لِلَّهِ فِي مَعْنَى الْإِيمَان الَّذِي هُوَ تَصْدِيق الْقَوْل بِالْعَمَلِ . وَالْإِيمَان كَلِمَة جَامِعَة لِلْإِقْرَارِ بِاَللَّهِ وَكُتُبه وَرُسُله , وَتَصْدِيق الْإِقْرَار بِالْفِعْلِ . وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ , فَاَلَّذِي هُوَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَة وَأَشْبَهَ بِصِفَّةِ الْقَوْم : أَنْ يَكُونُوا مَوْصُوفِينَ بِالتَّصْدِيقِ بِالْغَيْبِ , قَوْلًا , وَاعْتِقَادًا , وَعَمَلًا , إذْ كَانَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمْ يَحْصُرهُمْ مِنْ مَعْنَى الْإِيمَان عَلَى مَعْنًى دُون مَعْنًى , بَلْ أَجْمَلَ وَصْفَهُمْ بِهِ مِنْ غَيْر خُصُوص شَيْء مِنْ مَعَانِيه أَخَرَجَهُ مِنْ صِفَتهمْ بِخَبَرٍ وَلَا عَقْل .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { بِالْغَيْبِ } 224 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة بْن الْفَضْل , عَنْ مُحَمَّد بْن إسْحَاق , عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد , مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت , عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس : { بِالْغَيْبِ } قَالَ : بِمَا جَاءَ بِهِ , يَعْنِي مِنْ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ . 225 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة الْهَمْدَانِيّ , عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ : { بِالْغَيْبِ } أَمَّا الْغَيْب : فَمَا غَابَ عَنْ الْعِبَاد مِنْ أَمْر الْجَنَّة وَأَمْر النَّار , وَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي الْقُرْآن . لَمْ يَكُنْ تَصْدِيقهمْ بِذَلِكَ - يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْعَرَب - مِنْ قِبَل أَصْلِ كِتَاب أَوْ عِلْم كَانَ عِنْدهمْ . 226 - حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إسْحَاق الْأَهْوَازِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الزُّبَيْرِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَان عَنْ عَاصِم , عَنْ زِرّ , قَالَ : الْغَيْب : الْقُرْآن . 227 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ الْعَقَدِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد بْن زُرَيْع , عَنْ سَعِيد بْن أَبِي عَرُوبَة , عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } قَالَ : آمَنُوا بِالْجَنَّةِ وَالنَّار وَالْبَعْث بَعْد الْمَوْت وَبِيَوْمِ الْقِيَامَة , وَكُلّ هَذَا غَيْب . 228 - حَدَّثَنَا عَنْ عَمَّار بْن الْحَسَن , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } آمَنُوا بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَته وَرُسُله وَالْيَوْم الْآخِر وَجَنَّته وَنَاره وَلِقَائِهِ , وَآمَنُوا بِالْحَيَاةِ بَعْد الْمَوْت , فَهَذَا كُلّه غَيْب . وَأَصْل الْغَيْب : كُلّ مَا غَابَ عَنْك مِنْ شَيْء , وَهُوَ مِنْ قَوْلك : غَابَ فُلَان يَغِيب غَيْبًا . وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي أَعْيَانِ الْقَوْم الَّذِينَ أَنَزَلَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنْ أَوَّل هَذِهِ السُّورَة فِيهِمْ , وَفِي نَعْتهمْ وَصِفَتهمْ الَّتِي وَصَفَهُمْ بِهَا مِنْ إيمَانهمْ بِالْغَيْبِ , وَسَائِر الْمَعَانِي الَّتِي حَوَتْهَا الْآيَتَانِ مِنْ صِفَاتهمْ غَيْره . فَقَالَ بَعْضهمْ : هُمْ مُؤْمِنُو الْعَرَب خَاصَّة , دُون غَيْرهمْ مِنْ مُؤْمِنِي أَهْل الْكِتَاب . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى صِحَّة قَوْلهمْ ذَلِكَ وَحَقِيقَة تَأْوِيلهمْ بِالْآيَةِ الَّتِي تَتْلُو هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ , وَهُوَ قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : { وَاَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْك وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلك } قَالُوا : فَلَمْ يَكُنْ لِلْعَرَبِ كِتَاب قَبْل الْكِتَاب الَّذِي أَنَزَلَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَدِين بِتَصْدِيقِهِ وَالْإِقْرَار وَالْعَمَل بِهِ , وَإِنَّمَا كَانَ الْكِتَاب لِأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ غَيْرهَا . قَالُوا : فَلَمَّا قَصَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ نَبَأ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أَنَزَلَ إلَى مُحَمَّد وَمَا أَنَزَلَ مِنْ قَبْله بَعْد اقْتِصَاصه نَبَأ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ , عَلِمْنَا أَنَّ كُلّ صِنْف مِنْهُمْ غَيْر الصِّنْف الْآخَر , وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ نَوْع غَيْر النَّوْع الْمُصَدِّق بِالْكِتَابَيْنِ اللَّذَيْنِ أَحَدهمَا مُنَزَّل عَلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَالْآخَر مِنْهُمَا عَلَى مَنْ قَبْله مِنْ رُسُل اللَّه تَعَالَى ذِكْره . قَالُوا : وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ صَحَّ مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ تَأْوِيل قَوْل اللَّه تَعَالَى : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } إنَّمَا هُمْ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا غَابَ عَنْهُمْ مِنْ الْجَنَّة وَالنَّار وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب وَالْبَعْث , وَالتَّصْدِيق بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَته وَكُتُبه وَرُسُله وَجَمِيع مَا كَانَتْ الْعَرَب لَا تَدِين بِهِ فِي جَاهِلِيَّتهَا , بِمَا أَوَجَبَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَلَى عِبَاده الدَّيْنُونَة بِهِ دُون غَيْرهمْ . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 229 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس ; وَعَنْ مُرَّة الْهَمْدَانِيّ , عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } فَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ الْعَرَب , { وَيُقِيمُونَ الصَّلَاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } أَمَّا الْغَيْب : فَمَا غَابَ عَنْ الْعِبَاد مِنْ أَمْر الْجَنَّة وَالنَّار , وَمَا ذَكَرَ اللَّه فِي الْقُرْآن . لَمْ يَكُنْ تَصْدِيقهمْ بِذَلِكَ مِنْ قِبَل أَصْلِ كِتَاب أَوْ عِلْم كَانَ عِنْدهمْ . { وَاَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْك وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلك وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَهْل الْكِتَاب . وَقَالَ بَعْضهمْ : بَلْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَات الْأَرْبَع فِي مُؤْمِنِي أَهْل الْكِتَاب خَاصَّة , لِإِيمَانِهِمْ بِالْقُرْآنِ عِنْد إخْبَار اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ إيَّاهُمْ فِيهِ عَنْ الْغُيُوب الَّتِي كَانُوا يَخْفُونَهَا بَيْنهمْ وَيُسِرُّونَهَا , فَعَلِمُوا عِنْد إظْهَار اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي تَنْزِيله أَنَّهُ مِنْ عِنْد اللَّه جَلَّ وَعَزَّ , فَآمَنُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَدَّقُوا بِالْقُرْآنِ وَمَا فِيهِ مِنْ الْإِخْبَار عَنْ الْغُيُوب الَّتِي لَا عِلْم لَهُمْ بِهَا لَمَا اسْتَقَرَّ عِنْدهمْ بِالْحُجَّةِ الَّتِي احْتَجَّ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهَا عَلَيْهِمْ فِي كِتَابه , مِنْ الْإِخْبَار فِيهِ عَمَّا كَانُوا يَكْتُمُونَهُ مِنْ ضَمَائِرهمْ ; أَنَّ جَمِيع ذَلِكَ مِنْ عِنْد اللَّه . وَقَالَ بَعْضهمْ : بَلْ الْآيَات الْأَرْبَع مِنْ أَوَّل هَذِهِ السُّورَة أُنْزِلَتْ عَلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَصْفِ جَمِيع الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ ذَلِكَ صِفَتهمْ مِنْ الْعَرَب وَالْعَجَم وَأَهْل الْكِتَابَيْنِ [ و ] سِوَاهُمْ , وَإِنَّمَا هَذِهِ صِفَة صِنْف مِنْ النَّاس , وَالْمُؤْمِن بِمَا أَنَزَلَ اللَّه عَلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أَنَزَلَ مِنْ قَبْله هُوَ الْمُؤْمِن بِالْغَيْبِ . قَالُوا : وَإِنَّمَا وَصَفَهُمْ اللَّه بِالْإِيمَانِ بِمَا أَنَزَلَ إلَى مُحَمَّد وَبِمَا أَنَزَلَ إلَى مَنْ قَبْله بَعْد تَقَضِّي وَصْفه إيَّاهُمْ بِالْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ ; لِأَنَّ وَصْفه إيَّاهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ مِنْ الْإِيمَان بِالْغَيْبِ كَانَ مَعْنِيًّا بِهِ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّار وَالْبَعْث , وَسَائِر الْأُمُور الَّتِي كَلَّفَهُمْ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِالْإِيمَانِ بِهَا مِمَّا لَمْ يَرَوْهُ وَلَمْ يَأْتِ بَعْد مِمَّا هُوَ آتٍ , دُون الْإِخْبَار عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ قَبْله مِنْ الرُّسُل وَالْكُتُب . قَالُوا : فَلَمَّا كَانَ مَعْنَى قَوْله { وَاَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْك وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلك } غَيْر مَوْجُود فِي قَوْله : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } كَانَتْ الْحَاجَة مِنْ الْعِبَاد إلَى مَعْرِفَة صِفَتهمْ بِذَلِكَ لِيُعَرِّفهُمْ نَظِير حَاجَتهمْ إلَى مَعْرِفَتهمْ بِالصِّفَّةِ الَّتِي وُصِفُوا بِهَا مِنْ إيمَانهمْ بِالْغَيْبِ لِيَعْلَمُوا مَا يُرْضِي اللَّه مِنْ أَفْعَال عِبَاده , وَيُحِبّهُ مِنْ صِفَاتهمْ , فَيَكُونُوا بِهِ إنْ وَفَّقَهُمْ لَهُ رَبّهمْ [ مُؤْمِنِينَ ] ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 230 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو بْن الْعَبَّاس الْبَاهِلِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِم الضَّحَّاك بْن مَخْلَدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا عِيسَى بْن مَيْمُون الْمَكِّيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد , قَالَ : أَرْبَع آيَات مِنْ سُورَة الْبَقَرَة فِي نَعْت الْمُؤْمِنِينَ وَآيَتَانِ فِي نَعْت الْكَافِرِينَ وَثَلَاث عَشْرَة فِي الْمُنَافِقِينَ . * حَدَّثَنَا سُفْيَان بْن وَكِيع , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ سُفْيَان , عَنْ رَجُل , عَنْ مُجَاهِد بِمِثْلِهِ . * وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْن إبْرَاهِيم , قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْن مَسْعُود , قَالَ : حَدَّثَنَا شِبْل , عَنْ أَنَّ أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد مِثْله . 231 - وَحَدَّثَتْ عَنْ عَمَّار بْن الْحَسَن , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس , قَالَ : أَرْبَع آيَات مِنْ فَاتِحَة هَذِهِ السُّورَة - يَعْنِي سُورَة الْبَقَرَة - فِي الَّذِينَ آمَنُوا , وَآيَتَانِ فِي قَادَة الْأَحْزَاب . وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي بِالصَّوَابِ وَأَشْبَهَهُمَا بِتَأْوِيلِ الْكِتَاب , الْقَوْل الْأَوَّل , وَهُوَ : أَنَّ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ اللَّه تَعَالَى ذِكْره بِالْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ , وَمَا وَصَفَهُمْ بِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي الْآيَتَيْنِ الْأُولَتَيْنِ غَيْر الَّذِينَ وَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِاَلَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّد وَاَلَّذِي أُنْزِلَ إلَى مَنْ قَبْله مِنْ الرُّسُل ; لِمَا ذَكَرْت مِنْ الْعِلَل قَبْل لِمَنْ قَالَ ذَلِكَ , وَمِمَّا يَدُلّ أَيْضًا مَعَ ذَلِكَ عَلَى صِحَّة هَذَا الْقَوْل أَنَّهُ جِنْس - بَعْد وَصْف الْمُؤْمِنِينَ بِالصِّفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ وَصَفَ , وَبَعْد تَصْنِيفه إلَى كُلّ صِنْف مِنْهُمَا عَلَى مَا صَنَّفَ الْكُفَّار - جِنْسَيْنِ , فَجَعَلَ أَحَدهمَا مَطْبُوعًا عَلَى قَلْبه مَخْتُومًا عَلَيْهِ مَأْيُوسًا مِنْ إيمَانه , وَالْآخَر مُنَافِقًا يُرَائِي بِإِظْهَارِ الْإِيمَان فِي الظَّاهِر , وَيَسْتَسِرّ النِّفَاق فِي الْبَاطِن , فَصَيَّرَ الْكُفَّار جِنْسَيْنِ كَمَا صَيَّرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَوَّل السُّورَة جِنْسَيْنِ . ثُمَّ عَرَّفَ عِبَاده نَعْت كُلّ صِنْف مِنْهُمْ وَصِفَتهمْ وَمَا أَعَدَّ لِكُلِّ فَرِيق مِنْهُمْ مِنْ ثَوَاب أَوْ عِقَاب , وَذَمَّ أَهْل الذَّمّ مِنْهُمْ وَشَكَرَ سَعْي أَهْل الطَّاعَة مِنْهُمْ .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَيُقِيمُونَ } إقَامَتهَا : أَدَاؤُهَا بِحُدُودِهَا وَفُرُوضهَا وَالْوَاجِب فِيهَا عَلَى مَا فُرِضَتْ عَلَيْهِ , كَمَا يُقَال : أَقَامَ الْقَوْم سُوقهمْ , إذَا لَمْ يُعَطِّلُوهَا مِنْ الْبَيْع وَالشِّرَاء فِيهَا , وَكَمَا قَالَ الشَّاعِر : أَقَمْنَا لِأَهْلِ الْعِرَاقَيْنِ سُوق الضْ وضِرَاب فَخَامُوا وَوَلَّوْا جَمِيعًا 232 - وَكَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة بْن الْفَضْل , عَنْ مُحَمَّد بْن إسْحَاق , عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت , عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس : { وَيُقِيمُونَ الصَّلَاة } قَالَ : الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاة بِفُرُوضِهَا 233 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَان بْن سَعِيد عَنْ بِشْر بْن عَمَّار , عَنْ أَبِي رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك , عَنْ ابْن عَبَّاس : { وَيُقِيمُونَ الصَّلَاة } قَالَ : إقَامَة الصَّلَاة : تَمَام الرُّكُوع وَالسُّجُود وَالتِّلَاوَة وَالْخُشُوع وَالْإِقْبَال عَلَيْهَا فِيهَا .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { الصَّلَاة } 234 - حَدَّثَنِي يَحْيَى بْن أَبِي طَالِب , قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد , قَالَ : حَدَّثَنَا جُوَيْبِر عَنْ الضَّحَّاك فِي قَوْله : { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاة } يَعْنِي الصَّلَاة الْمَفْرُوضَة . وَأَمَّا الصَّلَاة فِي كَلَام الْعَرَب فَإِنَّهَا الدُّعَاء كَمَا قَالَ الْأَعْشَى : لَهَا حَارِس لَا يَبْرَح الدَّهْر بَيْتهَا وَإِنْ ذُبِحَتْ صَلَّى عَلَيْهَا وَزَمْزَمَا يَعْنِي بِذَلِكَ : دَعَا لَهَا , وَكَقَوْلِ الْآخَر أَيْضًا وَقَابَلَهَا الرِّيح فِي دَنِّهَا وَصَلَّى عَلَى دَنِّهَا وَارْتَسَمَ وَأَرَى أَنَّ الصَّلَاة الْمَفْرُوضَة سُمِّيَتْ صَلَاة ; لِأَنَّ الْمُصَلِّي مُتَعَرِّض لِاسْتِنْجَاحِ طِلْبَته مِنْ ثَوَاب اللَّه بِعَمَلِهِ مَعَ مَا يَسْأَل رَبّه فِيهَا مِنْ حَاجَاته تُعَرِّض الدَّاعِي بِدُعَائِهِ رَبّه اسْتِنْجَاح حَاجَاته وَسُؤْله .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَأْوِيل ذَلِكَ , فَقَالَ بَعْضهمْ بِمَا : 235 - حَدَّثَنَا بِهِ ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة , عَنْ مُحَمَّد بْن إسْحَاق , عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت , عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } قَالَ : يُؤْتَوْنَ الزَّكَاة احْتِسَابًا بِهَا . 236 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن صَالِح , عَنْ مُعَاوِيَة , عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة , عَنْ ابْن عَبَّاس : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } قَالَ : زَكَاة أَمْوَالهمْ . 237 - حَدَّثَنِي يَحْيَى بْن أَبِي طَالِب , قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد , قَالَ : أَخْبَرَنَا جُوَيْبِر عَنْ الضَّحَّاك : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } قَالَ : كَانَتْ النَّفَقَات قُرُبَات يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إلَى اللَّه عَلَى قَدْر مَيْسُورهمْ وَجَهْدهمْ , حَتَّى نَزَلَتْ فَرَائِض الصَّدَقَات سَبْع آيَات فِي سُورَة بَرَاءَة , مِمَّا يَذْكُر فِيهِنَّ الصَّدَقَات , هُنَّ الْمُثْبِتَات النَّاسِخَات . وَقَالَ بَعْضهمْ بِمَا : 238 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة الْهَمْدَانِيّ , عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } هِيَ نَفَقَة الرَّجُل عَلَى أَهْله , وَهَذَا قَبْل أَنْ تَنْزِل الزَّكَاة . وَأَوْلَى التَّأْوِيلَات بِالْآيَةِ وَأَحَقّهَا بِصِفَةِ الْقَوْم أَنْ يَكُونُوا كَانُوا لِجَمِيعِ اللَّازِم لَهُمْ فِي أَمْوَالهمْ , مُؤَدِّينَ زَكَاة كَانَ ذَلِكَ أَوْ نَفَقَة مَنْ لَزِمَتْهُ نَفَقَته مِنْ أَهْل وَعِيَال وَغَيْرهمْ , مِمَّنْ تَجِب عَلَيْهِمْ نَفَقَته بِالْقَرَابَةِ وَالْمِلْك وَغَيْر ذَلِكَ ; لِأَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَمَّ وَصْفهمْ , إذْ وَصَفَهُمْ بِالْإِنْفَاقِ مِمَّا رَزَقَهُمْ , فَمَدْحهمْ بِذَلِكَ مِنْ صِفَتهمْ , فَكَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ إذْ لَمْ يَخْصُصْ مَدْحهمْ وَوَصَفَهُمْ بِنَوْعٍ مِنْ النَّفَقَات الْمَحْمُود عَلَيْهَا صَاحِبهَا دُون نَوْع بِخَبَرٍ وَلَا غَيْره أَنَّهُمْ مَوْصُوفُونَ بِجَمِيعِ مَعَانِي النَّفَقَات الْمَحْمُود عَلَيْهَا صَاحِبهَا مِنْ طِيب مَا رَزَقَهُمْ رَبّهمْ مِنْ أَمْوَالهمْ وَأَمْلَاكِهِمْ , وَذَلِكَ الْحَلَال مِنْهُ الَّذِي لَمْ يُشْبِه حَرَام .
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَسورة البقرة الآية رقم 4
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْك وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلك } قَدْ مَضَى الْبَيَان عَنْ الْمَنْعُوتِينَ بِهَذَا النَّعْت , وَأَيّ أَجْنَاس النَّاس هُمْ . غَيْر أَنَّا نَذْكُر مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ فِي تَأْوِيله قَوْل : 239 - فَحَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة , عَنْ مُحَمَّد بْن إسْحَاق , عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت , عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس : { وَاَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْك وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلك } أَيْ يُصَدِّقُونَك بِمَا جِئْت بِهِ مِنْ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ , وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ قَبْلك مِنْ الْمُرْسَلِينَ , لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنهمْ وَلَا يَجْحَدُونَ مَا جَاءُوهُمْ بِهِ مِنْ عِنْد رَبّهمْ . 240 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة الْهَمْدَانِيّ , عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَاَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْك وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلك وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَهْل الْكِتَاب .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } قَالَ أَبُو جَعْفَر : أَمَّا الْآخِرَة , فَإِنَّهَا صِفَة لِلدَّارِ , كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { وَإِنَّ الدَّار الْآخِرَة لَهِيَ الْحَيَوَان لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } 29 64 وَإِنَّمَا وُصِفَتْ بِذَلِكَ لِمَصِيرِهَا آخِرَة لِأُولَى كَانَتْ قَبْلهَا كَمَا تَقُول لِلرَّجُلِ : أَنْعَمْت عَلَيْك مَرَّة بَعْد أُخْرَى فَلَمْ تَشْكُر لِي الْأُولَى وَلَا الْآخِرَة . وَإِنَّمَا صَارَتْ الْآخِرَة آخِرَة لِلْأُولَى , لِتَقَدُّمِ الْأُولَى أَمَامهَا , فَكَذَلِكَ الدَّار الْآخِرَة سُمِّيَتْ آخِرَة لِتَقَدُّمِ الدَّار الْأُولَى أَمَامهَا , فَصَارَتْ التَّالِيَة لَهَا آخِرَة . وَقَدْ يَجُوز أَنْ تَكُون سُمِّيَتْ آخِرَة لِتَأَخُّرِهَا عَنْ الْخَلْق , كَمَا سُمِّيَتْ الدُّنْيَا دُنْيَا لِدُنُوِّهَا مِنْ الْخَلْق . وَأَمَّا الَّذِي وَصَفَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ - بِمَا أَنَزَلَ إلَى نَبِيّه مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَمَا أَنَزَلَ إلَى مَنْ قَبْله مِنْ الْمُرْسَلِينَ - مِنْ إيقَانهمْ بِهِ مِنْ أَمْر الْآخِرَة , فَهُوَ إيقَانهمْ بِمَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ بِهِ جَاحِدِينَ , مِنْ الْبَعْث وَالنَّشْر وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب وَالْحِسَاب وَالْمِيزَان , وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا أَعَدَّ اللَّه لِخَلْقِهِ يَوْم الْقِيَامَة . كَمَا : 241 - حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّد بْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة عَنْ مُحَمَّد بْن إسْحَاق عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت , عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس : { وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } أَيْ بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَة وَالْجَنَّة وَالنَّار وَالْحِسَاب وَالْمِيزَان , أَيْ لَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا كَانَ قَبْلك وَيَكْفُرُونَ بِمَا جَاءَك مِنْ رَبّك . وَهَذَا التَّأْوِيل مِنْ ابْن عَبَّاس قَدْ صَرَّحَ عَنْ أَنَّ السُّورَة مِنْ أَوَّلهَا وَإِنْ كَانَتْ الْآيَات الَّتِي فِي أَوَّلهَا مِنْ نَعْت الْمُؤْمِنِينَ تَعْرِيض مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِذَمِّ الْكُفَّار أَهْل الْكِتَاب الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ بِمَا جَاءَتْ بِهِ رَسُول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ الَّذِينَ كَانُوا قَبْل مُحَمَّد صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِمْ وَعَلَيْهِ مُصَدِّقُونَ وَهُمْ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مُكَذِّبُونَ , وَلَمَّا جَاءَ بِهِ مِنْ التَّنْزِيل جَاحِدُونَ , وَيَدَّعُونَ مَعَ جُحُودهمْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ وَأَنَّهُ لَنْ يَدْخُل الْجَنَّة إلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى فَأَكْذَبَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ ذَلِكَ مِنْ قَيْلهمْ بِقَوْلِهِ : { الم ذَلِكَ الْكِتَاب لَا رَيْب فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَاَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْك وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلك وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } وَأَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عِبَاده أَنَّ هَذَا الْكِتَاب هُدًى لِأَهْلِ الْإِيمَان بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَبِمَا جَاءَ بِهِ الْمُصَدِّقِينَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ وَإِلَى مَنْ قَبْله مِنْ رُسُله مِنْ الْبَيِّنَات وَالْهُدَى خَاصَّة , دُون مِنْ كَذَبَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ , وَادَّعَى أَنَّهُ مُصَدِّقٌ بِمِنْ قَبْل مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مِنْ الرُّسُل وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْكُتُب . ثُمَّ أَكَّدَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَمْر الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْعَرَب وَمِنْ أَهْل الْكِتَاب الْمُصَدِّقِينَ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَبِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ وَإِلَى مَنْ قَبْله مِنْ الرُّسُل بِقَوْلِهِ : { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبّهمْ وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ هُمْ أَهْل الْهُدَى وَالْفَلَاح خَاصَّة دُون غَيْرهمْ , وَأَنَّ غَيْرهمْ هُمْ أَهْل الضَّلَال وَالْخَسَار .
أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَسورة البقرة الآية رقم 5
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبّهمْ } اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِيمَنْ عَنَى اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ : { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبّهمْ } فَقَالَ بَعْضهمْ : عَنَى بِذَلِكَ أَهْل الصِّفَتَيْنِ المتقدمتين , أَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ مِنْ الْعَرَب وَالْمُؤْمِنِينَ بِمَا أُنْزِلَ إلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى مَنْ قَبْله مِنْ الرُّسُل , وَإِيَّاهُمْ جَمِيعًا وَصَفَ بِأَنَّهُمْ عَلَى هُدًى مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ هُمْ الْمُفْلِحُونَ . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنْ أَهْل التَّأْوِيل 242 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة الْهَمْدَانِيّ , عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَّا الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ , فَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ الْعَرَب , وَاَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْك : الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَهْل الْكِتَاب . ثُمَّ جَمَعَ الْفَرِيقَيْنِ فَقَالَ : { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبّهمْ وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } وَقَالَ بَعْضهمْ : بَلْ عَنَى بِذَلِكَ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ; وَهُمْ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَى مُحَمَّد , وَبِمَا أُنْزِلَ إلَى مَنْ قَبْله مِنْ الرُّسُل . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ عَنَى بِذَلِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَبِمَا أُنْزِلَ إلَى مَنْ قَبْله , وَهُمْ مُؤْمِنُو أَهْل الْكِتَاب الَّذِينَ صَدَّقُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ , وَكَانُوا مُؤْمِنِينَ مِنْ قَبْل بِسَائِرِ الْأَنْبِيَاء وَالْكُتُب . وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيل الْآخَر , يَحْتَمِل أَنْ يَكُون : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْك } فِي مَحَلّ خَفْض , وَمَحَلّ رَفْع ; فَأَمَّا الرَّفْع فِيهِ فَإِنَّهُ يَأْتِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا مِنْ قَبْل الْعَطْف عَلَى مَا فِي { يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } مِنْ ذِكْر " الَّذِينَ " . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُون خَبَر مُبْتَدَأ , وَيَكُون : { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبّهمْ } رَافِعهَا . وَأَمَّا الْخَفْض فَعَلَى الْعَطْف عَلَى { الْمُتَّقِينَ } وَإِذَا كَانَتْ مَعْطُوفَة عَلَى " الَّذِينَ " اتَّجَهَ لَهَا وَجْهَانِ مِنْ الْمَعْنَى , أَحَدهمَا : أَنْ تَكُون هِيَ " وَاَلَّذِينَ " الْأُولَى مِنْ صِفَة الْمُتَّقِينَ , وَذَلِكَ عَلَى تَأْوِيل مَنْ رَأَى أَنَّ الْآيَات الْأَرْبَع بَعْد { الم } نَزَلَتْ فِي صِنْف وَاحِد مِنْ أَصْنَاف الْمُؤْمِنِينَ . وَالْوَجْه الثَّانِي : أَنْ تَكُون " الَّذِينَ " الثَّانِيَة مَعْطُوفَة فِي الْإِعْرَاب عَلَى " الْمُتَّقِينَ " بِمَعْنَى الْخَفْض , وَهُمْ فِي الْمَعْنَى صِنْف غَيْر الصِّنْف الْأَوَّل . وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَب مِنْ رَأَى أَنَّ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمْ الْآيَتَانِ الْأُولَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بَعْد قَوْله { الم } غَيْر الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمْ الْآيَتَانِ الْآخِرَتَانِ اللَّتَانِ تَلِيَانِ الْأُولَتَيْنِ . وَقَدْ يَحْتَمِل أَنْ تَكُون " الَّذِينَ " الثَّانِيَة مَرْفُوعَة فِي هَذَا الْوَجْه بِمَعْنَى الِاسْتِئْنَاف , إذْ كَانَتْ مُبْتَدَأ بِهَا بَعْد تَمَام آيَة وَانْقِضَاء قِصَّة . وَقَدْ يَجُوز الرَّفْع فِيهَا أَيْضًا بِنِيَّةِ الِاسْتِئْنَاف إذْ كَانَتْ فِي مُبْتَدَأ آيَة وَإِنْ كَانَتْ مِنْ صِفَة الْمُتَّقِينَ . فَالرَّفْع إذًا يَصِحّ فِيهَا مِنْ أَرْبَعَة أَوَجْه , وَالْخَفْض مِنْ وَجْهَيْنِ . وَأَوْلَى التَّأْوِيلَات عِنْدِي بِقَوْلِهِ : { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبّهمْ } مَا ذَكَرْت مِنْ قَوْل ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس , وَأَنْ تَكُون " أُولَئِكَ " إشَارَة إلَى الْفَرِيقَيْنِ , أَعْنِي الْمُتَّقِينَ وَاَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْك , وَتَكُون " أُولَئِكَ " مَرْفُوعَة بِالْعَائِدِ مِنْ ذِكْرهمْ فِي قَوْله : { عَلَى هُدًى مِنْ رَبّهمْ } وَأَنْ تَكُون " الَّذِينَ " الثَّانِيَة مَعْطُوفَة عَلَى مَا قَبْل مِنْ الْكَلَام عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَّاهُ وَإِنَّمَا رَأَيْنَا أَنَّ ذَلِكَ أَوْلَى التَّأْوِيلَات بِالْآيَةِ , لِأَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَعْت الْفَرِيقَيْنِ بِنَعْتِهِمْ الْمَحْمُود ثُمَّ أَثْنَى عَلَيْهِمْ ; فَلَمْ يَكُنْ عَزَّ وَجَلَّ لِيَخُصّ أَحَد الْفَرِيقَيْنِ بِالثَّنَاءِ مَعَ تُسَاوِيهِمَا فِيمَا اسْتَحَقَّا بِهِ الثَّنَاء مِنْ الصِّفَّات , كَمَا غَيْر جَائِز فِي عَدْله أَنْ يَتَسَاوَيَا فِيمَا يَسْتَحِقَّانِ بِهِ الْجَزَاء مِنْ الْأَعْمَال فَيَخُصّ أَحَدهمَا بِالْجَزَاءِ دُون الْآخَر وَيُحَرِّم الْآخَر جَزَاء عَمَله , فَكَذَلِكَ سَبِيل الثَّنَاء بِالْأَعْمَالِ ; لِأَنَّ الثَّنَاء أَحَد أَقْسَام الْجَزَاء . وَأَمَّا مَعْنَى قَوْله : { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبّهمْ } فَإِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ عَلَى نُور مِنْ رَبّهمْ وَبُرْهَان وَاسْتِقَامَة وَسَدَاد بِتَسْدِيدِ اللَّه إيَّاهُمْ وَتَوْفِيقه لَهُمْ , كَمَا : 243 - حَدَّثَنِي ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة بْن الْفَضْل , عَنْ مُحَمَّد بْن إسْحَاق , عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت , عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس : { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبّهمْ } أَيْ عَلَى نُور مِنْ رَبّهمْ , وَاسْتِقَامَة عَلَى مَا جَاءَهُمْ .

الْقَوْل فِي تَوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } وَتَأْوِيل قَوْله : { وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } أَيْ أُولَئِكَ هُمْ الْمُنْجِحُونَ الْمُدْرِكُونَ مَا طَلَبُوا عِنْد اللَّه تَعَالَى ذِكْره بِأَعْمَالِهِمْ وَإِيمَانهمْ بِاَللَّهِ وَكُتُبه وَرُسُله , مِنْ الْفَوْز بِالثَّوَابِ , وَالْخُلُود فِي الْجِنَان , وَالنَّجَاة مِمَّا أَعَدَّ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِأَعْدَائِهِ مِنْ الْعِقَاب . كَمَا : 244 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن إسْحَاق , عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت , عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس : { وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } أَيْ الَّذِينَ أَدْرَكُوا مَا طَلَبُوا وَنَجَوْا مِنْ شَرّ مَا مِنْهُ هَرَبُوا . وَمِنْ الدَّلَالَة عَلَى أَنَّ أَحَد مَعَانِي الْفَلَاح إدْرَاك الطِّلْبَة وَالظَّفَر بِالْحَاجَةِ قَوْل لَبِيَدِ بْن رَبِيعَة : اعْقِلِي إنْ كُنْت لَمَّا تَعْقِلِي وَلَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ كَانَ عَقَلْ يَعْنِي ظَفَرَ بِحَاجَتِهِ وَأَصَابَ خَيْرًا . وَمِنْهُ قَوْل الرَّاجِز : عَدِمْت أُمًّا وَلَدَتْ رَبَاحًا جَاءَتْ بِهِ مُفَرْكَحًا فِرْكَاحًا تَحْسِب أَنْ قَدْ وَلَدَتْ نَجَاحًا أَشْهَد لَا يَزِيدهَا فَلَاحًا يَعْنِي خَيْرًا وَقُرْبًا مِنْ حَاجَتهَا . وَالْفَلَاح : مَصْدَر مِنْ قَوْلك : أَفْلَحَ فُلَان يُفْلِح إفْلَاحًا , وَفَلَاحًا , وَفَلْحًا . وَالْفَلَاح أَيْضًا الْبَقَاء , وَمِنْهُ قَوْل لَبِيَدٍ : نَحُلّ بِلَادًا كُلّهَا حُلّ قَبْلنَا وَنَرْجُو الْفَلَاح بَعْد عَادٍ وَحِمْيَر يُرِيد الْبَقَاء . وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْل عُبَيْد : أَفْلِحْ بِمَا شِئْت فَقَدْ يَبْلُعُ بِالضَّعْفِ وَقَدْ يُخْدَع الْأَرِيب ش يُرِيد : عِشْ وَابْقَ بِمَا شِئْت . وَكَذَلِكَ قَوْل نَابِغَة بَنِي ذُبْيَان : وَكُلّ فَتًى سَتَشْعَبُهُ شُعُوب /و وَإِنْ أَثَرَى وَإِنْ لَاقَى فَلَاحًا أَيْ نَجَاحًا بِحَاجَتِهِ وَبَقَاء .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَسورة البقرة الآية رقم 6
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِيمَنْ عَنَى بِهَذِهِ الْآيَة , وَفِيمَنْ نَزَلَتْ , فَكَانَ ابْن عَبَّاس يَقُول , كَمَا : 245 - حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّد بْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة بْن الْفَضْل , عَنْ مُحَمَّد بْن إسْحَاق عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } أَيْ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْك مِنْ رَبّك , وَإِنْ قَالُوا إنَّا قَدْ آمَنَّا بِمَا قَدْ جَاءَنَا مِنْ قَبْلك . وَكَانَ ابْن عَبَّاس يَرَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَة , نَزَلَتْ فِي الْيَهُود الَّذِينَ كَانُوا بِنَوَاحِي الْمَدِينَة عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْبِيخًا لَهُمْ فِي جُحُودهمْ نُبُوَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَتَكْذِيبهمْ بِهِ , مَعَ عِلْمهمْ بِهِ وَمَعْرِفَتهمْ بِأَنَّهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ وَإِلَى النَّاس كَافَّة . 246 - وَحَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة , عَنْ ابْن إسْحَاق , عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت , عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس : أَنَّ صَدْر سُورَة الْبَقَرَة إلَى الْمِائَة مِنْهَا نَزَلَ فِي رِجَال سَمَّاهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ وَأَنْسَابهمْ مِنْ أَحْبَار الْيَهُود , وَمِنْ الْمُنَافِقِينَ مِنْ الْأَوْس وَالْخَزْرَج . كَرِهْنَا تَطْوِيل الْكِتَاب بِذِكْرِ أَسْمَائِهِمْ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْن عَبَّاس فِي تَأْوِيل ذَلِكَ قَوْل آخَر , وَهُوَ مَا : 247 - حَدَّثَنَا بِهِ الْمُثَنَّى بْن إبْرَاهِيم , قَالَ حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن صَالِح , عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة , عَنْ ابْن عَبَّاس قَوْله : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتهمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } قَالَ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْرِص عَلَى أَنْ يُؤْمِن جَمِيع النَّاس , وَيُتَابِعُوهُ عَلَى الْهُدَى ; فَأَخْبَرَهُ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِن إلَّا مَنْ سَبَقَ مِنْ اللَّه السَّعَادَة فِي الذِّكْر الْأَوَّل , وَلَا يَضِلّ إلَّا مَنْ سَبَقَ لَهُ مِنْ اللَّه الشَّقَاء فِي الذِّكْر الْأَوَّل . وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا : 248 - حُدِّثْت بِهِ عَنْ عَمَّار بْن الْحَسَن , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي جَعْفَر عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس , قَالَ : آيَتَانِ فِي قَادَة الْأَحْزَاب : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتهمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } إلَى قَوْله : { وَلَهُمْ عَذَاب عَظِيم } قَالَ : وَهُمْ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللَّه فِي هَذِهِ الْآيَة : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَة اللَّه كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمهمْ دَار الْبَوَار جَهَنَّم يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَار } 14 28 : 29 قَالَ : فَهُمْ الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْم بَدْر . وَأَوْلَى هَذِهِ التَّأْوِيلَات بِالْآيَةِ تَأْوِيل ابْن عَبَّاس الَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد , عَنْ عِكْرِمَة أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْهُ ; وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ قَوْل مِمَّا قَالَهُ الَّذِينَ ذَكَرْنَا قَوْلهمْ فِي ذَلِكَ مَذْهَب . فَأَمَّا مَذْهَب مِنْ تَأَوَّلَ فِي ذَلِكَ مَا قَالَهُ الرَّبِيع بْن أَنَس , فَهُوَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَهُ لَمَّا أَخْبَرَ عَنْ قَوْم مِنْ أَهْل الْكُفْر بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ , وَأَنَّ الْإِنْذَار غَيْر نَافِعهمْ , ثُمَّ كَانَ مِنْ الْكُفَّار مَنْ قَدْ نَفَعَهُ اللَّه بِإِنْذَارِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُ لِإِيمَانِهِ بِاَللَّهِ وَبِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْد اللَّه بَعْد نُزُول هَذِهِ السُّورَة ; لَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُون الْآيَة نَزَلَتْ إلَّا فِي خَاصّ مِنْ الْكُفَّار . وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَكَانَتْ قَادَة الْأَحْزَاب لَا شَكَّ أَنَّهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَنْفَعهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِإِنْذَارِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُ حَتَّى قَتَلَهُمْ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ يَوْم بَدْر , عُلِمَ أَنَّهُمْ مِمَّنْ عَنَى اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِهَذِهِ الْآيَة . وَأَمَّا عِلَّتنَا فِي اخْتِيَارنَا مَا اخْتَرْنَا مِنْ التَّأْوِيل فِي ذَلِكَ , فَهِيَ أَنَّ قَوْل اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتهمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } عَقِيب خَبَر اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ مُؤْمِنِي أَهْل الْكِتَاب , وَعَقِيب نَعْتهمْ وَصِفَتهمْ وَثَنَائِهِ عَلَيْهِمْ بِإِيمَانِهِمْ بِهِ وَبِكُتُبِهِ وَرُسُله . فَأَوْلَى الْأُمُور بِحِكْمَةِ اللَّه أَنْ يُتْلَى ذَلِكَ الْخَبَر عَنْ كُفَّارهمْ وَنُعُوتهمْ وَذَمّ أَسِبَابهمْ وَأَحْوَالهمْ , وَإِظْهَار شَتْمهمْ وَالْبَرَاءَة مِنْهُمْ ; لِأَنَّ مُؤْمِنِيهِمْ وَمُشْرِكِيهِمْ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَحْوَاله بِاخْتِلَافِ أَدِيَانهمْ , فَإِنَّ الْجِنْس يَجْمَع جَمِيعهمْ بِأَنَّهُمْ بَنُو إسْرَائِيل . وَإِنَّمَا احْتَجَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِأَوَّلِ هَذِهِ السُّورَة لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُشْرِكِي الْيَهُود مِنْ أَحْبَار بَنِي إسْرَائِيل الَّذِينَ كَانُوا مَعَ عِلْمهمْ بِنُبُوَّتِهِ مُنْكَرِينَ نُبُوَّته بِإِظْهَارِ نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا كَانَتْ تُسِرّهُ الْأَحْبَار مِنْهُمْ وَتَكْتُمهُ فَيَجْهَلهُ عُظْمُ الْيَهُود وَتَعْلَمهُ الْأَحْبَار مِنْهُمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ الَّذِي أَطْلَعَهُ عَلَى عِلْم ذَلِكَ هُوَ الَّذِي أَنَزَلَ الْكِتَاب عَلَى مُوسَى , إذْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُور الَّتِي لَمْ يَكُنْ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا قَوْمه وَلَا عَشِيرَته يَعْلَمُونَهُ وَلَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ قَبْل نُزُول الْفُرْقَان عَلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَيُمْكِنهُمْ ادِّعَاء اللُّبْس فِي أَمْره عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَنَّهُ نَبِيّ , وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ فَمِنْ عِنْد اللَّه . وَأَنَّى يُمْكِنهُمْ ادِّعَاء اللُّبْس فِي صَدْق أُمِّيّ نَشَأَ بَيْن أُمِّيِّينَ لَا يَكْتُب , وَلَا يَقْرَأ , وَلَا يَحْسُب , فَيُقَال قَرَأَ الْكُتُب فَعَلِمَ أَوْ حَسِبَ فَنَجَّمَ , وَانْبَعَثَ عَلَى أَخْبَار قُرَّاء كُتُبه - قَدْ دَرَسُوا الْكُتُب وَرَأَسُوا الْأُمَم - يُخْبِرهُمْ عَنْ مَسْتُور عُيُوبهمْ , وَمَصُون عُلُومهمْ , وَمَكْتُوم أَخْبَارهمْ , وَخِفْيَات أُمُورهمْ الَّتِي جَهِلَهَا مَنْ هُوَ دُونهمْ مِنْ أَحْبَارهمْ ؟ ! إنَّ أَمْر مَنْ كَانَ كَذَلِكَ لِغَيْرِ مُشْكِل , وَإِنَّ صِدْقه وَالْحَمْد لِلَّهِ لَبَيِّن . وَمِمَّا يُنْبِئ عَنْ صِحَّة مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ الَّذِينَ عَنَى اللَّه تَعَالَى ذِكْره بِقَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتهمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } هُمْ أَحْبَار الْيَهُود الَّذِينَ قُتِلُوا عَلَى الْكُفْر وَمَاتُوا عَلَيْهِ اقْتِصَاص اللَّه تَعَالَى ذِكْره نَبَأَهُمْ وَتَذْكِيره إيَّاهُمْ مَا أَخَذَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْعُهُود وَالْمَوَاثِيق فِي أَمْر مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بَعْد اقْتِصَاصه تَعَالَى ذِكْره مَا اقْتَصَّ مِنْ أَمْر الْمُنَافِقِينَ وَاعْتِرَاضه بَيْن ذَلِكَ بِمَا اعْتَرَضَ بِهِ مِنْ الْخَبَر عَنْ إبْلِيس وَآدَم فِي قَوْله : { يَا بَنِي إسْرَائِيل اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْت عَلَيْكُمْ } 2 40 الْآيَات , وَاحْتِجَاجه لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِمْ بِمَا احْتَجَّ بِهِ عَلَيْهِمْ فِيهَا بَعْد جُحُودهمْ نُبُوَّته . فَإِذَا كَانَ الْخَبَر أَوَّلًا عَنْ مُؤْمِنِي أَهْل الْكِتَاب وَآخِرًا عَنْ مُشْرِكِيهِمْ , فَأَوْلَى أَنْ يَكُون وَسَطًا عَنْهُ , إذْ كَانَ الْكَلَام بَعْضه لِبَعْضٍ تَبَع , إلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ دَلَالَة وَاضِحَة بِعُدُولِ بَعْض ذَلِكَ عَمَّا اُبْتُدِئَ بِهِ مِنْ مَعَانِيه , فَيَكُون مَعْرُوفًا حِينَئِذٍ انْصِرَافه عَنْهُ . وَأَمَّا مَعْنَى الْكُفْر فِي قَوْله : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } فَإِنَّهُ الْجُحُود . وَذَلِكَ أَنَّ الْأَحْبَار مِنْ يَهُود الْمَدِينَة جَحَدُوا نُبُوَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَتَرُوهُ عَنْ النَّاس وَكَتَمُوا أَمْره , وَهُمْ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ . وَأَصْل الْكُفْر عِنْد الْعَرَب تَغْطِيَة الشَّيْء , وَلِذَلِكَ سَمَّوْا اللَّيْل كَافِرًا لِتَغْطِيَةِ ظُلْمَته مَا لَبِسَتْهُ , كَمَا قَالَ الشَّاعِر : فَتَذَّكَّرَا ثِقْلًا رَثِيدًا بَعْد مَا أَلْقَتْ ذُكَاء يَمِينهَا فِي كَافِر وَقَالَ لَبِيد بْن رَبِيعَة : فِي لَيْلَة كَفَرَ النُّجُوم غَمَامهَا يَعْنِي غَطَّاهَا . فَكَذَلِكَ الْأَحْبَار مِنْ الْيَهُود غَطَّوْا أَمْر مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَتَمُوهُ النَّاس مَعَ عِلْمهمْ بِنُبُوَّتِهِ وَوُجُودهمْ صِفَته فِي كُتُبهمْ . فَقَالَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِيهِمْ : { إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنَزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَات وَالْهُدَى مِنْ بَعْد مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَاب أُولَئِكَ يَلْعَنهُمْ اللَّه وَيَلْعَنهُمْ اللَّاعِنُونَ } 2 159 وَهُمْ الَّذِينَ أَنَزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتهمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ }

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { سَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتهمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } وَتَأْوِيل " سَوَاء " : مُعْتَدِل , مَأْخُوذ مِنْ التَّسَاوِي , كَقَوْلِك : مُتَسَاوٍ هَذَانِ الْأَمْرَانِ عِنْدِي , وَهُمَا عِنْدِي سَوَاء ; أَيْ هُمَا مُتَعَادِلَانِ عِنْدِي . وَمِنْهُ قَوْل اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء } 8 58 يَعْنِي أَعْلِمْهُمْ وَآذِنْهُمْ بِالْحَرْبِ حَتَّى يَسْتَوِي عِلْمك وَعِلْمهمْ بِمَا عَلَيْهِ كُلّ فَرِيق مِنْهُمْ لِلْفَرِيقِ الْآخَر . فَكَذَلِكَ قَوْله : { سَوَاء عَلَيْهِمْ } مُعْتَدِل عِنْدهمْ أَيْ الْأَمْرَيْنِ كَانَ مِنْك إلَيْهِمْ الْإِنْذَار أَمْ تَرْك الْإِنْذَار لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ , وَقَدْ خَتَمْت عَلَى قُلُوبهمْ وَسَمْعهمْ . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل عُبَيْد اللَّه بْن قِيس الرُّقَيَّات : تُغِذّ بِي الشَّهْبَاء نَحْو ابْن جَعْفَر سَوَاء عَلَيْهَا لَيْلهَا وَنَهَارهَا يَعْنِي : بِذَلِكَ : مُعْتَدِل عِنْدهَا السَّيْر فِي اللَّيْل وَالنَّهَار , لِأَنَّهُ لَا فُتُور فِيهِ . وَمِنْهُ قَوْل الْآخَر : وَلَيْل يَقُول الْمَرْء مِنْ ظُلُمَاته سَوَاء صَحِيحَات الْعُيُون وُعُورهَا لِأَنَّ الصَّحِيح لَا يُبْصِر فِيهِ إلَّا بَصَرًا ضَعِيفًا مِنْ ظُلْمَته . وَأَمَّا قَوْله : { أَأَنْذَرْتهمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } فَإِنَّهُ ظَهَرَ بِهِ الْكَلَام ظُهُور الِاسْتِفْهَام وَهُوَ خَبَر ; لِأَنَّهُ وَقَعَ مَوْقِع " أَيْ " , كَمَا تَقُول : لَا نُبَالِي أَقُمْت أَمْ قَعَدْت , وَأَنْت مُخْبِر لَا مُسْتَفْهِم لِوُقُوعِ ذَلِكَ مَوْقِع " أَيْ " , وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَاهُ إذَا قُلْت ذَلِكَ : مَا نُبَالِي أَيّ هَذَيْنِ كَانَ مِنْك , فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْله : { سَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتهمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرهُمْ } لَمَّا كَانَ مَعْنَى الْكَلَام : سَوَاء عَلَيْهِمْ أَيْ هَذَيْنِ كَانَ مِنْك إلَيْهِمْ , حَسَن فِي مَوْضِعه مَعَ " سَوَاء " : أَفَعَلْت أَمْ لَمْ تَفْعَل . وَقَدْ كَانَ بَعْض نَحْوِيِّي أَهْل الْبَصْرَة يَزْعُم أَنَّ حَرْف الِاسْتِفْهَام إنَّمَا دَخَلَ مَعَ " سَوَاء " وَلَيْسَ بِاسْتِفْهَامِ , لِأَنَّ الْمُسْتَفْهِم إذَا اسْتَفْهَمَ غَيْره فَقَالَ : أَزَيْد عِنْدك أَمْ عَمْرو ؟ مُسْتَثْبِت صَاحِبه أَيّهمَا عِنْده , فَلَيْسَ أَحَدهمَا أَحَقّ بِالِاسْتِفْهَامِ مِنْ الْآخَر . فَلَمَّا كَانَ قَوْله : { سَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتهمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرهُمْ } بِمَعْنَى التَّسْوِيَة , أَشَبَه ذَلِكَ الِاسْتِفْهَام إذْ أَشَبَهه فِي التَّسْوِيَة , وَقَدْ بَيَّنَّا الصَّوَاب فِي ذَلِكَ . فَتَأْوِيل الْكَلَام إذًا : مُعْتَدِل يَا مُحَمَّد عَلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَحَدُوا نُبُوَّتك مِنْ أَحْبَار يَهُود الْمَدِينَة بَعْد عِلْمهمْ بِهَا , وَكَتَمُوا بَيَان أَمْرك لِلنَّاسِ بِأَنَّك رَسُولِي إلَى خَلْقِي , وَقَدْ أَخَذْت عَلَيْهِمْ الْعَهْد وَالْمِيثَاق أَنْ لَا يَكْتُمُوا ذَلِكَ وَأَنْ يُبَيِّنُوهُ لِلنَّاسِ وَيُخْبِرُوهُمْ أَنَّهُمْ يَجِدُونَ صِفَتك فِي كُتُبهمْ ; أَأَنْذَرْتهمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَا يَرْجِعُونَ إلَى الْحَقّ وَلَا يُصَدِّقُونَ بِك وَبِمَا جِئْتهمْ بِهِ ; لِمَا : 249 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة بْن الْفَضْل , عَنْ مُحَمَّد بْن إسْحَاق , عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت , عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس : { سَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتهمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } أَيْ أَنَّهُمْ قَدْ كَفَرُوا بِمَا عِنْدهمْ مِنْ الْعِلْم مِنْ ذِكْر وَجَحَدُوا مَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْمِيثَاق لَك ; فَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَك وَبِمَا عِنْدهمْ مِمَّا جَاءَهُمْ بِهِ غَيْرك , فَكَيْف يَسْمَعُونَ مِنْك إنْذَارًا وَتَحْذِيرًا وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا عِنْدهمْ مِنْ عِلْمك ؟
خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌسورة البقرة الآية رقم 7
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { خَتَمَ اللَّه عَلَى قُلُوبهمْ وَعَلَى سَمْعهمْ } وَأَصْل الْخَتَم : الطَّبْع , وَالْخَاتَم : هُوَ الطَّابِع , يُقَال مِنْهُ : خَتَمْت الْكِتَاب , إذَا طَبَعْته . فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِل : وَكَيْفَ يُخْتَم عَلَى الْقُلُوب , وَإِنَّمَا الْخَتْم طَبْع عَلَى الْأَوْعِيَة لِمَا جُعِلَ فِيهَا مِنْ الْمَعَارِف بِالْأُمُورِ , فَمَعْنَى الْخَتْم عَلَيْهَا وَعَلَى الْأَسْمَاع الَّتِي بِهَا تُدْرَك الْمَسْمُوعَات , وَمِنْ قِبَلهَا يُوصَل إلَى مُعْرِفَة حَقَائِق الْأَنْبَاء عَنْ الْمُغَيَّبَات , نَظِير مَعْنَى الْخَتْم عَلَى سَائِر الْأَوْعِيَة وَالظُّرُوف . فَإِنْ قَالَ : فَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ صِفَة تَصِفهَا لَنَا فَنَفْهَمَهَا ؟ أَهِيَ مِثْل الْخَتْم الَّذِي يُعْرَف لَمَّا ظَهَرَ لِلْأَبْصَارِ , أَمْ هِيَ بِخِلَافِ ذَلِكَ ؟ قِيلَ : قَدْ اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي صِفَة ذَلِكَ , وَسَنُخْبِرُ بِصِفَتِهِ بَعْد ذِكْرنَا قَوْلهمْ . 250 - فَحَدَّثَنِي عِيسَى بْن عُثْمَان بْن عِيسَى الرَّمْلِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن عِيسَى , عَنْ الْأَعْمَش , قَالَ : أَرَانَا مُجَاهِد بِيَدِهِ فَقَالَ : كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْقَلْب فِي مِثْل هَذَا - يَعْنِي الْكَفّ - فَإِذَا أَذْنَبَ الْعَبْد ذَنْبًا ضَمَّ مِنْهُ - وَقَالَ بِأُصْبُعِهِ الْخِنْصِر هَكَذَا - فَإِذَا أَذْنَبَ ضُمَّ - وَقَالَ بِأُصْبُعٍ أُخْرَى - فَإِذَا أَذْنَبَ ضُمَّ - وَقَالَ بِأُصْبُعٍ أُخْرَى هَكَذَا - حَتَّى ضَمَّ أَصَابِعَهُ كُلّهَا . قَالَ : ثُمَّ يُطْبَع عَلَيْهِ بِطَابَعٍ . قَالَ مُجَاهِد : وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ ذَلِكَ الرَّيْن . 251 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا وَكِيع عَنْ الْأَعْمَش , عَنْ مُجَاهِد , قَالَ : الْقَلْب مِثْل الْكَفّ , فَإِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا قَبَضَ أُصْبُعًا حَتَّى يَقْبِض أَصَابِعه كُلّهَا . وَكَانَ أَصْحَابنَا يَرَوْنَ أَنَّهُ الرَّان . 252 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم بْن الْحَسَن , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن دَاوُد , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن جُرَيْجٍ , قَالَ : قَالَ مُجَاهِد : نُبِّئْت أَنَّ الذُّنُوب عَلَى الْقَلْب تَحِفّ بِهِ مِنْ نَوَاحِيه حَتَّى تَلْتَقِي عَلَيْهِ , فَالْتِقَاؤُهَا عَلَيْهِ الطَّبْع , وَالطَّبْع الْخَتْم . قَالَ ابْن جُرَيْجٍ : الْخَتْم خَتْم عَلَى الْقَلْب وَالسَّمْع . 253 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , قَالَ : حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه بْن كَثِير أَنَّهُ سَمِعَ مُجَاهَدًا يَقُول : الرَّان أَيْسَر مِنْ الطَّبْع , وَالطَّبْع أَيْسَر مِنْ الْإِقْفَال , وَالْإِقْفَال أَشَدّ ذَلِكَ كُلّه . وَقَالَ بَعْضهمْ : إنَّمَا مَعْنَى قَوْله : { خَتَمَ اللَّه عَلَى قُلُوبهمْ } إخْبَار مِنْ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ تَكَبُّرهمْ وَإِعْرَاضهمْ عَنْ الِاسْتِمَاع لِمَا دُعُوا إلَيْهِ مِنْ الْحَقّ , كَمَا يُقَال : إنَّ فُلَانًا لَأَصَمّ عَنْ هَذَا الْكَلَام , إذَا امْتَنَعَ مِنْ سَمَاعه وَرَفَعَ نَفْسه عَنْ تَفَهُّمه تَكَبُّرًا . وَالْحَقّ فِي ذَلِكَ عِنْدِي مَا صَحَّ بِنَظِيرِهِ الْخَبَر عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَا : 254 - حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّد بْن يَسَار , قَالَ : حَدَّثَنَا صَفْوَان بْن عِيسَى , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن عَجْلَان عَنْ الْقَعْقَاع , عَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ الْمُؤْمِن إذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا كَانَتْ نُكْتَة سَوْدَاء فِي قَلْبه , فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صَقَلَ قَلْبه , فَإِنْ زَادَ زَادَتْ حَتَّى يُغْلَف قَلْبه ; فَذَلِكَ الرَّان الَّذِي قَالَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبهمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } 83 14 فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الذُّنُوب إذَا تَتَابَعَتْ عَلَى الْقُلُوب أَغَلَفَتْهَا , وَإِذَا أَغَلَفَتْهَا أَتَاهَا حِينَئِذٍ الْخَتْم مِنْ قِبَل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَالطَّبْع , فَلَا يَكُون لِلْإِيمَانِ إلَيْهَا مَسْلَك , وَلَا لِلْكُفْرِ مِنْهَا مَخْلَص . فَذَلِكَ هُوَ الطَّبْع وَالْخَتْم الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي قَوْله : { خَتَمَ اللَّه عَلَى قُلُوبهمْ وَعَلَى سَمْعهمْ } نَظِير الطَّبْع وَالْخَتْم عَلَى مَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار مِنْ الْأَوْعِيَة وَالظُّرُوف الَّتِي لَا يُوصَل إلَى مَا فِيهَا إلَّا بِفَضِّ ذَلِكَ عَنْهَا ثُمَّ حَلّهَا , فَكَذَلِكَ لَا يَصِل الْإِيمَان إلَى قُلُوب مِنْ وَصْف اللَّه أَنَّهُ خَتَمَ عَلَى قُلُوبهمْ , إلَّا بَعْد فَضّه خَاتَمه وَحَلّه رِبَاطه عَنْهَا . وَيُقَال لِقَائِلِي الْقَوْل الثَّانِي الزَّاعِمِينَ أَنَّ مَعْنَى قَوْله جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { خَتَمَ اللَّه عَلَى قُلُوبهمْ وَعَلَى سَمْعهمْ } هُوَ وَصَفَهُمْ بِالِاسْتِكْبَارِ وَالْإِعْرَاض عَنْ الَّذِي دُعُوا إلَيْهِ مِنْ الْإِقْرَار بِالْحَقِّ تَكَبُّرًا : أَخْبَرُونَا عَنْ اسْتِكْبَار الَّذِينَ وَصَفَهُمْ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِهَذِهِ الصِّفَة وَإِعْرَاضهمْ عَنْ الْإِقْرَار بِمَا دُعُوا إلَيْهِ مِنْ الْإِيمَان وَسَائِر الْمَعَانِي اللَّوَاحِق بِهِ , أَفَعَلَ مِنْهُمْ , أَمْ فِعْل مِنْ اللَّه تَعَالَى ذِكْره بِهِمْ ؟ فَإِنْ زَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ فِعْل مِنْهُمْ وَذَلِكَ قَوْلهمْ , قِيلَ لَهُمْ : فَإِنَّ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَتَمَ عَلَى قُلُوبهمْ وَسَمْعهمْ , وَكَيْفَ يَجُوز أَنْ يَكُون إعْرَاض الْكَافِر عَنْ الْإِيمَان وَتَكَبُّره عَنْ الْإِقْرَار بِهِ , وَهُوَ فِعْله عِنْدكُمْ خَتْمًا مِنْ اللَّه عَلَى قَلْبه وَسَمْعه , وَخَتْمه عَلَى قَلْبه وَسَمْعه فِعْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ دُون فِعْل الْكَافِر ؟ فَإِنْ زَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ جَائِز أَنْ يَكُون كَذَلِكَ , لِأَنَّ تَكَبُّره وَإِعْرَاضه كَانَا عَنْ خَتْم اللَّه عَلَى قَلْبه وَسَمْعه , فَلَمَّا كَانَ الْخَتْم سَبَبًا لِذَلِكَ جَازَ أَنْ يُسْمَى مُسَبِّبه بِهِ ; تَرَكُوا قَوْلهمْ , وَأَوْجَبُوا أَنَّ الْخَتْم مِنْ اللَّه عَلَى قُلُوب الْكُفَّار وَأَسْمَاعهمْ مَعْنَى غَيْر كُفْر الْكَافِر وَغَيْر تَكَبُّره وَإِعْرَاضه عَنْ قَبُول الْإِيمَان وَالْإِقْرَار بِهِ , وَذَلِكَ دُخُول فِيمَا أَنْكَرُوهُ . وَهَذِهِ الْآيَة مِنْ أَوْضَح الْأَدِلَّة عَلَى فَسَاد قَوْل الْمُنْكَرِينَ تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق إلَّا بِمَعُونَةِ اللَّه ; لِأَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَتَمَ عَلَى قُلُوب صِنْف مِنْ كُفَّار عِبَاده وَأَسْمَاعهمْ , ثُمَّ لَمْ يُسْقِط التَّكْلِيف عَنْهُمْ وَلَمْ يَضَع عَنْ أَحَد مِنْهُمْ فَرَائِضه وَلَمْ يَعْذِرهُ فِي شَيْء مِمَّا كَانَ مِنْهُ مِنْ خِلَاف طَاعَته بِسَبَبِ مَا فَعَلَ بِهِ مِنْ الْخَتْم وَالطَّبْع عَلَى قَلْبه وَسَمْعه , بَلْ أَخْبَرَ أَنَّ لِجَمِيعِهِمْ مِنْهُ عَذَابًا عَظِيمًا عَلَى تَرْكهمْ طَاعَته فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَنَهَاهُمْ عَنْهُ مِنْ حُدُوده وَفَرَائِضه مَعَ حَتْمه الْقَضَاء مَعَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَعَلَى أَبْصَارهمْ غِشَاوَة } وَقَوْله : { وَعَلَى أَبْصَارهمْ غِشَاوَة } خَبَر مُبْتَدَأ بَعْد تَمَام الْخَبَر عَمَّا خَتَمَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ مِنْ جَوَارِح الْكُفَّار الَّذِينَ مَضَتْ قِصَصهمْ , وَذَلِكَ أَنَّ { غِشَاوَة } مَرْفُوعَة بِقَوْلِهِ : { وَعَلَى أَبْصَارهمْ } فَذَلِكَ دَلِيل عَلَى أَنَّهُ خَبَر مُبْتَدَأ , وَأَنَّ قَوْله : { خَتَمَ اللَّه عَلَى قُلُوبهمْ } قَدْ تَنَاهَى عِنْد قَوْله : { وَعَلَى سَمْعهمْ } وَذَلِكَ هُوَ الْقِرَاءَة الصَّحِيحَة عِنْدنَا لِمَعْنَيَيْنِ , أَحَدهمَا : اتِّفَاق الْحُجَّة مِنْ الْقُرَّاء وَالْعُلَمَاء عَلَى الشَّهَادَة بِتَصْحِيحِهَا , وَانْفِرَاد الْمُخَالِف لَهُمْ فِي ذَلِكَ وَشُذُوذه عَمَّا هُمْ عَلَى تَخْطِئَته مُجْمِعُونَ ; وَكَفَى بِإِجْمَاعِ الْحُجَّة عَلَى تَخْطِئَة قِرَاءَته شَاهِدًا عَلَى خَطَئِهَا . وَالثَّانِي : أَنَّ الْخَتْم غَيْر مَوْصُوفَة بِهِ الْعُيُون فِي شَيْء مِنْ كِتَاب اللَّه , وَلَا فِي خَبَر عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَلَا مَوْجُود فِي لُغَة أَحَد مِنْ الْعَرَب . وَقَدْ قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي سُورَة أُخْرَى : { وَخَتَمَ عَلَى سَمْعه وَقَلْبه } ثُمَّ قَالَ : { وَجَعَلَ عَلَى بَصَره غِشَاوَة } 45 23 فَلَمْ يَدْخُل الْبَصَر فِي مَعْنَى الْخَتْم , وَذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوف فِي كَلَام الْعَرَب . فَلَمْ يَجُزْ لَنَا وَلَا لِأَحَدٍ مِنْ النَّاس الْقِرَاءَة بِنَصَبِ الْغِشَاوَة لِمَا وَصَفْت مِنْ الْعِلَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْت , وَإِنْ كَانَ لِنَصْبِهَا مَخْرَج مَعْرُوف فِي الْعَرَبِيَّة . وَبِمَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْقَوْل وَالتَّأْوِيل , رُوِيَ الْخَبَر عَنْ ابْن عَبَّاس . 255 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن سَعْد , قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي , قَالَ : حَدَّثَنِي عَمِّي الْحُسَيْن بْن الْحَسَن , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ جَدّه , عَنْ ابْن عَبَّاس : { خَتَمَ اللَّه عَلَى قُلُوبهمْ وَعَلَى سَمْعهمْ } وَالْغِشَاوَة عَلَى أَبْصَارهمْ . فَإِنْ قَالَ قَائِل : وَمَا وَجْه مَخْرَج النَّصْب فِيهَا ؟ قِيلَ لَهُ : إنَّ نَصْبهَا بِإِضْمَارِ " جَعَلَ " كَأَنَّهُ قَالَ : وَجَعَلَ عَلَى أَبْصَارهمْ غِشَاوَة ; ثُمَّ أَسَقَطَ " جَعَلَ " ; إذْ كَانَ فِي أَوَّل الْكَلَام مَا يَدُلّ عَلَيْهِ . وَقَدْ يَحْتَمِل نَصْبهَا عَلَى إتْبَاعهَا مَوْضِع السَّمْع إذْ كَانَ مَوْضِعه نَصْبًا , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَسَنًا إعَادَة الْعَامِل فِيهِ عَلَى " غِشَاوَة " وَلَكِنْ عَلَى إتْبَاع الْكَلَام بَعْضه بَعْضًا , كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْره : { يَطُوف عَلَيْهِمْ وِلْدَان مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ } ثُمَّ قَالَ : { وَفَاكِهَة مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْم طَيْر مِمَّا يَشْتَهُونَ وَحُور عِين } 56 17 : 22 فَخَفَضَ اللَّحْم وَالْحُور عَلَى الْعَطْف بِهِ عَلَى الْفَاكِهَة إتْبَاعًا لِآخِرِ الْكَلَام أَوَّله . وَمَعْلُوم أَنَّ اللَّحْم لَا يُطَاف بِهِ وَلَا بِالْحُورِ , وَلَكِنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ الشَّاعِر يَصِف فَرَسه : عَلَفْتهَا تِبْنًا وَمَاء بَارِدًا حَتَّى شَتَّتْ هَمَّالَة عَيْنَاهَا وَمَعْلُوم أَنَّ الْمَاء يُشْرَب وَلَا يُعْلَف بِهِ , وَلَكِنَّهُ نَصَبَ ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْت قَبْل . وَكَمَا قَالَ الْآخَر : وَرَأَيْت زَوْجك فِي الْوَغَى مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا وَكَانَ ابْن جُرَيْجٍ يَقُول فِي انْتِهَاء الْخَبَر عَنْ الْخَتْم إلَى قَوْله : { وَعَلَى سَمْعهمْ } وَابْتِدَاء الْخَبَر بَعْده ; بِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِيهِ , وَيَتَأَوَّل فِيهِ مِنْ كِتَاب اللَّه : { فَإِنْ يَشَأْ اللَّه يَخْتِم عَلَى قَلْبك } 42 24 256 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن جُرَيْجٍ قَالَ : الْخَتْم عَلَى الْقَلْب وَالسَّمْع , وَالْغِشَاوَة عَلَى الْبَصَر , قَالَ اللَّه تَعَالَى ذِكْره : { فَإِنْ يَشَأْ اللَّه يَخْتِم عَلَى قَلْبك } وَقَالَ : { وَخَتَمَ عَلَى سَمْعه وَقَلْبه وَجَعَلَ عَلَى بَصَره غِشَاوَة } 45 23 وَالْغِشَاوَة فِي كَلَام الْعَرَب : الْغِطَاء وَمِنْهُ قَوْل الْحَارِث بْن خَالِد بْن الْعَاصِ : تَبِعَتْك إذْ عَيْنِيّ عَلَيْهَا غِشَاوَة فَلَمَّا انْجَلَتْ قَطَعَتْ نَفْسِيّ أَلُومهَا وَمِنْهُ يُقَال : تَغْشَاهُ الْهَمّ : إذَا تَجَلَّلَهُ وَرَكِّبْهُ . وَمِنْهُ قَوْل نَابِغَة بَنِي ذُبْيَان : هَلَّا سَأَلَتْ بَنِي ذُبْيَان مَا حَسْبِي إذَا الدُّخَان تَغَشَّى الْأَشْمَط الْبَرِمَا يَعْنِي بِذَلِكَ : إذَا تَجَلَّلَهُ وَخَالَطَهُ . وَإِنَّمَا أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى ذِكْره نَبِيّه مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ مِنْ أَحْبَار الْيَهُود , أَنَّهُ قَدْ خَتَمَ عَلَى قُلُوبهمْ وَطَبَعَ عَلَيْهَا فَلَا يَعْقِلُونَ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَوْعِظَة وَعَظَهُمْ بِهَا فِيمَا آتَاهُمْ مِنْ عِلْم مَا عِنْدهمْ مِنْ كُتُبه , وَفِيمَا حَدَّدَ فِي كِتَابه الَّذِي أَوْحَاهُ وَأَنْزَلَهُ إلَى نَبِيّه مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَعَلَى سَمْعهمْ فَلَا يَسْمَعُونَ مِنْ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيّ اللَّه تَحْذِيرًا وَلَا تَذْكِيرًا وَلَا حُجَّة أَقَامَهَا عَلَيْهِمْ بِنُبُوَّتِهِ , فَيَتَذَكَّرُوا وَيَحْذَرُوا عِقَاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي تَكْذِيبهمْ إيَّاهُ , مَعَ عِلْمهمْ بِصَدْقِهِ وَصِحَّة أَمْره ; وَأَعْلَمهُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ عَلَى أَبْصَارهمْ غِشَاوَة عَنْ أَنْ يُبْصِرُوا سَبِيل الْهُدَى فَيَعْلَمُوا قُبْح مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الضَّلَالَة وَالرَّدَى وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ رُوِيَ الْخَبَر عَنْ جَمَاعَة مِنْ أَهْل التَّأْوِيل . 257 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة , عَنْ مُحَمَّد بْن إسْحَاق , عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت , عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس : { خَتَمَ اللَّه عَلَى قُلُوبهمْ وَعَلَى سَمْعهمْ وَعَلَى أَبْصَارهمْ غِشَاوَة } أَيْ عَنْ الْهُدَى أَنَّ يُصِيبُوهُ أَبَدًا بِغَيْرِ مَا كَذَّبُوك بِهِ مِنْ الْحَقّ الَّذِي جَاءَك مِنْ رَبّك , حَتَّى يُؤْمِنُوا بِهِ , وَإِنْ آمَنُوا بِكُلِّ مَا كَانَ قَبْلك . 258 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ الْهَمْدَانِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذِكْره عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة الْهَمْدَانِيّ , عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { خَتَمَ اللَّه عَلَى قُلُوبهمْ وَعَلَى سَمْعهمْ } يَقُول فَلَا يَعْقِلُونَ , وَلَا يَسْمَعُونَ وَيَقُول : وَجَعَلَ عَلَى أَبْصَارهمْ غِشَاوَة , يَقُول : عَلَى أَعْيُنهمْ فَلَا يُبْصِرُونَ . وَأَمَّا آخَرُونَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَأَوَّلُونَ أَنَّ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّه عَنْهُمْ مِنْ الْكُفَّار أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ هُمْ قَادَة الْأَحْزَاب الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْم بَدْر . 259 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : حَدَّثَنَا إسْحَاق بْن الْحَجَّاج , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس , قَالَ : هَاتَانِ الْآيَتَانِ إلَى : { وَلَهُمْ عَذَاب عَظِيم } هُمْ : { الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَة اللَّه كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمهمْ دَار الْبَوَار } 14 28 وَهُمْ الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْم بَدْر فَلَمْ يَدْخُل مِنْ الْقَادَة أَحَد فِي الْإِسْلَام إلَّا رَجُلَانِ : أَبُو سُفْيَان بْن حَرْب , وَالْحَكَم بْن أَبِي الْعَاصِ . 260 - وَحُدِّثْت عَنْ عَمَّار بْن الْحَسَن , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس , عَنْ الْحَسَن , قَالَ : أَمَّا الْقَادَة فَلَيْسَ فِيهِمْ مُجِيب , وَلَا نَاجٍ , وَلَا مُهْتَدٍ . وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى أَوْلَى هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ بِالصَّوَابِ فَكَرِهْنَا إعَادَته .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَلَهُمْ عَذَاب عَظِيم } وَتَأْوِيل ذَلِكَ عِنْدِي كَمَا قَالَهُ ابْن عَبَّاس وَتَأَوَّلَهُ 261 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة عَنْ ابْن إسْحَاق عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت , عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس : وَلَهُمْ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ خِلَافك عَذَاب عَظِيم , قَالَ : فَهَذَا فِي الْأَحْبَار مِنْ يَهُود فِيمَا كَذَّبُوك بِهِ مِنْ الْحَقّ الَّذِي جَاءَك مِنْ رَبّك بَعْد مَعْرِفَتهمْ .
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَسورة البقرة الآية رقم 8
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَمِنْ النَّاس مَنْ يَقُول آمَنَّا بِاَللَّهِ } قَالَ أَبُو جَعْفَر : أَمَّا قَوْله : { وَمِنْ النَّاس } فَإِنَّ فِي النَّاس وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا أَنْ يَكُون جَمْعًا لَا وَاحِد لَهُ مِنْ لَفْظه , وَإِنَّمَا وَاحِده إنْسَان وَوَاحِدَته إنْسَانَة . وَالْوَجْه الْآخَر : أَنْ يَكُون أَصْله " أُنَاس " أُسْقِطَتْ الْهَمْزَة مِنْهَا لِكَثْرَةِ الْكَلَام بِهَا , ثُمَّ دَخَلَتْهَا الْأَلِف وَاللَّام الْمُعَرِّفَتَانِ , فَأُدْغِمَتْ اللَّامّ الَّتِي دَخَلَتْ مَعَ الْأَلِف فِيهَا لِلتَّعْرِيفِ فِي النُّون , كَمَا قِيلَ فِي : { لَكِنَّا هُوَ اللَّه رَبِّي } 18 38 عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَّا فِي اسْم اللَّه الَّذِي هُوَ اللَّه . وَقَدْ زَعَمَ بَعْضهمْ أَنَّ النَّاس لُغَة غَيْر أُنَاس , وَأَنَّهُ سَمِعَ الْعَرَب تُصَغِّرهُ نُوَيْس مِنْ النَّاس , وَأَنَّ الْأَصْل لَوْ كَانَ أُنَاس لَقِيلَ فِي التَّصْغِير : أُنَيْس , فَرُدَّ إلَى أَصْله . وَأَجْمَعَ جَمِيع أَهْل التَّأْوِيل عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ فِي قَوْم مِنْ أَهْل النِّفَاق , وَأَنَّ هَذِهِ الصِّفَة صِفَتهمْ ذَكَرَ بَعْض مَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنْ أَهْل التَّأْوِيل بِأَسْمَائِهِمْ : 262 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة , عَنْ مُحَمَّد بْن إسْحَاق , عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت , عَنْ عِكْرِمَة أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس : { وَمِنْ النَّاس مَنْ يَقُول آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ مِنْ الْأَوْس وَالْخَزْرَج , وَمَنْ كَانَ عَلَى أَمْرهمْ . وَقَدْ سُمِّيَ فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس هَذَا أَسَمَاؤُهُمْ عَنْ أُبَيّ بْن كَعْب , غَيْر أَنِّي تَرَكْت تَسْمِيَتهمْ كَرَاهَة إطَالَة الْكِتَاب بِذِكْرِهِمْ . 263 - حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَنْبَأَنَا عَبْد الرَّزَّاق قَالَ : أَنْبَأَنَا مَعْمَر , عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله : { وَمِنْ النَّاس مَنْ يَقُول آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } حَتَّى بَلَغَ : { فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتهمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } 2 16 قَالَ : هَذِهِ فِي الْمُنَافِقِينَ . 264 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَمْرو الْبَاهِلِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِم , قَالَ : حَدَّثَنَا عِيسَى بْن مَيْمُون , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد , قَالَ : هَذِهِ الْآيَة إلَى ثَلَاث عَشْرَة فِي نَعْت الْمُنَافِقِينَ . * حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَة , قَالَ : حَدَّثَنَا شِبْل , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد مِثْله . * حَدَّثَنَا سُفْيَان , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبِي , عَنْ سُفْيَان , عَنْ رَجُل , عَنْ مُجَاهِد مِثْله . 265 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط عَنْ إسْمَاعِيل السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة , وَعَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَمِنْ النَّاس مَنْ يَقُول آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } هُمْ الْمُنَافِقُونَ 266 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا إسْحَاق , عَنْ ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس فِي قَوْله : { وَمِنْ النَّاس مَنْ يَقُول آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر } إلَى : { فَزَادَهُمْ اللَّه مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَاب أَلِيم } 2 10 قَالَ : هَؤُلَاءِ أَهْل النِّفَاق . 267 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن دَاوُد , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ فِي قَوْله : { وَمِنْ النَّاس مَنْ يَقُول آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } قَالَ : هَذَا الْمُنَافِق يُخَالِف قَوْله فِعْله وَسِرّه عَلَانِيَته وَمَدْخَله مَخْرَجه وَمَشْهَده مَغِيبه . وَتَأْوِيل ذَلِكَ أَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمَّا جَمَعَ لِرَسُولِهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ فِي دَار هِجْرَته وَاسْتَقَرَّ بِهَا قَرَاره وَأَظْهَرَ اللَّه بِهَا كَلِمَته , وَفَشَا فِي دُور أَهْلهَا الْإِسْلَام , وَقَهَرَ بِهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ فِيهَا مِنْ أَهْل الشِّرْك مِنْ عَبَدَة الْأَوْثَان , وَذَلَّ بِهَا مَنْ فِيهَا مِنْ أَهْل الْكِتَاب ; أَظَهَرَ أَحْبَار يَهُودِهَا لِرَسُولِ اللَّه الضَّغَائِن وَأَبْدَوْا لَهُ الْعَدَاوَة وَالشَّنَآن حَسَدًا وَبَغْيًا إلَّا نَفَرًا مِنْهُمْ , هَدَاهُمْ اللَّه لِلْإِسْلَامِ فَأَسْلَمُوا , كَمَا قَالَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { وَدَّ كَثِير مِنْ أَهْل الْكِتَاب لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْد إيمَانكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْد أَنَفْسهمْ مِنْ بَعْد مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقّ } 2 109 وَطَابَقهمْ سِرًّا عَلَى مُعَادَاة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه وَبَغْيهمْ الْغَوَائِل قَوْم مِنْ أَرَاهِط الْأَنْصَار الَّذِي آوَوْا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَصَرُوهُ وَكَانُوا قَدْ عَتَوْا فِي شِرْكهمْ وَجَاهِلِيَّتهمْ قَدْ سُمُّوا لَنَا بِأَسْمَائِهِمْ , كَرِهْنَا تَطْوِيل الْكِتَاب بِذِكْرِ أَسْمَائِهِمْ وَأَنْسَابهمْ . وَظَاهِرُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ فِي خِفَاء غَيْر جِهَار حِذَار الْقَتْل عَلَى أَنْفُسهمْ وَالسِّبَاء مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه , وَرُكُونًا إلَى الْيَهُود , لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الشِّرْك وَسُوء الْبَصِيرَة بِالْإِسْلَامِ . فَكَانُوا إذَا لَقُوا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْل الْإِيمَان بِهِ مِنْ أَصْحَابه , قَالُوا لَهُمْ حِذَارًا عَلَى أَنْفُسهمْ : إنَّا مُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِالْبَعْثِ , وَأَعْطَوْهُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ كَلِمَة الْحَقّ لِيَدْرَءُوا عَنْ أَنَفْسهمْ حُكْم اللَّه فِيمَنْ اعْتَقَدَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنْ الشِّرْك لَوْ أَظَهَرُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا هُمْ مُعْتَقِدُوهُ مِنْ شِرْكهمْ , وَإِذَا لَقُوا إخْوَانهمْ مِنْ الْيَهُود وَأَهْل الشِّرْك وَالتَّكْذِيب بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ فَخَلَوْا بِهِمْ , قَالُوا : { إنَّا مَعَكُمْ إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } 2 14 فَإِيَّاهُمْ عَنَى جَلَّ ذِكْره بِقَوْلِهِ : { وَمِنْ النَّاس مَنْ يَقُول آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } يَعْنِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى خَبَرًا عَنْهُمْ " آمَنَّا بِاَللَّهِ " : صَدَّقْنَا بِاَللَّهِ . وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْإِيمَان التَّصْدِيق فِيمَا مَضَى قَبْل مِنْ كِتَابنَا هَذَا .

وَقَوْله : { وَبِالْيَوْمِ الْآخِر } يَعْنِي بِالْبَعْثِ يَوْم الْقِيَامَة . وَإِنَّمَا سُمِّيَ يَوْم الْقِيَامَة الْيَوْم الْآخِر : لِأَنَّهُ آخِر يَوْم , لَا يَوْم بَعْده سِوَاهُ . فَإِنْ قَالَ قَائِل : وَكَيْفَ لَا يَكُون بَعْده يَوْم , وَلَا انْقِطَاع لِلْآخِرَةِ , وَلَا فِنَاء , وَلَا زَوَال ؟ . قِيلَ : إنَّ الْيَوْم عِنْد الْعَرَب إنَّمَا سُمِّيَ يَوْمًا بِلَيْلَتِهِ الَّتِي قَبْله , فَإِذَا لَمْ يَتَقَدَّم النَّهَار لَيْل لَمْ يُسَمَّ يَوْمًا , فَيَوْم الْقِيَامَة يَوْم لَا لَيْل لَهُ بَعْده سِوَى اللَّيْلَة الَّتِي قَامَتْ فِي صَبِيحَتهَا الْقِيَامَة , فَذَلِكَ الْيَوْم هُوَ آخِر الْأَيَّام , وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ : " الْيَوْم الْآخِر " , وَنَعَتَهُ بِالْعَقِيمِ , وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ يَوْم عَقِيم لِأَنَّهُ لَا لَيْل بَعْده .


وَأَمَّا تَأْوِيل قَوْله : { وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } وَنَفِيه عَنْهُمْ جَلَّ ذِكْره اسْم الْإِيمَان , وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَدْ قَالُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر ; فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ تَكْذِيب لَهُمْ فِيمَا أَخْبَرُوا عَنْ اعْتِقَادهمْ مِنْ الْإِيمَان وَالْإِقْرَار بِالْبَعْثِ , وَإِعْلَام مِنْهُ نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الَّذِي يُبْدُونَهُ لَهُ بِأَفْوَاهِهِمْ خِلَاف مَا فِي ضَمَائِر قُلُوبهمْ , وَضِدّ مَا فِي عَزَائِم نَفُوسهمْ . وَفِي هَذِهِ الْآيَة دَلَالَة وَاضِحَة عَلَى بِطُولِ مَا زَعَمَتْهُ الْجَهْمِيَّة مِنْ أَنَّ الْإِيمَان هُوَ التَّصْدِيق بِالْقَوْلِ دُون سَائِر الْمَعَانِي غَيْره . وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ الَّذِينَ ذَكَرهمْ فِي كِتَابه مِنْ أَهْل النِّفَاق أَنَّهُمْ قَالُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ : { آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر } ثُمَّ نَفَى عَنْهُمْ أَنْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ , إذْ كَانَ اعْتِقَادهمْ غَيْر مُصَدِّق قَوْلهمْ ذَلِكَ . وَقَوْله : { وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } يَعْنِي بِمُصَدِّقِينَ فِيمَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ بِهِ مُصَدِّقُونَ .
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَسورة البقرة الآية رقم 9
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى . { يُخَادِعُونَ اللَّه وَاَلَّذِينَ آمَنُوا } قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَخِدَاع الْمُنَافِق رَبّه وَالْمُؤْمِنِينَ إظْهَاره بِلِسَانِهِ مِنْ الْقَوْل وَالتَّصْدِيق خِلَاف الَّذِي فِي قَلْبه مِنْ الشَّكّ وَالتَّكْذِيب لِيَدْرَأ عَنْ نَفْسه بِمَا أَظْهَر بِلِسَانِهِ حُكْم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ - اللَّازِم مَنْ كَانَ بِمِثْلِ حَاله مِنْ التَّكْذِيب لَوْ لَمْ يُظْهِر بِلِسَانِهِ مَا أَظَهَرَ مِنْ التَّصْدِيق وَالْإِقْرَار - مِنْ الْقَتْل وَالسِّبَاء , فَذَلِكَ خِدَاعه رَبّه وَأَهْل الْإِيمَان بِاَللَّهِ . فَإِنْ قَالَ قَائِل : وَكَيْفَ يَكُون الْمُنَافِق لِلَّهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ مُخَادِعًا وَهُوَ لَا يَظْهَر بِلِسَانِهِ خِلَاف مَا هُوَ لَهُ مُعْتَقِد إلَّا تَقِيَّة ؟ قِيلَ : لَا تَمْتَنِع الْعَرَب أَنْ تُسَمِّي مِنْ أَعْطَى بِلِسَانِهِ غَيْر الَّذِي هُوَ فِي ضَمِيره تَقِيَّة لِيَنْجُوَ مِمَّا هُوَ لَهُ خَائِف , فَنَجَا بِذَلِكَ مِمَّا خَافَهُ مُخَادِعًا لِمَنْ تَخَلَّصَ مِنْهُ بِاَلَّذِي أَظْهَر لَهُ مِنْ التَّقِيَّة , فَكَذَلِكَ الْمُنَافِق سُمِّيَ مُخَادِعًا لِلَّهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِإِظْهَارِهِ مَا أَظْهَر بِلِسَانِهِ تَقِيَّة مِمَّا تَخَلَّصَ بِهِ مِنْ الْقَتْل وَالسِّبَاء وَالْعَذَاب الْعَاجِل , وَهُوَ لِغَيْرِ مَا أَظْهَر مُسْتَبْطَن , وَذَلِكَ مِنْ فِعْله وَإِنْ كَانَ خِدَاعًا لِلْمُؤْمِنِينَ فِي عَاجِل الدُّنْيَا فَهُوَ لِنَفْسِهِ بِذَلِكَ مِنْ فِعْله خَادِع ; لِأَنَّهُ يُظْهِر لَهَا بِفِعْلِهِ ذَلِكَ بِهَا أَنَّهُ يُعْطِيهَا أُمْنِيَّتهَا وَيَسْقِيهَا كَأْس سُرُورهَا , وَهُوَ مُوَرِّدهَا بِهِ حِيَاض عَطْبهَا , وَمُجَرِّعهَا بِهِ كَأْس عَذَابهَا , وَمُذِيقهَا مِنْ غَضَب اللَّه وَأَلِيم عِقَابه مَا لَا قَبْل لَهَا بِهِ . فَذَلِكَ خَدِيعَته نَفْسه ظَنًّا مِنْهُ مَعَ إسَاءَته إلَيْهَا فِي أَمْر مَعَادهَا أَنَّهُ إلَيْهَا مُحْسِن , كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { وَمَا يَخْدَعُونَ إلَّا أَنْفُسهمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } إعْلَامًا مِنْهُ عِبَاده الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ بِإِسَاءَتِهِمْ إلَى أَنْفُسهمْ فِي إسْخَاطهمْ رَبّهمْ بِكُفْرِهِمْ وَشَكَّهُمْ وَتَكْذِيبهمْ غَيْر شَاعِرِينَ وَلَا دَارِينَ , وَلَكِنَّهُمْ عَلَى عَمْيَاء مِنْ أَمْرهمْ مُقِيمُونَ . وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي تَأْوِيل ذَلِكَ كَانَ ابْن زَيْد يَقُول . 268 - حَدَّثَنِي يُونُس بْن عَبْد الْأَعْلَى , قَالَ , أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب قَالَ : سَأَلْت عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد , عَنْ قَوْله اللَّه جَلَّ ذِكْره : { يُخَادِعُونَ اللَّه وَاَلَّذِينَ آمَنُوا } إلَى آخِر الْآيَة , قَالَ : هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ يُخَادِعُونَ اللَّه وَرَسُوله وَاَلَّذِينَ آمَنُوا , أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِمَا أَظَهَرُوا . وَهَذِهِ الْآيَة مِنْ أَوْضَح الدَّلِيل عَلَى تَكْذِيب اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَوْل الزَّاعِمِينَ : إنَّ اللَّه لَا يُعَذِّب مِنْ عِبَاده إلَّا مَنْ كَفَرَ بِهِ عِنَادًا , بَعْد عِلْمه بِوَحْدَانِيَّته , وَبَعْد تَقَرُّر صِحَّة مَا عَانَدَ رَبّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ تَوْحِيده وَالْإِقْرَار بِكُتُبِهِ وَرُسُله عِنْده ; لِأَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ أَخْبَرَ عَنْ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ مِنْ النِّفَاق وَخِدَاعهمْ إيَّاهُ وَالْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّهُمْ مُبْطِلُونَ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْبَاطِل مُقِيمُونَ , وَأَنَّهُمْ بِخِدَاعِهِمْ الَّذِي يَحْسِبُونَ أَنَّهُمْ بِهِ يُخَادِعُونَ رَبّهمْ وَأَهْل الْإِيمَان بِهِ مَخْدُوعُونَ . ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْره أَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا بِتَكْذِيبِهِمْ بِمَا كَانُوا يُكَذِّبُونَهُ مِنْ نُبُوَّة نَبِيّه وَاعْتِقَاد الْكُفْر بِهِ , وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ فِي زَعْمهمْ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ , وَهُمْ عَلَى الْكُفْر مُصِرُّونَ . فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِل : قَدْ عَلِمْت أَنَّ الْمُفَاعَلَة لَا تَكُون إلَّا مِنْ فَاعِلِينَ , كَقَوْلِك : ضَارَبْت أَخَاك , وَجَالَسْت أَبَاك ; إذَا كَانَ كُلّ وَاحِد مَجَالِس صَاحِبه وَمُضَارِبه . فَأَمَّا إذَا كَانَ الْفِعْل مِنْ أَحَدهمَا فَإِنَّمَا يُقَال : ضَرَبْت أَخَاك وَجَلَسْت إلَى أَبِيك , فَمَنْ خَادَعَ الْمُنَافِق فَجَازَ أَنْ يُقَال فِيهِ : خَادِع اللَّه وَالْمُؤْمِنِينَ . قِيلَ : قَدْ قَالَ بَعْض الْمَنْسُوبِينَ إلَى الْعِلْم بِلُغَاتِ الْعَرَب : إنَّ ذَلِكَ حَرْف جَاءَ بِهَذِهِ الصُّورَة , أَعْنِي " يُخَادِع " بِصُورَةِ " يُفَاعِل " وَهُوَ بِمَعْنَى " يَفْعَل " فِي حُرُوف أَمْثَالهَا شَاذَّة مِنْ مَنْطِق الْعَرَب , نَظِير قَوْلهمْ : قَاتَلَك اللَّه , بِمَعْنَى قَتْلك اللَّه . وَلَيْسَ الْقَوْل فِي ذَلِكَ عِنْدِي كَاَلَّذِي قَالَ , بَلْ ذَلِكَ مِنْ التَّفَاعُل الَّذِي لَا يَكُون إلَّا مِنْ اثْنَيْنِ كَسَائِرِ مَا يُعْرَف مِنْ مَعْنَى " يُفَاعَل وَمُفَاعَل " فِي كُلّ كَلَام الْعَرَب , وَذَلِكَ أَنَّ الْمُنَافِق يُخَادِع اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِكَذِبِهِ بِلِسَانِهِ عَلَى مَا قَدْ تَقَدَّمَ وَصْفه , وَاَللَّه تَبَارَكَ اسْمه خَادِعه بِخِذْلَانِهِ عَنْ حُسْن الْبَصِيرَة بِمَا فِيهِ نَجَاة نَفْسه فِي آجَلّ مَعَاده , كَاَلَّذِي أَخْبَرَ فِي قَوْله : { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرًا لِأَنْفُسِهِمْ إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْمًا } 3 178 وَبِالْمَعْنَى الَّذِي أَخْبَرَ أَنَّهُ فَاعِل بِهِ فِي الْآخِرَة بِقَوْلِهِ : { يَوْم يَقُول الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَات لِلَّذِينَ آمَنُوا اُنْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُوركُمْ } 57 13 الْآيَة , فَذَلِكَ نَظِير سَائِر مَا يَأْتِي مِنْ مَعَانِي الْكَلَام بِفَاعِلِ وَمُفَاعِل . وَقَدْ كَانَ بَعْض أَهْل النَّحْو مِنْ أَهْل الْبَصْرَة يَقُول : لَا تَكُون الْمُفَاعَلَة إلَّا مِنْ شَيْئَيْنِ , وَلَكِنَّهُ إنَّمَا قِيلَ : يُخَادِعُونَ اللَّه عِنْد أَنْفُسهمْ بِظَنِّهِمْ أَنْ لَا يُعَاقَبُوا , فَقَدْ عَلِمُوا خِلَاف ذَلِكَ فِي أَنْفُسهمْ بِحُجَّةِ اللَّه تَبَارَكَ اسْمه الْوَاقِعَة عَلَى خَلْقه بِمُعْرِفَتِهِ { وَمَا يَخْدَعُونَ إلَّا أَنْفُسهمْ } قَالَ : وَقَدْ قَالَ بَعْضهمْ : { وَمَا يَخْدَعُونَ } يَقُول : يَخْدَعُونَ أَنْفُسهمْ بِالتَّخْلِيَةِ بِهَا . وَقَدْ تَكُون الْمُفَاعَلَة مِنْ وَاحِد فِي أَشْيَاء كَثِيرَة .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَمَا يَخْدَعُونَ إلَّا أَنْفُسهمْ } إنْ قَالَ لَنَا قَائِل : أَوَ لَيْسَ الْمُنَافِقُونَ قَدْ خَدَعُوا الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَظَهَرُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنْ قَيْل الْحَقّ عَنْ أَنْفُسهمْ وَأَمْوَالهمْ وَذَرَارِيّهمْ حَتَّى سَلِمَتْ لَهُمْ دُنْيَاهُمْ وَإِنْ كَانُوا قَدْ كَانُوا مَخْدُوعِينَ فِي أَمْر آخِرَتهمْ ؟ قِيلَ : خَطَأ أَنْ يُقَال إنَّهُمْ خَدَعُوا الْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّا إذَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوَجَبْنَا لَهُمْ حَقِيقَة خَدْعَة جَازَتْ لَهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ , كَمَا أَنَّا لَوْ قُلْنَا : قَتَلَ فُلَان فُلَانًا , أَوَجَبْنَا لَهُ حَقِيقَة قَتْل كَانَ مِنْهُ لِفُلَانٍ . وَلَكِنَّا نَقُول : خَادَعَ الْمُنَافِقُونَ رَبّهمْ وَالْمُؤْمِنِينَ , وَلَمْ يَخْدَعُوهُمْ بَلْ خَدَعُوا أَنْفُسهمْ , كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ , دُون غَيْرهَا , نَظِير مَا تَقُول فِي رَجُل قَاتَلَ آخَر فَقَتَلَ نَفْسه وَلَمْ يَقْتُل صَاحِبه : قَاتَلَ فُلَان فُلَانًا وَلَمْ يَقْتُل إلَّا نَفْسه , فَتُوجِب لَهُ مُقَاتِلَة صَاحِبه , وَتَنْفِي عَنْهُ قَتْله صَاحِبه , وَتُوجِب لَهُ قَتْل نَفْسه . فَكَذَلِكَ تَقُول : خَادَعَ الْمُنَافِق رَبّه وَالْمُؤْمِنِينَ , وَلَمْ يَخْدَع إلَّا نَفْسه , فَتَثْبُت مِنْهُ مُخَادَعَة رَبّه وَالْمُؤْمِنِينَ , وَتَنْفِي عَنْهُ أَنْ يَكُون خَدَعَ غَيْر نَفْسه ; لِأَنَّ الْخَادِع هُوَ الَّذِي قَدْ صَحَّتْ لَهُ الْخَدِيعَة وَوَقَعَ مِنْهُ فِعْلهَا . فَالْمُنَافِقُونَ لَمْ يَخْدَعُوا غَيْر أَنْفُسهمْ , لِأَنَّ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ مَال وَأَهْل فَلَمْ يَكُنْ الْمُسْلِمُونَ مَلِكُوهُ عَلَيْهِمْ فِي حَال خِدَاعهمْ إيَّاهُ عَنْهُ بِنِفَاقِهِمْ وَلَا قَبْلهَا فَيَسْتَنْقِذُوهُ بِخِدَاعِهِمْ مِنْهُمْ , وَإِنَّمَا دَافَعُوا عَنْهُ بِكَذِبِهِمْ وَإِظْهَارهمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ غَيْر الَّذِي فِي ضَمَائِرهمْ , وَيْحكُمْ اللَّه لَهُمْ فِي أَمْوَالهمْ وَأَنْفُسهمْ وَذَرَارِيّهمْ فِي ظَاهِر أُمُورهمْ بِحُكْمِ مَا انْتَسَبُوا إلَيْهِ مِنْ الْمِلَّة , وَاَللَّه بِمَا يَخْفُونَ مِنْ أُمُورهمْ عَالِم . وَإِنَّمَا الْخَادِع مَنْ خَتَلَ غَيْره عَنْ شَيْئِهِ , وَالْمَخْدُوع غَيْر عَالِم بِمَوْضِعِ خَدِيعَة خَادِعه . فَأَمَّا وَالْمُخَادِع عَارِف بِخِدَاعِ صَاحِبه إيَّاهُ , وَغَيْر لَاحِقه مِنْ خِدَاعه إيَّاهُ مَكْرُوه , بَلْ إنَّمَا يَتَجَافَى لِلظَّانِّ بِهِ أَنَّهُ لَهُ مُخَادِع اسْتِدْرَاجًا لِيَبْلُغ غَايَة يَتَكَامَل لَهُ عَلَيْهِ الْحُجَّة لِلْعُقُوبَةِ الَّتِي هُوَ بِهَا مَوْقِع عِنْد بُلُوغه إيَّاهَا . وَالْمُسْتَدْرَج غَيْر عَالِم بِحَالِ نَفْسه عِنْد مُسْتَدْرَجه , وَلَا عَارِف بِاطِّلَاعِهِ عَلَى ضَمِيره , وَأَنَّ إمْهَال مُسْتَدْرَجِيهِ إيَّاهُ تَرَكَهُ مُعَاقَبَته عَلَى جُرْمه لِيَبْلُغ الْمُخَاتِل الْمُخَادِع مِنْ اسْتِحْقَاقه عُقُوبَة مُسْتَدْرَجه بِكَثْرَةِ إسَاءَته وَطُول عِصْيَانه إيَّاهُ وَكَثْرَة صَفْح الْمُسْتَدْرَج وَطُول عَفْوه عَنْهُ أَقْصَى غَايَة , فَإِنَّمَا هُوَ خَادَعَ نَفْسه لَا شَكَّ دُون مَنْ حَدَّثَتْهُ نَفْسه أَنَّهُ لَهُ مُخَادِع . وَلِذَلِكَ نَفَى اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ الْمُنَافِق أَنْ يَكُون خَدَعَ غَيْر نَفْسه , إذْ كَانَتْ الصِّفَة الَّتِي وَصَفْنَا صِفَته . وَإِذْ كَانَ الْأَمْر عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ خِدَاع الْمُنَافِق رَبّه وَأَهْل الْإِيمَان بِهِ , وَأَنَّهُ غَيْر سَائِر بِخِدَاعِهِ ذَلِكَ إلَى خَدِيعَة صَحِيحَة إلَّا لِنَفْسِهِ دُون غَيْرهَا لِمَا يُوَرِّطهَا بِفِعْلِهِ مِنْ الْهَلَاك وَالْعَطْب , فَالْوَاجِب إذًا أَنْ يَكُون الصَّحِيح مِنْ الْقِرَاءَة : { وَمَا يَخْدَعُونَ إلَّا أَنْفُسهمْ } دُون : " وَمَا يُخَادِعُونَ " , لِأَنَّ لَفْظ الْمُخَادِع غَيْر مُوجِب تَثْبِيت خَدِيعَة عَلَى صِحَّة , وَلَفْظ خَادِع مُوجِب تَثْبِيت خَدِيعَة عَلَى صِحَّة . وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُنَافِق قَدْ أَوَجَبَ خَدِيعَة اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لِنَفْسِهِ بِمَا رَكِبَ مِنْ خِدَاعه رَبّه وَرَسُوله وَالْمُؤْمِنِينَ بِنِفَاقِهِ , فَلِذَلِكَ وَجَبَتْ الصِّحَّة لِقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ : { وَمَا يَخْدَعُونَ إلَّا أَنْفُسهمْ } وَمِنْ الدَّلَالَة أَيْضًا عَلَى أَنَّ قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ : { وَمَا يَخْدَعُونَ } أَوْلَى بِالصِّحَّةِ مِنْ قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ : " وَمَا يُخَادِعُونَ " أَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يُخَادِعُونَ اللَّه وَالْمُؤْمِنِينَ فِي أَوَّل الْآيَة , فَمُحَال أَنْ يَنْفِي عَنْهُمْ مَا قَدْ أَثَبَتَ أَنَّهُمْ قَدْ فَعَلُوهُ , لِأَنَّ ذَلِكَ تَضَادّ فِي الْمَعْنَى , وَذَلِكَ غَيْر جَائِز مِنْ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَمَا يَشْعُرُونَ } يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { وَمَا يَشْعُرُونَ } : وَمَا يَدْرُونَ , يُقَال : مَا شَعَرَ فُلَان بِهَذَا الْأَمْر , وَهُوَ لَا يَشْعُر بِهِ إذَا لَمْ يَدْرِ وَلَمْ يَعْلَم شَعَرًا وَشُعُورًا , كَمَا قَالَ الشَّاعِر : عَقُّوا بِسَهْمٍ وَلَمْ يَشْعُر بِهِ أَحَد ثُمَّ اسْتَفَاءُوا وَقَالُوا حَبَّذَا الْوَضَح يَعْنِي بِقَوْلِهِ : " لَمْ يَشْعُر بِهِ " : لَمْ يَدْرِ بِهِ أَحَد وَلَمْ يَعْلَم . فَأَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى ذِكْره عَنْ الْمُنَافِقِينَ , أَنَّهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِأَنَّ اللَّه خَادِعهمْ بِإِمْلَائِهِ لَهُمْ وَاسْتِدْرَاجه إيَّاهُمْ الَّذِي هُوَ مِنْ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ إبْلَاغ إلَيْهِمْ فِي الْحُجَّة وَالْمَعْذِرَة , وَمِنْهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ خَدِيعَة , وَلَهَا فِي الْآجِل مَضَرَّة . كَاَلَّذِي : 269 - حَدَّثَنِي يُونُس بْن عَبْد الْأَعْلَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب قَالَ : سَأَلْت ابْن زَيْد عَنْ قَوْله : { وَمَا يَخْدَعُونَ إلَّا أَنْفُسهمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } قَالَ : مَا يَشْعُرُونَ أَنَّهُمْ ضَرُّوا أَنْفُسهمْ بِمَا أَسَرُّوا مِنْ الْكُفْر وَالنِّفَاق . وَقَرَأَ قَوْل اللَّه : { يَوْم يَبْعَثهُمْ اللَّه جَمِيعًا } قَالَ : هُمْ الْمُنَافِقُونَ , حَتَّى بَلَغَ { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْء } 58 18 قَدْ كَانَ الْإِيمَان يَنْفَعهُمْ عِنْدكُمْ .
فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَسورة البقرة الآية رقم 10
الْقَوْل فِي تَوِيل قَوْله تَعَالَى : { فِي قُلُوبهمْ مَرَض } وَأَصْل الْمَرَض : السَّقَم , ثُمَّ يُقَال ذَلِكَ فِي الْأَجْسَاد وَالْأَدْيَان ; فَأَخْبَرَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ فِي قُلُوب الْمُنَافِقِينَ مَرَضًا . وَإِنَّمَا عَنَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِخَبَرِهِ عَنْ مَرَض قُلُوبهمْ الْخَبَر عَنْ مَرَض مَا فِي قُلُوبهمْ مِنْ الِاعْتِقَاد - وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا بِالْخَبَرِ عَنْ مَرَض الْقَلْب أَنَّهُ مَعْنَى بِهِ مَرَض مَا هُمْ مُعْتَقِدُوهُ مِنْ الِاعْتِقَاد اسْتَغْنَى بِالْخَبَرِ عَنْ الْقَلْب بِذَلِكَ - وَالْكِنَايَة عَنْ تَصْرِيح الْخَبَر عَنْ ضَمَائِرهمْ وَاعْتِقَادَاتهمْ ; كَمَا قَالَ عُمَر بْن لجأ : ش وَسَبَّحَتْ الْمَدِينَة لَا تَلُمْهَا /و رَأَتْ قَمَرًا بِسُوقِهِمْ نَهَارًا يُرِيد وَسَبَّحَ أَهْل الْمَدِينَة . فَاسْتَغْنَى بِمُعْرِفَةِ السَّامِعِينَ خَبَره بِالْخَبَرِ عَنْ الْمَدِينَة عَنْ الْخَبَر عَنْ أَهْلهَا . وَمِثْله قَوْل عَنْتَرَة الْعَبْسِيّ : هَلَّا سَأَلْت الْخَيْل يَا ابْنَة مَالِك /و إنْ كُنْت جَاهِلَة بِمَا لَمْ تَعْلَمِي يُرِيد : هَلَّا سَأَلْت أَصْحَاب الْخَيْل ؟ وَمِنْهُ قَوْلهمْ : يَا خَيْل [ اللَّه ] ارْكَبِي , يُرَاد : يَا أَصْحَاب خَيْل اللَّه ارْكَبُوا . وَالشَّوَاهِد عَلَى ذَلِكَ أَكْثَر مِنْ أَنْ يُحْصِيهَا كِتَاب , وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَة لِمَنْ وُفِّقَ لِفَهْمِهِ . فَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْل اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { فِي قُلُوبهمْ مَرَض } إنَّمَا يَعْنِي فِي اعْتِقَاد قُلُوبهمْ الَّذِي يَعْتَقِدُونَهُ فِي الدِّين وَالتَّصْدِيق بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْد اللَّه مَرَض وَسَقَم . فَاجْتَزَأَ بِدَلَالَةِ الْخَبَر عَنْ قُلُوبهمْ عَلَى مَعْنَاهُ عَنْ تَصْرِيح الْخَبَر عَنْ اعْتِقَادهمْ . وَالْمَرَض الَّذِي ذَكَرَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ فِي اعْتِقَاد قُلُوبهمْ الَّذِي وَصَفْنَاهُ هُوَ شَكّهمْ فِي أَمْر مُحَمَّد , وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْد اللَّه وَتَحَيُّرهمْ فِيهِ , فَلَا هُمْ بِهِ مُوقِنُونَ إيقَان إيمَان , وَلَا هُمْ لَهُ مُنْكَرُونَ إنْكَار إشْرَاك ; وَلَكِنَّهُمْ كَمَا وَصَفَهُمْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مُذَبْذَبُونَ بَيْن ذَلِكَ لَا إلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إلَى هَؤُلَاءِ , كَمَا يُقَال : فُلَان تَمَرَّضَ فِي هَذَا الْأَمْر , أَيْ يُضْعِف الْعَزْم وَلَا يُصَحِّح الرَّوِيَّة فِيهِ . وَبِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيل ذَلِكَ تَظَاهَرَ الْقَوْل فِي تَفْسِيره مِنْ الْمُفَسِّرِينَ . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 270 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة , عَنْ مُحَمَّد بْن إسْحَاق , عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس : { فِي قُلُوبهمْ مَرَض } أَيْ شَكّ . 271 - وَحَدَّثَنَا عَنْ المنجاب , قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْر بْن عُمَارَة , عَنْ أَبِي رَوْق عَنْ الضَّحَّاك , عَنْ ابْن عَبَّاس , قَالَ : الْمَرَض : النِّفَاق 272 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة الْهَمْدَانِيّ عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فِي قُلُوبهمْ مَرَض } يَقُول : فِي قُلُوبهمْ شَكّ . 73 - حَدَّثَنِي يُونُس بْن عَبْد الْأَعْلَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : قَالَ عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد فِي قَوْله : { فِي قُلُوبهمْ مَرَض } قَالَ : هَذَا مَرَض فِي الدِّين وَلَيْسَ مَرَضًا فِي الْأَجْسَاد . قَالَ : هُمْ الْمُنَافِقُونَ . 274 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْن إبْرَاهِيم قَالَ : حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْن نَصْر , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن الْمُبَارَك قِرَاءَة عَنْ سَعِيد عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله : { فِي قُلُوبهمْ مَرَض } قَالَ : فِي قُلُوبهمْ رِيبَة وَشَكّ فِي أَمْر اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ . 275 - وَحُدِّثْت عَنْ عَمَّار بْن الْحَسَن , قَالَ حَدَّثَنَا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس : { فِي قُلُوبهمْ مَرَض } قَالَ : هَؤُلَاءِ أَهْل النِّفَاق , وَالْمَرَض الَّذِي فِي قُلُوبهمْ الشَّكّ فِي أَمْر اللَّه تَعَالَى ذِكْره . 276 - حَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : قَالَ عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد : { وَمِنْ النَّاس مَنْ يَقُول آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر } حَتَّى بَلَغَ : { فِي قُلُوبهمْ مَرَض } قَالَ الْمَرَض : الشَّكّ الَّذِي دَخَلَهُمْ فِي الْإِسْلَام .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { فَزَادَهُمْ اللَّه مَرَضًا } قَدْ دَلَّلْنَا آنِفًا عَلَى أَنَّ تَأْوِيل الْمَرَض الَّذِي وَصَفَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ فِي قُلُوب الْمُنَافِقِينَ : هُوَ الشَّكّ فِي اعْتِقَادَات قُلُوبهمْ وَأَدْيَانهمْ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ - فِي أَمْر مُحَمَّد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمْر نُبُوَّته وَمَا جَاءَ بِهِ - مُقِيمُونَ . فَالْمَرَض الَّذِي أَخْبَرَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ زَادَهُمْ عَلَى مَرَضهمْ هُوَ نَظِير مَا كَانَ فِي قُلُوبهمْ مِنْ الشَّكّ وَالْحِيرَة قَبْل الزِّيَادَة , فَزَادَهُمْ اللَّه بِمَا أَحْدَثَ مِنْ حُدُوده وَفَرَائِضه الَّتِي لَمْ يَكُنْ فَرَضَهَا قَبْل الزِّيَادَة الَّتِي زَادَهَا الْمُنَافِقِينَ - مِنْ الشَّكّ وَالْحِيرَة إذْ شَكُّوا وَارْتَابُوا فِي الَّذِي أَحْدَثَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ - إلَى الْمَرَض وَالشَّكّ الَّذِي كَانَ فِي قُلُوبهمْ فِي السَّالِف مِنْ حُدُوده وَفَرَائِضه الَّتِي كَانَ فَرْضهَا قَبْل ذَلِكَ , كَمَا زَادَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ إلَى إيمَانهمْ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ قَبْل ذَلِكَ بِاَلَّذِي أَحْدَثَ لَهُمْ مِنْ الْفَرَائِض وَالْحُدُود إذْ آمَنُوا بِهِ , إلَى إيمَانهمْ بِالسَّالِفِ مِنْ حُدُوده وَفَرَائِضه إيمَانًا . كَاَلَّذِي قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي تَنْزِيله : { وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَة فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُول أَيّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبهمْ مَرَض فَزَادَتْهُمْ رَجَسًا إلَى رِجْسهمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ } 9 124 : 125 فَالزِّيَادَة الَّتِي زِيدَهَا الْمُنَافِقُونَ مِنْ الرَّجَاسَة إلَى رَجَاسَتهمْ هُوَ مَا وَصَفْنَا , وَالزِّيَادَة الَّتِي زِيدَهَا الْمُؤْمِنُونَ إلَى إيمَانهمْ هُوَ مَا بَيَّنَّا , وَذَلِكَ هُوَ التَّأْوِيل الْمُجْمَع عَلَيْهِ . ذِكْر بَعْض مَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنْ أَهْل التَّأْوِيل : 277 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة , عَنْ مُحَمَّد بْن إسْحَاق عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت . عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس : { فَزَادَهُمْ اللَّه مَرَضًا } قَالَ : شَكًّا . 278 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة الْهَمْدَانِيّ عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَزَادَهُمْ اللَّه مَرَضًا } يَقُول : فَزَادَهُمْ اللَّه رِيبَة وَشَكًّا . 279 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْن نَصْر , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن الْمُبَارَك قِرَاءَةً عَنْ سَعِيد عَنْ قَتَادَةَ : { فَزَادَهُمْ اللَّه مَرَضًا } يَقُول : فَزَادَهُمْ اللَّه رِيبَة وَشَكًّا فِي أَمْر اللَّه . 280 - حَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : قَالَ ابْن زَيْد فِي قَوْل اللَّه : { فِي قُلُوبهمْ مَرَض فَزَادَهُمْ اللَّه مَرَضًا } قَالَ : زَادَهُمْ رِجْسًا . وَقَرَأَ قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبهمْ مَرَض فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلَى رِجْسهمْ } 9 124 : 125 قَالَ : شَرًّا إلَى شَرّهمْ , وَضَلَالَة إلَى ضَلَالَتهمْ . 281 - وَحُدِّثْت عَنْ عَمَّار بْن الْحَسَن , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع : { فَزَادَهُمْ اللَّه مَرَضًا } قَالَ زَادَهُمْ اللَّه شَكًّا .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَلَهُمْ عَذَاب أَلِيم } قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَالْأَلِيم : هُوَ الْمُوجِع , وَمَعْنَاهُ : وَلَهُمْ عَذَاب مُؤْلِم , فَصَرَفَ " مُؤْلِم " إلَى " أَلِيم " , كَمَا يُقَال : ضَرْب وَجِيع بِمَعْنَى مُوجِع , وَاَللَّه بَدِيع السَّمَوَات وَالْأَرْض بِمَعْنَى مُبْدِع . وَمِنْهُ قَوْل عَمْرو بْن مَعْد يَكْرِب الزُّبَيْدِيّ : أَمِنْ رَيْحَانَة الدَّاعِي السَّمِيع يُؤَرِّقنِي وَأَصْحَابِي هُجُوع بِمَعْنَى الْمُسْمِع . وَمِنْهُ قَوْل ذِي الرِّمَّة : وَيَرْفَع مِنْ صُدُور شَمَرْدَلَات يَصُدّ وُجُوههَا وَهَج أَلِيم وَيُرْوَى " يَصُكّ " , وَإِنَّمَا الْأَلِيم صِفَة لِلْعَذَابِ , كَأَنَّهُ قَالَ : وَلَهُمْ عَذَاب مُؤْلِم . وَهُوَ مَأْخُوذ مِنْ الْأَلَم , وَالْأَلَم : الْوَجَع . كَمَا : 282 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا إسْحَاق , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي جَعْفَر عَنْ أَبِيهِ عَنْ الرَّبِيع , قَالَ : الْأَلِيم : الْمُوجِع . 283 - حَدَّثَنَا يَعْقُوب , قَالَ : حَدَّثَنَا هُشَيْم , قَالَ : أَخْبَرَنَا جُوَيْبِر , عَنْ الضَّحَّاك قَالَ : الْأَلِيم , الْمُوجِع . 284 - وَحُدِّثْت عَنْ المنجاب بْن الْحَارِث , قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْر بْن عُمَارَة , عَنْ أَبِي رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك فِي قَوْله { أَلِيم } قَالَ : هُوَ الْعَذَاب الْمُوجِع وَكُلّ شَيْء فِي الْقُرْآن مِنْ الْأَلِيم فَهُوَ الْمُوجِع .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } اخْتَلَفَتْ الْقِرَاءَة فِي قِرَاءَة ذَلِكَ , فَقَرَأَهُ بَعْضهمْ : { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } مُخَفَّفَة الذَّال مَفْتُوحَة الْيَاء , وَهِيَ قِرَاءَة مُعْظَم أَهْل الْكُوفَة . وَقَرَأَهُ آخَرُونَ : " يَكْذِبُونَ " بِضَمِّ الْيَاء وَتَشْدِيد الذَّال , وَهِيَ قِرَاءَة مُعْظَم أَهْل الْمَدِينَة وَالْحِجَاز وَالْبَصْرَة . وَكَأَنَّ الَّذِينَ قَرَءُوا ذَلِكَ بِتَشْدِيدِ الذَّال وَضَمّ الْيَاء رَأَوْا أَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ إنَّمَا أَوَجَبَ لِلْمُنَافِقِينَ الْعَذَاب الْأَلِيم بِتَكْذِيبِهِمْ نَبِيّهمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ , وَأَنَّ الْكَذِب لَوْلَا التَّكْذِيب لَا يُوجِب لِأَحَدٍ الْيَسِير مِنْ الْعَذَاب , فَكَيْف بِالْأَلِيمِ مِنْهُ ؟ وَلَيْسَ الْأَمْر فِي ذَلِكَ عِنْدِي كَاَلَّذِي قَالُوا ; وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَنْبَأَ عَنْ الْمُنَافِقِينَ فِي أَوَّل النَّبَأ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَة بِأَنَّهُمْ يَكْذِبُونَ بِدَعْوَاهُمْ الْإِيمَان وَإِظْهَارهمْ ذَلِكَ بِأَلْسِنَتِهِمْ خِدَاعًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ , فَقَالَ : { وَمِنْ النَّاس مَنْ يَقُول آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّه وَاَلَّذِينَ آمَنُوا } بِذَلِكَ مِنْ قَيْلهمْ مَعَ اسْتِسْرَارهمْ الشَّكّ وَالرِّيبَة , { وَمَا يَخْدَعُونَ } بِصَنِيعِهِمْ ذَلِكَ { إلَّا أَنْفُسهمْ } دُون رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ , { وَمَا يَشْعُرُونَ } بِمَوْضِعِ خَدِيعَتهمْ أَنْفُسهمْ وَاسْتِدْرَاج اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إيَّاهُمْ بِإِمْلَائِهِ لَهُمْ فِي قُلُوبهمْ شَكَّ أَيْ نِفَاق وَرِيبَة , وَاَللَّه زَائِدهمْ شَكًّا وَرِيبَة بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ اللَّه وَرَسُوله وَالْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ : { آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر } وَهُمْ فِي قَيْلهمْ ذَلِكَ كَذَبَة لِاسْتِسْرَارِهِمْ الشَّكّ وَالْمَرَض فِي اعْتِقَادَات قُلُوبهمْ . فِي أَمْر اللَّه وَأَمْر رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَأَوْلَى فِي حِكْمَة اللَّه جَلَّ جَلَاله أَنْ يَكُون الْوَعِيد مِنْهُ لَهُمْ عَلَى مَا افْتَتَحَ بِهِ الْخَبَر عَنْهُمْ مِنْ قَبِيح أَفْعَالهمْ وَذَمِيم أَخْلَاقهمْ , دُون مَا لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْر مِنْ أَفْعَالهمْ ; إذْ كَانَ سَائِر آيَات تَنْزِيله بِذَلِكَ نَزَلَ . وَهُوَ أَنْ يَفْتَتِح ذِكْر مُحَاسِن أَفْعَال قَوْم ثُمَّ يَخْتِم ذَلِكَ بِالْوَعِيدِ عَلَى مَا افْتَتَحَ بِهِ ذِكْره مِنْ أَفْعَالهمْ , وَيَفْتَتِح ذِكْر مَسَاوِئ أَفْعَال آخَرِينَ ثُمَّ يَخْتِم ذَلِكَ بِالْوَعِيدِ عَلَى مَا ابْتَدَأَ بِهِ ذِكْره مِنْ أَفْعَالهمْ . فَكَذَلِكَ الصَّحِيح مِنْ الْقَوْل فِي الْآيَات الَّتِي افْتَتَحَ فِيهَا ذِكْر بَعْض مَسَاوِئ أَفْعَال الْمُنَافِقِينَ أَنْ يَخْتِم ذَلِكَ بِالْوَعِيدِ عَلَى مَا افْتَتَحَ بِهِ ذِكْره مِنْ قَبَائِح أَفْعَالهمْ , فَهَذَا مَعَ دَلَالَة الْآيَة الْأُخْرَى عَلَى صِحَّة مَا قُلْنَا وَشَهَادَتهَا بِأَنَّ الْوَاجِب مِنْ الْقِرَاءَة مَا اخْتَرْنَا , وَأَنَّ الصَّوَاب مِنْ التَّأْوِيل مَا تَأَوَّلْنَا مِنْ أَنَّ وَعِيد اللَّه الْمُنَافِقِينَ فِي هَذِهِ الْآيَة الْعَذَاب الْأَلِيم عَلَى الْكَذِب الْجَامِع مَعْنَى الشَّكّ وَالتَّكْذِيب , وَذَلِكَ قَوْل اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { إذَا جَاءَك الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَد إنَّك لَرَسُول اللَّه وَاَللَّه يَعْلَم إنَّك لَرَسُوله وَاَللَّه يَشْهَد إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانهمْ جُنَّة فَصَدُّوا عَنْ سَبِيل اللَّه إنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } 63 1 : 2 وَالْآيَة الْأُخْرَى فِي الْمُجَادَلَة : { اتَّخَذُوا أَيْمَانهمْ جُنَّة فَصَدُّوا عَنْ سَبِيل اللَّه فَلَهُمْ عَذَاب مُهِين } 58 16 فَأَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ بِقَيْلِهِمْ مَا قَالُوا لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , مَعَ اعْتِقَادهمْ فِيهِ مَا هُمْ مُعْتَقِدُونَ , كَاذِبُونَ . ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْره أَنَّ الْعَذَاب الْمُهِين لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ كَذِبهمْ . وَلَوْ كَانَ الصَّحِيح مِنْ الْقِرَاءَة عَلَى مَا قَرَأَهُ الْقَارِئُونَ فِي سُورَة الْبَقَرَة : { وَلَهُمْ عَذَاب أَلِيم بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } لَكَانَتْ الْقِرَاءَة فِي السُّورَة الْأُخْرَى : وَاَللَّه يَشْهَد إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمُكَذِّبُونَ , لِيَكُونَ الْوَعِيد لَهُمْ الَّذِي هُوَ عَقِيب ذَلِكَ وَعِيدًا عَلَى التَّكْذِيب , لَا عَلَى الْكَذِب . وَفِي إجْمَاع الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الصَّوَاب مِنْ الْقِرَاءَة فِي قَوْله : { وَاَللَّه يَشْهَد إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } بِمَعْنَى الْكَذِب , وَأَنَّ إيعَاد اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيهِ الْمُنَافِقِينَ الْعَذَاب الْأَلِيم عَلَى ذَلِكَ مِنْ كَذِبهمْ , أَوْضَح الدَّلَالَة عَلَى أَنَّ الصَّحِيح مِنْ الْقِرَاءَة فِي سُورَة الْبَقَرَة : { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } بِمَعْنَى الْكَذِب , وَأَنَّ الْوَعِيد مِنْ اللَّه تَعَالَى ذِكْره لِلْمُنَافِقِينَ فِيهَا عَلَى الْكَذِب حَقّ , لَا عَلَى التَّكْذِيب الَّذِي لَمْ يَجُزْ لَهُ ذِكْر نَظِير الَّذِي فِي سُورَة الْمُنَافِقِينَ سَوَاء . وَقَدْ زَعَمَ بَعْض نَحْوِيِّي الْبَصْرَة أَنَّ " مَا " مِنْ قَوْل اللَّه تَبَارَكَ اسْمه : { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } اسْم لِلْمَصْدَرِ , كَمَا أَنَّ أَنَّ وَالْفِعْل اسْمَانِ لِلْمَصْدَرِ فِي قَوْلك : أُحِبّ أَنَّ تَأْتِينِي , وَأَنَّ الْمَعْنَى إنَّمَا هُوَ بِكَذِبِهِمْ وَتَكْذِيبهمْ . قَالَ : وَأَدْخَلَ " كَانَ " لِيُخْبِر أَنَّهُ كَانَ فِيمَا مَضَى , كَمَا يُقَال : مَا أَحَسَن مَا كَانَ عَبْد اللَّه . فَأَنْت تُعْجِب مِنْ عَبْد اللَّه لَا مِنْ كَوْنه , وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّعَجُّب فِي اللَّفْظ عَلَى كَوْنه . وَكَانَ بَعْض نَحْوِيِّي الْكُوفَة يُنْكِر ذَلِكَ مِنْ قَوْله وَيَسْتَخْطِئُهُ وَيَقُول : إنَّمَا أُلْغِيَتْ " كَانَ " فِي التَّعَجُّب لِأَنَّ الْفِعْل قَدْ تَقَدَّمَهَا , فَكَأَنَّهُ قَالَ : " حَسَنًا كَانَ زَيْد " , " وَحَسَن كَانَ زَيْد " يُبْطِل " كَانَ " , وَيَعْمَل مَعَ الْأَسْمَاء وَالصِّفَات الَّتِي بِأَلْفَاظِ الْأَسْمَاء إذَا جَاءَتْ قَبْل " كَانَ " وَوَقَعَتْ " كَانَ " بَيْنهَا وَبَيْن الْأَسْمَاء . وَأَمَّا الْعِلَّة فِي إبْطَالهَا إذَا أُبْطِلَتْ فِي هَذِهِ الْحَال فَشَبَّهَ الصِّفَات وَالْأَسْمَاء بِفِعْلٍ وَيَفْعَل اللَّتَيْنِ لَا يَظْهَر عَمَل كَانَ فِيهِمَا , أَلَا تَرَى أَنَّك تَقُول : " يَقُوم كَانَ زَيْد " , وَلَا يَظْهَر عَمَل " كَانَ " فِي " يَقُوم " , وَكَذَلِكَ " قَامَ كَانَ زَيْد " . فَلِذَلِكَ أُبْطِلَ عَمَلهَا مَعَ فَاعِل تَمْثِيلًا بِفِعْلٍ وَيَفْعَل , وَأُعْمِلَتْ مَعَ فَاعِل أَحْيَانًا لِأَنَّهُ اسْم كَمَا تَعْمَل فِي الْأَسْمَاء . فَأَمَّا إذَا تَقَدَّمَتْ " كَانَ " الْأَسْمَاء وَالْأَفْعَال وَكَانَ الِاسْم وَالْفِعْل بَعْدهَا , فَخَطَأ عِنْده أَنْ تَكُون " كَانَ " مُبْطِلَة ; فَلِذَلِكَ أَحَالَ قَوْل الْبَصْرِيّ الَّذِي حَكَيْنَاهُ , وَتَأَوَّلَ قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } أَنَّهُ بِمَعْنَى : الَّذِي يُكَذِّبُونَهُ .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَسورة البقرة الآية رقم 11
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْض } اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي تَأْوِيل هَذِهِ الْآيَة , فَرُوِيَ عَنْ سَلْمَان الْفَارِسِيّ أَنَّهُ كَانَ يَقُول : لَمْ يَجِئْ هَؤُلَاءِ بَعْد . 285 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَثَّام بْن عَلِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا الْأَعْمَش , قَالَ : سَمِعْت الْمِنْهَال بْن عَمْرو يُحَدِّث عَنْ عَبَّاد بْن عَبْد اللَّه , عَنْ سَلْمَان , قَالَ : مَا جَاءَ هَؤُلَاءِ بَعْد , الَّذِينَ { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْض قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } * حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن عُثْمَان بْن حَكِيم , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن شَرِيك , قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي , قَالَ حَدَّثَنِي الْأَعْمَش , عَنْ زَيْد بْن وَهْب وَغَيْره , عَنْ سَلْمَان أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَة : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْض قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } قَالَ مَا جَاءَ هَؤُلَاءِ بَعْد . وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا : 286 - حَدَّثَنِي بِهِ مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ , عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة الْهَمْدَانِيّ , عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْض قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } هُمْ الْمُنَافِقُونَ . أَمَّا { لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْض } فَإِنَّ الْفَسَاد هُوَ الْكُفْر وَالْعَمَل بِالْمَعْصِيَةِ . 287 - وَحُدِّثْت عَنْ عَمَّار بْن الْحَسَن , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ عَنْ الرَّبِيع : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْض } يَقُول : لَا تَعْصُوا فِي الْأَرْض . قَالَ : فَكَانَ فَسَادهمْ عَلَى أَنْفُسهمْ ذَلِكَ مَعْصِيَة اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ , لِأَنَّ مَنْ عَصَى اللَّه فِي الْأَرْض أَوْ أَمَرَ بِمَعْصِيَتِهِ فَقَدْ أَفْسَدَ فِي الْأَرْض , لِأَنَّ إصْلَاح الْأَرْض وَالسَّمَاء بِالطَّاعَةِ . وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِالْآيَةِ تَأْوِيل مَنْ قَالَ : إنَّ قَوْل اللَّه تَبَارَكَ اسْمه : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْض قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَإِنْ كَانَ مَعْنِيًّا بِهَا كُلّ مَنْ كَانَ بِمِثْلِ صِفَتهمْ مِنْ الْمُنَافِقِينَ بَعْدهمْ إلَى يَوْم الْقِيَامَة . وَقَدْ يَحْتَمِل قَوْل سَلْمَان عِنْد تِلَاوَة هَذِهِ الْآيَة : " مَا جَاءَ هَؤُلَاءِ بَعْد " أَنْ يَكُون قَالَهُ بَعْد فَنَاء الَّذِينَ كَانُوا بِهَذِهِ الصِّفَة عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرًا مِنْهُ عَمَّنْ جَاءَ مِنْهُمْ بَعْدهمْ وَلِمَا يَجِيء بَعْد , لَا أَنَّهُ عَنَى أَنَّهُ لَمْ يَمْضِ مِمَّنْ هَذِهِ صِفَته أَحَد . وَإِنَّمَا قُلْنَا أَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِالْآيَةِ مَا ذَكَرْنَا , لِإِجْمَاعِ الْحَجَّة مِنْ أَهْل التَّأْوِيل عَلَى أَنَّ ذَلِكَ صِفَة مَنْ كَانَ بَيْن ظَهْرَانَيْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ , وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَات فِيهِمْ نَزَلَتْ . وَالتَّأْوِيل الْمُجْمَع عَلَيْهِ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْقُرْآن مِنْ قَوْل لَا دَلَالَة عَلَى صِحْته مِنْ أَصْلِ وَلَا نَظِير . وَالْإِفْسَاد فِي الْأَرْض : الْعَمَل فِيهَا بِمَا نَهَى اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْهُ , وَتَضْيِيع مَا أَمَرَ اللَّه بِحِفْظِهِ . فَذَلِكَ جُمْلَة الْإِفْسَاد , كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي كِتَابه مُخْبِرًا عَنْ قِيلَ مَلَائِكَته : { قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِد فِيهَا وَيَسْفِك الدِّمَاء } 2 30 يَعْنُونَ بِذَلِكَ : أَتَجْعَلُ فِي الْأَرْض مِنْ يَعْصِيك وَيُخَالِف أَمْرك ؟ فَكَذَلِكَ صِفَة أَهْل النِّفَاق مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْض بِمَعْصِيَتِهِمْ فِيهَا رَبّهمْ , وَرُكُوبهمْ فِيهَا مَا نَهَاهُمْ عَنْ رُكُوبه , وَتَضْيِيعهمْ فَرَائِضه وَشَكّهمْ فِي دِين اللَّه الَّذِي لَا يَقْبَل مِنْ أَحَد عَمَلًا إلَى بِالتَّصْدِيقِ بِهِ وَالْإِيقَان بِحَقِيَتِهِ , وَكَذِبهمْ الْمُؤْمِنِينَ بِدَعْوَاهُمْ غَيْر مَا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنْ الشَّكّ وَالرَّيْب وبمظاهرتهم أَهْل التَّكْذِيب بِاَللَّهِ وَكُتُبه وَرُسُله عَلَى أَوْلِيَاء اللَّه إذَا وَجَدُوا إلَى ذَلِكَ سَبِيلًا فَذَلِكَ إفْسَاد الْمُنَافِقِينَ فِي أَرْض اللَّه , وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ بِفِعْلِهِمْ ذَلِكَ مُصْلِحُونَ فِيهَا . فَلَمْ يُسْقِط اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْهُمْ عُقُوبَته , وَلَا خَفَّفَ عَنْهُمْ أَلِيم مَا أَعَدَّ مِنْ عِقَابه لِأَهْلِ مَعْصِيَته بِحُسْبَانِهِمْ أَنَّهُمْ فِيمَا أَتَوْا مِنْ مَعَاصِي اللَّه مُصْلِحُونَ , بَلْ أَوَجَبَ لَهُمْ الدَّرْك الْأَسْفَل مِنْ نَاره وَالْأَلِيم مِنْ عَذَابه وَالْعَار الْعَاجِل بِسِبِّ اللَّه إيَّاهُمْ وَشَتْمه لَهُمْ , فَقَالَ تَعَالَى : { أَلَا إنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ } وَذَلِكَ مِنْ حُكْم اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِيهِمْ أَدَلَّ الدَّلِيل عَلَى تَكْذِيبه تَعَالَى قَوْل الْقَائِلِينَ : إنَّ عُقُوبَات اللَّه لَا يَسْتَحِقّهَا إلَّا الْمُعَانِد رَبّه فِيمَا لَزِمَهُ مِنْ حُقُوقه وَفُرُوضه بَعْد عِلْمه وَثُبُوت الْحُجَّة عَلَيْهِ بِمَعْرِفَتِهِ بِلُزُومِ ذَلِكَ إيَّاهُ .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } وَتَأْوِيل ذَلِكَ كَاَلَّذِي قَالَهُ ابْن عَبَّاس , الَّذِي : 288 - حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّد بْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة بْن الْفَضْل , عَنْ مُحَمَّد بْن إسْحَاق , عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت , عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس قَوْله : { إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } أَيْ قَالُوا : إنَّمَا نُرِيد الْإِصْلَاح بَيْن الْفَرِيقَيْنِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَأَهْل الْكِتَاب . وَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ غَيْره . 289 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم بْن الْحَسَن , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن دَاوُد , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ مُجَاهِد : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْض } قَالَ : إذَا رَكِبُوا مَعْصِيَة اللَّه , فَقِيلَ لَهُمْ : لَا تَفْعَلُوا كَذَا وَكَذَا , قَالُوا : إنَّمَا نَحْنُ عَلَى الْهُدَى مُصْلِحُونَ . قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَأَيّ الْأَمْرَيْنِ كَانَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ - أَعْنِي فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ مُصْلِحُونَ - فَهُمْ لَا شَكَّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ فِيمَا أَتَوْا مِنْ ذَلِكَ مُصْلِحُونَ . فَسَوَاء بَيْن الْيَهُود وَالْمُسْلِمِينَ كَانَتْ دَعْوَاهُمْ الْإِصْلَاح أَوْ فِي أَدِيَانهمْ , وَفِيمَا رَكِبُوا مِنْ مَعْصِيَة اللَّه , وَكَذِبهمْ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا أَظَهَرُوا لَهُمْ مِنْ الْقَوْل وَهُمْ لِغَيْرِ مَا أَظَهَرُوا مُسْتَبْطِنُونَ , لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي جَمِيع ذَلِكَ مِنْ أَمْرهمْ عِنْد أَنْفُسهمْ مُحْسِنِينَ , وَهُمْ عِنْد اللَّه مُسِيئُونَ , وَلِأَمْرِ اللَّه مُخَالِفُونَ ; لِأَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ كَانَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ عَدَاوَة الْيَهُود وَحَرْبهمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ , وَأَلْزَمَهُمْ التَّصْدِيق بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْد اللَّه كَاَلَّذِي أَلْزَمَ مِنْ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِينَ , فَكَانَ لِقَاؤُهُمْ الْيَهُود عَلَى وَجْه الْوِلَايَة مِنْهُمْ لَهُمْ , وَشَكّهمْ فِي نُبُوَّة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيمَا جَاءَ بِهِ أَنَّهُ مِنْ عِنْد اللَّه أَعْظَم الْفَسَاد , وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَانَ عِنْدهمْ إصْلَاحًا وَهُدًى : فِي أَدِيَانهمْ , أَوْ فِيمَا بَيْن الْمُؤْمِنِينَ وَالْيَهُود , فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِيهِمْ : { أَلَا إنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ } دُون الَّذِينَ يَنْهَوْنَهُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ الْإِفْسَاد فِي الْأَرْض { وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ }
أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَسورة البقرة الآية رقم 12
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { أَلَا إنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ } وَهَذَا الْقَوْل مِنْ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ تَكْذِيب لِلْمُنَافِقِينَ فِي دَعْوَاهُمْ إذَا أُمِرُوا بِطَاعَةِ اللَّه فِيمَا أَمَرَهُمْ اللَّه بِهِ , وَنُهُوا عَنْ مَعْصِيَة اللَّه فِيمَا نَهَاهُمْ اللَّه عَنْهُ . قَالُوا : إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ لَا مُفْسِدُونَ , وَنَحْنُ عَلَى رُشْد وَهُدًى فِيمَا أَنْكَرْتُمُوهُ عَلَيْنَا دُونكُمْ لَا ضَالُّونَ . فَكَذِبهمْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ مِنْ قَيْلهمْ , فَقَالَ : { أَلَا إنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ } الْمُخَالِفُونَ أَمْر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , الْمُتَعَدُّونَ حُدُوده الرَّاكِبُونَ مَعْصِيَته , التَّارِكُونَ فُرُوضه وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ وَلَا يَدْرُونَ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ , لَا الَّذِينَ يَأْمُرُونَهُمْ بِالْقِسْطِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَيَنْهَوْنَهُمْ عَنْ مَعَاصِي اللَّه فِي أَرْضه مِنْ الْمُسْلِمِينَ .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَسورة البقرة الآية رقم 13
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاس } قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَتَأْوِيل قَوْله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاس } يَعْنِي : وَإِذَا قِيلَ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ اللَّه وَنَعَتَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ { آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } : صَدَّقُوا بِمُحَمَّدٍ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْد اللَّه كَمَا صَدَّقَ بِهِ النَّاس . وَيَعْنِي ب " النَّاس " الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ وَنُبُوَّته وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْد اللَّه . كَمَا : 290 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَان بْن سَعِيد , عَنْ بِشْر بْن عَمَّار , عَنْ أَبِي رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك عَنْ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاس } يَقُول : وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ صَدِّقُوا كَمَا صَدَّقَ أَصْحَاب مُحَمَّد , قُولُوا : إنَّهُ نَبِيّ وَرَسُول , وَإِنَّ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ حَقّ , وَصَدَّقُوا بِالْآخِرَةِ , وَأَنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْد الْمَوْت . وَإِنَّمَا أَدَخَلَتْ الْأَلِف وَاللَّام فِي " النَّاس " وَهُمْ بَعْض النَّاس لَا جَمِيعهمْ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَعْرُوفِينَ عِنْد الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهَذِهِ الْآيَة بِأَعْيَانِهِمْ . وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ : آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاس الَّذِينَ تَعْرِفُونَهُمْ مِنْ أَهْل الْيَقِين وَالتَّصْدِيق بِاَللَّهِ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْد اللَّه وَبِالْيَوْمِ الْآخِر , فَلِذَلِكَ أُدْخِلَتْ الْأَلِف وَاللَّام فِيهِ كَمَا أُدْخِلَتَا فِي قَوْله : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاس إنَّ النَّاس قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ } 3 173 لِأَنَّهُ أُشِيرَ بِدُخُولِهَا إلَى نَاس مَعْرُوفِينَ عِنْد مَنْ خُوطِبَ بِذَلِكَ .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء } قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَالسُّفَهَاء جَمْع سَفِيه , كَالْعُلَمَاءِ جَمْع عَلِيم , وَالْحُكَمَاء جَمْع حَكِيم . وَالسَّفِيه : الْجَاهِل الضَّعِيف الرَّأْي , الْقَلِيل الْمَعْرِفَة بِمَوَاضِع الْمَنَافِع وَالْمَضَارّ ; وَلِذَلِكَ سَمَّى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ النِّسَاء وَالصِّبْيَان سُفَهَاء , فَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاء أَمْوَالكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّه لَكُمْ قِيَامًا } 4 5 فَقَالَ عَامَّة أَهْل التَّأْوِيل : هُمْ النِّسَاء وَالصِّبْيَان لِضَعْفِ آرَائِهِمْ , وَقِلَّة مَعْرِفَتهمْ بِمَوَاضِع الْمَصَالِح وَالْمَضَارّ الَّتِي تُصْرَف إلَيْهَا الْأَمْوَال . وَإِنَّا عَنَى الْمُنَافِقُونَ بِقَيْلِهِمْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء , إذْ دُعُوا إلَى التَّصْدِيق بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْد اللَّه , وَالْإِقْرَار بِالْبَعْثِ , فَقَالَ لَهُمْ : آمِنُوا كَمَا آمَنَ أَصْحَاب مُحَمَّد وَأَتْبَاعه مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ بِهِ أَهْل الْإِيمَان وَالْيَقِين وَالتَّصْدِيق بِاَللَّهِ وَبِمَا افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ عَلَى لِسَان رَسُوله مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي كِتَابه وَبِالْيَوْمِ الْآخِر , فَقَالُوا إجَابَة لِقَائِلِ ذَلِكَ لَهُمْ : أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ أَهْل الْجَهْل وَنُصَدِّق بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا صَدَّقَ بِهِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا عُقُول لَهُمْ وَلَا أَفَهَام ; كَاَلَّذِي : 291 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة الْهَمْدَانِيّ , عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالُوا : { أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء } يَعْنُونَ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 292 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : حَدَّثَنَا إسْحَاق بْن الْحَجَّاج , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس : { قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء } يَعْنُونَ أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . 293 - حَدَّثَنِي يُونُس بْن عَبْد الْأَعْلَى , قَالَ : أَنْبَأَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد بْن أَسْلَمَ فِي قَوْله : { قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء } قَالَ : هَذَا قَوْل الْمُنَافِقِينَ , يُرِيدُونَ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . 294 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَان بْن سَعِيد , عَنْ بِشْر بْن عَمَّار , عَنْ أَبِي رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك , عَنْ ابْن عَبَّاس : { قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء } يَقُولُونَ : أَنَقُولُ كَمَا تَقُول السُّفَهَاء ؟ يَعْنُونَ أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , لِخِلَافِهِمْ لِدِينِهِمْ .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { أَلَا إنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاء وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ } قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَهَذَا خَبَر مِنْ اللَّه تَعَالَى عَنْ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ نَعْته لَهُمْ وَوَصْفه إيَّاهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ مِنْ الشَّكّ وَالتَّكْذِيب , أَنَّهُمْ هُمْ الْجُهَّال فِي أَدِيَانهمْ , الضُّعَفَاء الْآرَاء فِي اعْتِقَادَاتهمْ وَاخْتِيَارَاتهمْ الَّتِي اخْتَارُوهَا لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ الشَّكّ وَالرَّيْب فِي أَمْر اللَّه وَأَمْر رَسُوله وَأَمْر نُبُوَّته , وَفِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْد اللَّه , وَأَمْر الْبَعْث , لِإِسَاءَتِهِمْ إلَى أَنْفُسهمْ بِمَا أَتَوْا مِنْ ذَلِكَ , وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ إلَيْهَا يُحْسِنُونَ . وَذَلِكَ هُوَ عَيْن السَّفَه , لِأَنَّ السَّفِيه إنَّمَا يُفْسِد مِنْ حَيْثُ يَرَى أَنَّهُ يُصْلِح وَيُضَيِّع مِنْ حَيْثُ يَرَى أَنَّهُ يَحْفَظ . فَكَذَلِكَ الْمُنَافِق يَعْصِي رَبّه مِنْ حَيْثُ يَرَى أَنَّهُ يُطِيعهُ , وَيَكْفُر بِهِ مِنْ حَيْثُ يَرَى أَنَّهُ يُؤْمِن بِهِ , وَيُسِيء إلَى نَفْسه مِنْ حَيْثُ يَحْسَب أَنَّهُ يُحْسِن إلَيْهَا , كَمَا وَصَفَهُمْ بِهِ رَبّنَا جَلَّ ذِكْره فَقَالَ : { أَلَا إنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ } وَقَالَ : أَلَا إنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاء دُون الْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ بِاَللَّهِ وَبِكِتَابِهِ وَبِرَسُولِهِ وَثَوَابه وَعِقَابه , وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ . وَكَذَلِكَ كَانَ ابْن عَبَّاس يَتَأَوَّل هَذِهِ الْآيَة . 295 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَان بْن سَعِيد , عَنْ بِشْر بْن عَمَّار , عَنْ أَبِي رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك , عَنْ ابْن عَبَّاس يَقُول اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { أَلَا إنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاء } يَقُول الْجُهَّال , { وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ } يَقُول وَلَكِنْ لَا يَعْقِلُونَ وَأَمَّا وَجْه دُخُول الْأَلِف وَاللَّام فِي " السُّفَهَاء " فَشَبِيه بِوَجْهِ دُخُولهمَا فِي " النَّاس " فِي قَوْله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاس } وَقَدْ بَيَّنَّا الْعِلَّة فِي دُخُولهمَا هُنَالِكَ , وَالْعِلَّة فِي دُخُولهمَا فِي السُّفَهَاء نَظِيرَتهَا فِي دُخُولهمَا فِي النَّاس هُنَالِكَ سَوَاء . وَالدَّلَالَة الَّتِي تَدُلّ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَة مِنْ خَطَأ قَوْل مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْعُقُوبَة مِنْ اللَّه لَا يَسْتَحِقّهَا إلَّا الْمُعَانِد رَبّه مَعَ عِلْمه بِصِحَّةِ مَا عَانَدَهُ فِيهِ نَظِير دَلَالَة الْآيَات الْأُخَر الَّتِي قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرنَا تَأْوِيلهَا فِي قَوْله : { وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ } وَنَظَائِر ذَلِكَ .
وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَسورة البقرة الآية رقم 14
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا } قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَهَذِهِ الْآيَة نَظِير الْآيَة الْأُخْرَى الَّتِي أَخْبَرَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِيهَا عَنْ الْمُنَافِقِينَ بِخِدَاعِهِمْ اللَّه وَرَسُوله وَالْمُؤْمِنِينَ , فَقَالَ : { وَمِنْ النَّاس مِنْ يَقُول آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر } ثُمَّ أَكَذَبَهُمْ تَعَالَى ذِكْره بِقَوْلِهِ : { وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } وَأَنَّهُمْ بِقَيْلِهِمْ ذَلِكَ يُخَادِعُونَ اللَّه وَاَلَّذِينَ آمَنُوا . وَكَذَلِكَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَة أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ بِاَللَّهِ وَكِتَابه وَرَسُوله بِأَلْسِنَتِهِمْ : آمَنَّا وَصَدَّقْنَا بِمُحَمَّدٍ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْد اللَّه , خِدَاعًا عَنْ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالهمْ وَذَرَارِيّهمْ , وَدَرْءًا لَهُمْ عَنْهَا , وَأَنَّهُمْ إذَا خَلَوْا إلَى مَرَدَتهمْ وَأَهْل الْعُتُوّ وَالشَّرّ وَالْخَبَث مِنْهُمْ وَمِنْ سَائِر أَهْل الشِّرْك الَّذِينَ هُمْ عَلَى مِثْل الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْر بِاَللَّهِ وَبِكِتَابِهِ وَرَسُوله - وَهُمْ شَيَاطِينهمْ . وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابنَا عَلَى أَنَّ شَيَاطِين كُلّ شَيْء مَرَدَته - قَالُوا لَهُمْ : { إنَّا مَعَكُمْ } أَيْ إنَّا مَعَكُمْ عَلَى دِينكُمْ , وَظُهَرَاؤُكُمْ عَلَى مَنْ خَالَفَكُمْ فِيهِ , وَأَوْلِيَاؤُكُمْ دُون أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ بِاَللَّهِ وَبِكِتَابِهِ وَرَسُوله وَأَصْحَابه . كَاَلَّذِي : 296 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْعَلَاء : قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَان بْن سَعِيد , قَالَ حَدَّثَنَا بِشْر بْن عَمَّار عَنْ أَبِي رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك , عَنْ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله : { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا } قَالَ : كَانَ رِجَال مِنْ الْيَهُود إذَا لَقُوا أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بَعْضهمْ , قَالُوا : إنَّا عَلَى دِينكُمْ , وَإِذَا خَلَوْا إلَى أَصْحَابهمْ وَهُمْ شَيَاطِينهمْ { قَالُوا إنَّا مَعَكُمْ إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } * حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة بْن الْفَضْل عَنْ مُحَمَّد بْن إسْحَاق , عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت , عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس : { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينهمْ } قَالَ : إذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينهمْ مِنْ يَهُود الَّذِينَ يَأْمُرُونَهُمْ بِالتَّكْذِيبِ , وَخِلَاف مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول { قَالُوا إنَّا مَعَكُمْ } أَيْ إنَّا عَلَى مِثْل مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ { إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } 297 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة الْهَمْدَانِيّ عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَإِذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينهمْ } أَمَّا شَيَاطِينهمْ , فَهُمْ رُءُوسهمْ فِي الْكُفْر . 298 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ الْعَقَدِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد بْن زُرَيْع , عَنْ سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ قَوْله : { وَإِذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينهمْ } أَيْ رُؤَسَائِهِمْ وَقَادَتهمْ فِي الشَّرّ , { قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ }

299 - حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَنْبَأَنَا مَعْمَر , عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله : { وَإِذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينهمْ } قَالَ الْمُشْرِكُونَ . 300 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو الْبَاهِلِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِم , قَالَ : حَدَّثَنَا عِيسَى بْن مَيْمُون , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد فِي قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : { وَإِذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينهمْ } قَالَ : إذَا خَلَا الْمُنَافِقُونَ إلَى أَصْحَابهمْ مِنْ الْكُفَّار . * حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَة , عَنْ شِبْل بْن عِبَاد , عَنْ عَبْد اللَّه بْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد : { وَإِذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينهمْ } قَالَ : أَصْحَابهمْ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ . 301 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا إسْحَاق بْن الْحَجَّاج , عَنْ عَبْد اللَّه بْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس : { وَإِذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينهمْ } قَالَ إخْوَانهمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ , { قَالُوا إنَّا مَعَكُمْ إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } 302 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم بْن الْحَسَن , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن دَاوُد , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج قَالَ : قَالَ ابْن جُرَيْجٍ فِي قَوْله : { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا } قَالَ : إذَا أَصَابَ الْمُؤْمِنِينَ رَخَاء , قَالُوا إنَّا نَحْنُ مَعَكُمْ إنَّمَا نَحْنُ إخْوَانكُمْ , وَإِذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينهمْ اسْتَهْزَءُوا بِالْمُؤْمِنِينَ . * حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , قَالَ : قَالَ مُجَاهِد : شَيَاطِينهمْ : أَصْحَابهمْ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ . فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِل : أَرَأَيْت قَوْله : { وَإِذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينهمْ } فَكَيْف قِيلَ " خَلَوْا إلَى شَيَاطِينهمْ " وَلَمْ يَقُلْ " خَلَوْا بِشَيَاطِينِهِمْ " ؟ فَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْجَارِي بَيْن النَّاس فِي كَلَامهمْ " خَلَوْت بِفُلَانٍ " أَكْثَر وَأَفْشَى مِنْ " خَلَوْت إلَى فُلَان " , وَمِنْ قَوْلك : إنَّ الْقُرْآن أَفْصَح الْبَيَان ! قِيلَ : قَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ أَهْل الْعِلْم بِلُغَةِ الْعَرَب , فَكَانَ بَعْض نَحْوِيِّي الْبَصْرَة يَقُول : يُقَال خَلَوْت إلَى فُلَان , إذَا أُرِيدَ بِهِ : خَلَوْت إلَيْهِ فِي حَاجَة خَاصَّة ; لَا يَحْتَمِل إذَا قِيلَ كَذَلِكَ إلَّا الْخَلَاء إلَيْهِ فِي قَضَاء الْحَاجَة . فَأَمَّا إذَا قِيلَ : خَلَوْت بِهِ احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ : أَحَدهمَا الْخَلَاء بِهِ فِي الْحَاجَة , وَالْآخَر : فِي السُّخْرِيَة بِهِ , فَعَلَى هَذَا الْقَوْل { وَإِذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينهمْ } لَا شَكَّ أَفْصَح مِنْهُ لَوْ قِيلَ : " وَإِذَا خَلَوْا بِشَيَاطِينِهِمْ " لِمَا فِي قَوْل الْقَائِل : " إذَا خَلَوْا بِشَيَاطِينِهِمْ " مِنْ الْتِبَاس الْمَعْنَى عَلَى سَامِعِيهِ الَّذِي هُوَ مُنْتَفٍ عَنْ قَوْله : { وَإِذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينهمْ } ; فَهَذَا أَحَد الْأَقْوَال . وَالْقَوْل الْآخَر أَنَّ تَوَجُّه مَعْنَى قَوْله : { وَإِذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينهمْ } أَيْ إذَا خَلَوْا مَعَ شَيَاطِينهمْ , إذْ كَانَتْ حُرُوف الصِّفَات يُعَاقِب بَعْضهَا بَعْضًا كَمَا قَالَ اللَّه مُخْبِرًا عَنْ عِيسَى ابْن مَرْيَم أَنَّهُ قَالَ لِلْحَوَارِيِّينَ : { مَنْ أَنْصَارِي إلَى اللَّه } 61 14 يُرِيد مَعَ اللَّه , وَكَمَا تُوضَع " عَلَى " فِي مَوْضِع " مِنْ " وَ " فِي " و " عَنْ " و " الْبَاء " , كَمَا قَالَ الشَّاعِر : إذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْر لَعَمْر اللَّه أَعْجَبَنِي رِضَاهَا بِمَعْنَى " عَنِّي " . وَأَمَّا بَعْض نَحْوِيِّي أَهْل الْكُوفَة فَإِنَّهُ كَانَ يَتَأَوَّل أَنَّ ذَلِكَ بِمَعْنَى : { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا } وَإِذَا صَرَفُوا خَلَاءَهُمْ إلَى شَيَاطِينهمْ ; فَيَزْعُم أَنَّ الْجَالِب " إلَى " الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَام : مِنْ انْصِرَاف الْمُنَافِقِينَ عَنْ لِقَاء الْمُؤْمِنِينَ إلَى شَيَاطِينهمْ خَالِينَ بِهِمْ , لَا قَوْله " خَلَوْا " . وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيل لَا يَصْلُح فِي مَوْضِع " إلَى " غَيْرهَا لِتَغَيُّرِ الْكَلَام بِدُخُولِ غَيْرهَا مِنْ الْحُرُوف مَكَانهَا . وَهَذَا الْقَوْل عِنْدِي أَوْلَى بِالصَّوَابِ , لِأَنَّ لِكُلِّ حَرْف مِنْ حُرُوف الْمَعَانِي وَجْهًا هُوَ بِهِ أَوْلَى مِنْ غَيْره , فَلَا يَصْلُح تَحْوِيل ذَلِكَ عَنْهُ إلَى غَيْره إلَّا بِحُجَّةٍ يَجِب التَّسْلِيم لَهَا . ول " إلَى " فِي كُلّ مَوْضِع دَخَلَتْ مِنْ الْكَلَام حُكْم وَغَيْر جَائِز سَلْبهَا مَعَانِيهَا فِي أَمَاكِنهَا .


الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } أَجَمَعَ أَهْل التَّأْوِيل جَمِيعًا لَا خِلَاف بَيْنهمْ , عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْله : { إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } : إنَّمَا نَحْنُ سَاخِرُونَ . فَمَعْنَى الْكَلَام إذًا : وَإِذَا انْصَرَفَ الْمُنَافِقُونَ خَالِينَ إلَى مَرَدَتهمْ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ قَالُوا : إنَّا مَعَكُمْ عَنْ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ التَّكْذِيب مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَبِمَا جَاءَ بِهِ وَمُعَادَاته وَمُعَادَاة أَتْبَاعه , إنَّمَا نَحْنُ سَاخِرُونَ بِأَصْحَابِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَيْلنَا لَهُمْ إذَا لَقِينَاهُمْ { آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر } كَمَا : 303 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْعَلَاء , قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَان بْن سَعِيد , قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْر بْن عَمَّار عَنْ أَبِي رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك , عَنْ ابْن عَبَّاس : { قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } سَاخِرُونَ بِأَصْحَابِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . 304 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة , عَنْ مُحَمَّد بْن إسْحَاق , عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت , عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس : { إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } : أَيْ إنَّمَا نَحْنُ نَسْتَهْزِئ بِالْقَوْمِ وَنَلْعَب بِهِمْ . 305 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ الْعَقَدِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد بْن زُرَيْع , عَنْ سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ : { إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } : إنَّمَا نَسْتَهْزِئ بِهَؤُلَاءِ الْقَوْم وَنَسْخَر بِهِمْ . 306 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا إسْحَاق بْن الْحَجَّاج , عَنْ عَبْد اللَّه بْن أَبِي جَعْفَر عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع : { إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } أَيْ نَسْتَهْزِئ بِأَصْحَابِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَسورة البقرة الآية رقم 15
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { اللَّه يَسْتَهْزِئ بِهِمْ } قَالَ أَبُو جَعْفَر : اُخْتُلِفَ فِي صِفَة اسْتِهْزَاء اللَّه جَلَّ جَلَاله الَّذِي ذُكِرَ أَنَّهُ فَاعِله بِالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتهمْ . فَقَالَ بَعْضهمْ : اسْتِهْزَاؤُهُ بِهِمْ كَاَلَّذِي أَخْبَرَنَا تَبَارَكَ اسْمه أَنَّهُ فَاعِل بِهِمْ يَوْم الْقِيَامَة فِي قَوْله تَعَالَى : { يَوْم يَقُول الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَات لِلَّذِينَ آمَنُوا اُنْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُوركُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنهمْ بِسُورٍ لَهُ بَاب بَاطِنه فِيهِ الرَّحْمَة وَظَاهِره مِنْ قِبَله الْعَذَاب يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى } 57 13 : 14 الْآيَة , وَكَاَلَّذِي أَخْبَرَنَا أَنَّهُ فَعَلَ بِالْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ : { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرًا لِأَنْفُسِهِمْ إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْمًا } 3 78 فَهَذَا وَمَا أَشَبَهه مِنْ اسْتِهْزَاء اللَّه جَلَّ وَعَزَّ وَسُخْرِيَّته وَمَكْره وَخَدِيعَته لِلْمُنَافِقِينَ وَأَهْل الشِّرْك بِهِ , عِنْد قَائِلِي هَذَا الْقَوْل وَمُتَأَوِّلِي هَذَا التَّأْوِيل . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ اسْتِهْزَاؤُهُ بِهِمْ : تَوْبِيخه إيَّاهُمْ وَلَوْمه لَهُمْ عَلَى مَا رَكِبُوا مِنْ مَعَاصِي اللَّه وَالْكُفْر بِهِ , كَمَا يُقَال : إنَّ فُلَانًا لَيَهْزَأ مِنْهُ الْيَوْم وَيَسْخَر مِنْهُ ; يُرَاد بِهِ تَوْبِيخ النَّاس إيَّاهُ وَلَوْمهمْ لَهُ , أَوْ إهْلَاكه إيَّاهُمْ وَتَدْمِيره بِهِمْ , كَمَا قَالَ عُبَيْد بْن الْأَبْرَص : سَائِل بِنَا حُجْر ابْن أَمْ قَطَام إذْ ظَلَّتْ بِهِ السُّمْر النَّوَاهِل تَلْعَب فَزَعَمُوا أَنَّ السُّمْر وَهِيَ الْقَنَا لَا لَعِب مِنْهَا , وَلَكِنَّهَا لَمَا قَتَلَتْهُمْ وَشَرَّدَتْهُمْ جَعَلَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلهَا لَعِبًا بِمَنْ فَعَلَتْ ذَلِكَ بِهِ ; قَالُوا : فَكَذَلِكَ اسْتِهْزَاء اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِمِنْ اسْتَهْزَأَ بِهِ مِنْ أَهْل النِّفَاق وَالْكُفْر بِهِ , إمَّا إهْلَاكه إيَّاهُمْ وَتَدْمِيره بِهِمْ وَإِمَّا إمْلَاؤُهُ لَهُمْ لِيَأْخُذهُمْ فِي حَال أَمْنهمْ عِنْد أَنْفُسهمْ بَغْتَة , أَوْ تَوْبِيخه لَهُمْ وَلِأَئِمَّتِهِ إيَّاهُمْ قَالُوا : وَكَذَلِكَ مَعْنَى الْمَكْر مِنْهُ وَالْخَدِيعَة وَالسُّخْرِيَة . وَقَالَ آخَرُونَ : قَوْله : { يُخَادِعُونَ اللَّه وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلَّا أَنْفُسهمْ } عَلَى الْجَوَاب , كَقَوْلِ الرَّجُل لِمَنْ كَانَ يَخْدَعهُ إذَا ظَفَرَ بِهِ : أَنَا الَّذِي خَدَعْتُك وَلَمْ تَكُنْ مِنْهُ خَدِيعَة وَلَكِنْ قَالَ ذَلِكَ إذْ صَارَ الْأَمْر إلَيْهِ . قَالُوا : وَكَذَلِكَ قَوْله : { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّه وَاَللَّه خَيْر الْمَاكِرِينَ } 3 54 وَاَللَّه يَسْتَهْزِئ بِهِمْ عَلَى الْجَوَاب , وَاَللَّه لَا يَكُون مِنْهُ الْمَكْر وَلَا الْهُزْء . وَالْمَعْنَى : أَنَّ الْمَكْر وَالْهُزْء حَاقّ بِهِمْ . وَقَالَ آخَرُونَ : قَوْله : { إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّه يَسْتَهْزِئ بِهِمْ } وَقَوْله : { يُخَادِعُونَ اللَّه وَهُوَ خَادِعهمْ } 4 142 وَقَوْله : { فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّه مِنْهُمْ } 9 79 و { نَسُوا اللَّه فَنَسِيَهُمْ } 9 67 وَمَا أَشَبَه ذَلِكَ , إخْبَار مِنْ اللَّه أَنَّهُ مُجَازِيهمْ جَزَاء الِاسْتِهْزَاء , وَمُعَاقِبهمْ عُقُوبَة الْخِدَاع . فَأَخْرَجَ خَبَره عَنْ جَزَائِهِ وَمَا إيَّاهُمْ وَعِقَابه لَهُمْ مَخْرَج خَبَره عَنْ فِعْلهمْ الَّذِي عَلَيْهِ اسْتَحَقُّوا الْعِقَاب فِي اللَّفْظ وَإِنْ اخْتَلَفَ الْمَعْنَيَانِ , كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مِثْلهَا } 42 40 وَمَعْلُوم أَنَّ الْأُولَى مِنْ صَاحِبهَا سَيِّئَة إذْ كَانَتْ مِنْهُ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَعْصِيَة , وَأَنَّ الْأُخْرَى عَدْل لِأَنَّهَا مِنْ اللَّه جَزَاء لِلْعَاصِي عَلَى الْمَعْصِيَة . فَهُمَا وَإِنْ اتَّفَقَ لَفْظَاهُمَا مُخْتَلِفًا الْمَعْنَى . وَكَذَلِكَ قَوْله : { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ } 2 194 فَالْعُدْوَان الْأَوَّل ظُلْم , وَالثَّانِي جَزَاء لَا ظُلْم , بَلْ هُوَ عَدْل ; لِأَنَّهُ عُقُوبَة لِلظَّالِمِ عَلَى ظُلْمه وَإِنْ وَافَقَ لَفْظه لَفْظ الْأَوَّل . وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى وَجَّهُوا كُلّ مَا فِي الْقُرْآن مِنْ نَظَائِر ذَلِكَ مِمَّا هُوَ خَبَر عَنْ مَكْر اللَّه جَلَّ وَعَزَّ بِقَوْمٍ , وَمَا أَشَبَه ذَلِكَ . وَقَالَ آخَرُونَ : إنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ أَخْبَرَ عَنْ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ إذَا خَلَوْا إلَى مَرَدَتهمْ قَالُوا : إنَّا مَعَكُمْ عَلَى دِينكُمْ فِي تَكْذِيب مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَ بِهِ , وَإِنَّمَا نَحْنُ بِمَا نُظْهِر لَهُمْ مِنْ قَوْلنَا لَهُمْ صَدَّقْنَا بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَمَا جَاءَ بِهِ مُسْتَهْزِئُونَ . يَعْنُونَ : إنَّا نُظْهِر لَهُمْ مَا هُوَ عِنْدنَا بَاطِل لَا حَقّ وَلَا هُدًى . قَالُوا : وَذَلِكَ هُوَ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي الِاسْتِهْزَاء . فَأَخْبَرَ اللَّه أَنَّهُ يَسْتَهْزِئ بِهِمْ فَيَظْهَر لَهُمْ مِنْ أَحْكَامه فِي الدُّنْيَا خِلَاف الَّذِي لَهُمْ عِنْده فِي الْآخِرَة , كَمَا أَظَهَرُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الدِّين مَا هُمْ عَلَى خِلَافه فِي سَرَائِرهمْ . وَالصَّوَاب فِي ذَلِكَ مِنْ الْقَوْل وَالتَّأْوِيل عِنْدنَا , أَنَّ مَعْنَى الِاسْتِهْزَاء فِي كَلَام الْعَرَب : إظْهَار الْمُسْتَهْزِئ لِلْمُسْتَهْزَإِ بِهِ مِنْ الْقَوْل وَالْفِعْل مَا يُرْضِيه وَيُوَافِقهُ ظَاهِرًا , وَهُوَ بِذَلِكَ مِنْ قَيْله وَفِعْله بِهِ مُوَرِّثه مُسَاءَة بَاطِنًا , وَكَذَلِكَ مَعْنَى الْخِدَاع وَالسُّخْرِيَة وَالْمَكْر . وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ , وَكَانَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ جَعَلَ لِأَهْلِ النِّفَاق فِي الدُّنْيَا مِنْ الْأَحْكَام بِمَا أَظَهَرُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنْ الْإِقْرَار بِاَللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْد اللَّه الْمُدْخِل لَهُمْ فِي عِدَاد مَنْ يَشْمَلهُ اسْم الْإِسْلَام وَإِنْ كَانُوا لِغَيْرِ ذَلِكَ مُسْتَبْطِنِينَ مِنْ أَحْكَام الْمُسْلِمِينَ الْمُصَدِّقِينَ إقْرَارهمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ بِذَلِكَ بِضَمَائِر قُلُوبهمْ وَصَحَائِح عَزَائِمهمْ وَحَمِيد أَفْعَالهمْ الْمُحَقِّقَة لَهُمْ صِحَّة إيمَانهمْ , مَعَ عِلْم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِكَذِبِهِمْ , وَاطِّلَاعه عَلَى خُبْث اعْتِقَادهمْ وَشَكّهمْ فِيمَا ادَّعَوْا بِأَلْسِنَتِهِمْ أَنَّهُمْ مُصَدِّقُونَ حَتَّى ظَنُّوا فِي الْآخِرَة إذْ حُشِرُوا فِي عِدَاد مَنْ كَانُوا فِي عِدَادهمْ فِي الدُّنْيَا أَنَّهُمْ وَارِدُونَ مَوْرِدهمْ وَدَاخِلُونَ مَدْخَلهمْ , وَاَللَّه جَلَّ جَلَاله مَعَ إظْهَاره مَا قَدْ أَظَهَرَ لَهُمْ مِنْ الْأَحْكَام لِمُلْحَقَتِهِمْ فِي عَاجِل الدُّنْيَا وَآجِل الْآخِرَة إلَى حَال تَمْيِيزه بَيْنهمْ وَبَيْن أَوْلِيَائِهِ وَتَفْرِيقه بَيْنهمْ وَبَيْنهمْ ; مُعَدٍّ لَهُمْ مِنْ أَلِيم عِقَابه وَنَكَال عَذَابه مَا أَعَدَّ مِنْهُ لِأَعْدَى أَعْدَائِهِ وَأَشَرّ عِبَاده , حَتَّى مَيَّزَ بَيْنهمْ وَبَيْن أَوْلِيَائِهِ فَأَلْحَقَهُمْ مِنْ طَبَقَات جَحِيمه بِالدَّرْكِ الْأَسْفَل . كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِذَلِكَ مِنْ فِعْله بِهِمْ , وَإِنْ كَانَ جَزَاء لَهُمْ عَلَى أَفْعَالهمْ وَعَدْلًا مَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ بِهِمْ لِاسْتِحْقَاقِهِمْ إيَّاهُ مِنْهُ بِعِصْيَانِهِمْ لَهُ كَانَ بِهِمْ بِمَا أَظَهَرَ لَهُمْ مِنْ الْأُمُور الَّتِي أَظْهَرَهَا لَهُمْ مِنْ إلْحَاقه أَحْكَامهمْ فِي الدُّنْيَا بِأَحْكَامِ أَوْلِيَائِهِ وَهُمْ لَهُ أَعْدَاء , وَحَشْره إيَّاهُمْ فِي الْآخِرَة مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ بِهِ مِنْ الْمُكَذِّبِينَ إلَى أَنْ مَيَّزَ بَيْنهمْ وَبَيْنهمْ , مُسْتَهْزِئًا وَسَاخِرًا وَلَهُمْ خَادِعًا وَبِهِمْ مَاكِرًا . إذْ كَانَ مَعْنَى الِاسْتِهْزَاء وَالسُّخْرِيَة وَالْمَكْر وَالْخَدِيعَة مَا وَصَفْنَا قَبْل , دُون أَنْ يَكُون ذَلِكَ مَعْنَاهُ فِي حَال فِيهَا الْمُسْتَهْزِئ بِصَاحِبِهِ لَهُ ظَالِم أَوْ عَلَيْهِ فِيهَا غَيْر عَادِل , بَلْ ذَلِكَ مَعْنَاهُ فِي كُلّ أَحْوَاله إذَا وُجِدَتْ الصِّفَات الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرهَا فِي مَعْنَى الِاسْتِهْزَاء وَمَا أَشَبَهه مِنْ نَظَائِره . وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِيهِ رُوِيَ الْخَبَر عَنْ ابْن عَبَّاس . 307 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَان بْن سَعِيد , قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْر بْن عَمَّار عَنْ أَبِي رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك , عَنْ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله : { اللَّه يَسْتَهْزِئ بِهِمْ } قَالَ : يَسْخَر بِهِمْ لِلنِّقْمَةِ مِنْهُمْ . وَأَمَّا الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ قَوْل اللَّه تَعَالَى ذِكْره : { اللَّه يَسْتَهْزِئ بِهِمْ } إنَّمَا هُوَ عَلَى وَجْه الْجَوَاب , وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ اللَّه اسْتِهْزَاء وَلَا مَكْر وَلَا خَدِيعَة ; فَنَافُونَ عَلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مَا قَدْ أَثَبَتَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لِنَفْسِهِ وَأَوْجَبَهُ لَهَا . وَسَوَاء قَالَ قَائِل : لَمْ يَكُنْ مِنْ اللَّه جَلَّ ذِكْره اسْتِهْزَاء وَلَا مَكْر وَلَا خَدِيعَة وَلَا سُخْرِيَة بِمِنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَسْتَهْزِئ وَيَسْخَر وَيَمْكُر بِهِ , أَوْ قَالَ : لَمْ يَخْسِف اللَّه بِمَنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَسَفَ بِهِ مِنْ الْأُمَم , وَلَمْ يُغْرِق مَنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَغْرَقَهُ مِنْهُمْ . وَيُقَال لِقَائِلِ ذَلِكَ : إنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَنَا أَنَّهُ مَكَرَ بِقَوْمِ مَضَوْا قَبْلنَا لَمْ نَرَهُمْ , وَأَخْبَرَ عَنْ آخَرِينَ أَنَّهُ خَسَفَ بِهِمْ , وَعَنْ آخَرِينَ أَنَّهُ أَغْرَقَهُمْ , فَصَدَّقْنَا اللَّه تَعَالَى ذِكْره فِيمَا أَخْبَرَنَا بِهِ مِنْ ذَلِكَ , وَلَمْ نُفَرِّق بَيْن شَيْء مِنْهُ , فَمَا بُرْهَانك عَلَى تَفْرِيقك مَا فَرَّقْت بَيْنه بِزَعْمِك أَنَّهُ قَدْ أَغْرَقَ وَخَسَفَ بِمِنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَغْرَقَ وَخَسَفَ بِهِ , وَلَمْ يَمْكُر بِهِ أَخْبَرَ أَنَّهُ قَدْ مَكَرَ بِهِ ؟ ثُمَّ نَعْكِس الْقَوْل عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ فَلَنْ يَقُول فِي أَحَدهمَا شَيْئًا إلَّا أُلْزِمَ فِي الْآخَر مِثْله . فَإِنْ لَجَأَ إلَى أَنْ يَقُول إنَّ الِاسْتِهْزَاء عَبَث وَلَعِب , وَذَلِكَ عَنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مَنْفِيّ . قِيلَ لَهُ : إنْ كَانَ الْأَمْر عِنْدك عَلَى مَا وَصَفْت مِنْ مَعْنَى الِاسْتِهْزَاء , أَفَلَسْت تَقُول : { اللَّه يَسْتَهْزِئ بِهِمْ } وَسَخِرَ اللَّه مِنْهُمْ وَمَكَرَ اللَّه بِهِمْ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ اللَّه عِنْدك هُزْء وَلَا سُخْرِيَة ؟ فَإِنْ قَالَ : " لَا " كَذَّبَ بِالْقُرْآنِ وَخَرَجَ عَنْ مِلَّة الْإِسْلَام , وَإِنْ قَالَ : " بَلَى " , قِيلَ لَهُ : أَفَتَقُول مِنْ الْوَجْه الَّذِي قُلْت : { اللَّه يَسْتَهْزِئ بِهِمْ } وَسَخِرَ اللَّه مِنْهُمْ ; يَلْعَب اللَّه بِهِمْ وَيَعْبَث , وَلَا لَعِب مِنْ اللَّه وَلَا عَبَث ؟ فَإِنْ قَالَ : " نَعَمْ " , وَصَفَ اللَّه بِمَا قَدْ أَجَمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى نَفِيه عَنْهُ وَعَلَى تَخْطِئَة وَاصِفه بِهِ , وَأَضَافَ إلَيْهِ مَا قَدْ قَامَتْ الْحُجَّة مِنْ الْعُقُول عَلَى ضَلَال مُضِيفه إلَيْهِ . وَإِنْ قَالَ : لَا أَقُول يَلْعَب اللَّه بِهِ وَلَا يَعْبَث , وَقَدْ أَقُول يَسْتَهْزِئ بِهِمْ وَيَسْخَر مِنْهُمْ ; قِيلَ : فَقَدْ فَرَّقْت بَيْن مَعْنَى اللَّعِب , وَالْعَبَث , وَالْهُزْء , وَالسُّخْرِيَة , وَالْمَكْر , وَالْخَدِيعَة . وَمِنْ الْوَجْه الَّذِي جَازَ قِيلَ هَذَا وَلَمْ يَجُزْ قِيلَ هَذَا افْتَرَقَ مَعْنَيَاهُمَا , فَعُلِمَ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِد مِنْهُمَا مَعْنًى غَيْر مَعْنَى الْآخَر . وَلِلْكَلَامِ فِي هَذَا النَّوْع مَوْضِع غَيْر هَذَا كَرِهْنَا إطَالَة الْكِتَاب بِاسْتِقْصَائِهِ , وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَة لِمَنْ وُفِّقَ لِفَهْمِهِ .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَيَمُدّهُمْ } قَالَ أَبُو جَعْفَر : اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي تَأْوِيل قَوْله { وَيَمُدّهُمْ } فَقَالَ بَعْضهمْ بِمَا : 308 - حَدَّثَنِي بِهِ مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة , عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَمُدّهُمْ } : يُمْلِي لَهُمْ . وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا : 309 - حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْن نَصْر , عَنْ ابْن الْمُبَارَك , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , قِرَاءَة عَنْ مُجَاهِد : { يَمُدّهُمْ } قَالَ : يَزِيدهُمْ . وَكَانَ بَعْض نَحْوِيِّي الْبَصْرَة يَتَأَوَّل ذَلِكَ أَنَّهُ بِمَعْنَى : يَمُدّ لَهُمْ , وَيَزْعُم أَنَّ ذَلِكَ نَظِير قَوْل الْعَرَب : الْغُلَام يَلْعَب الْكِعَاب , يُرَاد بِهِ يَلْعَب بِالْكِعَابِ . قَالَ : وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَدْ يَقُولُونَ قَدْ مَدَدْت لَهُ وَأَمْدَدْت لَهُ فِي غَيْر هَذَا الْمَعْنَى , وَهُوَ قَوْل اللَّه : { وَأَمْدَدْنَاهُمْ } 52 22 وَهَذَا مِنْ أَمَدَدْنَاهُمْ , قَالَ : وَيُقَال قَدْ مَدَّ الْبَحْر فَهُوَ مَادّ , وَأَمَدَّ الْجُرْح فَهُوَ مُمِدّ . وَحُكِيَ عَنْ يُونُس الْجَرْمِيّ أَنَّهُ كَانَ يَقُول : مَا كَانَ مِنْ الشَّرّ فَهُوَ " مَدَدْت " , وَمَا كَانَ مِنْ الْخَيْر فَهُوَ " أَمَدَدْت " . ثُمَّ قَالَ : وَهُوَ كَمَا فَسَّرْت لَك إذَا أَرَدْت أَنَّك تَرَكْته فَهُوَ مَدَدْت لَهُ , وَإِذَا أَرَدْت أَنَّك أَعْطَيْته قُلْت : أَمَدَدْت . وَأَمَّا بَعْض نَحْوِيِّي الْكُوفَة فَإِنَّهُ كَانَ يَقُول : كُلّ زِيَادَة حَدَثَتْ فِي الشَّيْء مِنْ نَفْسه فَهُوَ " مَدَدْت " بِغَيْرِ أَلِف , كَمَا تَقُول : مَدَّ النَّهَر , وَمَدَّهُ نَهَر آخَر غَيْره : إذَا اتَّصَلَ بِهِ فَصَارَ مِنْهُ . وَكُلّ زِيَادَة أُحْدِثَتْ فِي الشَّيْء مِنْ غَيْره فَهُوَ بِأَلِفٍ , كَقَوْلِك : " أَمَدَّ الْجُرْح " , لِأَنَّ الْمُدَّة مِنْ غَيْر الْجُرْح , وَأَمْدَدْت الْجَيْش بِمَدَدٍ . وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَال بِالصَّوَابِ فِي قَوْله : { وَيَمُدّهُمْ } أَنْ يَكُون بِمَعْنَى يَزِيدهُمْ , عَلَى وَجْه الْإِمْلَاء وَالتَّرْك لَهُمْ فِي عُتُوّهُمْ وَتَمَرُّدهمْ , كَمَا وَصَفَ رَبّنَا أَنَّهُ فَعَلَ بِنُظَرَائِهِمْ فِي قَوْله : { وَنُقَلِّب أَفْئِدَتهمْ وَأَبْصَارهمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّل مَرَّة وَنَذَرهُمْ فِي طُغْيَانهمْ يَعْمَهُونَ } 6 110 يَعْنِي نَذَرهُمْ وَنَتْرُكهُمْ فِيهِ وَنُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْمًا إلَى إثْمهمْ . وَلَا وَجْه لِقَوْلِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بِمَعْنَى " يَمُدّ لَهُمْ " لِأَنَّهُ لَا تَدَافُع بَيْن الْعَرَب وَأَهْل الْمَعْرِفَة بِلُغَتِهَا أَنَّ يَسْتَجِيزُوا قَوْل الْقَائِل : مَدَّ النَّهَر نَهَر آخَر , بِمَعْنَى : اتَّصَلَ بِهِ فَصَارَ زَائِدًا مَاء الْمُتَّصِل بِهِ بِمَاءِ الْمُتَّصِل مِنْ غَيْر تَأَوُّل مِنْهُمْ , ذَلِكَ أَنَّ مَعْنَاهُ مَدَّ النَّهَر نَهَر آخَر , فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْل اللَّه : { وَيَمُدّهُمْ فِي طُغْيَانهمْ يَعْمَهُونَ }

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { فِي طُغْيَانهمْ } قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَالطُّغْيَان الْفِعْلَانِ , مِنْ قَوْلك : طَغَى فُلَان يَطْغَى طُغْيَانًا إذَا تَجَاوَزَ فِي الْأَمْر حَدّه فَبَغَى . وَمِنْهُ قَوْله اللَّه : { كَلَّا إنَّ الْإِنْسَان لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى } 96 6 : 7 أَيْ يَتَجَاوَز حَدّه . وَمِنْهُ قَوْل أُمَيَّة بْن أَبِي الصَّلْت : وَدَعَا اللَّه دَعْوَة لَات هَنَّا بَعْد طُغْيَانه فَظَلَّ مُشِيرًا وَإِنَّمَا عَنَى اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ : { وَيَمُدّهُمْ فِي طُغْيَانهمْ } أَنَّهُ يُمْلِي لَهُمْ وَيَذَرهُمْ يَبْغُونَ فِي ضَلَالهمْ وَكُفْرهمْ حَيَارَى يَتَرَدَّدُونَ . كَمَا : 310 - حُدِّثْت عَنْ المنجاب , قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْر , عَنْ أَبِي رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك , عَنْ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله : { فِي طُغْيَانهمْ يَعْمَهُونَ } قَالَ : فِي كُفْرهمْ يَتَرَدَّدُونَ . 311 - وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ , عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة , عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فِي طُغْيَانهمْ } : فِي كُفْرهمْ . 312 - وَحَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد بْن زُرَيْع , عَنْ سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ : { فِي طُغْيَانهمْ يَعْمَهُونَ } أَيْ فِي ضَلَالَتهمْ يَعْمَهُونَ . 313 - وَحُدِّثْت عَنْ عَمَّار بْن الْحَسَن , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع : { فِي طُغْيَانهمْ } فِي ضَلَالَتهمْ . 314 - وَحَدَّثَنَا يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : قَالَ ابْن زَيْد فِي قَوْله : { فِي طُغْيَانهمْ } قَالَ : طُغْيَانهمْ , كُفْرهمْ وَضَلَالَتهمْ .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { يَعْمَهُونَ } قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَالْعَمَه نَفْسه : الضَّلَال , يُقَال مِنْهُ : عَمِهَ فُلَان يَعْمَه عَمَهَانًا وَعُمُوهًا : إذَا ضَلَّ . وَمِنْهُ قَوْل رُؤْبَة بْن الْعَجَّاج يَصِف مَضَلَّة مِنْ المهامه : وَمُخْفِق مِنْ لُهْلُهٍ وَلُهْلُهِ مِنْ مَهْمَه يَجْتَبْنَهُ فِي مَهْمَه أَعْمَى الْهُدَى بِالْجَاهِلِينَ الْعُمَّه وَالْعُمَّه : جَمْع عَامه , وَهُمْ الَّذِينَ يَضِلُّونَ فِيهِ فَيَتَحَيَّرُونَ . فَمَعْنَى قَوْله جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { وَيَمُدّهُمْ فِي طُغْيَانهمْ يَعْمَهُونَ } فِي ضَلَالهمْ وَكُفْرهمْ الَّذِي قَدْ غَمَرهمْ دَنَسه وَعَلَاهُمْ رِجْسه , يَتَرَدَّدُونَ حَيَارَى ضُلَّالًا لَا يَجِدُونَ إلَى الْمَخْرَج مِنْهُ سَبِيلًا ; لِأَنَّ اللَّه قَدْ طَبَعَ عَلَى قُلُوبهمْ وَخَتَمَ عَلَيْهَا , فَأَعْمَى أَبْصَارهمْ عَنْ الْهُدَى وَأَغْشَاهَا , فَلَا يُبْصِرُونَ رُشْدًا وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا . وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي " الْعَمَه " جَاءَ تَأْوِيل الْمُتَأَوِّلِينَ . 315 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة , عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَعْمَهُونَ } : يَتَمَادَوْنَ فِي كُفْرهمْ . 316 - وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن صَالِح , عَنْ مُعَاوِيَة بْن صَالِح عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة , عَنْ ابْن عَبَّاس : { يَعْمَهُونَ } قَالَ : يَتَمَادَوْنَ . 317 - وَحُدِّثْت عَنْ المنجاب , قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْر , عَنْ أَبِي رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك , عَنْ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله { يَعْمَهُونَ } قَالَ : يَتَرَدَّدُونَ . 318 - وَحَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , قَالَ : قَالَ ابْن عَبَّاس : { يَعْمَهُونَ } : الْمُتَلَدِّد . 319 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَمْرو الْبَاهِلِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِم , قَالَ : حَدَّثَنَا عِيسَى بْن مَيْمُون , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد فِي قَوْل اللَّه : { فِي طُغْيَانهمْ يَعْمَهُونَ } قَالَ : يَتَرَدَّدُونَ . * وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَة , قَالَ حَدَّثَنَا شِبْل عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد , مِثْله . * وَحَدَّثَنَا سُفْيَان بْن وَكِيع , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبِي , عَنْ سُفْيَان , عَنْ رَجُل , عَنْ مُجَاهِد مِثْله . * وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْن نَصْر عَنْ ابْن الْمُبَارَك , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ قِرَاءَة عَنْ مُجَاهِد مِثْله . 320 - وَحُدِّثْت عَنْ عَمَّار , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع : { يَعْمَهُونَ } قَالَ : يَتَرَدَّدُونَ .
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَسورة البقرة الآية رقم 16
الْقَوْل فِي تَوِيل قَوْله تَعَالَى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَة بِالْهُدَى } قَالَ أَبُو جَعْفَر : إنْ قَالَ قَائِل : وَكَيْفَ اشْتَرَى هَؤُلَاءِ الْقَوْم الضَّلَالَة بِالْهُدَى , وَإِنَّمَا كَانُوا مُنَافِقِينَ لَمْ يَتَقَدَّم نِفَاقهمْ إيمَان فَيُقَال فِيهِمْ بَاعُوا هُدَاهُمْ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ بِضَلَالَتِهِمْ حَتَّى اسْتَبْدَلُوهَا مِنْهُ ؟ وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ مَعْنَى الشِّرَاء الْمَفْهُوم اعْتِيَاض شَيْء بِبَذْلِ شَيْء مَكَانه عِوَضًا مِنْهُ , وَالْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ اللَّه بِهَذِهِ الصِّفَة لَمْ يَكُونُوا قَطّ عَلَى هُدًى فَيَتْرُكُوهُ وَيَعْتَاضُوا مِنْهُ كُفْرًا وَنِفَاقًا ؟ قِيلَ : قَدْ اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي مَعْنَى ذَلِكَ , فَنَذْكُر مَا قَالُوا فِيهِ , ثُمَّ نُبَيِّن الصَّحِيح مِنْ التَّأْوِيل فِي ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّه . 321 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة بْن الْفَضْل , عَنْ مُحَمَّد بْن إسْحَاق , عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت , عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس : { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلَالَة بِالْهُدَى } أَيْ الْكُفْر بِالْإِيمَانِ . 322 - وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة , عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلَالَة بِالْهُدَى } يَقُول أَخَذُوا الضَّلَالَة وَتَرَكُوا الْهُدَى . 323 - وَحَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد , عَنْ سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ : { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلَالَة بِالْهُدَى } : اسْتَحَبُّوا الضَّلَالَة عَلَى الْهُدَى . 324 - وَحَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِم , قَالَ : حَدَّثَنَا عِيسَى بْن مَيْمُون , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد فِي قَوْله : { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلَالَة بِالْهُدَى } آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا . * وَحَدَّثَنَا الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَة , قَالَ : حَدَّثَنَا شِبْل , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد مِثْله . قَالَ أَبُو جَعْفَر : فَكَأَنَّ الَّذِينَ قَالُوا فِي تَأْوِيل ذَلِكَ : أَخَذُوا الضَّلَالَة وَتَرَكُوا الْهُدَى , وَجَّهُوا مَعْنَى الشِّرَاء إلَى أَنَّهُ أَخَذَ الْمُشْتَرِي مَكَان الثَّمَن الْمُشْتَرَى بِهِ , فَقَالُوا : كَذَلِكَ الْمُنَافِق وَالْكَافِر قَدْ أَخَذَا مَكَان الْإِيمَان الْكُفْر , فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمَا شِرَاء لِلْكُفْرِ وَالضَّلَالَة اللَّذَيْنِ أَخْذَاهُمَا بِتَرْكِهِمَا مَا تَرَكَا مِنْ الْهُدَى , وَكَانَ الْهُدَى الَّذِي تَرَكَاهُ هُوَ الثَّمَن الَّذِي جَعَلَاهُ عِوَضًا مِنْ الضَّلَالَة الَّتِي أَخَذَاهَا وَأَمَّا الَّذِينَ تَأَوَّلُوا أَنَّ مَعْنَى قَوْله : " اشْتَرَوْا " : " اسْتَحَبُّوا " , فَإِنَّهُمْ لَمَّا وَجَدُوا اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ وَصَفَ الْكُفَّار فِي مَوْضِع آخَر فَنَسَبَهُمْ إلَى اسْتِحْبَابهمْ الْكُفْر عَلَى الْهُدَى , فَقَالَ : { وَأَمَّا ثَمُود فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } 41 17 صَرَفُوا قَوْله : { اشْتَرَوْا الضَّلَالَة بِالْهُدَى } إلَى ذَلِكَ وَقَالُوا : قَدْ تَدْخُل الْبَاء مَكَان " عَلَى " , و " عَلَى " مَكَان الْبَاء , كَمَا يُقَال : مَرَرْت بِفُلَانٍ وَمَرَرْت عَلَى فُلَان بِمَعْنَى وَاحِد , وَكَقَوْلِ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { وَمِنْ أَهْل الْكِتَاب مَنْ إنْ تَأْمَنهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إلَيْك } 3 75 أَيْ : عَلَى قِنْطَار . فَكَانَ تَأْوِيل الْآيَة عَلَى مَعْنَى هَؤُلَاءِ : أُولَئِكَ الَّذِينَ اخْتَارُوا الضَّلَالَة عَلَى الْهُدَى . وَأَرَاهُمْ وَجَّهُوا مَعْنَى قَوْل اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { اشْتَرَوْا } إلَى مَعْنَى " اخْتَارُوا " , لِأَنَّ الْعَرَب تَقُول : اشْتَرَيْت كَذَا عَلَى كَذَا , و " اشْتَرَيْته " يَعْنُونَ اخْتَرْته عَلَيْهِ . وَمِنْ الِاشْتِرَاء قَوْل أَعْشَى بَنِي ثَعْلَبَة : فَقَدْ أُخْرِجَ الْكَاعِب الْمُشْتَرَا ةَ مِنْ خِدْرهَا وَأُشْيِعُ الْقِمَارَا يَعْنِي بِالْمُشْتَرَاةِ : الْمُخْتَارَة . وَقَالَ ذُو الرِّمَّة فِي الِاشْتِرَاء بِمَعْنَى الِاخْتِيَار : يَذُبّ الْقَصَايَا عَنْ شَرَاة كَأَنَّهَا جَمَاهِير تَحْت الْمُدْجِنَات الْهَوَاضب ش يَعْنِي بْالشَّرَاة : الْمُخْتَارَة . وَقَالَ آخَر فِي مِثْل ذَلِكَ : إنَّ الشَّرَاة رَوْقَة الْأَمْوَال /و وَحَزْرَة الْقَلْب خِيَار الْمَال قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَهَذَا وَإِنْ كَانَ وَجْهًا مِنْ التَّأْوِيل فَلَسْت لَهُ بِمُخْتَارٍ لِأَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ { فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتهمْ } فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْله { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلَالَة بِالْهُدَى } مَعْنَى الشِّرَاء الَّذِي يَتَعَارَفهُ النَّاس مِنْ اسْتِبْدَال شَيْء مَكَان شَيْء وَأَخْذ عِوَض عَلَى عِوَض . وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا : إنَّ الْقَوْم كَانُوا مُؤْمِنِينَ وَكَفَرُوا , فَإِنَّهُ لَا مُؤْنَة عَلَيْهِمْ لَوْ كَانَ الْأَمْر عَلَى مَا وَصَفُوا بِهِ الْقَوْم , لِأَنَّ الْأَمْر إذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ تَرَكُوا الْإِيمَان , وَاسْتَبْدَلُوا بِهِ الْكُفْر عِوَضًا مِنْ الْهُدَى . وَذَلِكَ هُوَ الْمَعْنَى الْمَفْهُوم مِنْ مَعَانِي الشِّرَاء وَالْبَيْع , وَلَكِنْ دَلَائِل أَوَّل الْآيَات فِي نُعُوتهمْ إلَى آخِرهَا دَالَّة عَلَى أَنَّ الْقَوْم لَمْ يَكُونُوا قَطّ اسْتَضَاءُوا بِنُورِ الْإِيمَان وَلَا دَخَلُوا فِي مِلَّة الْإِسْلَام , أَوْ مَا تَسْمَع اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ مِنْ لَدُنْ ابْتَدَأَ فِي نَعْتهمْ إلَى أَنْ أَتَى عَلَى صِفَّتهمْ إنَّمَا وَصَفَهُمْ بِإِظْهَارِ الْكَذِب بِأَلْسِنَتِهِمْ بِدَعْوَاهُمْ التَّصْدِيق بِنَبِيِّنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ , خِدَاعًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ عِنْد أَنْفُسهمْ وَاسْتِهْزَاء فِي نَفُوسهمْ بِالْمُؤْمِنِينَ , وَهُمْ لِغَيْرِ مَا كَانُوا يُظْهِرُونَ مُسْتَبْطِنُونَ , لِقَوْلِ اللَّه جَلَّ جَلَاله : { وَمِنْ النَّاس مِنْ يَقُول آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } ثُمَّ اقْتَصَّ قَصَصهمْ إلَى قَوْله : { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلَالَة بِالْهُدَى } فَأَيْنَ الدَّلَالَة عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ فَكَفَرُوا ؟ . فَإِنْ كَانَ قَائِل هَذِهِ الْمَقَالَة ظَنَّ أَنَّ قَوْله : { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلَالَة بِالْهُدَى } هُوَ الدَّلِيل عَلَى أَنَّ الْقَوْم قَدْ كَانُوا عَلَى الْإِيمَان فَانْتَقَلُوا عَنْهُ إلَى الْكُفْر , فَلِذَلِكَ قِيلَ لَهُمْ : اشْتَرَوْا ; فَإِنَّ ذَلِكَ تَأْوِيل غَيْر مُسَلَّم لَهُ , إذْ كَانَ الِاشْتِرَاء عِنْد مُخَالِفِيهِ قَدْ يَكُون أَخْذ شَيْء بِتَرْكِ آخَر غَيْره , وَقَدْ يَكُون بِمَعْنَى الِاخْتِيَار وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي . وَالْكَلِمَة إذَا احْتَمَلَتْ وُجُوهًا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ صَرْف مَعْنَاهَا إلَى بَعْض وُجُوههَا دُون بَعْض إلَّا بِحَجَّةِ يَجِبُ التَّسْلِيم لَهَا . قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَاَلَّذِي هُوَ أَوْلَى عِنْدِي بِتَأْوِيلِ الْآيَة مَا رَوَيْنَا عَنْ ابْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود مِنْ تَأْوِيلهمَا قَوْله : { اشْتَرَوْا الضَّلَالَة بِالْهُدَى } أَخَذُوا الضَّلَالَة وَتَرَكُوا الْهُدَى . وَذَلِكَ أَنَّ كُلّ كَافِر بِاَللَّهِ فَإِنَّهُ مُسْتَبْدِل بِالْإِيمَانِ كُفْرًا بِاكْتِسَابِهِ الْكُفْر الَّذِي وُجِدَ مِنْهُ بَدَلًا مِنْ الْإِيمَان الَّذِي أُمِرَ بِهِ . أَوْ مَا تَسْمَع اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ يَقُول فِيمَنْ اكْتَسَبَ كُفْرًا بِهِ مَكَان الْإِيمَان بِهِ وَبِرَسُولِهِ : { وَمَنْ يَتَبَدَّل الْكُفْر بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيل } 2 108 وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى الشِّرَاء , لِأَنَّ كُلّ مُشْتَرٍ شَيْئًا فَإِنَّمَا يَسْتَبْدِل مَكَان الَّذِي يُؤْخَذ مِنْهُ مِنْ الْبَدَل آخَر بَدَلًا مِنْهُ , فَكَذَلِكَ الْمُنَافِق وَالْكَافِر اسْتَبْدَلَا بِالْهُدَى الضَّلَالَة وَالنِّفَاق , فَأَضَلَّهُمَا اللَّه وَسَلَبَهُمَا نُور الْهُدَى فَتَرَك جَمِيعهمْ فِي ظُلُمَات لَا يُبْصِرُونَ .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتهمْ } قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَتَأْوِيل ذَلِكَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ بِشِرَائِهِمْ الضَّلَالَة بِالْهُدَى خَسِرُوا وَلَمْ يَرْبَحُوا , لِأَنَّ الرَّابِح مِنْ التُّجَّار الْمُسْتَبْدِل مِنْ سِلْعَته الْمَمْلُوكَة عَلَيْهِ بَدَلًا هُوَ أَنَفْس مِنْ سِلْعَته أَوْ أَفَضْل مِنْ ثَمَنهَا الَّذِي يَبْتَاعهَا بِهِ . فَأَمَّا الْمُسْتَبْدِل مِنْ سِلْعَته بَدَلًا دُونهَا وَدُون الثَّمَن الَّذِي يَبْتَاعهَا بِهِ فَهُوَ الْخَاسِر فِي تِجَارَته لَا شَكَّ . فَكَذَلِكَ الْكَافِر وَالْمُنَافِق لِأَنَّهُمَا اخْتَارَا الْحِيرَة وَالْعَمَى عَلَى الرَّشَاد وَالْهُدَى وَالْخَوْف وَالرُّعْب عَلَى الْحِفْظ وَالْأَمِن , فَاسْتُبْدِلَا فِي الْعَاجِل بِالرَّشَادِ الْحِيرَة , وَبِالْهُدَى الضَّلَالَة , وَبِالْحِفْظِ الْخَوْف , وَبِالْأَمْنِ الرُّعْب ; مَعَ مَا قَدْ أُعَدّ لَهُمَا فِي الْآجِل مِنْ أَلِيم الْعِقَاب وَشَدِيد الْعَذَاب , فَخَابَا وَخَسِرَا , ذَلِكَ هُوَ الْخَسْرَان الْمُبِين وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ كَانَ قَتَادَةَ يَقُول . 325 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد بْن زُرَيْع , عَنْ سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ : { فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتهمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } قَدْ وَاَللَّه رَأَيْتُمُوهُمْ خَرَجُوا مِنْ الْهُدَى إلَى الضَّلَالَة , وَمِنْ الْجَمَاعَة إلَى الْفُرْقَة , وَمِنْ الْأَمْن إلَى الْخَوْف , وَمِنْ السُّنَّة إلَى الْبِدْعَة . قَالَ أَبُو جَعْفَر : فَإِنْ قَالَ قَائِل : فَمَا وَجْه قَوْله : { فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتهمْ } وَهَلْ التِّجَارَة مِمَّا تَرْبَح أَوْ تَنْقُص فَيُقَال رَبِحَتْ أَوْ وَضَعَتْ ؟ قِيلَ : إنَّ وَجْه ذَلِكَ عَلَى غَيْر مَا ظَنَنْت ; وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ : فَمَا رَبِحُوا فِي تِجَارَتهمْ لَا فِيمَا اشْتَرَوْا وَلَا فِيمَا شَرَوْا . وَلَكِنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ خَاطَبَ بِكِتَابِهِ عَرَبًا فَسَلَكَ فِي خِطَابه إيَّاهُمْ وَبَيَانه لَهُمْ مَسْلَك خِطَاب بَعْضهمْ بَعْضًا وَبَيَانهمْ الْمُسْتَعْمَل بَيْنهمْ . فَلَمَّا كَانَ فَصِيحًا لَدَيْهِمْ قَوْل الْقَائِل لِآخَر : خَابَ سَعْيك وَنَامَ لَيْلك , وَخَسِرَ بَيْعك , وَنَحْو ذَلِكَ مِنْ الْكَلَام الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَى سَامِعه مَا يُرِيد قَائِله ; خَاطَبَهُمْ بِاَلَّذِي هُوَ فِي مَنْطِقهمْ مِنْ الْكَلَام فَقَالَ : { فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتهمْ } إذْ كَانَ مَعْقُولًا عِنْدهمْ أَنَّ الرِّبْح إنَّمَا هُوَ فِي التِّجَارَة كَمَا النُّوُم فِي اللَّيْل , فَاكْتَفَى بِفَهْمِ الْمُخَاطَبِينَ بِمَعْنَى ذَلِكَ عَنْ أَنْ يُقَال : فَمَا رَبِحُوا فِي تِجَارَتهمْ , وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ , كَمَا قَالَ الشَّاعِر : وَشَرّ الْمَنَايَا مَيِّت وَسْط أَهْله كَهُلْكِ الْفَتَاة أَسْلَمَ الْحَيّ حَاضِره يَعْنِي بِذَلِكَ : وَشَرّ الْمَنَايَا مُنْيَة مَيِّت وَسْط أَهْله ; فَاكْتَفَى بِفَهْمِ سَامِع قَيْله مُرَاده مِنْ ذَلِكَ عَنْ إظْهَار مَا تَرَكَ إظْهَاره وَكَمَا قَالَ رُؤْبَة بْن الْعَجَّاج : حَارِث قَدْ فَرَّجْت عَنِّي هَمِّي فَنَامَ لَيْلِي وَتَجَلَّى غَمِّي فَوَصَفَ بِالنُّوُمِ اللَّيْل , وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي نَامَ . وَكَمَا قَالَ جَرِير بْن الْخَطَفِي : وَأَعْوَر مِنْ نَبَهَانَ أَمَّا نَهَاره فَأَعْمَى وَأَمَّا لَيْله فَبِصَيْرِ فَأَضَافَ الْعَمَى وَالْإِبْصَار إلَى اللَّيْل وَالنَّهَار , وَمُرَاده وَصْف النبهاني بِذَلِكَ .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } مَا كَانُوا رُشَدَاء فِي اخْتِيَارهمْ الضَّلَالَة عَلَى الْهُدَى , وَاسْتِبْدَالهمْ الْكُفْر بِالْإِيمَانِ , وَاشْتِرَائِهِمْ النِّفَاق بِالتَّصْدِيقِ وَالْإِقْرَار .
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَسورة البقرة الآية رقم 17
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { مَثَلهمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْله ذَهَبَ اللَّه بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَات لَا يُبْصِرُونَ } قَالَ أَبُو جَعْفَر : فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِل : وَكَيْفَ قِيلَ : { مَثَلهمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْهَاء وَالْمِيم مِنْ قَوْله : { مَثَلهمْ } كِنَايَة جَمَاعَة مِنْ الرِّجَال أَوْ الرِّجَال وَالنِّسَاء . و " الَّذِي " دَلَالَة عَلَى وَاحِد مِنْ الذُّكُور ؟ فَكَيْف جَعَلَ الْخَبَر عَنْ وَاحِد مَثَلًا لِجَمَاعَةٍ ؟ وَهَلَّا قِيلَ : مَثَلهمْ كَمَثَلِ الَّذِينَ اسْتَوْقَدُوا نَارًا ! وَإِنْ جَازَ عِنْدك أَنْ تُمَثِّل الْجَمَاعَة بِالْوَاحِدِ فَتُجِيز لِقَائِلٍ رَأَى جَمَاعَة مِنْ الرِّجَال فَأَعْجَبَتْهُ صُوَرهمْ وَتَمَام خَلْقهمْ وَأَجْسَامهمْ أَنْ يَقُول : كَأَنَّ هَؤُلَاءِ , أَوْ كَأَنَّ أَجْسَام هَؤُلَاءِ , نَخْلَة ! ! . قِيلَ : أَمَّا فِي الْمَوْضِع الَّذِي مِثْل رَبّنَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ جَمَاعَة مِنْ الْمُنَافِقِينَ بِالْوَاحِدِ الَّذِي جَعَلَهُ لِأَفْعَالِهِمْ مَثَلًا فَجَائِز حَسَن , وَفِي نَظَائِره كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي نَظِير ذَلِكَ : { تَدُور أَعْيُنهمْ كَاَلَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْت } 33 19 يَعْنِي كَدَوَرَانِ عَيْن الَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْت , وَكَقَوْلِهِ : { مَا خَلْقكُمْ وَلَا بَعْثكُمْ إلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَة } 31 28 بِمَعْنَى إلَّا كَبَعْثِ نَفْس وَاحِدَة . وَأَمَّا فِي تَمْثِيل أَجْسَام الْجَمَاعَة مِنْ الرِّجَال فِي طُول وَتَمَام الْخَلْق بِالْوَاحِدَةِ مِنْ النَّخِيل , فَغَيْر جَائِز وَلَا فِي نَظَائِره لَفَرَّقَ بَيْنهمَا . فَأَمَّا تَمْثِيل الْجَمَاعَة مِنْ الْمُنَافِقِينَ بِالْمُسْتَوْقَدِ الْوَاحِد , فَإِنَّمَا جَازَ لِأَنَّ الْمُرَاد مِنْ الْخَبَر عَنْ مَثَل الْمُنَافِقِينَ الْخَبَر عَنْ مَثَل اسْتِضَاءَتهمْ بِمَا أَظَهَرُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنْ الْإِقْرَار وَهُمْ لِغَيْرِهِ مُسْتَبْطِنُونَ مِنْ اعْتِقَادَاتهمْ الرَّدِيئَة , وَخَلْطهمْ نِفَاقهمْ الْبَاطِن بِالْإِقْرَارِ بِالْإِيمَانِ الظَّاهِر . وَالِاسْتِضَاءَة وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَشْخَاص أَهْلهَا مَعْنًى وَاحِد لَا مَعَانٍ مُخْتَلِفَة . فَالْمَثَل لَهَا فِي مَعْنَى الْمَثَل لِلشَّخْصِ الْوَاحِد مِنْ الْأَشْيَاء الْمُخْتَلِفَة الْأَشْخَاص . وَتَأْوِيل ذَلِكَ : مِثْل اسْتِضَاءَة الْمُنَافِقِينَ بِمَا أَظَهَرُوهُ مِنْ الْإِقْرَار بِاَللَّهِ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَبِمَا جَاءَ بِهِ قَوْلًا وَهُمْ بِهِ مُكَذِّبُونَ اعْتِقَادًا , كَمَثَلِ اسْتِضَاءَة الْمُوقِد نَارًا . ثُمَّ أُسْقِطَ ذِكْر الِاسْتِضَاءَة وَأُضِيفَ الْمَثَل إلَيْهِمْ , كَمَا قَالَ نَابِغَة بَنِي جَعْدَة : وَكَيْفَ تُوَاصِل مَنْ أَصْبَحَتْ خِلَالَته كَأَبِي مَرْحَب يُرِيد كَخِلَالَةِ أَبِي مَرْحَب , فَأَسْقَطَ " خِلَالَة " , إذْ كَانَ فِيمَا أَظَهَرَ مِنْ الْكَلَام دَلَالَة لِسَامِعِيهِ عَلَى مَا حَذَفَ مِنْهُ . فَكَذَلِكَ الْقَوْل فِي قَوْله : { مَثَلهمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا عِنْد سَامِعِيهِ بِمَا أَظَهَرَ مِنْ الْكَلَام أَنَّ الْمَثَل إنَّمَا ضَرْب لِاسْتِضَاءَةِ الْقَوْم بِالْإِقْرَارِ دُون أَعْيَانِ أَجْسَامهمْ حَسُنَ حَذْف ذِكْر الِاسْتِضَاءَة وَإِضَافَة الْمَثَل إلَى أَهْله . وَالْمَقْصُود بِالْمَثَلِ مَا ذَكَرْنَا , فَلَمَّا وَصَفْنَا جَازَ وَحَسُنَ قَوْله : { مَثَلهمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } وَيُشْبِه مَثَل الْجَمَاعَة فِي اللَّفْظ بِالْوَاحِدِ , إذْ كَانَ الْمُرَاد بِالْمَثَلِ الْوَاحِد فِي الْمَعْنَى . وَأَمَّا إذَا أُرِيدَ تَشْبِيه الْجَمَاعَة مِنْ أَعْيَانِ بَنِي آدَم أَوْ أَعْيَانِ ذَوِي الصُّوَر وَالْأَجْسَام بِشَيْءٍ , فَالصَّوَاب مِنْ الْكَلَام تَشْبِيه الْجَمَاعَة بِالْجَمَاعَةِ وَالْوَاحِد بِالْوَاحِدِ , لِأَنَّ عَيْن كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ غَيْر أَعْيَانِ الْآخَرِينَ . وَلِذَلِكَ مِنْ الْمَعْنَى افْتَرَقَ الْقَوْل فِي تَشِبِّيهِ الْأَفْعَال وَالْأَسْمَاء , فَجَازَ تَشْبِيه أَفْعَال الْجَمَاعَة مِنْ النَّاس وَغَيْرهمْ إذَا كَانَتْ بِمَعْنًى وَاحِد بِفِعْلِ الْوَاحِد , ثُمَّ حَذَفَ أَسَمَاء الْأَفْعَال , وَإِضَافَة الْمَثَل وَالتَّشْبِيه إلَى الَّذِينَ لَهُمْ الْفِعْل , فَيُقَال : مَا أَفْعَالكُمْ إلَّا كَفِعْلِ الْكَلْب , ثُمَّ يَحْذِف فَيُقَال : مَا أَفْعَالكُمْ إلَّا كَالْكَلْبِ أَوْ كَالْكِلَابِ , وَأَنْت تَعْنِي : إلَّا كَفِعْلِ الْكَلْب , وَإِلَّا كَفِعْلِ الْكِلَاب . وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَقُول : مَا هُمْ إلَّا نَخْلَة , وَأَنْت تُرِيد تَشْبِيه أَجْسَامهمْ بِالنَّخْلِ فِي الطُّول وَالتَّمَام . وَأَمَّا قَوْله : { اسْتَوْقَدَ نَارًا } فَإِنَّهُ فِي تَأْوِيل أَوْقَدَ كَمَا قَالَ الشَّاعِر : وَدَاع دَعَا يَا مَنْ يُجِيب إلَى النَّدَى فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْد ذَاكَ مُجِيب يُرِيد : فَلَمْ يُجِبْهُ . فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَام إذًا مَثَل اسْتِضَاءَة هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ - فِي إظْهَارهمْ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنْ قَوْلهمْ : { آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر } وَصَدَّقْنَا بِمُحَمَّدٍ , وَبِمَا جَاءَ بِهِ , وَهُمْ لِلْكُفْرِ مُسْتَنْبِطُونَ - فِيمَا اللَّه فَاعِل بِهِمْ , مَثَل اسْتِضَاءَة مُوقِد نَار بِنَارِهِ حَتَّى أَضَاءَتْ لَهُ النَّار مَا حَوْله , يَعْنِي مَا حَوْل الْمُسْتَوْقَد . وَقَدْ زَعَمَ بَعْض أَهْل الْعَرَبِيَّة مِنْ أَهْل الْبَصْرَة أَنَّ " الَّذِي " فِي قَوْله : { كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } بِمَعْنَى " الَّذِينَ " كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { وَاَلَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ } 39 33 وَكَمَا قَالَ الشَّاعِر : فَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجِ دِمَاؤُهُمْ هُمْ الْقَوْم كُلّ الْقَوْم يَا أُمّ خَالِد قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَالْقَوْل الْأَوَّل هُوَ الْقَوْل لِمَا وَصَفْنَا مِنْ الْعِلَّة , وَقَدْ أَغَفَلَ قَائِل ذَلِكَ فَرْق مَا بَيْن الَّذِي فِي الْآيَتَيْنِ وَفِي الْبَيْت , لِأَنَّ " الَّذِي " فِي قَوْله : { وَاَلَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ } قَدْ جَاءَتْ الدَّلَالَة عَلَى أَنَّ مَعْنَاهَا الْجَمْع , وَهُوَ قَوْله : { أُولَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ } وَكَذَلِكَ الَّذِي فِي الْبَيْت , وَهُوَ قَوْله : دِمَاؤُهُمْ . وَلَيْسَتْ هَذِهِ الدَّلَالَة فِي قَوْله : { كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } . فَذَلِكَ فَرْق مَا بَيْن " الَّذِي " فِي قَوْله : { كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } وَسَائِر شَوَاهِده الَّتِي اُسْتُشْهِدَ بِهَا عَلَى أَنَّ مَعَنِي " الَّذِي " فِي قَوْله : { كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } بِمَعْنَى الْجَمَاعَة , وَغَيْر جَائِز لِأَحَدٍ نَقْل الْكَلِمَة الَّتِي هِيَ الْأَغْلَب فِي اسْتِعْمَال الْعَرَب عَلَى مَعْنًى إلَى غَيْره إلَّا بِحُجَّةٍ يَجِب التَّسْلِيم لَهَا . ثُمَّ اخْتَلَفَتْ أَهْل التَّأْوِيل فِي تَأْوِيل ذَلِكَ , فَرُوِيَ عَنْ ابْن عَبَّاس فِيهِ أَقْوَال ; أَحَدهَا مَا : 326 - حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّد بْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة عَنْ ابْن إسْحَاق , عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد , عَنْ عِكْرِمَة أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس , قَالَ : ضَرَبَ اللَّه لِلْمُنَافِقِينَ مَثَلًا فَقَالَ : { مَثَلهمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْله ذَهَبَ اللَّه بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَات لَا يُبْصِرُونَ } أَيْ يُبْصِرُونَ الْحَقّ وَيَقُولُونَ بِهِ , حَتَّى إذَا خَرَجُوا بِهِ مِنْ ظُلْمَة الْكُفْر أَطْفِئُوهُ بِكُفْرِهِمْ وَنِفَاقهمْ فِيهِ فَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَات الْكُفْر فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ هُدًى وَلَا يَسْتَقِيمُونَ عَلَى حَقّ . وَالْآخَر مَا . 327 - حَدَّثَنَا بِهِ الْمُثَنَّى بِهِ إبْرَاهِيم , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو صَالِح , قَالَ : حَدَّثَنَا مُعَاوِيَة بْن صَالِح عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة , عَنْ ابْن عَبَّاس : { مَثَلهمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } إلَى آخَر الْآيَة هَذَا مَثَل ضَرَبَهُ اللَّه لِلْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَزُّونَ بِالْإِسْلَامِ فَيُنَاكِحهُمْ الْمُسْلِمُونَ ويُوارِثُونهُمْ وَيُقَاسِمُونَهُمْ الْفَيْء , فَلَمَّا مَاتُوا سَلَبهمْ اللَّه ذَلِكَ الْعِزّ كَمَا سَلَب صَاحِب النَّار ضَوْءُهُ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَات , يَقُوم فِي عَذَاب . وَالثَّالِث مَا : 328 - حَدَّثَنِي بِهِ مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة , عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَثَلَهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْله ذَهَبَ اللَّه بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَات لَا يُبْصِرُونَ } : زَعَمَ أَنَّ أُنَاسًا دَخَلُوا فِي الْإِسْلَام مُقَدَّم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَة , ثُمَّ إنَّهُمْ نَافَقُوا فَكَانَ مَثَلهمْ كَمَثَلِ رَجُل كَانَ فِي ظُلْمَة فَأَوْقَدَ نَارًا فَأَضَاءَتْ لَهُ مَا حَوْله مِنْ قَذًى أَوْ أَذًى , فَأَبْصَرَهُ حَتَّى عَرَفَ مَا يَتَّقِي , فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إذْ طَفِئَتْ نَاره فَأَقْبَلَ لَا يَدْرِي مَا يَتَّقِي مِنْ أَذًى , فَكَذَلِكَ الْمُنَافِق كَانَ فِي ظُلْمَة الشِّرْك فَأَسْلَمَ فَعَرَفَ الْحَلَال مِنْ الْحَرَام , وَالْخَيْر مِنْ الشَّرّ . فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إذْ كَفَرَ , فَصَارَ لَا يَعْرِف الْحَلَال مِنْ الْحَرَام , وَلَا الْخَيْر مِنْ الشَّرّ . وَأَمَّا النُّور فَالْإِيمَان بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَكَانَتْ الظُّلْمَة نِفَاقهمْ . وَالْآخَر مَا : 329 - حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّد بْن سَعِيد قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي سَعِيد بْن مُحَمَّد , قَالَ : حَدَّثَنِي عَمِّي عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه عَنْ ابْن عَبَّاس قَوْله : { مَثَلهمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } إلَى : { فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ } ضَرَبَهُ اللَّه مَثَلًا لِلْمُنَافِقِ , وَقَوْله : { ذَهَبَ اللَّه بِنُورِهِمْ } قَالَ : أَمَّا النُّور فَهُوَ إيمَانهمْ الَّذِي يَتَكَلَّمُونَ بِهِ . وَأَمَّا الظُّلْمَة : فَهِيَ ضَلَالَتهمْ وَكُفْرهمْ , يَتَكَلَّمُونَ بِهِ وَهُمْ قَوْم كَانُوا عَلَى هُدًى ثُمَّ نَزَعَ مِنْهُمْ فَعَتَوْا بَعْد ذَلِكَ . وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا : 330 - حَدَّثَنِي بِهِ بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد بْن زُرَيْع , عَنْ سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ قَوْله : { مَثَلهمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْله ذَهَبَ اللَّه بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَات لَا يُبْصِرُونَ } وَإِنَّ الْمُنَافِق تَكَلَّمَ بِلَا إلَه إلَّا اللَّه فَأَضَاءَتْ لَهُ فِي الدُّنْيَا فَنَاكِح بِهَا الْمُسْلِمِينَ وَغَازِي بِهَا الْمُسْلِمِينَ وَوَارِث بِمَا الْمُسْلِمِينَ وَحَقّ بِهَا دَمه وَمَاله . فَلَمَّا كَانَ عِنْد الْمَوْت سَلَبهَا الْمُنَافِق لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَصْل فِي قَلْبه وَلَا حَقِيقَة فِي عِلْمه . * وَحَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر , عَنْ قَتَادَةَ : { مَثَلهمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْله } هِيَ لَا إلَه إلَّا اللَّه أَضَاءَتْ لَهُمْ فَأَكَلُوا بِهَا وَشَرِبُوا وَآمَنُوا فِي الدُّنْيَا وَنَكَحُوا النِّسَاء وَحَقَنُوا بِهَا دِمَاءَهُمْ حَتْي إذَا مَاتُوا ذَهَبَ اللَّه بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَات لَا يُبْصِرُونَ . 331 - وَحَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو تميلة , عَنْ عُبَيْد بْن سَلِيمَانِ عَنْ الضَّحَّاك بْن مُزَاحِم قَوْله : { كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْله } قَالَ : أَمَّا النُّور فَهُوَ إيمَانهمْ الَّذِي يَتَكَلَّمُونَ بِهِ ; وَأَمَّا الظُّلُمَات , فَهِيَ ضَلَالَتهمْ وَكُفْرهمْ . وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا : 332 - حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّد بْن عَمْرو الْبَاهِلِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِم , قَالَ : حَدَّثَنَا عِيسَى بْن مَيْمُون , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد فِي قَوْل اللَّه : { مَثَلهمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْله } قَالَ : أَمَّا إضَاءَة النَّار : فَإِقْبَالهمْ إلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْهُدَى ; وَذَهَاب نُورهمْ : إقْبَالهمْ إلَى الْكَافِرِينَ وَالضَّلَالَة . * وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَة , عَنْ شِبْل , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد : { مَثَلهمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْله } : أَمَّا إضَاءَة النَّار : فَإِقْبَالهمْ إلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْهُدَى ; وَذَهَاب نُورهمْ : إقْبَالهمْ إلَى الْكَافِرِينَ وَالضَّلَالَة . * حَدَّثَنِي الْقَاسِم , قَالَ : حَدَّثَنِي الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ مُجَاهِد مَثَله . 333 - وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا إسْحَاق بْن الْحَجَّاج , عَنْ عَبْد اللَّه بْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس , قَالَ : ضَرَبَ مَثَل أَهْل النِّفَاق فَقَالَ : { مَثَلهمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } قَالَ : إنَّمَا ضَوْء النَّار وَنُورهَا مَا أَوْقَدَتْهَا , فَإِذَا خَمَدَتْ ذَهَبَ نُورهَا , كَذَلِكَ الْمُنَافِق كُلَّمَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْإِخْلَاص أَضَاءَ لَهُ , فَإِذَا شَكَّ وَقَعَ فِي الظُّلْمَة . 334 - وَحَدَّثَنِي يُونُس بْن عَبْد الْأَعْلَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : حَدَّثَنِي عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد فِي قَوْله : { كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } إلَى آخِر الْآيَة . قَالَ : هَذِهِ صِفَة الْمُنَافِقِينَ , كَانُوا قَدْ آمَنُوا حَتَّى أَضَاءَ الْإِيمَان فِي قُلُوبهمْ كَمَا أَضَاءَتْ النَّار لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اسْتَوْقَدُوا ثُمَّ كَفَرُوا , فَذَهَبَ اللَّه بِنُورِهِمْ , فَانْتَزَعَهُ كَمَا ذَهَبَ بِضَوْءِ هَذِهِ النَّار فَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَات لَا يُبْصِرُونَ . وَأَوْلَى التَّأْوِيلَات بِالْآيَةِ مَا قَالَهُ قَتَادَةَ وَالضَّحَّاك , وَمَا رَوَاهُ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ ابْن عَبَّاس . وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ إنَّمَا ضَرَبَ هَذَا الْمَثَل لِلْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتهمْ وَقَصَّ قَصَصهمْ مِنْ لَدُنْ ابْتَدَأَ بِذِكْرِهِمْ بِقَوْلِهِ : { مِنْ النَّاس مَنْ يَقُول آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } لَا الْمُعْلِنِينَ بِالْكُفْرِ الْمُجَاهَدِينَ بِالشِّرْكِ . وَلَوْ كَانَ الْمَثَل لِمَنْ آمَنَ إيمَانًا صَحِيحًا ثُمَّ أَعْلَنَ بِالْكُفْرِ إعْلَانًا صَحِيحًا عَلَى مَا ظَنَّ الْمُتَأَوِّل قَوْل اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ { كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْله ذَهَبَ اللَّه بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَات لَا يُبْصِرُونَ } أَنَّ ضَوْء النَّار مَثَل لِإِيمَانِهِمْ الَّذِي كَانَ مِنْهُمْ عِنْده عَلَى صِحَّة , وَأَنَّ ذَهَاب نُورهمْ مَثَل لِارْتِدَادِهِمْ وَإِعْلَانهمْ الْكُفْر عَلَى صِحَّة ; لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ مِنْ الْقَوْم خِدَاع وَلَا اسْتِهْزَاء عِنْد أَنْفُسهمْ وَلَا نِفَاق , وَأَنَّى يَكُون خِدَاع وَنِفَاق مِمَّنْ لَمْ يُبْدِلك قَوْلًا وَلَا فِعْلًا إلَّا مَا أَوَجَبَ لَك الْعِلْم بِحَالِهِ الَّتِي هُوَ لَك عَلَيْهَا , وَبِعَزِيمَةِ نَفْسه الَّتِي هُوَ مُقِيم عَلَيْهَا ؟ إنَّ هَذَا بِغَيْرِ شَكّ مِنْ النِّفَاق بَعِيد وَمِنْ الْخِدَاع بَرِيء , فَإِنْ كَانَ الْقَوْم لَمْ تَكُنْ لَهُمْ إلَّا حَالَتَانِ : حَال إيمَان ظَاهِر وَحَال كُفْر طَاهِر , فَقَدْ سَقَطَ عَنْ الْقَوْم اسْم النِّفَاق ; لِأَنَّهُمْ فِي حَال إيمَانهمْ الصَّحِيح كَانُوا مُؤْمِنِينَ , وَفِي حَال كُفْرهمْ الصَّحِيح كَانُوا كَافِرِينَ , وَلَا حَالَة هُنَاكَ ثَالِثَة كَانُوا بِهَا مُنَافِقِينَ وَفِي وَصْف اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ إيَّاهُمْ بِصِفَةِ النِّفَاق مَا يُنْبِئ عَنْ أَنَّ الْقَوْل غَيْر الْقَوْل الَّذِي زَعَمَهُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقَوْم كَانُوا مُؤْمِنِينَ ثُمَّ ارْتَدُّوا إلَى الْكُفْر فَأَقَامُوا عَلَيْهِ , إلَّا أَنْ يَكُون قَائِل ذَلِكَ أَرَادَ أَنَّهُمْ انْتَقَلُوا مِنْ إيمَانهمْ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ إلَى الْكُفْر الَّذِي هُوَ نِفَاق , وَذَلِكَ قَوْل إنْ قَالَهُ لَمْ تُدْرَك صِحْته إلَّا بِخَبَرٍ مُسْتَفِيض أَوْ بِبَعْضِ الْمَعَانِي الْمُوجِبَة صِحْته . فَأَمَّا فِي ظَاهِر الْكِتَاب , فَلَا دَلَالَة عَلَى صِحْته لِاحْتِمَالِهِ مِنْ التَّأْوِيل مَا هُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْهُ . فَإِذَا كَانَ الْأَمْر عَلَى مَا وَصَفْنَا فِي ذَلِكَ , فَأَوْلَى تَأْوِيلَات الْآيَة بِالْآيَةِ مِثْل اسْتِضَاءَة الْمُنَافِقِينَ بِمَا أَظَهَرُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْإِقْرَار بِهِ , وَقَوْلهمْ لَهُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ : آمَنَّا بِاَللَّهِ وَكُتُبه وَرُسُله وَالْيَوْم الْآخِر , حَتَّى حَكَمَ لَهُمْ بِذَلِكَ فِي عَاجِل الدُّنْيَا بِحُكْمِ الْمُسْلِمِينَ فِي حَقْن الدِّمَاء وَالْأَمْوَال وَالْأَمْن عَلَى الذُّرِّيَّة مِنْ السِّبَاء , وَفِي الْمُنَاكَحَة وَالْمُوَارَثَة ; كَمِثْلِ اسْتِضَاءَة الْمُوقِد النَّار بِالنَّارِ , حَتَّى إذَا ارْتَفَقَ بِضِيَائِهَا وَأَبْصَرَ مَا حَوْله مُسْتَضِيئًا بِنُورِهِ مِنْ الظُّلْمَة , خَمَدَتْ النَّار وَانْطَفَأَتْ , فَذَهَبَ نُوره , وَعَادَ الْمُسْتَضِيء بِهِ فِي ظُلْمَة وَحِيرَة . وَذَلِكَ أَنَّ الْمُنَافِق لَمْ يَزَلْ مُسْتَضِيئًا بِضَوْءِ الْقَوْل الَّذِي دَافَعَ عَنْهُ فِي حَيَاته الْقَتْل وَالسِّبَاء مَعَ اسْتِبْطَانه مَا كَانَ مُسْتَوْجِبًا بِهِ الْقَتْل وَسَلَب الْمَال لَوْ أَظْهَرهُ بِلِسَانِهِ , تَخَيَّلَ إلَيْهِ بِذَلِكَ نَفْسه أَنَّهُ بِاَللَّهِ وَرَسُوله وَالْمُؤْمِنِينَ مُسْتَهْزِئ مُخَادِع , حَتَّى سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسه , إذْ وَرَدَ عَلَى رَبّه فِي الْآخِرَة , أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُ بِمِثْلِ الَّذِي نَجَا بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْكَذِب وَالنِّفَاق . أَوْ مَا تَسْمَع اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ يَقُول إذْ نَعَتَهُمْ ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ عِنْد وُرُودهمْ عَلَيْهِ : { يَوْم يَبْعَثهُمْ اللَّه جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْء أَلَا إنَّهُمْ هُمْ الْكَاذِبُونَ } 58 18 ظَنًّا مِنْ الْقَوْم أَنَّ نَجَاتهمْ مِنْ عَذَاب اللَّه فِي الْآخِرَة فِي مِثْل الَّذِي كَانَ بِهِ نَجَاتهمْ مِنْ الْقَتْل وَالسِّبَاء وَسَلَب الْمَال فِي الدُّنْيَا مِنْ الْكَذِب وَالْإِفْك وَأَنَّ خِدَاعهمْ نَافِعهمْ هُنَالِكَ نَفَعَهُ إيَّاهُمْ فِي الدُّنْيَا . حَتَّى عَايَنُوا مِنْ أَمْر اللَّه مَا أَيْقَنُوا بِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ ظُنُونهمْ فِي غُرُور وَضَلَال , وَاسْتِهْزَاء بِأَنْفُسِهِمْ وَخِدَاع , إذْ أَطْفَأَ اللَّه نُورهمْ يَوْم الْقِيَامَة فَاسْتَنْظَرُوا الْمُؤْمِنِينَ لِيَقْتَبِسُوا مِنْ نُورهمْ , فَقِيلَ لَهُمْ : أَرْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا وَاصْلَوْا سَعِيرًا . فَذَلِكَ حِين ذَهَبَ اللَّه بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَات لَا يُبْصِرُونَ , كَمَا انْطَفَأَتْ نَار الْمُسْتَوْقِد النَّار بَعْد إضَاءَتهَا لَهُ , فَبَقِيَ فِي ظُلْمَته حَيَرَان تَائِهًا ; يَقُول اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { يَوْم يَقُول الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَات لِلَّذِينَ آمَنُوا اُنْظُرُونَا نَقْتَبِس مِنْ نُوركُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنهمْ بِسُورٍ لَهُ بَاب بَاطِنه فِيهِ الرَّحْمَة وَظَاهِره مِنْ قِبَله الْعَذَاب يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمْ الْأَمَانِيّ حَتَّى جَاءَ أَمْر اللَّه وَغَرَّكُمْ بِاَللَّهِ الْغُرُور فَالْيَوْم لَا يُؤْخَذ مِنْكُمْ فَدِيَة وَلَا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمْ النَّار هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمُصِير } 57 13 : 15 فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِل : إنَّك ذَكَرْت أَنَّ مَعْنَى قَوْل اللَّه تَعَالَى ذِكْره : { كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْله } : خَمَدَتْ وَانْطَفَأَتْ , وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَوْجُودٍ فِي الْقُرْآن , فَمَا دَلَالَتك عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَعْنَاهُ ؟ قِيلَ : قَدْ قُلْنَا إنَّ مِنْ شَأْن الْعَرَب الْإِيجَاز وَالِاخْتِصَار إذَا كَانَ فِيمَا نَطَقَتْ بِهِ الدَّلَالَة الْكَافِيَة عَلَى مَا حَذَفَتْ وَتَرَكَتْ , كَمَا قَالَ أَبُو ذويب الْهُذَلِيّ : عَصَيْت إلَيْهَا الْقَلْب إنِّي لِأَمْرِهَا سَمِيع فما أَرَى أَرُشْد طِلَابهَا يَعْنِي بِذَلِكَ : فَمَا أَدْرِي أَرُشْد طِلَابهَا أَمْ غَيّ , فَحَذَفَ ذِكْر " أَمْ غَيّ " , إذْ كَانَ فِيمَا نَطَقَ بِهِ الدَّلَالَة عَلَيْهَا . وَكَمَا قَالَ ذُو الرِّمَّة فِي نَعْت حِمْيَر : فَلَمَّا لَبِسْنَ اللَّيْل أَوْ حِين نَصَّبَتْ لَهُ مِنْ خَذَا آذانها وهو جَانِح يَعْنِي : أَوْ حِين أَقَبْل اللَّيْل . فِي نَظَائِر لِذَلِكَ كَثِيرَة كَرِهْنَا إطَالَة الْكِتَاب بِذِكْرِهَا . فَكَذَلِكَ قَوْله : { كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْله } لَمَّا كَانَ فِيهِ وَفِيمَا بَعْده مِنْ قَوْله : { ذَهَبَ اللَّه بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَات لَا يُبْصِرُونَ } دَلَالَة عَلَى الْمَتْرُوك كَافِيَة مِنْ ذِكْره اخْتَصَرَ الْكَلَام طَلَب الْإِيجَاز . وَكَذَلِكَ حَذْف مَا حَذَفَ وَاخْتِصَار مَا اخْتَصَرَ مِنْ الْخَبَر عَنْ مَثَل الْمُنَافِقِينَ بَعْده , نَظِير مَا اخْتَصَرَ مِنْ الْخَبَر عَنْ مَثَل الْمُسْتَوْقِد النَّار ; لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَام : فَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ ذَهَبَ اللَّه بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَات لَا يُبْصِرُونَ بَعْد الضِّيَاء الَّذِي كَانُوا فِيهِ فِي الدُّنْيَا بِمَا كَانُوا يُظْهِرُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنْ الْإِقْرَار بِالْإِسْلَامِ وَهُمْ لِغَيْرِهِ مُسْتَبْطِنُونَ , كَمَا ذَهَبَ ضَوْء نَار هَذَا الْمُسْتَوْقِد بِانْطِفَاءِ نَاره وَخُمُودهَا فَبَقِيَ فِي ظُلْمَة لَا يُبْصِر , وَالْهَاء وَالْمِيم فِي قَوْله : { ذَهَبَ اللَّه بِنُورِهِمْ } عَائِدَة عَلَى الْهَاء وَالْمِيم فِي قَوْله : { مَثَلهمْ } .
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَسورة البقرة الآية رقم 18
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْلِهِ تَعَالَى : { صُمّ بُكْم عُمْي } قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَإِذْ كَانَ تَأْوِيل قَوْل اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُه : { ذَهَب اللَّه بِنُورِهِمْ وَتَرْكهِمْ فِي ظُلُمَات لَا يُبْصِروُن } هُوَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ ذَلِكَ خَبَر مِن اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُه عَمَّا هُو فَاعِل بِالْمُنَافِقِينَ فِي الْآخِرَة , عِنْد هَتْك أَسَتَارهِمْ , وَإِظْهَاره فَضَائِح أَسْرَارهِمْ , وَسَلْبه ضِيَاءَ أَنْوَارِهِمْ مِنْ تَرْكهمْ فِي ظُلْم أَهْوَال يَوْم الْقِيَامَة يَتَرَدَّدُونَ , وَفِي حَنَادِسهَا لا يُبْصِرُونَ ; فَبَيَّنَ أَنَّ قَوْله جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { صُمّ بُكْم عُمْي فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ } مِنْ الْمُؤَخَّر الَّذِي مَعْنَاهُ التَّقْدِيم , وَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَام : أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلَالَة بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتهمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ , صُمّ بُكْم عُمْي فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ; مَثَلهمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْله ذَهَبَ اللَّه بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَات لَا يُبْصِرُونَ , أَوْ كَمَثَلِ صَيِّب مِنْ السَّمَاء . وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ مَعْنَى الْكَلَام , فَمَعْلُوم أَنَّ قَوْله : { صُمّ بُكْم عُمْي } يَأْتِيه الرَّفْع مِنْ وَجْهَيْنِ , وَالنَّصْب مِنْ وَجْهَيْنِ . فَأَمَّا أَحَد وَجْهَيْ الرَّفْع , فَعَلَى الِاسْتِئْنَاف لِمَا فِيهِ مِنْ الذَّمّ , وَقَدْ تَفْعَل الْعَرَب ذَلِكَ فِي الْمَدْح وَالذَّمّ , فَتُنْصَب وَتُرْفَع وَإِنْ كَانَ خَبَرًا عَنْ مَعْرِفَة , كَمَا قَالَ الشَّاعِر : لَا يَبْعَدَنْ قَوْمِي الَّذِينَ هُمْ سُمّ الْعُدَاة وَآفَة الْجُزُر النَّازِلِينَ بِكُلِّ مُعْتَرَك وَالطَّيِّبِينَ مَعَاقِد الْأُزْر فَيُرْوَى : " النَّازِلُونَ وَالنَّازِلِينَ " ; وَكَذَلِكَ " الطَّيِّبُونَ وَالطَّيِّبِينَ " , عَلَى مَا وُصِفَتْ مِنْ الْمَدْح . وَالْوَجْه الْآخَر عَلَى نِيَّة التَّكْرِير مِنْ أُولَئِكَ , فَيَكُون الْمَعْنَى حِينَئِذٍ : { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلَالَة بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتهمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } أُولَئِكَ { صُمّ بُكْم عُمْي فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ } . وَأَمَّا أَحَد وَجْهَيْ النَّصْب , فَإِنْ يَكُون قُطْعًا مِمَّا فِي " مُهْتَدِينَ " , مِنْ ذِكْر " أُولَئِكَ " , لِأَنَّ الَّذِي فِيهِ مِنْ ذِكْرهمْ مَعْرِفَة , وَالصُّمّ نَكِرَة . وَالْآخَر أَنْ يَكُون قَطْعًا مِنْ " الَّذِينَ " , لِأَنَّ " الَّذِينَ " مَعْرِفَة وَالصُّمّ نَكِرَة . وَقَدْ يَجُوز النَّصْب فِيهِ أَيْضًا عَلَى وَجْه الذَّمّ فَيَكُون ذَلِكَ وَجْهًا مِنْ النَّصْب ثَالِثًا . فَأَمَّا عَلَى تَأْوِيل مَا رَوَيْنَا عَنْ ابْن عَبَّاس مِنْ غَيْر وَجْه رِوَايَة عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْهُ , فَإِنَّهُ لَا يَجُوز فِيهِ الرَّفْع إلَّا مِنْ وَجْه وَاحِد وَهُوَ الِاسْتِئْنَاف . وَأَمَّا النَّصْب فَقَدْ يَجُوز فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا الذَّمّ , وَالْآخَر الْقَطْع مِنْ الْهَاء وَالْمِيم اللَّتَيْنِ فِي " تَرْكهمْ " , أَوْ مِنْ ذِكْرهمْ فِي " لَا يُبْصِرُونَ " . وَقَدْ بَيَّنَّا الْقَوْل الَّذِي هُوَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ فِي تَأْوِيل ذَلِكَ . وَالْقِرَاءَة الَّتِي هِيَ الْقِرَاءَة الرَّفْع دُون النَّصْب لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ خِلَاف رُسُوم مُصَاحَب الْمُسْلِمِينَ , وَإِذَا قُرِئَ نَصْبًا كَانَتْ قِرَاءَة مُخَالِفَة رَسْم مَصَاحِفهمْ قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَهَذَا خَبَر مِنْ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ , أَنَّهُمْ بِاشْتِرَائِهِمْ الضَّلَالَة بِالْهُدَى , لَمْ يَكُونُوا لِلْهُدَى وَالْحَقّ مُهْتَدِينَ , بَلْ هُمْ صُمّ عَنْهُمَا فَلَا يَسْمَعُونَهُمَا لِغَلَبَةِ خِذْلَان اللَّه عَلَيْهِمْ , بُكْم عَنْ الْقِيل بِهِمَا , فَلَا يَنْطِقُونَ بِهِمَا - وَالْبُكْم : الْخَرَس , وَهُوَ جَمْع أَبْكَم عَمَى عَنْ أَنْ يُبْصِرُوهُمَا فَيَعْقِلُوهُمَا ; لِأَنَّ اللَّه قَدْ طَبَعَ عَلَى قُلُوبهمْ بِنِفَاقِهِمْ فَلَا يَهْتَدُونَ . وَبِمِثْلِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ عُلَمَاء أَهْل التَّأْوِيل . 335 - حَدَّثَنَا عَبْد بْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلْم ة , عَنْ مُحَمَّد بْن إسْحَاق , عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت , عَنْ عِكْرِمَة أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس : { صُمّ بُكْم عُمْي } عَنْ الْخَيْر . 336 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن صَالِح , قَالَ : حَدَّثَنِي مُعَاوِيَة بْن صَالِح عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة , عَنْ ابْن عَبَّاس : { صُمّ بُكْم عُمْي } يَقُول : لَا يَسْمَعُونَ الْهُدَى , وَلَا يُبْصِرُونَهُ وَلَا يَعْقِلُونَهُ . 337 - وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة عَنْ ابْن مَسْعُود وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { بُكْم } : هُمْ الْخُرْس . 338 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد بْن زُرَيْع , عَنْ سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ قَوْله : { صُمّ بُكْم عُمْي } : صُمّ عَنْ الْحَقّ فَلَا يَسْمَعُونَهُ , عُمْي عَنْ الْحَقّ فَلَا يُبْصِرُونَهُ , بُكْم عَنْ الْحَقّ فَلَا يَنْطِقُونَ بِهِ .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ } قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَقَوْله : { فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ } إخْبَار مِنْ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ نَعَتَهُمْ اللَّه بِاشْتِرَائِهِمْ الضَّلَالَة بِالْهُدَى , وَصَمَمهمْ عَنْ سَمَاع الْخَيْر وَالْحَقّ , وَبُكْمهمْ عَنْ الْقَيْل بِهِمَا , وَعَمَاهُمْ عَنْ إبْصَارهمَا ; أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إلَى الْإِقْلَاع عَنْ ضَلَالَتهمْ , وَلَا يَتُوبُونَ إلَى الْإِنَابَة مِنْ نِفَاقهمْ , فَآيِس الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْ يُبْصِر هَؤُلَاءِ رُشْدًا , وَيَقُولُوا حَقًّا , أَوْ يَسْمَعُوا دَاعِيًا إلَى الْهُدَى , أَوْ أَنْ يَذْكُرُوا فَيَتُوبُوا مِنْ ضَلَالَتهمْ , كَمَا آيَسَ مِنْ تَوْبَة قَادَة كُفَّار أَهْل الْكِتَاب وَالْمُشْرِكِينَ وَأَحْبَارهمْ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُ قَدْ خَتَمَ عَلَى قُلُوبهمْ وَعَلَى سَمْعهمْ وَغَشَّى عَلَى أَبْصَارهمْ . وَبِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيل ذَلِكَ قَالَ أَهْل التَّأْوِيل . 339 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد بْن زُرَيْع , عَنْ سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ : { فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ } أَيْ لَا يَتُوبُونَ وَلَا يَذْكُرُونَ . 340 - وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ , عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة , عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ } إلَى الْإِسْلَام . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْن عَبَّاس قَوْل يُخَالِف مَعْنَاهُ مَعْنَى هَذَا الْخَبَر وَهُوَ مَا : 341 - حَدَّثَنَا بِهِ ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلْم , عَنْ مُحَمَّد بْن إسْحَاق , عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت , عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس : { فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ } : أَيْ فَلَا يَرْجِعُونَ إلَى الْهُدَى وَلَا إلَى خَيْر , فَلَا يُصِيبُونَ نَجَاة مَا كَانُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ . وَهَذَا تَأْوِيل ظَاهِر التِّلَاوَة بِخِلَافِهِ , وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَ عَنْ الْقَوْم أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ عَنْ اشْتِرَائِهِمْ الضَّلَالَة بِالْهُدَى إلَى ابْتِغَاء الْهُدَى وَإِبْصَار الْحَقّ مِنْ غَيْر حَصْر مِنْهُ جَلَّ ذِكْره ذَلِكَ مِنْ حَالهمْ إلَى وَقْت دُون وَقْت وَحَال دُون حَال . وَهَذَا الْخَبَر الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ ابْن عَبَّاس يُنْبِئ عَنْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَتهمْ مَحْصُور عَلَى وَقْت وَهُوَ مَا كَانُوا عَلَى أَمْرهمْ مُقِيمِينَ , وَأَنَّ لَهُمْ السَّبِيل إلَى الرُّجُوع عَنْهُ . وَذَلِكَ مِنْ التَّأْوِيل دَعْوَى بَاطِلَة لا دَلَالَة عَلَيْهَا مِنْ ظَاهِر وَلَا مِنْ خَبَر تَقُوم بِمِثْلِهِ الْحُجَّة فَيُسَلِّم لَهَا .
أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَسورة البقرة الآية رقم 19
الْقَوْل في تَأِيل قَوْله تَعَالَى : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاء } قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَالصَّيِّب الفعيل , مِن قَوْلِكَ : صَابَ الْمَطَر يَصُوب صَوْبًا : إذَا انْحَدَرَ وَنَزَلَ , كما قال الشاعر : لَسْت لِإِنْسِيٍّ وَلَكِنْ لَمَلْأَك تَنَزَّلَ مِنْ جَوّ السَّمَاء يَصُوب وَكَمَا قَالَ عَلْقَمَة بْن عَبْدَة : كَأَنَّهُمْ صَابَ عَلَيْهِمْ سَحَابَة صَوَاعِقهَا لِطَيْرِهِنَّ دَبِيب فَلَا تَعْدِلِي بَيْنِي وَبَيْن مُغَمَّر سَقَيْت رَوَايَا الْمُزْن حِين تَصُوب يَعْنِي : حِين تَنْحَدِر . وَهُوَ فِي الْأَصْل : صَيُوب , وَلَكِنْ الْوَاو لَمَّا سَبَقَتْهَا يَاء سَاكِنَة صَيَّرَتَا جَمِيعًا يَاء مُشَدَّدَة , كَمَا قِيلَ : سَيِّد مَنْ سَادَ يَسُود , وَجَيِّد مَنْ جَادَ يَجُود . وَكَذَلِكَ تَفْعَل الْعَرَب بِالْوَاوِ إذَا كَانَتْ مُتَحَرِّكَة وَقَبْلهَا يَاء سَاكِنَة تَصِيرهُمَا جَمِيعًا يَاء مُشَدَّدَة . وَبِمَا قُلْنَا مِنْ الْقَوْل فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْل التَّأْوِيل . 342 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن إسْمَاعِيل الْأَحْمَسِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عُبَيْد , قَالَ : حَدَّثَنَا هَارُونَ بْن عَنْتَرَة , عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاء } قَالَ : الْقَطْر . 343 - وَحَدَّثَنِي عَبَّاس بْن مُحَمَّد , قَالَ : حَدَّثَنَا حَجَّاج , قَالَ : قَالَ ابْن جُرَيْجٍ , قَالَ لِي عَطَاء : الصَّيِّب : الْمَطَر . 344 - وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو صَالِح , قَالَ : حَدَّثَنِي مُعَاوِيَة بْن صَالِح , عَنْ عَلِيّ عَنْ ابْن عَبَّاس , قَالَ : الصَّيِّب : الْمَطَر . 345 - وَحَدَّثَنِي مُوسَى , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِك وَعَنْ أَبِي صَالِح عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة , عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الصَّيِّب : الْمَطَر . * وَحَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن سَعْد , قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي سَعْد , قَالَ : حَدَّثَنِي عَمِّي الْحُسَيْن , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ جَدّه , عَنْ ابْن عَبَّاس مِثْله . 346 - وَحَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد , عَنْ سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ : { أَوْ كَصَيِّبٍ } قَالَ : الْمَطَر . * وَحَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَنْبَأَنَا مَعْمَر , عَنْ قَتَادَةَ مِثْله . 347 - وَحَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو الْبَاهِلِيّ , وَعَمْرو بْن عَلَيَّ , قَالَا : حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِم , قَالَ : حَدَّثَنَا عِيسَى بْن مَيْمُون , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد : الصَّيِّب : الْمَطَر . * وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَة , قَالَ : حَدَّثَنَا شِبْل , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد : الصَّيِّب : الْمَطَر . 348 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا إسْحَاق عَنْ ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس : الصَّيِّب : الْمَطَر . * وَحُدِّثْت عَنْ المنجاب , قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْر بْن عُمَارَة , عَنْ أَبِي رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك , عَنْ ابْن عَبَّاس قَالَ : الصَّيِّب : الْمَطَر . 349 - وَحَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : قَالَ عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاء } قَالَ : أَوْ كَغَيْثٍ مِنْ السَّمَاء . 350 - وَحَدَّثَنَا سِوَار بْن عَبْد اللَّه الْعَنْبَرِيّ , قَالَ : قَالَ سُفْيَان : الصَّيِّب : الَّذِي فِيهِ الْمَطَر . * حَدَّثَنَا عَمْرو بْن عَلِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا مُعَاوِيَة , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ عَطَاء فِي قَوْله : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاء } قَالَ : الْمَطَر . قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَتَأْوِيل ذَلِكَ : مِثْل اسْتِضَاءَة الْمُنَافِقِينَ بِضَوْءِ إقْرَارهمْ بِالْإِسْلَامِ مَعَ اسْتِسْرَارهمْ الْكُفْر , مِثْل إضَاءَة مُوقِد النَّار بِضَوْءِ نَاره عَلَى مَا وَصَفَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مِنْ صِفَته , أَوْ كَمَثَلِ مَطَر مُظْلِم وَدْقه تَحَدَّرَ مِنْ السَّمَاء تَحْمِلهُ مُزْنَة ظَلْمَاء فِي لَيْلَة مُظْلِمَة , وَذَلِكَ هُوَ الظُّلُمَات الَّتِي أَخْبَرَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهَا فِيهِ . فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِل : أَخْبَرَنَا عَنْ هَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ , أَهُمَا مَثَلَانِ لِلْمُنَافِقِينَ أَوْ أَحَدهمَا ؟ فَإِنْ يَكُونَا مَثَلَيْنِ لِلْمُنَافِقِينَ فَكَيْف قِيلَ : { أَوْ كَصَيِّبٍ } و " أَوْ " تَأْتِي بِمَعْنَى الشَّكّ فِي الْكَلَام , وَلَمْ يَقُلْ : وَكَصَيِّبٍ , بِالْوَاوِ الَّتِي تَلْحَق الْمَثَل الثَّانِي بِالْمَثَلِ الْأَوَّل ؟ أَوْ يَكُون مَثَل الْقَوْم أَحَدهمَا , فَمَا وَجْه ذِكْر الْآخَر ب " أَوْ " , وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ " أَوْ " إذَا كَانَتْ فِي الْكَلَام فَإِنَّمَا تَدْخُل فِيهِ عَلَى وَجْه الشَّكّ مِنْ الْمُخْبِر فِيمَا أَخْبَرَ عَنْهُ , كَقَوْلِ الْقَائِل : لَقِيَنِي أَخُوك أَوْ أَبُوك , وَإِنَّمَا لَقِيَهُ أَحَدهمَا , وَلَكِنَّهُ جَهِلَ عَيْن الَّذِي لَقِيَهُ مِنْهُمَا , مَعَ عِلْمه أَنَّ أَحَدهمَا قَدْ لَقِيَهُ ; وَغَيْر جَائِز فِيهِ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنْ يُضَاف إلَيْهِ الشَّكّ فِي شَيْء أَوْ عُزُوب عِلْم شَيْء عَنْهُ فِيمَا أَخْبَرَ أَوْ تَرَكَ الْخَبَر عَنْهُ . قِيلَ لَهُ : إنَّ الْأَمْر فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ الَّذِي ذَهَبَتْ إلَيْهِ , و " أَوْ " وَإِنْ كَانَتْ فِي بَعْض الْكَلَام تَأْتِي بِمَعْنَى الشَّكّ , فَإِنَّهَا قَدْ تَأْتِي دَالَّة عَلَى مِثْل مَا تَدُلّ عَلَيْهِ الْوَاو إمَّا بِسَابِقٍ مِنْ الْكَلَام قَبْلهَا , وَإِمَّا بِمَا يَأْتِي بَعْدهَا كَقَوْلِ تَوْبَة بْن الْحُمَيِّر : وَقَدْ زَعَمَتْ لَيْلَى بِأَنِّي فَاجِر لِنَفْسِي تُقَاهَا أَوْ عَلَيْهَا فُجُورهَا وَمَعْلُوم أَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَوْبَة عَلَى غَيْر وَجْه الشَّكّ فِيمَا قَالَ , وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ " أَوْ " فِي هَذَا الْمَوْضِع دَالَّة عَلَى مِثْل الَّذِي كَانَتْ تَدُلّ عَلَيْهِ الْوَاو لَوْ كَانَتْ مَكَانهَا , وَضَعَهَا مَوْضِعهَا . وَكَذَلِكَ قَوْل جَرِير : ش جَاءَ الْخِلَافَة أَوْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا /و كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَر وَكَمَا قَالَ الْآخَر : فَلَوْ كَانَ الْبُكَاء يَرُدّ شَيْئًا /و بَكَيْت عَلَى جُبَيْر أَوْ عَنَاق عَلَى الْمَرْأَيْنِ إذْ مَضَيَا جَمِيعًا /و لِشَأْنِهِمَا بِحُزْنٍ وَاشْتِيَاق فَقَدْ دَلَّ بِقَوْلِهِ : " عَلَى الْمَرْأَيْنِ إذْ مَضَيَا جَمِيعًا " أَنَّ بُكَاءَهُ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَبْكِيه لَمْ يُرِدْ أَنْ يَقْصِد بِهِ أَحَدهمَا دُون الْآخَر , بَلْ أَرَادَ أَنْ يَبْكِيهِمَا جَمِيعًا . فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْل اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاء } لَمَا كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ " أَوْ " دَالَّة فِي ذَلِكَ عَلَى مِثْل الَّذِي كَانَتْ تَدُلّ عَلَيْهِ الْوَاو , وَلَوْ كَانَتْ مَكَانهَا كَانَ سَوَاء نَطَقَ فِيهِ ب " أَوْ " أَوْ بِالْوَاوِ . وَكَذَلِكَ وَجْه حَذْف الْمَثَل مِنْ قَوْله : { أَوْ كَصَيِّبٍ } لَمَا كَانَ قَوْله : { كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } دَالًّا عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ : كَمَثَلِ صَيِّب , حَذَفَ الْمَثَل وَاكْتَفَى بِدَلَالَةِ مَا مَضَى مِنْ الْكَلَام فِي قَوْله : { كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ : أَوْ كَمَثَلِ صَيِّبٍ , مِنْ إعَادَة ذِكْر الْمَثَل طَلَب الْإِيجَاز وَالِاخْتِصَار .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { فِيهِ ظُلُمَات وَرَعْد وَبَرْق يَجْعَلُونَ أَصَابِعهمْ فِي آذَانهمْ مِنْ الصَّوَاعِق حَذَر الْمَوْت } قَالَ أَبُو جَعْفَر : فَأَمَّا الظُّلُمَات فَجَمْع , وَأَحَدهَا ظُلْمَة ; وَأَمَّا الرَّعْد فَإِنَّ أَهْل الْعِلْم أَخْتَلَفُوا فِيهِ ; فَقَالَ بَعْضهمْ : هُوَ مَلَك يَزْجُر السَّحَاب . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 351 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن جَعْفَر , قَالَ : حَدَّثَنَا شُعْبَة عَنْ الْحَكَم , عَنْ مُجَاهِد , قَالَ : الرَّعْد مَلَك يَزْجُر السَّحَاب بِصَوْتِهِ . * وَحَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن أَبِي عَدِيّ , عَنْ شُعْبَة عَنْ الْحَكَم عَنْ مُجَاهِد مِثْله . * وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْن طَلْحَة الْيَرْبُوعِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا فُضَيْل بْن عِيَاض , عَنْ لَيْث , عَنْ مُجَاهِد مِثْله . 352 - وَحَدَّثَنِي يَعْقُوب بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : حَدَّثَنَا هُشَيْم قَالَ : أَنْبَأَنَا إسْمَاعِيل بْن سَالِم عَنْ أَبِي صَالِح , قَالَا : الرَّعْد مَلَك مِنْ الْمَلَائِكَة يُسَبِّح . 353 - وَحَدَّثَنِي نَصْر بْن عَبْد الرَّحْمَن الْأَوْدِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يَعْلَى , عَنْ أَبِي الْخَطَّاب الْبَصْرِيّ , عَنْ شَهْر بْن حَوْشَب قَالَ : الرَّعْد : مَلَك مُوَكَّل بِالسَّحَابِ , يَسُوقهُ كَمَا يَسُوق الْحَادِي الْإِبِل , يُسَبِّح كُلَّمَا خَالَفَتْ سَحَابَة سَحَابَة صَاحَ بِهَا , فَإِذَا اشْتَدَّ غَضَبه طَارَتْ النَّار مِنْ فِيهِ فَهِيَ الصَّوَاعِق الَّتِي رَأَيْتُمْ . 354 - وَحُدِّثْت عَنْ المنجاب بْن الْحَارِث , قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْر بْن عُمَارَة , عَنْ أَبِي رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك , عَنْ ابْن عَبَّاس , قَالَ : الرَّعْد : مَلَك مِنْ الْمَلَائِكَة اسْمه الرَّعْد , وَهُوَ الَّذِي تَسْمَعُونَ صَوْته . 355 - حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إسْحَاق الْأَهْوَازِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد الْمَلِك بْن حُسَيْن عَنْ السُّدِّيّ عَنْ أَبِي مَالِك , عَنْ ابْن عَبَّاس , قَالَ : الرَّعْد : مَلَك يَزْجُر السَّحَاب بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِير . 356 - وَحَدَّثَنَا الْحَسَن بْن مُحَمَّد , قَالَ : حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن عَاصِم , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ مُجَاهِد , عَنْ ابْن عَبَّاس , قَالَ : الرَّعْد : اسْم مَلَك , وَصَوْته هَذَا تَسْبِيحه , فَإِذَا اشْتَدَّ زَجْره السَّحَاب اضْطَرَبَ السَّحَاب وَاحَتك فَتَخْرُج الصَّوَاعِق مِنْ بَيْنه . 357 - حَدَّثَنَا الْحَسَن , قَالَ : حَدَّثَنَا عَفَّانُ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَة , عَنْ مُوسَى الْبَزَّار , عَنْ شَهْر بْن حَوْشَب عَنْ ابْن عَبَّاس , قَالَ : الرَّعْد : مَلَك يَسُوق السَّحَاب بِالتَّسْبِيحِ , كَمَا يَسُوق الْحَادِي الْإِبِل بِحِدَائِهِ . * حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن مُحَمَّد , قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن عَبَّاد وشبابة قَالَا : ثنا شُعْبَة , عَنْ الْحَكَم , عَنْ مُجَاهِد , قَالَ : الرَّعْد : مَلَك يَزْجُر السَّحَاب . 358 - حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إسْحَاق , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الزُّبَيْرِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَتَّاب بْن زِيَاد , عَنْ عِكْرِمَة , قَالَ : الرَّعْد : مَلَك فِي السَّحَاب يَجْمَع السَّحَاب كَمَا يَجْمَع الرَّاعِي الْإِبِل . 359 - وَحَدَّثَنَا بِشْر , قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد , قَالَ : حَدَّثَنَا سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ , قَالَ : الرَّعْد : خَلْق مِنْ خَلْق اللَّه جَلَّ وَعَزَّ سَامِع مُطِيع لِلَّهِ جَلَّ وَعَزَّ 360 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم بْن الْحَسَن , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن دَاوُد , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ عِكْرِمَة , قَالَ : إنَّ الرَّعْد مَلَك يُؤْمَر بِإِزْجَاءِ السَّحَاب فَيُؤَلِّف بَيْنه , فَذَلِكَ الصَّوْت تَسْبِيحه . 361 - وَحَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن جَرِيح , عَنْ مُجَاهِد , قَالَ : الرَّعْد : مَلَك . 362 - وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحَجَّاج بْن الْمِنْهَال , قَالَ : حَدَّثَنَا حَمَّاد بْن سَلْم ة , عَنْ الْمُغِيرَة بْن سَالِم , عَنْ أَبِيهِ أَوْ غَيْره , أَنَّ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب قَالَ : الرَّعْد : مَلَك . 363 - حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا حَجَّاج , قَالَ : حَدَّثَنَا حَمَّاد , قَالَ : أَخْبَرَنَا مُوسَى بْن سَالِم أَبُو جَهْضَم مَوْلَى ابْن عَبَّاس قَالَ : كَتَبَ ابْن عَبَّاس إلَى أَبِي الجلد يَسْأَلهُ عَنْ الرَّعْد ؟ فَقَالَ : الرَّعْد : مَلَك . 364 - حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا مُسْلِم بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : حَدَّثَنَا عُمَر بْن الْوَلِيد السَّنِيّ , عَنْ عِكْرِمَة , قَالَ : الرَّعْد : مَلَك يَسُوق السَّحَاب كَمَا يَسُوق الرَّاعِي الْإِبِل . 365 - حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ عَبْد اللَّه بْن عَبْد الْْحَكَم , قَالَ : حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ أَبَانَ , عَن عِكْرِمَة , قَالَ : كَانَ ابْنُ عَبَّاس إِذَا سَمِع الرَّعْد , قَالَ : سُبْحَانَ الَّذِي سَبَّحَتْ لَهُ , قَالَ : وَكَانَ يَقُولُ : إِنَّ الرَّعْدَ مَلَك يَنْعِق بِالْغَيْثِ كَمَا يَنْعِقُ الرَّاعِي بِغَنَمِه . وَقَالَ آخَرُونَ : إِنَّ الرَّعْد : رِيح تَخْتَنِق تَحْت السَّحَاب , فَتَصَّاعَدُ فَيَكُون مِنْهُ ذَلِك الصَّوْت . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِك : 366 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاق , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الزُّبَيْرِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْر بْن إِسْمَاعِيل , عَنْ أَبِي كَثِير , قَال : كُنْت عِنْد أبي الجلد , إذْ جَاءَهُ رَسُول ابْن عَبَّاس بِكِتَابٍ إلَيْهِ , فَكَتَبَ إلَيْهِ : كَتَبْت تَسْأَلنِي عَنْ الرَّعْد , فَالرَّعْد : الرِّيح . 367 - حَدَّثَنِي إبْرَاهِيم بْن عَبْد اللَّه قَالَ : حَدَّثَنَا عِمْرَان بْن مَيْسَرَة , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن إدْرِيس عَنْ الْحَسَن بْن الْفُرَات , عَنْ أَبِيهِ , قَالَ : كَتَبَ ابْن عَبَّاس إلَى أَبِي الجلد يَسْأَلهُ عَنْ الرَّعْد , فَقَالَ : الرَّعْد : رِيح . قَالَ أَبُو جَعْفَر : فَإِنْ كَانَ الرَّعْد مَا ذَكَرَهُ ابْن عَبَّاس وَمُجَاهِد , فَمَعْنَى الْآيَة : أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَات وَصَوْت رَعْد ; لِأَنَّ الرَّعْد إنْ كَانَ مَلَكًا يَسُوق السَّحَاب , فَغَيْر كَائِن فِي الصَّيِّب ; لِأَنَّ الصَّيِّب إنَّمَا هُوَ مَا تَحَدَّرَ مِنْ صَوْب السَّحَاب ; وَالرَّعْد : إنَّمَا هُوَ فِي جَوّ السَّمَاء يَسُوق السَّحَاب , عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِ يَمُرّ لَمْ يَكُنْ لَهُ صَوْت مَسْمُوع , فَلَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ رُعْب يُرْعَب بِهِ أَحَد ; لِأَنَّهُ قَدْ قِيلَ : إنَّ مَعَ كُلّ قَطْرَة مِنْ قَطْر الْمَطَر مَلَكًا , فَلَا يَعْدُو الْمَلَك الَّذِي اسْمه الرَّعْد لَوْ كَانَ مَعَ الصَّيِّب إذَا لَمْ يَكُنْ مَسْمُوعًا صَوْته أَنْ يَكُون كَبَعْضِ تِلْكَ الْمَلَائِكَة الَّتِي تَنْزِل مَعَ الْقَطْر إلَى الْأَرْض فِي أَنَّ لَا رُعْب عَلَى أَحَد بِكَوْنِهِ فِيهِ . فَقَدْ عُلِمَ إذْ كَانَ الْأَمْر عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ قَوْلَة ابْن عَبَّاس أَنَّ مَعْنَى الْآيَة : أَوْ كَمَثَلِ غَيْث تَحَدَّرَ مِنْ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَات وَصَوْت رَعْد ; إنْ كَانَ الرَّعْد هُوَ مَا قَالَهُ ابْن عَبَّاس , وَإِنَّهُ اسْتَغْنَى بِدَلَالَةِ ذِكْر الرَّعْد بِاسْمِهِ عَلَى الْمُرَاد فِي الْكَلَام مِنْ ذِكْر صَوْته . وَإِنْ كَانَ الرَّعْد مَا قَالَهُ أَبُو الجلد فَلَا شَيْء فِي قَوْله : " فِيهِ ظُلُمَات وَرَعْد " مَتْرُوك لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَام حِينَئِذٍ : فِيهِ ظُلُمَات وَرَعْد الَّذِي هُوَ وَمَا وَصَفْنَا صِفَته . وَأَمَّا الْبَرْق , فَإِنَّ أَهْل الْعِلْم اخْتَلَفُوا فِيهِ ; فَقَالَ بَعْضهمْ بِمَا : 368 - حَدَّثَنَا مَطَر بْن مُحَمَّد الضَّبِّيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِم ح وَحَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن بَشَّار قَالَ : حَدَّثَنِي عَبْد الرَّحْمَن بْن مَهْدِيّ ح وَحَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إسْحَاق الْأَهْوَازِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الزُّبَيْرِيّ , قَالُوا جَمِيعًا : حَدَّثَنَا سُفْيَان الثَّوْرِيّ , عَنْ سَلَمَة بْن كُهَيْل , عَنْ سَعِيد بْن أَشَوْع , عَنْ رَبِيعَة بْن الْأَبْيَض , عَنْ عَلِيّ قَالَ : الْبَرْق : مَخَارِيق الْمَلَائِكَة . 369 - حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إسْحَاق , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الزُّبَيْرِيّ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد الْمَلِك بْن الْحُسَيْن , عَنْ السُّدِّيّ عَنْ أَبِي مَالِك , عَنْ ابْن عَبَّاس : الْبَرْق مَخَارِيق بِأَيْدِي الْمَلَائِكَة يَزْجُرُونَ بِهَا السَّحَاب . * حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحَجَّاج , قَالَ : حَدَّثَنَا حَمَّاد , عَنْ عَمِيرَة بْن سَالِم , عَنْ أَبِيهِ أَوْ غَيْره أَنَّ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب قَالَ : الرَّعْد : الْمَلَك , وَالْبَرْق : ضَرَبَهُ السَّحَاب بِمِخْرَاقٍ مِنْ حَدِيد . وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ سَوْط مِنْ نُور يَزُجّ بِهِ الْمَلَك السَّحَاب . 370 - حُدِّثْت عَنْ المنجاب بْن الْحَارِث , قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْر بْن عُمَارَة عَنْ أَبِي رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك , عَنْ ابْن عَبَّاس بِذَلِكَ . وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ مَاء . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ 371 - حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إسْحَاق الْأَهْوَازِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الزُّبَيْرِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْر بْن إسْمَاعِيل , عَنْ أَبِي كَثِير , قَالَ : كُنْت عِنْد أَبِي الجلد إذْ جَاءَهُ رَسُول ابْن عَبَّاس بِكِتَابٍ إلَيْهِ , فَكَتَبَ إلَيْهِ : تَسْأَلنِي عَنْ الْبَرْق , فَالْبَرْق : الْمَاء . 372 - حَدَّثَنَا إبْرَاهِيم بْن عَبْد اللَّه , قَالَ : حَدَّثَنَا عِمْرَان بْن مَيْسَرَة , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن إدْرِيس , عَنْ الْحَسَن بْن الْفُرَات , عَنْ أَبِيهِ , قَالَ : كَتَبَ ابْن عَبَّاس إلَى أَبِي الجلد يَسْأَلهُ عَنْ الْبَرْق , فَقَالَ : الْبَرْق مَاء . * حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا جَرِير , عَنْ عَطَاء , عَنْ رَجُل مِنْ أَهْل الْبَصْرَة مِنْ قُرَّائِهِمْ , قَالَ : كَتَبَ ابْن عَبَّاس إلَى أَبِي الجلد رَجُل مِنْ أَهْل هَجَرَ يَسْأَلهُ عَنْ الْبَرْق , فَكَتَبَ إلَيْهِ : كَتَبْت إلَيْهِ تَسْأَلنِي عَنْ الْبَرْق : وَإِنَّهُ مِنْ الْمَاء . وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ مَصْع مَلَك 373 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بَشَّار , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن مَهْدِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَان عَنْ عُثْمَان بْن الْأَسْوَد , عَنْ مُجَاهِد , قَالَ : الْبَرْق : مَصْع مَلَك . 374 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ : حَدَّثَنَا إسْحَاق , قَالَ : حَدَّثَنَا هِشَام , عَنْ مُحَمَّد بْن مُسْلِم الطَّائِفِيّ , قَالَ : بَلَغَنِي أَنَّ الْبَرْق مَلَك لَهُ أَرْبَعَة أَوْجُه : وَجْه إنْسَان , وَوَجْه ثَوْر , وَوَجْه نَسْر , وَوَجْه أَسَد , فَإِذَا مَصَعَ بِأَجْنِحَتِهِ فَذَلِكَ الْبَرْق . 375 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ وَهْب بْن سُلَيْمَان , عَنْ شُعَيْب الْجُبَّائِيّ , قَالَ : فِي كِتَاب اللَّه الْمَلَائِكَة حَمَلَة الْعَرْش , لِكُلِّ مَلَك مِنْهُمْ وَجْه إنْسَان , وَثَوْر , وَأَسَد , فَإِذَا حَرَّكُوا أَجْنِحَتهمْ فَهُوَ الْبَرْق . وَقَالَ أُمَيَّة بْن أَبِي الصَّلْت : رِجْل وَثَوْر تَحْت رَجُل يَمِينه وَالنَّسْر لِلْأُخْرَى وَلَيْث مُرْصِد 376 - حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن مُحَمَّد , قَالَ : حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن عَاصِم , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ مُجَاهِد , عَنْ ابْن عَبَّاس : الْبَرْق : مَلَك . 377 - وَقَدْ حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ قَالَ : الصَّوَاعِق مَلَك يَضْرِب السَّحَاب بالمخاريق يُصِيب مِنْهُ مَنْ يُشَاء . قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَقَدْ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون مَا قَالَهُ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَابْن عَبَّاس وَمُجَاهِد بِمَعْنًى وَاحِد ; وَذَلِكَ أَنْ تَكُون المخاريق الَّتِي ذَكَرَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهَا هِيَ الْبَرْق هِيَ السِّيَاط الَّتِي هِيَ مِنْ نُور الَّتِي يُزْجِي بِهَا الْمَلَك السَّحَاب , كَمَا قَالَ ابْن عَبَّاس . وَيَكُون إزْجَاء الْمَلَك السَّحَاب : مَصَعَهُ إيَّاهُ بِهَا , وذاك أن الْمِصَاع عند العرب أصله الْمُجَالَدَة بِالسُّيُوفِ , ثم تَسْتَعْمِلهُ في كل شيء جُولِدَ به في حَرْب وَغَيْر حَرْب , كما قال أَعْشَى بَنِي ثَعْلَبَة وَهُوَ يَصِف جِوَارِي يَلْعَبْنَ بِحُلِيِّهِنَّ وَيُجَالِدْنَ بِهِ : إذَا هُنَّ نَازَلْنَ أَقْرَانهنَّ وَكَانَ الْمِصَاع بِمَا فِي الْجُوَن يُقَال مِنْهُ : مَاصَعَهُ مِصَاعًا . وَكَأَنَّ مُجَاهِدًا إنَّمَا قَالَ : " مَصْع مَلَك " , إذْ كَانَ السَّحَاب لَا يُمَاصِع الْمَلَك , وَإِنَّمَا الرَّعْد هُوَ الْمُمَاصِع لَهُ , فَجَعَلَهُ مَصْدَرًا مِنْ مَصَعَهُ يَمْصَعهُ مَصْعًا , وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا فِي مَعْنَى الصَّاعِقَة مَا قَالَ شَهْر بْن حَوْشَب فِيمَا مَضَى . وَأَمَّا تَأْوِيل الْآيَة , فَإِنَّ أَهْل التَّأْوِيل مُخْتَلِفُونَ فِيهِ . فَرُوِيَ عَنْ ابْن عَبَّاس فِي ذَلِكَ أَقْوَال ; أَحَدهَا مَا : 378 - حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّد بْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة , قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إسْحَاق , عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت , عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَات وَرَعْد وَبَرْق يَجْعَلُونَ أَصَابِعهمْ فِي آذَانهمْ مِنْ الصَّوَاعِق حَذَر الْمَوْت } أَيْ هُمْ مِنْ ظُلُمَات مَا هُمْ فِيهِ مِنْ الْكُفْر وَالْحَذَر مِنْ الْقَتْل - عَلَى الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْخِلَاف , وَالتَّخْوِيف مِنْكُمْ - عَلَى مِثْل مَا وُصِفَ مِنْ الَّذِي هُوَ فِي ظُلْمَة الصَّيِّب , فَحَمْل أَصَابِعه فِي أُذُنِيهِ مِنْ الصَّوَاعِق حَذَر الْمَوْت { يَكَاد الْبَرْق يَخْطَف أَبْصَارهمْ } أَيْ لِشِدَّةِ ضَوْء الْحَقّ , { كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظَلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا } أَيْ يَعْرِفُونَ الْحَقّ وَيَتَكَلَّمُونَ بِهِ , فَهُمْ مِنْ قَوْلهمْ بِهِ عَلَى اسْتِقَامَة , فَإِذَا ارْتَكَسُوا مِنْهُ إلَى الْكُفْر قَامُوا مُتَحَيَّرِينَ . وَالْآخَر مَا : 379 - حَدَّثَنِي بِهِ مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة , عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَات وَرَعْد وَبَرْق } إلَى : { إنَّ اللَّه عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير } : أَمَّا الصَّيِّب وَالْمَطَر كَانَ رَجُلَانِ مِنْ الْمُنَافِقِينَ مِنْ أَهْل الْمَدِينَة هَرَبَا مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمُشْرِكِينَ , فَأَصَابَهُمَا هَذَا الْمَطَر الَّذِي ذَكَرَ اللَّه فِيهِ رَعْد شَدِيد وَصَوَاعِق وَبَرْق , فَجَعَلَا كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمَا الصَّوَاعِق جَعَلَا أَصَابِعهمَا فِي آذَانهمَا مِنْ الْفَرَق أَنْ تَدْخُل الصَّوَاعِق فِي مَسَامِعهمَا فَتَقْتُلهُمَا , وَإِذْ لَمَعَ الْبَرْق مَشَيَا فِي ضَوْئِهِ , وَإِذَا لَمْ يَلْمَع لَمْ يُبْصِرَا وقاما مكانهما لا يمشيان , فجعلا يقولان : ليتنا قد أَصْبَحْنَا فَنَأْتِيَ مُحَمَّدًا فَنَضَعَ أَيْدِينَا في يده ! فَأَصْبَحَا فأتياه فَأَسْلَمَا وَوَضَعَا أَيْدِيهمَا فِي يَده وَحَسُنَ إسْلَامهمَا . فَضَرَبَ اللَّه شَأْن هَذَيْنِ الْمُنَافِقَيْنِ الْخَارِجِينَ مَثَلًا لِلْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ بِالْمَدِينَةِ . وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ إذَا حَضَرُوا مَجْلِس النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , جَعَلُوا أَصَابِعهمْ فِي آذَانهمْ فَرَقًا مِنْ كَلَام النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْزِل فِيهِمْ شَيْء أَوْ يُذْكَرُوا بِشَيْءٍ فَيُقْتَلُوا , كَمَا كَانَ ذَانِكَ الْمُنَافِقَانِ الْخَارِجَانِ يَجْعَلَانِ أَصَابِعَهُمَا فِي آذَانهمَا , وَإِذَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ . فَإِذَا كَثُرَتْ أَمْوَالهمْ وَوُلِدَ لَهُمْ الْغِلْمَان وَأَصَابُوا غَنِيمَة أَوْ فَتْحًا مَشَوْا فِيهِ , وَقَالُوا : إنَّ دِين مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِين صِدْق فَاسْتَقَامُوا عَلَيْهِ , كَمَا كَانَ ذَانِكَ الْمُنَافِقَانِ يَمْشِيَانِ إذَا أَضَاءَ لَهُمْ الْبَرْق مَشَوْا فِيهِ , وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا . فَكَانُوا إذَا هَلَكَتْ أَمْوَالهمْ , وَوُلِدَ لَهُمْ الْجَوَارِي , وَأَصَابَهُمْ الْبَلَاء قَالُوا هَذَا مِنْ أَجْل دِين مُحَمَّد , فَارْتَدُّوا كُفَّارًا كَمَا قَامَ ذَانِكَ الْمُنَافِقَانِ حِين أَظْلَمَ الْبَرْق عَلَيْهِمَا وَالثَّالِث مَا : 380 - حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّد بْن سَعْد ; قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي , قَالَ : حَدَّثَنِي عَمِّي , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ جَدّه , عَنْ ابْن عَبَّاس : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاء } كَمَطَرٍ { فِيهِ ظُلُمَات وَرَعْد وَبَرْق } إلَى آخِر الْآيَة , هُوَ مِثْل الْمُنَافِق فِي ضَوْء مَا تَكَلَّمَ بِمَا مَعَهُ مِنْ كِتَاب اللَّه وَعَمَل , مُرَاءَاة لِلنَّاسِ , فَإِذَا خَلَا وَحْده عَمَل بِغَيْرِهِ . فَهُوَ فِي ظُلْمَة مَا أَقَامَ عَلَى ذَلِكَ . وَأَمَّا الظُّلُمَات فَالضَّلَالَة , وَأَمَّا الْبَرْق فَالْإِيمَان , وَهُمْ أَهْل الْكِتَاب . وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ , فَهُوَ رَجُل يَأْخُذ بِطَرَفِ الْحَقّ لَا يَسْتَطِيع أَنْ يُجَاوِزهُ . وَالرَّابِع مَا : 381 - حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن صَالِح , قَالَ : حَدَّثَنِي مُعَاوِيَة بْن صَالِح , عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة , عَنْ ابْن عَبَّاس { أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاء } وَهُوَ الْمَطَر , ضَرَبَ مَثَله فِي الْقُرْآن يَقُول : " فِيهِ ظُلُمَات " , يَقُول ابْتِلَاء . " وَرَعْد " يَقُول : فِيهِ تَخْوِيف , وَبَرْق { يَكَاد الْبَرْق يَخْطَف أَبْصَارهمْ } يَقُول : يَكَاد مُحْكَم الْقُرْآن يَدُلّ عَلَى عَوْرَات الْمُنَافِقِينَ , { كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ } يَقُول : كُلَّمَا أَصَابَ الْمُنَافِقُونَ مِنْ الْإِسْلَام عِزًّا اطْمَأَنُّوا , وَإِنْ أَصَابُوا الْإِسْلَام نَكْبَة , قَالُوا : ارْجِعُوا إلَى الْكُفْر يَقُول : { وَإِذَا أَظَلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا } كَقَوْلِهِ : { وَمِنْ النَّاس مَنْ يَعْبُد اللَّه عَلَى حَرْف فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْر اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَة } 22 11 إلَى آخِر الْآيَة . ثُمَّ اخْتَلَفَ سَائِر أَهْل التَّأْوِيل بَعْد ذَلِكَ فِي نَظِير مَا رُوِيَ عَنْ ابْن عَبَّاس مِنْ الِاخْتِلَاف . 382 - فَحَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو الْبَاهِلِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِم , عَنْ عِيسَى بْن مَيْمُون , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد , قَالَ : إضَاءَة الْبَرْق وَإِظْلَامه عَلَى نَحْو ذَلِكَ الْمَثَل . * وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَة , قَالَ : حَدَّثَنَا شِبْل عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد مِثْله . * حَدَّثَنَا عَمْرو بْن عَلِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِم , قَالَ : حَدَّثَنَا عِيسَى , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد مِثْله . 383 - وَحَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد بْن زُرَيْع , عَنْ سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْل اللَّه : { فِيهِ ظُلُمَات وَرَعْد وَبَرْق } إلَى قَوْله : { وَإِذَا أَظَلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا } , فَالْمُنَافِق إذَا رَأَى فِي الْإِسْلَام رَخَاء أَوْ طُمَأْنِينَة أَوَسَلْوَة مِنْ عَيْش , قَالَ : أَنَا مَعَكُمْ وَأَنَا مِنْكُمْ ; وَإِذَا أَصَابَتْهُ شِدَّة حقحق وَاَللَّه عِنْدهَا فَانْقَطَعَ بِهِ فَلَمْ يَصْبِر عَلَى بَلَائِهَا , وَلَمْ يَحْتَسِب أَجْرهَا وَلَمْ يَرْجُ عَاقِبَتهَا . 384 - وَحَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر , عَنْ قَتَادَةَ : { فِيهِ ظُلُمَات وَرَعْد وَبَرْق } يَقُول : أَخْبَرَ عَنْ قَوْم لَا يَسْمَعُونَ شَيْئًا إلَّا ظَنُّوا أَنَّهُمْ هَالِكُونَ فِيهِ حَذَرًا مِنْ الْمَوْت , وَاَللَّه مُحِيط بِالْكَافِرِينَ . ثُمَّ ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا آخَر فَقَالَ : { يَكَاد الْبَرْق يَخْطَف أَبْصَارهمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ } يَقُول : هَذَا الْمُنَافِق , إذَا كَثُرَ مَاله وَكَثُرَتْ مَاشِيَته وَأَصَابَتْهُ عَافِيَة قَالَ : لَمْ يُصِبْنِي مُنْذُ دَخَلْت فِي دِينِي هَذَا إلَّا خَيْر , { وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا } يَقُول : إذَا ذَهَبَتْ أَمْوَالهمْ وَهَلَكَتْ مَوَاشِيهمْ وَأَصَابَهُمْ الْبَلَاء قَامُوا مُتَحَيِّرِينَ . 385 - وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا إسْحَاق بْن الْحَجَّاج , عَنْ عَبْد اللَّه بْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس : { فِيهِ ظُلُمَات وَرَعْد وَبَرْق } قَالَ : مَثَلهمْ كَمَثَلِ قَوْم سَارُوا فِي لَيْلَة مُظْلِمَة وَلَهَا مَطَر وَرَعْد وَبَرْق عَلَى جَادَّة , فَلَمَّا أَبَرَقَتْ أَبْصَرُوا الْجَادَّة فَمَضَوْا فِيهَا , وَإِذَا ذَهَبَ الْبَرْق تَحَيَّرُوا . وَكَذَلِكَ الْمُنَافِق كُلَّمَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْإِخْلَاص أَضَاءَ لَهُ , فَإِذَا شَكَّ تَحَيَّرَ وَوَقَعَ فِي الظُّلْمَة , فَكَذَلِكَ قَوْله : { كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا } ثُمَّ قَالَ : فِي أَسَمَاعهمْ وَأَبْصَارهمْ الَّتِي عَاشُوا بِهَا فِي النَّاس { وَلَوْ شَاءَ اللَّه لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارهمْ } قَالَ أَبُو جَعْفَر : 386 - وَحَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو تميلة , عَنْ عُبَيْد بْن سُلَيْمَان الْبَاهِلِيّ , عَنْ الضَّحَّاك بْن مُزَاحِم : { فِيهِ ظُلُمَات } قَالَ : أَمَّا الظُّلُمَات فَالضَّلَالَة , وَالْبَرْق : الْإِيمَان . 387 - وَحَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : حَدَّثَنِي عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد فِي قَوْله : { فِيهِ ظُلُمَات وَرَعْد وَبَرْق } فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ : { إنَّ اللَّه عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير } قَالَ : هَذَا أَيْضًا مَثَل ضَرَبَهُ اللَّه لِلْمُنَافِقِينَ , كَانُوا قَدْ اسْتَنَارُوا بِالْإِسْلَامِ كَمَا اسْتَنَارَ هَذَا بِنُورِ هَذَا الْبَرْق . 388 - وَحَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , قَالَ : قَالَ ابْن جُرَيْجٍ : لَيْسَ شَيْء فِي الْأَرْض سَمِعَهُ الْمُنَافِق إلَّا ظَنَّ أَنَّهُ يُرَاد بِهِ وَأَنَّهُ الْمَوْت كَرَاهِيَة لَهُ , وَالْمُنَافِق أَكْرَه خَلْق اللَّه لِلْمَوْتِ , كَمَا إذَا كَانُوا بِالْبَرَازِ فِي الْمَطَر فَرُّوا مِنْ الصَّوَاعِق . 389 - حَدَّثَنَا عَمْرو بْن عَلِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَة , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ عَطَاء فِي قَوْله : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَات وَرَعْد وَبَرْق } قَالَ : مَثَل ضُرِبَ لِلْكَفَّارِ . وَهَذِهِ الْأَقْوَال الَّتِي ذَكَرْنَا عَمَّنْ رَوَيْنَاهَا عَنْهُ , فَإِنَّهَا وَإِنْ اخْتَلَفَتْ فِيهَا أَلْفَاظ قَائِلِيهَا مُتَقَارِبَات الْمَعَانِي لِأَنَّهَا جَمِيعًا تُنْبِئ عَنْ أَنَّ اللَّه ضَرَبَ الصَّيِّب لِظَاهِرِ إيمَان الْمُنَافِق مَثَلًا , وَمَثَل مَا فِيهِ مِنْ ظُلُمَات بِضَلَالَتِهِ , وَمَا فِيهِ مِنْ ضِيَاء بَرْق بِنُورِ إيمَانه , وَاتِّقَائِهِ مِنْ الصَّوَاعِق بِتَصْيِيرِ أَصَابِعه فِي أُذُنَيْهِ بِضَعْفِ جِنَانه وَنَخْب فُؤَاده مِنْ حُلُول عُقُوبَة اللَّه بِسَاحَتِهِ , وَمَشْيه فِي ضَوْء الْبَرْق بِاسْتِقَامَتِهِ عَلَى نُور إيمَانه , وَقِيَامه فِي الظَّلَام بِحِيرَتِهِ فِي ضَلَالَته وَارْتِكَاسه فِي عَمَهه فَتَأْوِيل الْآيَة إذًا إذَا كَانَ الْأَمْر عَلَى مَا وَصَفْنَا : أَوْ مِثْل مَا اسْتَضَاءَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ مِنْ قَيْلهمْ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِأَلْسِنَتِهِمْ : آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر وَبِمُحَمَّدٍ وَمَا جَاءَ بِهِ , حَتَّى صَارَ لَهُمْ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا أَحْكَام الْمُؤْمِنِينَ , وَهُمْ مَعَ إظْهَارهمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا يُظْهِرُونَ بِاَللَّهِ وَبِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْد اللَّه وَبِالْيَوْمِ الْآخِر , مُكَذِّبُونَ , وَلِخِلَافِ مَا يُظْهِرُونَ بِالْأَلْسُنِ فِي قُلُوبهمْ مُعْتَقِدُونَ , عَلَى عَمًى مِنْهُمْ وَجَهَالَة بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الضَّلَالَة لَا يَدْرُونَ أَيّ الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ قَدْ شُرِعَ لَهُمْ [ فِيهِ ] الْهِدَايَة فِي الْكُفْر الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ قَبْل إرْسَال اللَّه مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَرْسَلَهُ بِهِ إلَيْهِمْ , أَمْ فِي الَّذِي أَتَاهُمْ بِهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْد رَبّهمْ ؟ فَهُمْ مِنْ وَعِيد اللَّه إيَّاهُمْ عَلَى لِسَان مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجِلُونَ , وَهُمْ مَعَ وَجَلِهِمْ مِنْ ذَلِكَ فِي حَقِيقَته شَاكُّونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَض فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا . كَمَثَلِ غَيْث سَرَى لَيْلًا فِي مُزْنَة ظَلْمَاء وَلَيْلَة مُظْلِمَة يَحْدُوهَا رَعْد وَيَسْتَطِير فِي حَافَّاتهَا بَرْق شَدِيد لَمَعَانه كَثِير خَطَرَانه , يَكَاد سَنَا بَرْقه يَذْهَب بِالْأَبْصَارِ , وَيَخْتَطِفهَا مِنْ شِدَّة ضِيَائِهِ وَنُور شُعَاعه وَيَنْهَبِط مِنْهَا تَارَات صَوَاعِق تَكَاد تَدْعُ النَّفُوس مِنْ شِدَّة أَهْوَالهَا زَوَاهِق . فَالصَّيِّب مَثَل لِظَاهِرِ مَا أَظَهَرَ الْمُنَافِقُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنْ الْإِقْرَار وَالتَّصْدِيق , وَالظُّلُمَات الَّتِي هِيَ فِيهِ لِظُلُمَاتِ ما هم مُسْتَبْطِنُونَ مِنْ الشَّكّ وَالتَّكْذِيب وَمَرَض الْقُلُوب . وَأَمَّا الرَّعْد وَالصَّوَاعِق فَلِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْوَجَل مِنْ وَعِيد اللَّه إيَّاهُمْ عَلَى لِسَان رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آي كِتَابه , إمَّا فِي الْعَاجِل وَإِمَّا فِي الْآجِل , أَيْ يَحِلّ بِهِمْ مَعَ شَكّهمْ فِي ذَلِكَ : هَلْ هُوَ كَائِن , أَمْ غَيْر كَائِن , وَهَلْ لَهُ حَقِيقَة أَمْ ذَلِكَ كَذِب وَبَاطِل ؟ مَثَل . فَهُمْ مِنْ وَجِلهمْ أَنْ يَكُون ذَلِكَ حَقًّا يَتَّقُونَهُ بِالْإِقْرَارِ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَخَافَة عَلَى أَنْفُسهمْ مِنْ الْهَلَاك وَنُزُول النَّقَمَات وَذَلِكَ تَأْوِيل قَوْله جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { يَجْعَلُونَ أَصَابِعهمْ فِي آذَانهمْ مِنْ الصَّوَاعِق حَذَر الْمَوْت } يَعْنِي بِذَلِكَ يَتَّقُونَ وَعِيد اللَّه الَّذِي أَنْزَلَهُ فِي كِتَابه عَلَى لِسَان رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يُبْدُونَهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنْ ظَاهِر الْإِقْرَار , كَمَا يَتَّقِي الْخَائِف أَصْوَات الصَّوَاعِق بِتَغْطِيَةِ أُذُنِيهِ وَتَصْيِير أَسَابِعه فِيهَا حَذَرًا عَلَى نَفْسه مِنْهَا . وَقَدْ ذَكَرْنَا الْخَبَر الَّذِي رُوِيَ عَنْ ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ : إنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا إذَا حَضَرُوا مَجْلِس رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدَخَلُوا أَصَابِعهمْ فِي آذَانهمْ فَرَقًا مِنْ كَلَام رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْزِل فِيهِمْ شَيْء , أَوْ يُذْكَرُوا بِشَيْءٍ فَيُقَتَّلُوا . فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ صَرِيحًا , وَلَسْت أَعْلَمهُ صَحِيحًا , إذْ كُنْت بِإِسْنَادِهِ مُرْتَابًا ; فَإِنَّ الْقَوْل الَّذِي رُوِيَ عَنْهُمَا هُوَ الْقَوْل وَإِنْ يَكُنْ غَيْر صَحِيح , فَأَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَة مَا قُلْنَا ; لِأَنَّ اللَّه إنَّمَا قَصَّ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرهمْ فِي أَوَّل مُبْتَدَأ قَصَصهمْ أَنَّهُمْ يُخَادِعُونَ اللَّه وَرَسُوله وَالْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِمْ آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر مَعَ شَكّ قُلُوبهمْ وَمَرَض أَفْئِدَتهمْ فِي حَقِيقَة مَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ مِمَّا جَاءَهُمْ بِهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْد رَبّهمْ , وَبِذَلِكَ وَصَفَهُمْ فِي جَمِيع آي الْقُرْآن الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا صِفَتهمْ . فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَة . وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّه إدْخَالهمْ أَصَابِعهمْ فِي آذَانهمْ مَثَلًا لِاتِّقَائِهِمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُمْ يَتَّقُونَهُمْ بِهِ كَمَا يَتَّقِي سَامِع صَوْت الصَّاعِقَة بِإِدْخَالِ أَصَابِعه فِي أُذُنَيْهِ . وَذَلِكَ مِنْ الْمَثَل نَظِير تَمْثِيل اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ مَا أُنْزِلَ فِيهِمْ مِنْ الْوَعِيد فِي آي كِتَابه بِأَصْوَاتِ الصَّوَاعِق , وَكَذَلِكَ قَوْله : { حَذَر الْمَوْت } جَعَلَهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مَثَلًا لِخَوْفِهِمْ وَإِشْفَاقهمْ مِنْ حُلُول عَاجِل الْعِقَاب الْمُهْلِك الَّذِي تَوَعَّدَهُ بِسَاحَتِهِمْ , كَمَا يَجْعَل سَامِع أَصْوَات الصَّوَاعِق أَصَابِعه فِي أُذُنَيْهِ حَذَر الْعَطْب وَالْمَوْت عَلَى نَفْسه أَتُزْهَقُ مِنْ شِدَّتهَا . إنَّمَا نَصَبَ قَوْله : { حَذَر الْمَوْت } عَلَى نَحْو مَا تَنْصِب بِهِ التَّكْرِمَة فِي قَوْلك : زُرْتُك تَكْرِمَةً لَك , تُرِيد بِذَلِكَ : مِنْ أَجْل تَكْرِمَتك , وَكَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا } 21 90 عَلَى التَّفْسِير لِلْفِعْلِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ كَانَ يَتَأَوَّل قَوْله : { حَذَر الْمَوْت } : حَذَرًا مِنْ الْمَوْت . 390 - حَدَّثَنَا بِذَلِكَ الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَنْبَأَنَا مَعْمَر عَنْهُ . وَذَلِكَ مَذْهَب مِنْ التَّأْوِيل ضَعِيف لِأَنَّ الْقَوْم لَمْ يَجْعَلُوا أَصَابِعهمْ فِي آذَانهمْ حَذَرًا مِنْ الْمَوْت فَيَكُون مَعْنَاهُ مَا قَالَ إنَّهُ مُرَاد بِهِ حَذَرًا مِنْ الْمَوْت , وَإِنَّمَا جَعَلُوهَا مِنْ حَذَارِ الْمَوْت فِي آذَانهمْ . وَكَانَ قَتَادَةَ وَابْن جُرَيْجٍ يَتَأَوَّلَانِ قَوْله : { يَجْعَلُونَ أَصَابِعهمْ فِي آذَانهمْ مِنْ الصَّوَاعِق حَذَر الْمَوْت } أَنَّ ذَلِكَ مِنْ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ صِفَة لِلْمُنَافِقِينَ بِالْهَلَعِ , وَضَعْف الْقُلُوب , وَكَرَاهَة الْمَوْت , يَتَأَوَّلَانِ فِي ذَلِكَ قَوْله : { يَحْسَبُونَ كُلّ صَيْحَة عَلَيْهِمْ } 63 4 وَلَيْسَ الْأَمْر فِي ذَلِكَ عِنْدِي كَاَلَّذِي قَالَا , وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِيهِمْ مِنْ لَا تُنْكِر شَجَاعَته وَلَا تُدْفَع بَسَالَته كَقُزْمَانَ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مَقَامه أَحَد مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بِأَحَدٍ أَوْ دُونه . وَإِنَّمَا كَانَتْ كَرَاهَتهمْ شُهُود الْمَشَاهِد مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرْكهمْ مُعَاوَنَته عَلَى أَعْدَائِهِ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا أَدِيَانهمْ مُسْتَبْصِرِينَ وَلَا بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصَدِّقِينَ , فَكَانُوا لِلْحُضُورِ مَعَهُ مَشَاهِده كَارِهِينَ , إلَّا بِالتَّخْذِيلِ عَنْهُ . وَلَكِنْ ذَلِكَ وَصْف مِنْ اللَّه جَلَّ ثَنَائِهِمْ لَهُمْ بِالْإِشْفَاقِ مِنْ حُلُول عُقُوبَة اللَّه بِهِمْ عَلَى نِفَاقهمْ , إمَّا عَاجِلًا , وَإِمَّا آجِلًا .

ثُمَّ أَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ نَعَتَهُمْ النَّعْت الَّذِي ذَكَرَ وَضَرَبَ لَهُمْ الْأَمْثَال الَّتِي وَصَفَ وَإِنْ اتَّقَوْا عِقَابه وَأَشْفَقُوا عَذَابه إشْفَاق الْجَاعِل فِي أُذُنَيْهِ أَصَابِعه حِذَار حُلُول الْوَعِيد الَّذِي تَوَعَّدَهُمْ بِهِ أَيْ كِتَابه , غَيْر مُنْجِيهمْ ذَلِكَ مِنْ نُزُوله بِعَقْوَتِهِمْ وَحُلُوله بِسَاحَتِهِمْ , إمَّا عَاجِلًا فِي الدُّنْيَا , وَإِمَّا آجِلًا فِي الْآخِرَة , لِلَّذِي فِي قُلُوبهمْ مِنْ مَرَضهَا وَالشَّكّ فِي اعْتِقَادهَا , فَقَالَ : { وَاَللَّه مُحِيط بِالْكَافِرِينَ } بِمَعْنَى جَامِعهمْ فَمَحِلّ بِهِمْ عُقُوبَته . وَكَانَ مُجَاهِد يَتَأَوَّل ذَلِكَ كَمَا : 391 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو الْبَاهِلِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِم عَنْ عِيسَى بْن مَيْمُون , عَنْ عَبْد اللَّه بْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد فِي قَوْل اللَّه : { وَاَللَّه مُحِيط بِالْكَافِرِينَ } قَالَ : جَامِعهمْ فِي جَهَنَّم . وَأَمَّا ابْن عَبَّاس فَرُوِيَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ مَا : 392 - حَدَّثَنِي بِهِ ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة , عَنْ ابْن إسْحَاق , عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس : { وَاَللَّه مُحِيط بِالْكَافِرِينَ } يَقُول : اللَّه مُنْزِل ذَلِكَ بِهِمْ مِنْ النِّقْمَة * حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنَا حَجَّاج عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ مُجَاهِد فِي قَوْله : { وَاَللَّه مُحِيط بِالْكَافِرِينَ } قَالَ : جَامِعهمْ .
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌسورة البقرة الآية رقم 20
ثُمَّ عَادَ جَلَّ ذِكْره إلَى نَعْت إقْرَار الْمُنَافِقِينَ بِأَلْسِنَتِهِمْ , وَالْخَبَر عَنْ وَعَنْهُمْ وَعَنْ نِفَاقهمْ , وَإِتْمَام الْمَثَل الَّذِي ابْتَدَأَ ضَرْبه لَهُمْ وَلِشَكِّهِمْ وَمَرَض قُلُوبهمْ , فَقَالَ : { يَكَاد الْبَرْق } يَعْنِي بِالْبَرْقِ : الْإِقْرَار الَّذِي أَضَرُّوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ بِاَللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْد رَبّهمْ , فَجَعَلَ الْبَرْق لَهُ مَثَلًا عَلَى مَا قَدَّمْنَا صِفَته . { يَخْطَف أَبْصَارهمْ } يَعْنِي : يَذْهَب بِهَا وَيَسْتَلِبهَا وَيَلْتَمِعهَا مِنْ شِدَّة ضِيَائِهِ وَنُور شُعَاعه . كَمَا : 393 - حُدِّثْت عَنْ المنجاب بْن الْحَارِث , قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْر بْن عَمَّار , عَنْ أَبِي رَوْق عَنْ الضَّحَّاك , عَنْ ابْن عَبَّاس , فِي قَوْله : { يَكَاد الْبَرْق يَخْطَف أَبْصَارهمْ } قَالَ : يَلْتَمِع أَبْصَارهمْ وَلَمَّا يَفْعَل . قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَالْخَطْف : السَّلَب , وَمِنْهُ الْخَبَر الَّذِي رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ " أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْخَطْفَة " يَعْنِي بِهَا النُّهْبَة ; وَمِنْهُ قِيلَ لِلْخَطَّافِ الَّذِي يَخْرَج بِهِ الدَّلْو مِنْ الْبِئْر خُطَّاف لِاخْتِطَافِهِ وَاسْتِلَابه مَا عَلَّقَ بِهِ . وَمِنْهُ قَوْل نَابِغَة بَنِي ذُبْيَان : خَطَاطِيف حُجْن فِي حِبَال مَتِينَة تَمُدّ بِهَا أَيْدٍ إلَيْك نَوَازِع فَجَعَلَ ضَوْء الْبَرْق وَشِدَّة شُعَاع نُوره كَضَوْءِ إقْرَارهمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ وبِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْد اللَّه وَالْيَوْم الْآخِر وَشُعَاع نُوره , مَثَلًا


ثُمَّ قَالَ تَعَالَى ذِكْره { كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ } يَعْنِي أَنَّ الْبَرْق كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ , وَجَعَلَ الْبَرْق لِإِيمَانِهِمْ مَثَلًا . وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ الْإِيمَان وَإِضَاءَتهمْ لَهُمْ أَنْ يَرَوْا فِيهِ مَا يُعْجِبهُمْ فِي عَاجِل دُنْيَاهُمْ مِنْ النُّصْرَة عَلَى الْأَعْدَاء , وَإِصَابَة الْغَنَائِم فِي الْمَغَازِي , وَكَثْرَة الْفُتُوح , وَمَنَافِعهَا , وَالثَّرَاء فِي الْأَمْوَال , وَالسَّلَامَة فِي الْأَبَدَانِ وَالْأَهْل وَالْأَوْلَاد , فَذَلِكَ إضَاءَته لَهُمْ ; لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يُظْهِرُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا يُظْهِرُونَهُ مِنْ الْإِقْرَار ابْتِغَاء ذَلِكَ , وَمُدَافَعَة عَنْ أَنْفُسهمْ وَأَمْوَالهمْ وَأَهْلِيهِمْ وَذَرَارِيّهمْ , وَهُمْ كَمَا وَصَفَهُمْ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ : { وَمِنْ النَّاس مَنْ يَعْبُد اللَّه عَلَى حَرْف فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْر اطْمَأَنَّ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَة انْقَلَبَ عَلَى وَجْهه } 22 11

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ : { مَشَوْا فِيهِ } مَشَوْا فِي ضَوْء الْبَرْق . وَإِنَّمَا ذَلِكَ مَثَل لِإِقْرَارِهِمْ عَلَى مَا وَصَفْنَا . فَمَعْنَاهُ : كُلَّمَا رَأَوْا فِي الْإِيمَان مَا يُعْجِبهُمْ فِي عَاجِل دُنْيَاهُمْ عَلَى مَا وَصَفْنَا , ثَبَتُوا عَلَيْهِ وَأَقَامُوا فِيهِ , كَمَا يَمْشِي السَّائِر فِي ظُلْمَة اللَّيْل وَظُلْمَة الصَّيِّب الَّذِي وَصَفَهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ , إذَا بَرَقَتْ فِيهَا بَارِقَة أَبْصَرَ طَرِيقه فِيهَا ;

{ وَإِذَا أَظَلَمَ } يَعْنِي ذَهَبَ ضَوْء الْبَرْق عَنْهُمْ وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ : " عَلَيْهِمْ " : عَلَى السَّائِرِينَ فِي الصَّيِّب الَّذِي وَصَفَ جَلَّ ذِكْره , وَذَلِكَ لِلْمُنَافِقِينَ مَثَل . وَمَعْنَى إظْلَام ذَلِكَ : أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كُلَّمَا لَمْ يَرَوْا فِي الْإِسْلَام مَا يُعْجِبهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ عِنْد ابْتِلَاء اللَّه مُؤْمِنِي عِبَاده بِالضَّرَّاءِ وَتَمْحِيصه إيَّاهُمْ بِالشَّدَائِدِ وَالْبَلَاء مِنْ إخْفَاقهمْ فِي مَغْزَاهُمْ وَإِنَالَة عَدُوّهُمْ مِنْهُمْ , أَوْ إدْبَار مِنْ دُنْيَاهُمْ عَنْهُمْ ; أَقَامُوا عَلَى نِفَاقهمْ وَثَبَتُوا عَلَى ضَلَالَتهمْ كَمَا قَامَ السَّائِر فِي الصَّيِّب الَّذِي وَصَفَ جَلَّ ذِكْره إذَا أَظَلَمَ وَخَفَتَ ضَوْء الْبَرْق , فَحَارَ فِي طَرِيقه فَلَمْ يَعْرِف مَنْهَجه .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَلَوْ شَاءَ اللَّه لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارهمْ } قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَإِنَّمَا خَصَّ جَلَّ ذِكْره السَّمْع وَالْأَبْصَار بِأَنَّهُ لَوْ شَاءَ أَذَهَبَهَا مِنْ الْمُنَافِقِينَ دُون سَائِر أَعْضَاء أَجْسَامهمْ لِلَّذِي جَرَى مِنْ ذِكْرهَا فِي الْآيَتَيْنِ , أَعْنِي قَوْله : { يَجْعَلُونَ أَصَابِعهمْ فِي آذَانهمْ مِنْ الصَّوَاعِق } وَقَوْله : { يَكَاد الْبَرْق يَخْطَف أَبْصَارهمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ } فَجَرَى ذِكْرهَا فِي الْآيَتَيْنِ عَلَى وَجْه الْمَثَل . ثُمَّ عَقَّبَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ذِكْر ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَوْ شَاءَ أَذَهَبَهُ مِنْ الْمُنَافِقِينَ عُقُوبَة لَهُمْ عَلَى نِفَاقهمْ وَكُفْرهمْ , وَعِيدًا مِنْ اللَّه لَهُمْ , كَمَا تَوَعَّدَهُمْ فِي الْآيَة الَّتِي قَبْلهَا بِقَوْلِهِ : { وَاَللَّه مُحِيط بِالْكَافِرِينَ } وَاصِفًا بِذَلِكَ جَلَّ ذِكْره نَفْسه أَنَّهُ الْمُقْتَدِر عَلَيْهِمْ وَعَلَى جَمْعهمْ , لِإِحْلَالِ سَخَطه بِهِمْ , وَإِنْزَال نِقْمَته عَلَيْهِمْ , وَمُحَذِّرهمْ بِذَلِكَ سَطْوَته , وَمُخَوِّفهمْ بِهِ عُقُوبَته , لِيَتَّقُوا بَأْسه , وَيُسَارِعُوا إلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ . كَمَا : 394 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة , عَنْ ابْن إسْحَاق , عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد , عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس : { وَلَوْ شَاءَ اللَّه لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارهمْ } لَمَّا تَرَكُوا مِنْ الْحَقّ بَعْد مَعْرِفَته . 395 - وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا إسْحَاق , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس , قَالَ : ثُمَّ قَالَ يَعْنِي قَالَ اللَّه - فِي سَمَاعهمْ يَعْنِي أَسَمَاع الْمُنَافِقِينَ وَأَبْصَارهمْ الَّتِي عَاشُوا بِهَا فِي النَّاس - : { وَلَوْ شَاءَ اللَّه لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارهمْ } . قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَإِنَّمَا مَعْنَى قَوْله : { لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارهمْ } لَأَذْهَبَ سَمْعهمْ وَأَبْصَارهمْ , وَلَكِنَّ الْعَرَب إذَا أَدَخَلُوا الْبَاء فِي مِثْل ذَلِكَ قَالُوا : ذَهَبْت بِبَصَرِهِ , وَإِذَا حَذَفُوا الْبَاء قَالُوا : أَذَهَبْت بَصَره , كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { آتِنَا غَدَاءَنَا } 18 62 وَلَوْ أُدْخِلَتْ الْبَاء فِي الْغَدَاء لَقِيلَ : ائْتِنَا بِغَدَائِنَا . قَالَ أَبُو جَعْفَر : فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِل : وَكَيْفَ قِيلَ : { لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ } فَوَحَّدَ , وَقَالَ : { وَأَبْصَارهمْ } فَجَمَعَ ؟ وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْخَبَر فِي السَّمْع خَبَر عَنْ سَمْع جَمَاعَة , كَمَا الْخَبَر فِي الْأَبْصَار خَبَر عَنْ أَبْصَار جَمَاعَة ؟ قِيلَ : قَدْ اخْتَلَفَ أَهْل الْعَرَبِيَّة فِي ذَلِكَ , فَقَالَ بَعْض نَحْوِيِّي الْكُوفَة : وَحَّدَ السَّمْع لِأَنَّهُ عَنَى بِهِ الْمَصْدَر وَقَصَدَ بِهِ الْخَرْق , وَجَمَعَ الْأَبْصَار لِأَنَّهُ عَنَى بِهِ الْأَعْيُن . وَكَانَ بَعْض نَحْوِيِّي الْبَصْرَة يَزْعُم أَنَّ السَّمْع وَإِنْ كَانَ فِي لَفْظ وَاحِد فَإِنَّهُ بِمَعْنَى جَمَاعَة , وَيَحْتَجّ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّه : { لَا يَرْتَدّ إلَيْهِمْ طَرْفهمْ } 14 43 يُرِيد لَا تَرْتَدّ إلَيْهِمْ أَطْرَافهمْ , وَبِقَوْلِهِ : { وَيُوَلُّونَ الدُّبُر } 54 45 يُرَاد بِهِ أَدْبَارهمْ . وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ عِنْدِي لِأَنَّ فِي الْكَلَام مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ مُرَاد بِهِ الْجَمْع , فَكَانَ فِيهِ دَلَالَة عَلَى الْمُرَاد مِنْهُ , وَأَدَاء مَعْنَى الْوَاحِد مِنْ السَّمْع عَنْ مَعْنَى جَمَاعَة مُغْنِيًا عَنْ جِمَاعِهِ , وَلَوْ فَعَلَ بِالْبَصَرِ نَظِير الَّذِي فَعَلَ بِالسَّمْعِ , أَوْ فَعَلَ بِالسَّمْعِ نَظِير الَّذِي فَعَلَ بِالْأَبْصَارِ مِنْ الْجَمْع وَالتَّوْحِيد , كَانَ فَصِيحًا صَحِيحًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْعِلَّة ; كَمَا قَالَ الشَّاعِر : كُلُوا فِي بَعْض بَطْنكُمْ تَعِفُّوا فَإِنَّ زَمَاننَا زَمَن خَمِيص فَوَحَّدَ الْبَطْن , وَالْمُرَاد مِنْهُ الْبُطُون لِمَا وَصَفْنَا مِنْ الْعِلَّة .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { إنَّ اللَّه عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير } قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَإِنَّمَا وَصَفَ اللَّه نَفْسه جَلَّ ذِكْره بِالْقُدْرَةِ عَلَى كُلّ شَيْء فِي هَذَا الْمَوْضِع , لِأَنَّهُ حَذَّرَ الْمُنَافِقِينَ بَأْسه وَسَطْوَته وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ بِهِمْ مُحِيط وَعَلَى إذْهَاب أَسَمَاعهمْ وَأَبْصَارهمْ قَدِير , ثُمَّ قَالَ : فَاتَّقُونِي أَيّهَا الْمُنَافِقُونَ وَاحْذَرُوا خِدَاعِي وَخِدَاع رَسُولِي وَأَهْل الْإِيمَان بِي لَا أُحِلّ بِكُمْ نِقْمَتِي فَإِنِّي عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى غَيْره مِنْ الْأَشْيَاء قَدِير . وَمَعْنَى قَدِير : قَادِر , كَمَا مَعْنَى عَلِيم : عَالِم , عَلَى مَا وَصَفْت فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ نَظَائِره مِنْ زِيَادَة مَعْنَى فَعِيل عَلَى فَاعِل فِي الْمَدْح وَالذَّمّ .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَسورة البقرة الآية رقم 21
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيّهَا النَّاس اُعْبُدُوا رَبّكُمْ وَاَلَّذِي خَلَقَكُمْ وَاَلَّذِينَ مِنْ قَبْلكُمْ } قَالَ أَبُو جَعْفَر : فَأَمَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الْفَرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ أَخْبَرَ اللَّه عَنْ أَحَدهمَا أَنَّهُ سَوَاء عَلَيْهِمْ أَأُنْذِرُوا أَمْ لَمْ يُنْذَرُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ , لِطَبْعِهِ عَلَى قُلُوبهمْ , وَعَلَى سَمْعهمْ وَأَبْصَارهمْ , وَعَنْ الْآخَر أَنَّهُ يُخَادِع اللَّه وَاَلَّذِينَ آمَنُوا بِمَا يُبْدِي بِلِسَانِهِ مِنْ قَبْله : آمَنَّا بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر , مَعَ اسْتِبْطَانه خِلَاف ذَلِكَ , وَمَرَض قَلْبه , وَشَكّه فِي حَقِيقَة مَا يُبْدِي مِنْ ذَلِكَ ; وَغَيْرهمْ مِنْ سَائِر خَلْقه الْمُكَلَّفِينَ , بِالِاسْتِكَانَةِ وَالْخُضُوع لَهُ بِالطَّاعَةِ , وَإِفْرَاد الرُّبُوبِيَّة لَهُ , وَالْعِبَادَة دُون الْأَوْثَان وَالْأَصْنَام وَالْآلِهَة ; لِأَنَّ جَلَّ ذِكْره هُوَ خَالِقهمْ وَخَالِق مَنْ قَبْلهمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَجْدَادهمْ , وَخَالِق أَصْنَامهمْ وَأَوْثَانهمْ وَآلِهَتهمْ , فَقَالَ لَهُمْ جَلَّ ذِكْره : فَاَلَّذِي خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ آبَاءَكُمْ وَأَجْدَادكُمْ وَسَائِر الْخَلْق غَيْركُمْ وَهُوَ يَقْدِر عَلَى ضَرّكُمْ وَنَفْعكُمْ أَوْلَى بِالطَّاعَةِ مِمَّنْ لَا يَقْدِر لَكُمْ عَلَى نَفْع وَلَا ضَرّ . وَكَانَ ابْن عَبَّاس فِيمَا رُوِيَ لَنَا عَنْهُ يَقُول فِي ذَلِكَ نَظِير مَا قُلْنَا فِيهِ , غَيْر أَنَّهُ ذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُول فِي مَعْنَى : { اُعْبُدُوا رَبّكُمْ } وَحِّدُوا رَبّكُمْ . وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابنَا هَذَا عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْعِبَادَة الْخُضُوع لِلَّهِ بِالطَّاعَةِ وَالتَّذَلُّل لَهُ بِالِاسْتِكَانَةِ . وَاَلَّذِي أَرَادَ ابْن عَبَّاس إنْ شَاءَ اللَّه بِقَوْلِهِ فِي تَأْوِيل قَوْله : { اُعْبُدُوا رَبّكُمْ } وَحِّدُوهُ : أَيْ أَفْرِدُوا الطَّاعَة وَالْعِبَادَة لِرَبِّكُمْ دُون سَائِر خَلْقه . 396 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة , عَنْ ابْن إسْحَاق , عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد , عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس , قَالَ : قَالَ اللَّه : { يَا أَيّهَا النَّاس اُعْبُدُوا رَبّكُمْ } لِلْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا مِنْ الْكُفَّار وَالْمُنَافِقِينَ , أَيْ وَحِّدُوا رَبّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَاَلَّذِينَ مِنْ قَبْلكُمْ . 397 - وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو بْن حَمَّاد , عَنْ أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ , عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة , عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَا أَيّهَا النَّاس اُعْبُدُوا رَبّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَاَلَّذِينَ مِنْ قَبْلكُمْ } يَقُول : خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلكُمْ . قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَهَذِهِ الْآيَة مِنْ أَدَلّ دَلِيل عَلَى فَسَاد قَوْل مَنْ زَعَمَ أَنَّ تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق إلَّا بِمَعُونَةِ اللَّه غَيْر جَائِز إلَّا بَعْد إعْطَاء اللَّه الْمُكَلَّف الْمَعُونَة عَلَى مَا كَلَّفَهُ . وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه أَمَرَ مَنْ وَصَفْنَا بِعِبَادَتِهِ وَالتَّوْبَة مِنْ كُفْره , بَعْد إخْبَاره عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَأَنَّهُمْ عَنْ ضَلَالَتهمْ لَا يَرْجِعُونَ .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَتَأْوِيل ذَلِكَ : لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ بِعِبَادَتِكُمْ رَبّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ , وَطَاعَتكُمْ إيَّاهُ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ , وَإِفْرَادكُمْ لَهُ الْعِبَادَة , لِتَتَّقُوا سَخَطه وَغَضَبه أَنْ يَحِلّ عَلَيْكُمْ , وَتَكُونُوا مِنْ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ رَضِيَ عَنْهُمْ رَبّهمْ . وَكَانَ مُجَاهِد يَقُول فِي تَأْوِيل قَوْله : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } : تُطِيعُونَ 398 - حَدَّثَنَا ابْن وَكِيع , قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ سُفْيَان , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد فِي قَوْله : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } قَالَ : لَعَلَّكُمْ تُطِيعُونَ . قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَاَلَّذِي أَظُنّ أَنَّ مُجَاهِدًا أَرَادَ بِقَوْلِهِ هَذَا : لَعَلَّكُمْ أَنْ تَتَّقُوا رَبّكُمْ بِطَاعَتِكُمْ إيَّاهُ وَإِقْلَاعكُمْ عَنْ ضَلَالَتكُمْ . قَالَ أَبُو جَعْفَر : فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِل : فَكَيْف قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ؟ أَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِمَا يَصِير إلَيْهِ أَمَرَهُمْ إذَا هُمْ عَبَدُوهُ وَأَطَاعُوهُ , حَتَّى قَالَ لَهُمْ : لَعَلَّكُمْ إذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ أَنْ تَتَّقُوا , فَأَخْرَجَ الْخَبَر عَنْ عَاقِبَة عِبَادَتهمْ إيَّاهُ مَخْرَج الشَّكّ ؟ قِيلَ لَهُ : ذَلِكَ عَلَى غَيْر الْمَعْنَى الَّذِي تَوَهَّمَتْ , وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ : اُعْبُدُوا رَبّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَاَلَّذِينَ مِنْ قَبْلكُمْ , لِتَتَّقُوهُ بِطَاعَتِهِ وَتَوْحِيده وَإِفْرَاده بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْعِبَادَة , كَمَا قَالَ الشَّاعِر : وَقُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا الْحُرُوب لَعَلَّنَا نَكُفّ وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلّ مَوْثِق فَلَمَّا كَفْننَا الْحَرْب كَانَتْ عُهُودكُمْ كَلَمْحِ سَرَاب فِي الْفَلَا مُتَأَلِّق يُرِيد بِذَلِكَ : قُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا لِنَكُفّ . وَذَلِكَ أَنَّ " لَعَلَّ " فِي هَذَا الْمَوْضِع لَوْ كَانَ شَكًّا لَمْ يَكُونُوا وَثَّقُوا لَهُمْ كُلّ مَوْثِق .
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَسورة البقرة الآية رقم 22
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْض فِرَاشًا } وَقَوْله : { الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْض فِرَاشًا } مَرْدُود عَلَى " الَّذِي " الْأُولَى فِي قَوْله : { اُعْبُدُوا رَبّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ } وَهُمَا جَمِيعًا مِنْ نَعْت " رَبّكُمْ " , فَكَأَنَّهُ قَالَ : اُعْبُدُوا رَبّكُمْ الْخَالِقَكُمْ , وَالْخَالِق الَّذِينَ مِنْ قَبْلكُمْ , الْجَاعِل لَكُمْ الْأَرْض فِرَاشًا . يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهُ جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْض مِهَادًا وَمَوْطِئًا وَقَرَارًا يَسْتَقِرّ عَلَيْهَا . يَذْكُر رَبّنَا جَلَّ ذِكْره بِذَلِكَ مِنْ قَيْله زِيَادَة نِعَمه عِنْدهمْ وَآلَائِهِ لَدَيْهِمْ , لِيَذْكُرُوا أَيَادِيه عِنْدهمْ فَيَنِيبُوا إلَى طَاعَته , تَعَطُّفًا مِنْهُ بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ , وَرَأْفَة مِنْهُ بِهِمْ , وَرَحْمَة لَهُمْ , مِنْ غَيْر مَا حَاجَة مِنْهُ إلَى عِبَادَتهمْ , وَلَكِنْ لِيُتِمّ نِعْمَته عَلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ . كَمَا : 399 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ , حَدَّثَنَا عَمْرو , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ , عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة , عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْض فِرَاشًا } فَهِيَ فِرَاش يَمْشِي عَلَيْهَا , وَهِيَ الْمِهَاد وَالْقَرَار . 400 - وَحَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد بْن زُرَيْع , عَنْ سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ : { الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْض فِرَاشًا } قَالَ : مِهَادًا لَكُمْ . 401 - وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا إسْحَاق , عَنْ عَبْد اللَّه بْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس : { الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْض فِرَاشًا } : أَيْ مِهَادًا .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَالسَّمَاء بِنَاء } قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ السَّمَاء سَمَاء لِعُلُوِّهَا عَلَى الْأَرْض وَعَلَى سُكَّانهَا مِنْ خَلْقه , وَكُلّ شَيْء كَانَ فَوْق شَيْء آخَر فَهُوَ لِمَا تَحْته سَمَاء . وَلِذَلِكَ قِيلَ لِسَقْفِ الْبَيْت سَمَاؤُهُ , لِأَنَّهُ فَوْقه مُرْتَفِع عَلَيْهِ وَلِذَلِكَ قِيلَ : سَمَا فُلَان لِفُلَانٍ : إذَا أَشْرَفَ لَهُ وَقَصَدَ نَحْوه عَالِيًا عَلَيْهِ , كَمَا قَالَ الْفَرَزْدَق : سَمَوْنَا لِنَجْرَان الْيَمَانِي وَأَهْله وَنَجْرَان أَرْض لَمْ تُدَيَّث مَقَاوِله وَكَمَا قَالَ نَابِغَة بَنِي ذُبْيَان : سَمَتْ لِي نَظْرَة فَرَأَيْت مِنْهَا تُحَيْتَ الْخِدْر وَاضِعَة الْقِرَام يُرِيد بِذَلِكَ : أَشْرَفَتْ لِي نَظْرَة وَبَدَتْ , فَكَذَلِكَ السَّمَاء : سُمِّيَتْ الْأَرْض سَمَاء لِعُلُوِّهَا وَإِشْرَافهَا عَلَيْهَا . كَمَا : 402 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ , عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة , عَنْ ابْن مَسْعُود وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَالسَّمَاء بِنَاء } , فَبِنَاء السَّمَاء عَلَى الْأَرْض كَهَيْئَةِ الْقُبَّة , وَهِيَ سَقْف عَلَى الْأَرْض . 403 - وَحَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد , عَنْ سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْل اللَّه { وَالسَّمَاء بِنَاء } قَالَ : جَعَلَ السَّمَاء سَقْفًا لَك . وَإِنَّمَا ذَكَرَ السَّمَاء وَالْأَرْض جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِيمَا عَدَّدَ عَلَيْهِمْ مِنْ نِعَمه الَّتِي أَنْعَمَهَا عَلَيْهِمْ , لِأَنَّ مِنْهُمَا أَقْوَاتهمْ وَأَرْزَاقهمْ وَمَعَايِشهمْ , وَبِهِمَا قِوَام دُنْيَاهُمْ , فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ الَّذِي خَلَقَهُمَا وَالْمُسْتَوْجِب مِنْهُمْ الشُّكْر وَالْعِبَادَة دُون الْأَصْنَام وَالْأَوْثَان الَّتِي لَا تَضُرّ وَلَا تَنْفَع .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَات رِزْقًا لَكُمْ } يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهُ أَنَزَلَ مِنْ السَّمَاء مَطَرًا , فَأَخْرَجَ بِذَلِكَ الْمَطَر مِمَّا أَنْبَتُوهُ فِي الْأَرْض مِنْ زَرْعهمْ وَغَرْسهمْ ثَمَرَات رِزْقًا لَهُمْ غِذَاء وَأَقْوَاتًا . فَنَبَّهَهُمْ بِذَلِكَ عَلَى قُدْرَته وَسُلْطَانه , وَذَكَّرَهُمْ بِهِ آلَاءَهُ لَدَيْهِمْ , وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَهُمْ وَهُوَ الَّذِي يَرْزُقهُمْ وَيَكْفُلهُمْ دُون مَنْ جَعَلُوهُ لَهُ نِدًّا وَعَدْلًا مِنْ الْأَوْثَان وَالْآلِهَة , ثُمَّ زَجَرَهُمْ عَنْ أَنْ يَجْعَلُوا لَهُ نِدًّا مَعَ عِلْمهمْ بِأَنَّ ذَلِكَ كَمَا أَخْبَرَهُمْ , وَأَنَّهُ لَا نِدّ لَهُ وَلَا عَدْل , وَلَا لَهُمْ نَافِع وَلَا ضَارّ وَلَا خَالِق وَلَا رَازِق سِوَاهُ .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَالْأَنْدَاد , جَمْع نِدّ , وَالنِّدّ : الْعَدْل وَالْمِثْل , كَمَا قَالَ حَسَّان بْن ثَابِت : أَتَهْجُوهُ وَلَيْسَتْ لَهُ بِنِدٍّ فَشَرّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاء يَعْنِي بِقَوْلِهِ : " وَلَسْت لَهُ بِنِدٍّ " : لَسْت لَهُ بِمِثْلٍ وَلَا عَدْل . وَكُلّ شَيْء كَانَ نَظِير الشَّيْء وَشَبِيهًا فَهُوَ لَهُ نِدّ . كَمَا : 404 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد , عَنْ سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } أَيْ عُدَلَاء . 405 وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو حُذَيْفَة , قَالَ : حَدَّثَنَا شِبْل , عَنْ ابْن أَبِي نَحِيح , عَنْ مُجَاهِد : { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } أَيْ عُدَلَاء . 406 - وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط عَنْ السُّدِّيّ عَنْ خَبَر ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة , عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } قَالَ : أَكْفَاء مِنْ الرِّجَال تُطِيعُونَهُمْ فِي مَعْصِيَة اللَّه . 407 - وَحَدَّثَنِي يُونُس بْن عَبْد الْأَعْلَى قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب قَالَ : قَالَ ابْن زَيْد فِي قَوْل اللَّه : { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } قَالَ : الْأَنْدَاد : الْآلِهَة الَّتِي جَعَلُوهَا مَعَهُ وَجَعَلُوا لَهَا مِثْل مَا جَعَلُوا لَهُ . 408 - وَحُدِّثْت عَنْ المنجاب , قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْر , عَنْ أَبِي رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك , عَنْ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله : { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } قَالَ : أَشْبَاهًا . 409 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن سِنَان , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِم عَنْ شُبَيْب عَنْ عِكْرِمَة : { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } ; أَيْ تَقُولُوا : لَوْلَا كَلْبنَا لَدَخَلَ عَلَيْنَا اللِّصّ الدَّار , لَوْلَا كَلْبنَا صَاحَ فِي الدَّار وَنَحْو ذَلِكَ . فَنَهَاهُمْ اللَّه تَعَالَى أَنْ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْء وَأَنْ يَعْبُدُوا غَيْره , أَوْ يَتَّخِذُوا لَهُ نِدًّا وَعَدْلًا فِي الطَّاعَة , فَقَالَ : كَمَا لَا شَرِيك لِي فِي خَلْقكُمْ وَفِي رِزْقكُمْ الَّذِي أَرَزَقَكُمْ , وَمُلْكِي إيَّاكُمْ , وَنِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتهَا عَلَيْكُمْ , فَكَذَلِكَ فَأَفْرَدُوا لِي الطَّاعَة , وَأَخْلِصُوا لِي الْعِبَادَة , وَلَا تَجْعَلُوا لِي شَرِيكًا وَنِدًّا مِنْ خَلْقِي , فَإِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ كُلّ نِعْمَة عَلَيْكُمْ مِنِّي .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي الَّذِينَ عَنَوْا بِهَذِهِ الْآيَة , فَقَالَ بَعْضهمْ : عَنَى بِهَا جَمِيع الْمُشْرِكِينَ , مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَب وَأَهْل الْكِتَاب . وَقَالَ بَعْضهمْ : عَنَى بِذَلِكَ أَهْل الْكِتَابَيْنِ : التَّوْرَاة , وَالْإِنْجِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ : عَنَى بِهَا جَمِيع عَبَدَة الْأَوْثَان مِنْ الْعَرَب وَكُفَّار أَهْل الْكِتَابَيْنِ : 410 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة بْن الْفَضْل , عَنْ مُحَمَّد بْن إسْحَاق , عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت , عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ ابْن عَبَّاس , قَالَ : نَزَلَ ذَلِكَ فِي الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا مِنْ الْكُفَّار وَالْمُنَافِقِينَ . وَإِنَّمَا عَنَى بِقَوْلِهِ : { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أَيْ لَا تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ غَيْره مِنْ الْأَنْدَاد الَّتِي لَا تَنْفَع وَلَا تَضُرّ , وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا رَبّ لَكُمْ يَرْزُقكُمْ غَيْره , وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ الَّذِي يَدْعُوكُمْ إلَيْهِ الرَّسُول مِنْ تَوْحِيده هُوَ الْحَقّ لَا شَكَّ فِيهِ . 411 - حَدَّثَنَا بِشْر , قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد عَنْ سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله : { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أَيْ تَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّه خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ السَّمَوَات وَالْأَرْض , ثُمَّ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا . ذِكْر مَنْ قَالَ : عَنَى بِذَلِكَ أَهْل الْكِتَابَيْنِ : 412 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا وَكِيع , عَنْ سُفْيَان , عَنْ رَجُل , عَنْ مُجَاهِد : { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أَنَّهُ إلَه وَاحِد فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل . * وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : حَدَّثَنَا قَبِيصَة , قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَان عَنْ مُجَاهِد مِثْله . * وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَة , قَالَ : حَدَّثَنَا شِبْل عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد : { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } يَقُول : وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا نِدّ لَهُ فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل . قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَأَحْسِب أَنَّ الَّذِي دَعَا مُجَاهِدًا إلَى هَذَا التَّأْوِيل , وَإِضَافَة ذَلِكَ إلَى أَنَّهُ خِطَاب لِأَهْلِ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل دُون غَيْرهمْ , الظَّنّ مِنْهُ بِالْعَرَبِ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَم أَنَّ اللَّه خَالِقهَا وَرَازِقهَا بِجُحُودِهَا وَحْدَانِيَّة رَبّهَا , وَإِشْرَاكهَا مَعَهُ فِي الْعِبَادَة غَيْره . وَإِنَّ ذَلِكَ لِقَوْلِ ! وَلَكِنْ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ أَكْبَر فِي كِتَابه عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تُقِرّ بِوَحْدَانِيَّةِ , غَيْر أَنَّهَا كَانَتْ تُشْرِك فِي عِبَادَته مَا كَانَتْ تُشْرِك فِيهَا , فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { وَلَئِنْ سَأَلْتهمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّه } 43 87 وَقَالَ : { قُلْ مَنْ يَرْزُقكُمْ مِنْ السَّمَاء وَالْأَرْض أَمْ مَنْ يَمْلِك السَّمْع وَالْأَبْصَار وَمَنْ يُخْرِج الْحَيّ مِنْ الْمَيِّت وَيُخْرِج الْمَيِّت مِنْ الْحَيّ وَمَنْ يُدَبِّر الْأَمْر فَسَيَقُولُونَ اللَّه فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ } 10 31 فَاَلَّذِي هُوَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ قَوْله : { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } إذْ كَانَ مَا كَانَ عِنْد الْعَرَب مِنْ الْعِلْم بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّه , وَأَنَّهُ مُبْدِع الْخَلْق وَخَالِقهمْ وَرَازِقهمْ , نَظِير الَّذِي كَانَ مِنْ ذَلِكَ عِنْد أَهْل الْكِتَابَيْنِ . وَلَمْ يَكُنْ فِي الْآيَة دَلَالَة عَلَى أَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنَى بِقَوْلِهِ : { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أَحَد الْحِزْبَيْنِ , بَلْ مَخْرَج الْخِطَاب بِذَلِكَ عَامّ لِلنَّاسِ كَافَّة لَهُمْ , لِأَنَّهُ تَحَدَّى النَّاس كُلّهمْ بِقَوْلِهِ : { يَا أَيّهَا النَّاس اُعْبُدُوا رَبّكُمْ } - أَنْ يَكُون تَأْوِيله مَا قَالَهُ ابْن عَبَّاس وَقَتَادَةُ , مِنْ أَنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ كُلّ مُكَلَّف عَالِم بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّه , وَأَنَّهُ لَا شَرِيك لَهُ فِي خَلْقه يُشْرِك مَعَهُ فِي عِبَادَته غَيْره , كَائِنًا مَنْ كَانَ مِنْ النَّاس , عَرَبِيًّا كَانَ أَوْ أَعْجَمِيًّا , كَاتِبًا أَوْ أُمِّيًّا , وَإِنْ كَانَ الْخِطَاب لِكُفَّارِ أَهْل الْكِتَاب الَّذِينَ كَانُوا حَوَالِي دَار هِجْرَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَأَهْل النِّفَاق مِنْهُمْ وَمِمَّنْ بَيْن ظَهْرَانِيهِمْ مِمَّنْ كَانَ مُشْرِكًا فَانْتَقَلَ إلَى النِّفَاق بِمَقْدَمِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَسورة البقرة الآية رقم 23
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْب مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدنَا } قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَهَذَا مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ احْتِجَاج لِنَبِيِّهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُشْرِكِي قَوْمه مِنْ الْعَرَب وَمُنَافِقِيهِمْ وَكُفَّار أَهْل الْكِتَاب وَضُلَّالهمْ الَّذِينَ افْتَتَحَ بِقِصَصِهِمْ قَوْله جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتهمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرهُمْ } وَإِيَّاهُمْ يُخَاطَب بِهَذِهِ الْآيَات , وَضُرَبَاءَهُمْ يَعْنِي بِهَا , قَالَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ : وَإِنْ كُنْتُمْ أَيّهَا الْمُشْرِكُونَ مِنْ الْعَرَب وَالْكُفَّار مِنْ أَهْل الْكِتَابَيْنِ فِي شَكّ - وَهُوَ الرَّيْب - مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ النُّور وَالْبُرْهَان وَآيَات الْفُرْقَان أَنَّهُ مِنْ عِنْدِي , وَأَنِّي الَّذِي أَنْزَلْته إلَيْهِ , فَلَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ وَلَمْ تُصَدِّقُوهُ فِيمَا يَقُول , فَأَتَوْا بِحُجَّةٍ تَدْفَع حُجَّته ; لِأَنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ حُجَّة كُلّ ذِي نُبُوَّة عَلَى صِدْقه فِي دَعْوَاهُ النُّبُوَّة أَنَّ يَأْتِي بِبُرْهَانٍ يَعْجِز عَنْ أَنْ يَأْتِي بِمِثْلِهِ جَمِيع الْخَلْق , وَمِنْ حُجَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صِدْقه وَبُرْهَانه عَلَى نُبُوَّته , وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِي , عَجَزَ جَمِيعكُمْ وَجَمِيع مِنْ تَسْتَعِينُونَ بِهِ مِنْ أَعْوَانكُمْ وَأَنْصَاركُمْ عَنْ أَنْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْله . وَإِذَا عَجَزْتُمْ عَنْ ذَلِكَ , وَأَنْتُمْ أَهْل الْبَرَاعَة فِي الْفَصَاحَة وَالْبَلَاغَة وَالدِّرَايَة , فَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ غَيْركُمْ عَمَّا عَجَزْتُمْ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ أَعْجَز . كَمَا كَانَ بُرْهَان مَنْ سَلَفَ مِنْ رُسُلِي وَأَنْبِيَائِي عَلَى صِدْقه وَحُجَّته عَلَى نُبُوَّته مِنْ الْآيَات مَا يَعْجِز عَنْ الْإِتْيَان بِمِثْلِهِ جَمِيع خَلْقِي . فَيَتَقَرَّر حِينَئِذٍ عِنْدكُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَتَقَوَّلهُ وَلَمْ يَخْتَلِقهُ , لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مِنْهُ اخْتِلَافًا وَتَقَوُّلًا لَمْ يَعْجِزُوا وَجَمِيع خَلْقه عَنْ الْإِتْيَان بِمِثْلِهِ , لِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعُدْ أَنْ يَكُون بَشَرًا مِثْلكُمْ , وَفِي مِثْل حَالكُمْ فِي الْجِسْم وَبَسْطَة الْخَلْق وَذَرَابَة اللِّسَان , فَيُمْكِن أَنْ يَظُنّ بِهِ اقْتِدَار عَلَى مَا عَجَزْتُمْ عَنْهُ , أَوْ يُتَوَهَّم مِنْكُمْ عَجْز عَمَّا اقْتَدَرَ عَلَيْهِ .

ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي تَأْوِيل قَوْله : { فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْله } 413 - فَحَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد , عَنْ سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ : { فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْله } يَعْنِي مِنْ مِثْل هَذَا الْقُرْآن حَقًّا وَصِدْقًا لَا بَاطِل فِيهِ وَلَا كَذِب . 414 - وَحَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَنْبَأَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله : { فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْله } يَقُول : بِسُورَةٍ مِثْل هَذَا الْقُرْآن . 415 - وَحَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو الْبَاهِلِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِم , عَنْ عِيسَى بْن مَيْمُون , عَنْ عَبْد اللَّه بْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد : { فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْله } مِثْل الْقُرْآن . * وَحَدَّثَنَا الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَة , قَالَ : حَدَّثَنَا شِبْل عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد مِثْله * وَحَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ مُجَاهِد : { فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْله } قَالَ : مِثْله , مِثْل الْقُرْآن . فَمَعْنَى قَوْل مُجَاهِد وَقَتَادَةُ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا عَنْهُمَا , أَنَّ اللَّه جَلَّ ذِكْره قَالَ لِمَنْ حَاجّه فِي نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْكُفَّار : فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْل هَذَا الْقُرْآن مِنْ كَلَامكُمْ أَيَّتهَا الْعَرَب , كَمَا أَتَى بِهِ مُحَمَّد بِلُغَاتِكُمْ وَمَعَانِي مَنْطِقكُمْ . وَقَدْ قَالَ قَوْم آخَرُونَ : إنَّ مَعْنَى قَوْله : { فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْله } : مِنْ مِثْل مُحَمَّد مِنْ الْبَشَر , لِأَنَّهُ مُحَمَّدًا بِشْر مِثْلكُمْ . قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَالتَّأْوِيل الْأَوَّل الَّذِي قَالَهُ مُجَاهِد وَقَتَادَةُ هُوَ التَّأْوِيل الصَّحِيح ; لِأَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ فِي سُورَة أُخْرَى : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْله } 10 38 وَمَعْلُوم أَنَّ السُّورَة لَيْسَتْ لِمُحَمَّدٍ بِنَظِيرٍ وَلَا شَبِيه , فَيَجُوز أَنْ يُقَال : فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْل مُحَمَّد . فَإِنْ قَالَ قَائِل : إنَّك ذَكَرْت أَنَّ اللَّه عَنَى بِقَوْلِهِ : { فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْله } مِنْ مِثْل هَذَا الْقُرْآن , فَهَلْ لِلْقُرْآنِ مِنْ مِثْل فَيُقَال : ائْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْله ؟ قِيلَ : إنَّهُ لَمْ يَعْنِ بِهِ : ائْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْله فِي التَّأْلِيف وَالْمَعَانِي الَّتِي بَايَنَ بِهَا سَائِر الْكَلَام غَيْره , وَإِنَّمَا عَنَى : ائْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْله فِي الْبَيَان ; لِأَنَّ الْقُرْآن أَنَزَلَهُ اللَّه بِلِسَانٍ عَرَبِيّ , فَكَلَام الْعَرَب لَا شَكَّ لَهُ مِثْل فِي مَعْنَى الْعَرَبِيَّة ; فَأَمَّا فِي الْمَعْنَى الَّذِي بَايَنَ بِهِ الْقُرْآن سَائِر كَلَام الْمَخْلُوقِينَ , فَلَا مِثْل لَهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْه وَلَا نَظِير وَلَا شَبِيه . وَإِنَّمَا احْتَجَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِمْ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا احْتَجَّ بِهِ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْقُرْآن , إذْ ظَهَرَ الْقَوْم عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْله فِي الْبَيَان , إذْ كَانَ الْقُرْآن بَيَانًا مِثْل بَيَانهمْ , وَكَلَامًا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ , فَقَالَ لَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْب مِنْ أَنَّ مَا أَنْزَلْت عَلَى عَبْدِي مِنْ الْقُرْآن مِنْ عِنْدِي , فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ كَلَامكُمْ الَّذِي هُوَ مِثْله فِي الْعَرَبِيَّة , إذْ كُنْتُمْ عَرَبًا , وَهُوَ بَيَان نَظِير بَيَانكُمْ , وَكَلَام شَبِيه كَلَامكُمْ . فَلَمْ يُكَلِّفهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ غَيْر اللِّسَان الَّذِي هُوَ نَظِير اللِّسَان الَّذِي نَزَلَ بِهِ الْقُرْآن , فَيَقْدِرُوا أَنْ يَقُولُوا : كَلَّفْتنَا مَا لَوْ أَحْسَنَّاهُ أَتَيْنَا بِهِ , وَإِنَّا لَا نَقْدِر عَلَى الْإِتْيَان بِهِ , لِأَنَّا لَسْنَا مِنْ أَهْل اللِّسَان الَّذِي كَلَّفْتنَا الْإِتْيَان بِهِ , فَلَيْسَ لَك عَلَيْنَا حُجَّة بِهَذَا ; لِأَنَّا وَإِنْ عَجَزْنَا عَنْ أَنْ نَأْتِي بِمِثْلِهِ مِنْ غَيْر أَلْسِنَتنَا لِأَنَّا لَسْنَا بِأَهْلِهِ , فَفِي النَّاس خَلْق كَثِير مِنْ غَيْر أَهْل لِسَاننَا يَقْدِر عَلَى أَنْ يَأْتِي بِمِثْلِهِ مِنْ اللِّسَان الَّذِي كَلَّفْتنَا الْإِتْيَان بِهِ وَلَكِنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ لَهُمْ : ائْتُوا بِسُورَةٍ مِثْله , لِأَنَّ مِثْله مِنْ الْأَلْسُن أَلْسِنَتكُمْ , وَأَنْتُمْ إنْ كَانَ مُحَمَّد اخْتَلَقَهُ وَافْتَرَاهُ , إذَا اجْتَمَعْتُمْ وَتَظَاهَرْتُمْ عَلَى الْإِتْيَان بِمِثْلِ سُورَة مِنْهُ مِنْ لِسَانكُمْ وَبَيَانكُمْ - أَقْدَر عَلَى اخْتِلَاقه وَوَضْعه وَتَأْلِيفه مِنْ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَإِنْ لَمْ تَكُونُوا أَقْدَر عَلَيْهِ مِنْهُ فَلَنْ تَعْجِزُوا وَأَنْتُمْ جَمِيع عَمَّا قَدَرَ عَلَيْهِ مُحَمَّد مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ وَحْده , إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي دَعْوَاكُمْ وَزَعْمكُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا افْتَرَاهُ وَاخْتَلَقَهُ وَأَنَّهُ مِنْ عِنْد غَيْرِي .

وَاخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي تَأْوِيل قَوْله : { وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُون اللَّه إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } فَقَالَ ابْن عَبَّاس بِمَا : 416 - حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّد بْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة , عَنْ ابْن إسْحَاق , عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت , عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد , عَنْ ابْن عَبَّاس : { وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُون اللَّه } يَعْنِي أَعْوَانكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ , { إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } 417 - وَحَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِم , عَنْ عِيسَى , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد : { وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ } نَاس يَشْهَدُونَ . * وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَة , قَالَ : حَدَّثَنَا شِبْل عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد مِثْله . * وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا وَكِيع عَنْ سُفْيَان , عَنْ رَجُل , عَنْ مُجَاهِد , قَالَ : قَوْم يَشْهَدُونَ لَكُمْ . * وَحَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ مُجَاهِد : { وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ } قَالَ : نَاس يَشْهَدُونَ . قَالَ ابْن جُرَيْجٍ : شُهَدَاءَكُمْ عَلَيْهَا إذَا أَتَيْتُمْ بِهَا أَنَّهَا مِثْله مِثْل الْقُرْآن وَذَلِكَ قَوْل اللَّه مَنْ شَكَّ مِنْ الْكُفَّار فِيمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَوْله : { فَادْعُوا } يَعْنِي اسْتَنْصَرُوا وَاسْتَعِينُوا كَمَا قَالَ الشَّاعِر : فَلَمَّا الْتَقَتْ فُرْسَاننَا وَرِجَالهمْ دَعَوْا يَالَكَعْبٍ وَاعْتَزَيْنَا لِعَامِرٍ يَعْنِي بِقَوْلِهِ : دَعَوْا يَالَكَعْبٍ : اسْتَنْصَرُوا كَعْبًا وَاسْتَعَانُوا بِهِمْ وَأَمَّا الشُّهَدَاء فَإِنَّهَا جَمْع شَهِيد , كَالشُّرَكَاءِ جَمْع شَرِيك , وَالْخُطَبَاء جَمْع خَطِيب . وَالشَّهِيد يُسَمَّى بِهِ الشَّاهِد عَلَى الشَّيْء لِغَيْرِهِ بِمَا يُحَقِّق دَعْوَاهُ , وَقَدْ يُسَمَّى بِهِ الْمُشَاهَد لِلشَّيْءِ كَمَا يُقَال فُلَان جَلِيس فُلَان , يَعْنِي بِهِ مُجَالِسه , وَنَدِيمه يَعْنِي بِهِ مُنَادِمه , وَكَذَلِكَ يُقَال : شَهِيده يَعْنِي بِهِ مُشَاهَده . فَإِذَا كَانَتْ الشُّهَدَاء مُحْتَمَلَة أَنْ تَكُون جَمْع الشَّهِيد الَّذِي هُوَ مُنْصَرِف لِلْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ وَصَفْت , فَأَوْلَى وَجْهَيْهِ بِتَأْوِيلِ الْآيَة مَا قَالَهُ ابْن عَبَّاس , وَهُوَ أَنْ يَكُون مَعْنَاهُ : وَاسْتَنْصَرُوا عَلَى أَنْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْله أَعْوَانكُمْ وَشُهَدَاءَكُمْ الَّذِينَ يُشَاهِدُونَكُمْ وَيُعَاوِنُونَكُمْ عَلَى تَكْذِيبكُمْ اللَّه وَرَسُوله وَيُظَاهِرُونَكُمْ عَلَى كُفْركُمْ وَنِفَاقكُمْ إنْ كُنْتُمْ مُحِقِّينَ فِي جُحُودكُمْ أَنَّ مَا جَاءَكُمْ بِهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتِلَاق وَافْتِرَاء , لِتَمْتَحِنُوا أَنْفُسكُمْ وَغَيْركُمْ : هَلْ تَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْله فَيَقْدِر مُحَمَّد عَلَى أَنْ يَأْتِيَ بِجَمِيعِهِ مِنْ قَبْل نَفْسه اخْتِلَاقًا ؟ وَأَمَّا مَا قَالَهُ مُجَاهِد وَابْن جُرَيْجٍ فِي تَأْوِيل ذَلِكَ فَلَا وَجْه لَهُ ; لِأَنَّ الْقَوْم كَانُوا عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْنَافًا ثَلَاثَة : أَهْل إيمَان صَحِيح , وَأَهْل كُفْر صَحِيح , وَأَهْل نِفَاق بَيْن ذَلِكَ . فَأَهْل الْإِيمَان كَانُوا بِاَللَّهِ وَبِرَسُولِهِ مُؤْمِنِينَ , فَكَانَ مِنْ الْمَحَال أَنْ يَدَّعِي الْكُفَّار أَنَّ لَهُمْ شُهَدَاء - عَلَى حَقِيقَة مَا كَانُوا يَأْتُونَ بِهِ لَوْ أَتَوْا بِاخْتِلَاقٍ مِنْ الرِّسَالَة , ثُمَّ ادَّعَوْا أَنَّهُ لِلْقُرْآنِ نَظِير - مِنْ الْمُؤْمِنِينَ . فَأَمَّا أَهْل النِّفَاق وَالْكُفْر فَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ لَوْ دَعُوا إلَى تَحْقِيق الْبَاطِل وَإِبْطَال الْحَقّ لَسَارَعُوا إلَيْهِ مَعَ كُفْرهمْ وَضُلَّالهمْ , فَمَنْ أَيْ الْفَرِيقَيْنِ كَانَتْ تَكُون شُهَدَاءَكُمْ لَوْ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ قَدْ أَتَوْا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْل الْقُرْآن ؟ وَلَكِنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنْس وَالْجِنّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآن لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } 17 88 فَأَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي هَذِهِ الْآيَة أَنَّ مِثْل الْقُرْآن لَا يَأْتِي بِهِ الْجِنّ وَالْإِنْس وَلَوْ تَظَاهَرُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْإِتْيَان بِهِ ; وَتَحَدَّاهُمْ بِمَعْنَى التَّوْبِيخ لَهُمْ فِي سُورَة الْبَقَرَة , فَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْب مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْله وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ من دُون اللَّه إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } يَعْنِي بِذَلِكَ : إنْ كُنْتُمْ فِي شَكّ فِي صَدْق مُحَمَّد فِيمَا جَاءَكُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِي أَنَّهُ مِنْ عِنْدِي , فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْله , وَلِيَسْتَنْصِر بَعْضكُمْ بَعْضًا عَلَى ذَلِكَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي زَعْمكُمْ ; حَتَّى تَعْلَمُوا أَنَّكُمْ إذَا عَجَزْتُمْ عَنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَقْدِر عَلَى أَنْ يَأْتِي بِهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا مِنْ الْبَشَر أَحَد , وَيَصِحّ عِنْدكُمْ أَنَّهُ تَنْزِيلِي وَوَحْيِي إلَى عَبْدِي .
فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَسورة البقرة الآية رقم 24
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا } قَالَ أَبُو جَعْفَر : يَعْنِي تَعَالَى بِقَوْلِهِ : { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا } : إنَّ لَمْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْله , وَقَدْ تَظَاهَرْتُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ عَلَيْهِ وَأَعْوَانكُمْ فَتَبَيَّنَ لَكُمْ بِامْتِحَانِكُمْ وَاخْتِبَاركُمْ عَجْزكُمْ وَعَجْز جَمِيع خَلْقِي عَنْهُ , وَعَلِمْتُمْ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِي , ثُمَّ أَقَمْتُمْ عَلَى التَّكْذِيب بِهِ . وَقَوْله : { وَلَنْ تَفْعَلُوا } أَيْ لَنْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْله أَبَدًا . كَمَا 418 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد , عَنْ سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ : { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ` وَلَنْ تَفْعَلُوا } أَيْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا تُطِيقُونَهُ . 419 - وَحَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة , عَنْ ابْن إسْحَاق , عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد , عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ ابْن عَبَّاس : { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا } فَقَدْ بَيَّنَ لَكُمْ الْحَقّ

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { فَاتَّقُوا النَّار الَّتِي وَقُودهَا النَّاس وَالْحِجَارَة } قَالَ أَبُو جَعْفَر : يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ : { فَاتَّقُوا النَّار } يَقُول : فَاتَّقُوا أَنْ تَصْلَوْا النَّار بِتَكْذِيبِكُمْ رَسُولِي بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِي أَنَّهُ مِنْ وَحْيِي وَتَنْزِيلِي , بَعْد تَبِينكُمْ أَنَّهُ كِتَابِي وَمِنْ عِنْدِي , وَقِيَام الْحُجَّة عَلَيْكُمْ بِأَنَّهُ كَلَامِي وَوَحْيِي , بِعَجْزِكُمْ وَعَجْز جَمِيع خَلْقِي عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ . ثُمَّ وَصَفَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ النَّار الَّتِي حَذَّرَهُمْ صِلِيّهَا , فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ النَّاس وَقُودهَا , وَأَنَّ الْحِجَارَة وَقُودهَا , فَقَالَ : { الَّتِي وَقُودهَا النَّاس وَالْحِجَارَة } يَعْنِي بِقَوْلِهِ وَقُودهَا : حَطَبهَا , وَالْعَرَب تَجْعَلهُ مَصْدَرًا , وَهُوَ اسْم إذَا فُتِحَتْ الْوَاو بِمَنْزِلَةِ الْحَطَب , فَإِذَا ضُمَّتْ الْوَاو مِنْ الْوُقُود كَانَ مَصْدَرًا مِنْ قَوْل الْقَائِل : وَقَدَتْ النَّارُ فهي تَقِدُ وُقُودًا وَقْدَةً وَوَقَدَانًا وَوَقَدًا , يُرَاد بِذَلِكَ أَنَّهَا الْتَهَبَتْ فَإِنْ قَالَ قَائِل : وَكَيْفَ خُصَّتْ الْحِجَارَة فَقُرِنَتْ بِالنَّاسِ حَتَّى جُعِلَتْ لِنَارِ جَهَنَّم حَطَبًا ؟ قِيلَ : إنَّهَا حِجَارَة الْكِبْرِيت , وَهِيَ أَشَدّ الْحِجَارَة فِيمَا بَلَغَنَا حُرًّا إذَا أُحْمِيَتْ . كَمَا : 420 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَة , عَنْ مِسْعَر , عَنْ عَبْد الْمَلِك بْن مَيْسَرَة الزَّرَّاد , عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن سَابِطٍ , عَنْ عَمْرو بْن مَيْمُون , عَنْ عَبْد اللَّه فِي قَوْله : { وَقُودهَا النَّاس وَالْحِجَارَة } قَالَ : هِيَ حِجَارَة مِنْ كِبْرِيت خَلَقَهَا اللَّه يَوْم خَلَقَ السَّمَوَات وَالْأَرْض فِي السَّمَاء الدُّنْيَا يُعِدّهَا لِلْكَافِرِينَ. 421 - وَحَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَنْبَأَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَنْبَأَنَا ابْن عُيَيْنَةَ , عَنْ مِسْعَر عَنْ عَبْد الْمَلِك الزَّرَّاد عَنْ عَمْرو بْن مَيْمُون , عَنْ ابْن مَسْعُود فِي قَوْله : { وَقُودهَا النَّاس وَالْحِجَارَة } قَالَ : حِجَارَة الْكِبْرِيت جَعَلَهَا اللَّه كَمَا شَاءَ . 422 - وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة , عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اتَّقُوا النَّار الَّتِي وَقُودهَا النَّاس وَالْحِجَارَة } أَمَّا الْحِجَارَة فَهِيَ حِجَارَة فِي النَّار مِنْ كِبْرِيت أَسْوَد يُعَذَّبُونَ بِهِ مَعَ النَّار . 423 - وَحَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ فِي قَوْله : { وَقُودهَا النَّاس وَالْحِجَارَة } قَالَ : حِجَارَة مِنْ كِبْرِيت أَسْوَد فِي النَّار . قَالَ : وَقَالَ لِي عَمْرو بْن دِينَار : حِجَارَة أَصْلَب مِنْ هَذِهِ وَأَعْظَم . * حَدَّثَنَا سُفْيَان بْن وَكِيع , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ مِسْعَر , عَنْ عَبْد الْمَلِك بْن مَيْسَرَة , عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن سَابِطٍ , عَنْ عَمْرو بْن مَيْمُون عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود , قَالَ : حِجَارَة مِنْ الْكِبْرِيت خَلَقَهَا اللَّه عِنْده كَيْف شَاءَ وَكَمَا شَاءَ .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } قَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابنَا هَذَا عَلَى أَنَّ الْكَافِر فِي كَلَام الْعَرَب هُوَ السَّاتِر شَيْء بِغِطَاءٍ , وَأَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ إنَّمَا سَمَّى الْكَافِر كَافِرًا لِجُحُودِهِ آلَاءَهُ عِنْده , وَتَغْطِيَته نَعْمَاءَهُ قَبْله فَمَعْنَى قَوْله إذًا : { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } : أُعِدَّتْ النَّار لِلْجَاحِدِينَ أَنَّ اللَّه رَبّهمْ الْمُتَوَحِّد بِخَلْقِهِمْ وَخَلَقَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلهمْ , الَّذِي جَعَلَ لَهُمْ الْأَرْض فِرَاشًا , وَالسَّمَاء بِنَاء , وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاء مَاء , فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَات رِزْقًا لَهُمْ , الْمُشْرِكِينَ مَعَهُ فِي عِبَادَته الْأَنْدَاد وَالْآلِهَة , وَهُوَ الْمُتَفَرِّد لَهُمْ بِالْإِنْشَاءِ وَالْمُتَوَحِّد بِالْأَقْوَاتِ وَالْأَرْزَاق . كَمَا : 424 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة , عَنْ مُحَمَّد بْن إسْحَاق , عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت , عَنْ عِكْرِمَة , أَوْ عَنْ سَعِيد , عَنْ ابْن عَبَّاس : { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } أَيْ لِمَنْ كَانَ عَلَى مِثْل مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْر .
وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَسورة البقرة الآية رقم 25
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات أَنَّ لَهُمْ جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتهَا الْأَنْهَار } أَمَّا قَوْله تَعَالَى : { وَبَشِّرْ } فَإِنَّهُ يَعْنِي : أَخْبَرَهُمْ . وَالْبِشَارَة أَصْلهَا الْخَبَر بِمَا يَسُرّ الْمُخْبَر بِهِ , إذَا كَانَ سَابِقًا بِهِ كُلّ مُخْبِر سِوَاهُ . وَهَذَا أَمْر مِنْ اللَّه نَبِيّه مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِبْلَاغِ بِشَارَته خَلْقَهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَاءٍ جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْد رَبّه , وَصَدَّقُوا إيمَانهمْ ذَلِكَ وَإِقْرَارهمْ بِأَعْمَالِهِمْ الصَّالِحَة , فَقَالَ لَهُ : يَا مُحَمَّد بَشِّرْ مَنْ صَدَّقَك أَنَّك رَسُولِي وَأَنَّ مَا جِئْت بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالنُّور فَمِنْ عِنْدِي , وَحَقَّقَ تَصْدِيقه ذَلِكَ قَوْلًا بِأَدَاءِ الصَّالِح مِنْ الْأَعْمَال الَّتِي افْتَرَضْتهَا عَلَيْهِ وَأَوْجَبْتهَا فِي كِتَابِي عَلَى لِسَانك عَلَيْهِ , أَنَّ لَهُ جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتهَا الْأَنْهَار خَاصَّة , دُون مَنْ كَذَّبَ بِك وَأَنْكَرَ مَا جِئْت بِهِ مِنْ الْهُدَى مِنْ عِنْدِي وَعَانَدَك , وَدُون مَنْ أَظَهَرَ تَصْدِيقك وَأَقَرَّ بِأَنَّ مَا جِئْته بِهِ فَمِنْ عِنْدِي قَوْلًا , وَجَحَدَهُ اعْتِقَادًا وَلَمْ يُحَقِّقهُ عَمَلًا . فَإِنَّ لِأُولَئِكَ النَّار الَّتِي وَقُودهَا النَّاس وَالْحِجَارَة مُعَدَّة عِنْدِي . وَالْجَنَّات جَمْع جَنَّة , وَالْجَنَّة : الْبُسْتَان . وَإِنَّمَا عَنَى جَلَّ ذِكْره بِذِكْرِ الْجَنَّة مَا فِي الْجَنَّة مِنْ أَشْجَارهَا وَثِمَارهَا وَغُرُوسِهَا دُون أَرْضهَا , فَلِذَلِكَ قَالَ عَزَّ ذِكْره : { تَجْرِي مِنْ تَحْتهَا الْأَنْهَار } لِأَنَّهُ مَعْلُوم أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الْخَبَر عَنْ مَاء أَنَهَارهَا أَنَّهُ جَارٍ تَحْت أَشْجَارهَا وَغُرُوسِهَا وَثِمَارهَا , لَا أَنَّهُ جَارٍ تَحْت أَرْضهَا ; لِأَنَّ الْمَاء إذَا كَانَ جَارِيًا تَحْت الْأَرْض , فَلَا حَظّ فِيهَا لِعُيُونِ مَنْ فَوْقهَا إلَّا بِكَشَفِ السَّاتِر بَيْنهَا وَبَيْنه . عَلَى أَنَّ الَّذِي تُوصَف بِهِ أَنَهَار الْجَنَّة أَنَّهَا جَارِيَة فِي غَيْر أَخَادِيد . كَمَا : 425 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا الْأَشْجَعِيّ , عَنْ سُفْيَان , عَنْ عَمْرو بْن مُرَّة , عَنْ أَبِي عُبَيْدَة , عَنْ مَسْرُوق , قَالَ : نَخْل الْجَنَّة نَضِيد مِنْ أَصْلهَا إلَى فَرْعهَا , وَثَمَرهَا أَمْثَال الْقِلَال , كُلَّمَا نُزِعَتْ ثَمَرَة عَادَتْ مَكَانهَا أُخْرَى , وَمَاؤُهَا يَجْرِي فِي غَيْر أَخُدُود . * وَحَدَّثَنَا مُجَاهِد , قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد , قَالَ : أَخْبَرَنَا مِسْعَر بْن كِدَامٍ , عَنْ عَمْرو بْن مُرَّة , عَنْ أَبِي عُبَيْدَة بِنَحْوِهِ . * وَحَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بَشَّار قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن مَهْدِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَان , قَالَ : سَمِعْت عَمْرو بْن مُرَّة يُحَدِّث عَنْ أَبِي عُبَيْدَة , فَذَكَرَ مِثْله . قَالَ : فَقُلْت لِأَبِي عُبَيْدَة : مَنْ حَدَّثَك , فَغَضِبَ وَقَالَ : مَسْرُوق . فَإِذَا كَانَ الْأَمْر كَذَلِكَ فِي أَنَّ أَنَهَارهَا جَارِيَة فِي غَيْر أَخَادِيد , فَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي أُرِيدَ بِالْجَنَّاتِ أَشْجَار الْجَنَّات وَغُرُوسِهَا وَثِمَارهَا دُون أَرْضهَا , إذْ كَانَتْ أَنَهَارهَا تَجْرِي فَوْق أَرْضهَا وَتَحْت غروسها وَأَشْجَارهَا , عَلَى مَا ذَكَرَهُ مَسْرُوق . وَذَلِكَ أَوْلَى بِصِفَةِ الْجَنَّة مِنْ أَنْ تَكُون أَنَهَارهَا جَارِيَة تَحْت أَرْضهَا . وَإِنَّمَا رَغَّبَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِهَذِهِ الْآيَة عِبَاده فِي الْإِيمَان وَحَضَّهُمْ عَلَى عِبَادَته , بِمَا أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ أَعَدَّهُ لِأَهْلِ طَاعَته وَالْإِيمَان بِهِ عِنْده , كَمَا حَذَّرَهُمْ فِي الْآيَة الَّتِي قَبْلهَا بِمَا أَخْبَرَ مِنْ إعْدَاده مَا أَعَدَّ لِأَهْلِ الْكُفْر بِهِ الْجَاعِلِينَ مَعَهُ الْآلِهَة وَالْأَنْدَاد مِنْ عِقَابه عَنْ إشْرَاك غَيْره مَعَهُ , وَالتَّعَرُّض لِعُقُوبَتِهِ بِرُكُوبِ مَعْصِيَته وَتَرْك طَاعَته .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَة رِزْقًا } قَالَ أَبُو جَعْفَر : يَعْنِي بِقَوْلِهِ : { كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا } مِنْ الْجَنَّات , وَالْهَاء رَاجِعَة عَلَى " الْجَنَّات " , وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَشْجَارهَا , فَكَأَنَّهُ قَالَ : كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْ أَشْجَار الْبَسَاتِين الَّتِي أَعَدَّهَا اللَّه لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات فِي جَنَّاته مِنْ ثَمَرَة مِنْ ثِمَارهَا رِزْقًا قَالُوا : هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْل .

ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي تَأْوِيل قَوْله : { هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْل } فَقَالَ بَعْضهمْ : تَأْوِيل ذَلِكَ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْل هَذَا فِي الدُّنْيَا . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 426 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة , عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا : { هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْل } قَالَ : إنَّهُمْ أُتُوا بِالثَّمَرَةِ فِي الْجَنَّة , فَلَمَّا نَظَرُوا إلَيْهَا قَالُوا : هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْل فِي الدُّنْيَا . 427 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد بْن زُرَيْع , عَنْ سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ , قَالُوا : هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْل : أَيْ فِي الدُّنْيَا . 428 - وَحَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِم عَنْ عِيسَى بْن مَيْمُون عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد , قَالُوا : { هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْل } يَقُولُونَ : مَا أَشَبَهه بِهِ . * حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ مُجَاهِد مِثْله . 429 - وَحَدَّثَنِي يُونُس بْن عَبْد الْأَعْلَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : قَالَ ابْن زَيْد , قَالُوا : { هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْل } فِي الدُّنْيَا , قَالَ : { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } يَعْرِفُونَهُ . قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ تَأْوِيل ذَلِكَ : هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ ثِمَار الْجَنَّة مِنْ قَبْل هَذَا , لِشِدَّةِ مُشَابَهَة بَعْض ذَلِكَ فِي اللَّوْن وَالطَّعْم بَعْضًا . وَمِنْ عِلَّة قَائِل هَذَا الْقَوْل أَنَّ ثِمَار الْجَنَّة كُلَّمَا نُزِعَ مِنْهَا شَيْء عَادَ مَكَانه آخَر مِثْله . كَمَا : 430 - حَدَّثَنَا ابْن بَشَّار , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن مَهْدِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَان , قَالَ : سَمِعْت عَمْرو بْن مُرَّة يُحَدِّث عَنْ أَبِي عُبَيْدَة , قَالَ : نَخْل الْجَنَّة نَضِيد مِنْ أَصْلهَا إلَى فَرْعهَا , وَثَمَرهَا مِثْل الْقِلَال , كُلَّمَا نُزِعَتْ مِنْهَا ثَمَرَة عَادَتْ مَكَانهَا أُخْرَى . قَالُوا : فَإِنَّمَا اشْتَبَهَتْ عِنْد أَهْل الْجَنَّة , لِأَنَّ الَّتِي عَادَتْ نَظِيره الَّتِي نُزِعَتْ فَأُكِلَتْ فِي كُلّ مَعَانِيهَا . قَالُوا : وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } لِاشْتِبَاهِ جَمِيعه فِي كُلّ مَعَانِيه . وَقَالَ بَعْضهمْ : بَلْ قَالُوا : { هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْل } لِمُشَابَهَتِهِ الَّذِي قَبْله فِي اللَّوْن وَإِنْ خَالَفَهُ فِي الطَّعْم . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 431 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم بْن الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن دَاوُد , قَالَ : حَدَّثَنَا شَيْخ مِنْ الْمِصِّيصَة عَنْ الْأَوْزَاعِيّ عَنْ يَحْيَى بْن أَبِي كَثِير , قَالَ : يُؤْتَى أَحَدهمْ بِالصَّحْفَةِ فَيَأْكُل مِنْهَا , ثُمَّ يُؤْتَى بِأُخْرَى فَيَقُول : هَذَا الَّذِي أُتِينَا بِهِ مِنْ قَبْل , فَيَقُول الْمَلِك : كُلْ فَاللَّوْن وَاحِد وَالطَّعْم مُخْتَلِف . وَهَذَا التَّأْوِيل مَذْهَب مَنْ تَأَوَّلَ الْآيَة . غَيْر أَنَّهُ يَدْفَع صِحَّته ظَاهِر التِّلَاوَة وَالَّذِي يَدُلّ عَلَى صِحَّته ظَاهِر الْآيَة وَيُحَقِّق صِحَّته قَوْل الْقَائِلِينَ إنَّ مَعْنَى ذَلِكَ : هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْل فِي الدُّنْيَا . وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ : { كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَة رِزْقًا } فَأَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ مِنْ قَيْل أَهْل الْجَنَّة كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْ ثَمَر الْجَنَّة رِزْقًا أَنْ يَقُولُوا : هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْل . وَلَمْ يُخَصَّص بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَيْلهمْ فِي بَعْض ذَلِكَ دُون بَعْض . فَإِذْ كَانَ قَدْ أَخْبَرَ جَلَّ ذِكْره عَنْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَيْلهمْ فِي كُلّ مَا رُزِقُوا مِنْ ثَمَرهَا , فَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَيْلهمْ فِي أَوَّل رِزْق رُزِقُوهُ مِنْ ثِمَارهَا أَتَوْا بِهِ بَعْد دُخُولهمْ الْجَنَّة وَاسْتِقْرَارهمْ فِيهَا , الَّذِي لَمْ يَتَقَدَّمهُ عِنْدهمْ مِنْ ثِمَارهَا ثَمَرَة . فَإِذْ كَانَ لَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَيْلهمْ فِي أَوَلَهُ , كَمَا هُوَ مِنْ قَيْلهمْ فِي وَسَطه وَمَا يَتْلُوهُ , فَمَعْلُوم أَنَّهُ مُحَال أَنْ يَكُون مِنْ قَيْلهمْ لِأَوَّلِ رِزْق رُزِقُوهُ مِنْ ثِمَار الْجَنَّة : { هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْل } هَذَا مِنْ ثِمَار الْجَنَّة . وَكَيْفَ يَجُوز أَنْ يَقُولُوا لِأَوَّلِ رِزْق رُزِقُوهُ مِنْ ثِمَارهَا وَلَمَّا يَتَقَدَّمهُ عِنْدهمْ غَيْره : هَذَا هُوَ الَّذِي رُزِقْنَاهُ مِنْ قَبْل ; إلَّا أَنْ يَنْسُبهُمْ ذُو غُرَّة وَضَلَال إلَى قِيلَ الْكَذِب الَّذِي قَدْ طَهَّرَهُمْ اللَّه مِنْهُ , أَوْ يَدْفَع دَافِع أَنْ يَكُون ذَلِكَ مِنْ قَيْلهمْ لِأَوَّلِ رِزْق رُزِقُوهُ مِنْهَا مِنْ ثِمَارهَا , فَيَدْفَع صِحَّة مَا أَوَجَبَ اللَّه صِحَّته بِقَوْلِهِ : { كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَة رِزْقًا } مِنْ غَيْر نَصَب دَلَالَة عَلَى أَنَّهُ مَعَنِي بِهِ حَال مِنْ أَحْوَال دُون حَال . فَقَدْ تَبَيَّنَ بِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَى الْآيَة : كُلَّمَا رُزِقَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات مِنْ ثَمَرَة مِنْ ثِمَار الْجَنَّة فِي الْجَنَّة رِزْقًا , قَالُوا : هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْل هَذَا فِي الدُّنْيَا . فَإِنْ سَأَلَنَا سَائِل فَقَالَ : وَكَيْفَ قَالَ الْقَوْم : { هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْل } وَاَلَّذِي رُزِقُوهُ مِنْ قَبْل قَدْ عَدِم بِأَكْلِهِمْ إيَّاهُ ؟ وَكَيْفَ يَجُوز أَنْ يَقُول أَهْل الْجَنَّة قَوْلًا لَا حَقِيقَة لَهُ ؟ قِيلَ : إنَّ الْأَمْر عَلَى غَيْر مَا ذَهَبْت إلَيْهِ فِي ذَلِكَ , وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ : هَذَا مِنْ النَّوْع الَّذِي رُزِقْنَاهُ مِنْ قَبْل هَذَا مِنْ الثِّمَار وَالرِّزْق , كَالرَّجُلِ يَقُول لِآخَر : قَدْ أَعَدَّ لَك فُلَان مِنْ الطَّعَام كَذَا وَكَذَا مِنْ أَلْوَان الطَّبِيخ وَالشِّوَاء وَالْحَلْوَى , فَيَقُول الْمَقُول لَهُ ذَاكَ : هَذَا طَعَامِي فِي مَنْزِلِي . يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ النَّوْع الَّذِي ذَكَرَ لَهُ صَاحِبه أَنَّهُ أَعَدَّهُ لَهُ مِنْ الطَّعَام هُوَ طَعَامه , لِأَنَّ أَعْيَانَ مَا أَخْبَرَهُ صَاحِبه أَنَّهُ قَدْ أَعَدَّهُ لَهُ هُوَ طَعَامه . بَلْ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوز لِسَامِعٍ سَمِعَهُ يَقُول ذَلِكَ أَنْ يُتَوَهَّم أَنَّهُ أَرَادَهُ أَوْ قَصَدَهُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ خِلَاف مَخْرَج كَلَام الْمُتَكَلِّم ; وَإِنَّمَا يُوَجِّه كَلَام كُلّ مُتَكَلِّم إلَى الْمَعْرُوف فِي النَّاس مِنْ مَخَارِجه دُون الْمَجْهُول مِنْ مَعَانِيه . فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْله : { قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْل } إذْ كَانَ مَا كَانُوا رُزِقُوهُ مِنْ قَبْل قَدْ فَنِيَ وَعَدِم ; فَمَعْلُوم أَنَّهُمْ عَنَوْا بِذَلِكَ هَذَا مِنْ النَّوْع الَّذِي رُزِقْنَاهُ مِنْ قَبْل , وَمِنْ جِنْسه فِي السِّمَات وَالْأَلْوَان عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَّا مِنْ الْقَوْل فِي ذَلِكَ فِي كِتَابنَا هَذَا .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله : { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَالْهَاء فِي قَوْله : { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } عَائِدَة عَلَى الرِّزْق , فَتَأْوِيله : وَأُتُوا بِاَلَّذِي رُزِقُوا مِنْ ثِمَارهَا مُتَشَابِهًا وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي تَأْوِيل الْمُتَشَابِه فِي ذَلِكَ , فَقَالَ بَعْضهمْ : تَشَابَهَهُ أَنَّ كُلّه خِيَار لَا رَذْل فِيهِ . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 432 * حَدَّثَنَا خَلَّاد بْن أَسْلَمَ , قَالَ : أَخْبَرَنَا النَّضْر بْن شُمَيْلٍ , قَالَ : أَخْبَرَنَا أَبُو عَامِر عَنْ الْحَسَن فِي قَوْله : { مُتَشَابِهًا } قَالَ : خِيَارًا كُلّهَا لَا رَذْل فيها . 433 - وَحَدَّثَنِي يَعْقُوب بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن عُلَيَّة , عَنْ أَبِي رَجَاء : قَرَأَ الْحَسَن آيَات مِنْ الْبَقَرَة , فَأَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَة : { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } قَالَ : أَلَمْ تَرَوْا إلَى ثِمَار الدُّنْيَا كَيْف تُرْذَلُونَ بَعْضه ؟ وَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِيهِ رَذْل ! ! 434 - وَحَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر , قَالَ : قَالَ الْحَسَن : { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } قَالَ : يُشْبِه بَعْضه بَعْضًا لَيْسَ فِيهِ مِنْ رَذْل . 435 - حَدَّثَنَا بِشْر , قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد , عَنْ سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ : { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } أَيْ خِيَارًا لَا رَذْل فِيهِ , وَإِنَّ ثِمَار الدُّنْيَا يُنَقَّى مِنْهَا وَيُرْذَل مِنْهَا , وَثِمَار الْجَنَّة خِيَار كُلّه لَا يُرْذَل مِنْهُ شَيْء . 436 - وَحَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , قَالَ : ثَمَر الدُّنْيَا مِنْهُ مَا يُرْذَل وَمِنْهُ نَقَاوَة , وَثَمَر الْجَنَّة نَقَاوَة كُلّه يُشْبِه بَعْضه بَعْضًا فِي الطَّيِّب لَيْسَ مِنْهُ مَرْذُول . وَقَالَ بَعْضهمْ : تَشَابَهَهُ فِي اللَّوْن وَهُوَ مُخْتَلِف فِي الطَّعْم . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 437 - حَدَّثَنِي مُوسَى , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ , عَنْ أَبِي مَالِك وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة , عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } فِي اللَّوْن وَالْمَرْأَى , وَلَيْسَ يُشْبِه الطَّعْم . 438 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِم , عَنْ عِيسَى , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد : { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } مِثْل الْخِيَار . * وَحَدَّثَنَا الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَة , قَالَ : حَدَّثَنَا شِبْل عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد : { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } لَوْنه , مُخْتَلِفًا طَعْمه , مِثْل الْخِيَار مِنْ الْقِثَّاء . 439 - وَحُدِّثْت عَنْ عَمَّار بْن الْحَسَن , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس : { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } يُشْبِه بَعْضه بَعْضًا وَيَخْتَلِف الطَّعْم 440 - وَحَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَنْبَأَنَا الثَّوْرِيّ , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد فِي قَوْله : { مُتَشَابِهًا } قَالَ : مُشْتَبَهًا فِي اللَّوْن وَمُخْتَلِفًا فِي الطَّعْم . * حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ مُجَاهِد : { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } مِثْل الْخِيَار . وَقَالَ بَعْضهمْ : تَشَابَهَ فِي اللَّوْن وَالطَّعْم . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 441 - حَدَّثَنَا ابْن وَكِيع . قَالَ : حَدَّثَنَا أَبِي , عَنْ سُفْيَان , عَنْ رَجُل , عَنْ مُجَاهِد قَوْله : { مُتَشَابِهًا } قَالَ : اللَّوْن وَالطَّعْم . 442 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا إسْحَاق , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد الرَّزَّاق , عَنْ الثَّوْرِيّ , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد وَيَحْيَى بْن سَعِيد : { مُتَشَابِهًا } قَالَا : فِي اللَّوْن وَالطَّعْم . وَقَالَ بَعْضهمْ : تُشَابِههُ تَشَابُهَ ثَمَر الْجَنَّة وَثَمَر الدُّنْيَا فِي اللَّوْن وَإِنْ اخْتَلَفَ طُعُومهمَا . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 443 - حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَنْبَأَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر , عَنْ قَتَادَةَ { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } قَالَ : يُشْبِه ثَمَر الدُّنْيَا غَيْر أَنَّ ثَمَر الْجَنَّة أَطْيَب . 444 - وَحَدَّثَنَا الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا إسْحَاق , قَالَ : قَالَ حَفْص بْن عُمَر , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحَكَم بْن أَبَانَ عَنْ عِكْرِمَة فِي قَوْله : { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } قَالَ : يُشْبِه ثَمَر الدُّنْيَا , غَيْر أَنَّ ثَمَر الْجَنَّة أَطْيَب وَقَالَ بَعْضهمْ : لَا يُشْبِه شَيْء مِمَّا فِي الْجَنَّة مَا فِي الدُّنْيَا إلَّا الْأَسْمَاء . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ 445 - حَدَّثَنِي أَبُو كُرَيْبٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا الْأَشْجَعِيّ ح , وَحَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بِشَارِّ , قَالَ : حَدَّثَنَا مُؤَمَّل , قَالَا جَمِيعًا : حَدَّثَنَا سُفْيَان عَنْ الْأَعْمَش , عَنْ أَبِي ظَبْيَانِ , عَنْ ابْن عَبَّاس - قَالَ أَبُو كُرَيْبٍ فِي حَدِيثه عَنْ الْأَشْجَعِيّ - : لَا يُشْبِه شَيْء مِمَّا فِي الْجَنَّة مَا فِي الدُّنْيَا إلَّا الْأَسْمَاء وَقَالَ ابْن بِشَارِّ فِي حَدِيثه عَنْ مُؤَمَّل قَالَ : لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجَنَّة إلَّا الْأَسْمَاء . * حَدَّثَنَا عَبَّاس بْن مُحَمَّد , قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عُبَيْد عَنْ الْأَعْمَش , عَنْ أَبِي ظَبْيَانِ عَنْ ابْن عَبَّاس , قَالَ : لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْجَنَّة شَيْء إلَّا الْأَسْمَاء . 446 - وَحَدَّثَنِي يُونُس بْن عَبْد الْأَعْلَى , قَالَ : أَنْبَأَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : قَالَ عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد فِي قَوْله : { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } قَالَ : يَعْرِفُونَ أَسَمَاءَهُ كَمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا , التُّفَّاح بِالتُّفَّاحِ , وَالرُّمَّان بِالرُّمَّانِ , قَالُوا فِي الْجَنَّة : { هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْل } فِي الدُّنْيَا , { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } يَعْرِفُونَهُ , وَلَيْسَ هُوَ مِثْله فِي الطَّعْم . قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَأَوْلَى هَذِهِ التَّأْوِيلَات بِتَأْوِيلِ الْآيَة , تَأْوِيل مَنْ قَالَ : { وَأُوتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } فِي اللَّوْن وَالْمَنْظَر , وَالطَّعْم مُخْتَلِف . يَعْنِي بِذَلِكَ اشْتِبَاه ثَمَر الْجَنَّة وَثَمَر الدُّنْيَا فِي الْمَنْظَر وَاللَّوْن , مُخْتَلِفًا فِي الطَّعْم وَالذَّوْق ; لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ الْعِلَّة فِي تَأْوِيل قَوْله : { كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَة رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْل } وَأَنَّ مَعْنَاهُ : كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْ الْجِنَان مِنْ ثَمَرَة مِنْ ثِمَارهَا رِزْقًا قَالُوا : هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْل هَذَا فِي الدُّنْيَا . فَأَخْبَرَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ مِنْ أَجْل أَنَّهُمْ أُتُوا بِمَا أُتُوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ فِي الْجَنَّة مُتَشَابِهًا , يَعْنِي بِذَلِكَ تَشَابَهَ مَا أُتُوا بِهِ فِي الْجَنَّة مِنْهُ وَاَلَّذِي كَانُوا رُزِقُوهُ فِي الدُّنْيَا فِي اللَّوْن وَالْمَرْأَى وَالْمَنْظَر وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الطَّعْم وَالذَّوْق فَتَبَايَنَا , فَلَمْ يَكُنْ لِشَيْءٍ مِمَّا فِي الْجَنَّة مِنْ ذَلِكَ نَظِير فِي الدُّنْيَا . وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى فَسَاد قَوْل مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى قَوْله : { قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْل } إنَّمَا هُوَ قَوْل مِنْ أَهْل الْجَنَّة فِي تَشْبِيههمْ بَعْض ثَمَرَات الْجَنَّة بِبَعْضٍ , وَتِلْكَ الدَّلَالَة عَلَى فَسَاد ذَلِكَ الْقَوْل هِيَ الدَّلَالَة عَلَى فَسَاد قَوْل مَنْ خَالَفَ قَوْلنَا فِي تَأْوِيل قَوْله : { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } لِأَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ إنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْله قَالَ الْقَوْم : { هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْل } بِقَوْلِهِ : { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } . وَيَسْأَل مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَيَزْعُم أَنَّهُ غَيْر جَائِز أَنْ يَكُون شَيْء مِمَّا فِي الْجَنَّة نَظِير الشَّيْء مِمَّا فِي الدُّنْيَا بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوه , فَيُقَال لَهُ : أَيَجُوزُ أَنْ يَكُون أَسَمَاء مَا فِي الْجَنَّة مِنْ ثِمَارهَا وَأَطْعِمَتهَا وَأَشْرِبَتهَا نَظَائِر أَسَمَاء مَا فِي الدُّنْيَا مِنْهَا ؟ فَإِنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ خَالَفَ نَصَّ كِتَاب اللَّه , لِأَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ إنَّمَا عَرَّفَ عِبَاده فِي الدُّنْيَا مَا هُوَ عِنْده فِي الْجَنَّة بِالْأَسْمَاءِ الَّتِي يُسَمَّى بِهَا مَا فِي الدُّنْيَا مِنْ ذَلِكَ . وَإِنْ قَالَ : ذَلِكَ جَائِز , بَلْ هُوَ كَذَلِكَ قِيلَ : فَمَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُون أَلْوَان مَا فِيهَا مِنْ ذَلِكَ نَظَائِر أَلْوَان مَا فِي الدُّنْيَا مَعَهُ بِمَعْنَى الْبَيَاض وَالْحُمْرَة وَالصُّفْرَة وَسَائِر صُنُوف الْأَلْوَان وَإِنْ تَبَايَنَتْ فَتَفَاضَلَتْ بِفَضْلِ حُسْنِ الْمِرْآة وَالْمَنْظَر , فَكَانَ لِمَا فِي الْجَنَّة مِنْ ذَلِكَ مِنْ الْبَهَاء وَالْجَمَال وَحُسْن الْمِرْآة وَالْمُنْظِر خِلَاف الَّذِي لِمَا فِي الدُّنْيَا مِنْهُ كَمَا كَانَ جَائِزًا ذَلِكَ فِي الْأَسْمَاء مَعَ اخْتِلَاف الْمُسَمَّيَات بِالْفَضْلِ فِي أَجْسَامهَا ؟ ثُمَّ يَعْكِس عَلَيْهِ الْقَوْل فِي ذَلِكَ , فَلَنْ يَقُول فِي أَحَدهمَا شَيْء إلَّا أُلْزِمَ فِي الْآخِر مِثْله . وَكَانَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ يَقُول فِي ذَلِكَ بِمَا : 447 - حَدَّثَنِي بِهِ ابْن بَشَّار , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن أَبِي عَدِيّ وَعَبْد الْوَهَّاب , وَمُحَمَّد بْن جَعْفَر , عَنْ عَوْف عَنْ قَسَامَة عَنْ الْأَشْعَرِيّ , قَالَ : إنَّ اللَّه لَمَا أَخَرَجَ آدَم مِنْ الْجَنَّة زَوَّدَهُ مِنْ ثِمَار الْجَنَّة , وَعَلَّمَهُ صَنْعَة كُلّ شَيْء , فَثِمَاركُمْ هَذِهِ مِنْ ثِمَار الْجَنَّة , غَيْر أَنَّ هَذِهِ تَغَيَّرَ وَتِلْكَ لَا تَغَيَّرَ وَقَدْ زَعَمَ بَعْض أَهْل الْعَرَبِيَّة أَنَّ مَعْنَى قَوْله : { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } أَنَّهُ مُتَشَابِه فِي الْفَضْل : أَيْ كُلّ وَاحِد مِنْهُ لَهُ مِنْ الْفَضْل فِي نَحْوه مِثْل الَّذِي لِلْآخَرِ فِي نَحْوه . قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَلَيْسَ هَذَا قَوْلًا نستجيز التَّشَاغُل بِالدَّلَالَةِ عَلَى فَسَاده لِخُرُوجِهِ عَنْ قَوْل جَمِيع عُلَمَاء أَهْل التَّأْوِيل , وَحَسَب قَوْل بِخُرُوجِهِ عَنْ قَوْل أَهْل الْعِلْم دَلَالَة عَلَى خَطَئِهِ

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاج مُطَهَّرَة } قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَالْهَاء وَالْمِيم اللَّتَانِ فِي " لَهُمْ " عَائِدَتَانِ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات , وَالْهَاء وَالْأَلِف اللَّتَانِ فِي " فِيهَا " عَائِدَتَانِ عَلَى الْجَنَّات . وَتَأْوِيل ذَلِكَ : وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات أَنَّ لَهُمْ جَنَّات فِيهَا أَزْوَاج مُطَهَّرَة . وَالْأَزْوَاج جَمْع زَوْج , وَهِيَ امْرَأَة الرَّجُل , يُقَال : فُلَانَة زَوْج فُلَان وَزَوْجَته . وَأَمَّا قَوْله { مُطَهَّرَة } فَإِنَّ تَأْوِيله أَنَّهُنَّ طَهُرْنَ مِنْ كُلّ أَذًى وَقَذًى وَرِيبَةٍ , مِمَّا يَكُون فِي نِسَاء أَهْل الدُّنْيَا مِنْ الْحَيْض وَالنِّفَاس وَالْغَائِط وَالْبَوْل وَالْمُخَاط وَالْبُصَاق وَالْمَنِيّ , وَمَا أَشَبَه ذَلِكَ مِنْ الْأَذَى وَالْأَدْنَاس وَالرَّيْب وَالْمَكَارِه . كَمَا : 448 - حَدَّثَنَا بِهِ مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة , عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَّا { أَزْوَاج مُطَهَّرَة } فَإِنَّهُنَّ لَا يَحِضْنَ وَلَا يُحْدِثْنَ وَلَا يَتَنَخَّمْنَ 449 - وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن صَالِح , قَالَ : حَدَّثَنَا مُعَاوِيَة بْن صَالِح , عَنْ عَلَيَّ بْن أَبِي طَلْحَة , عَنْ ابْن عَبَّاس قَوْله : { أَزْوَاج مُطَهَّرَة } يَقُول : مُطَهَّرَة مِنْ الْقَذَر وَالْأَذَى . 450 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بَشَّار , قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى الْقَطَّان , عَنْ سُفْيَان , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد : { وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاج مُطَهَّرَة } قَالَ : لَا يَبُلْنَ وَلَا يَتَغَوَّطْنَ وَلَا يُمْذِيَن . 451 - وَحَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إسْحَاق الْأَهْوَازِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الزُّبَيْرِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَان , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد نَحْوه , إلَّا أَنَّهُ زَادَ فِيهِ : وَلَا يُمْنِينَ وَلَا يَحِضْنَ . 452 - وَحَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِم , عَنْ عِيسَى عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد فِي قَوْل اللَّه : { وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاج مُطَهَّرَة } قَالَ : مُطَهَّرَة مِنْ الْحَيْض وَالْغَائِط وَالْبَوْل والنخام وَالْبُزَاق وَالْمَنِيّ وَالْوَلَد . * وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْن نَصْر , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن الْمُبَارَك , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ مُجَاهِد مِثْله . 453 - وَحَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيّ , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد , قَالَ : لَا يَبُلْنَ وَلَا يَتَغَوَّطْنَ , وَلَا يَحِضْنَ , وَلَا يَلِدْنَ , وَلَا يُمْنِينَ , وَلَا يَبْزُقْنَ . * أَخْبَرَنَا الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَة , قَالَ : حَدَّثَنَا شِبْل , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد نَحْو حَدِيث مُحَمَّد بْن عَمْرو , عَنْ أَبِي عَاصِم . 454 - وَحَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد بْن زُرَيْع , عَنْ سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ : { وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاج مُطَهَّرَة } إي وَاَللَّه مِنْ الْإِثْم وَالْأَذَى . 455 - وَحَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر , عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله : { وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاج مُطَهَّرَة } قَالَ : طَهَّرَهُنَّ اللَّه مِنْ كُلّ بَوْل وَغَائِط وَقَذَر , وَمِنْ كُلّ مَأْثَم . 456 - حُدِّثْت عَنْ عَمَّار بْن الْحَسَن , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ قَتَادَةَ قَالَ : مُطَهَّرَة مِنْ الْحَيْض وَالْحَبَل , وَالْأَذَى . 457 - وَحُدِّثْت عَنْ عَمَّار بْن الْحَسَن , قَالَ : حَدَّثَنِي ابْن أَبِي جَعْفَر عَنْ أَبِيهِ , عَنْ لَيْث , عَنْ مُجَاهِد , قَالَ : الْمُطَهَّرَة مِنْ الْحَيْض وَالْحَبَل . 458 - وَحَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد : { وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاج مُطَهَّرَة } قَالَ الْمُطَهَّرَة : الَّتِي لَا تَحِيض ; قَالَ : وَأَزْوَاج الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِمُطَهَّرَةٍ , أَلَا تَرَاهُنَّ يُدْمِينَ وَيَتْرُكْنَ الصَّلَاة وَالصِّيَام ؟ قَالَ ابْن زَيْد : وَكَذَلِكَ خُلِقَتْ حَوَّاء حَتَّى عَصَتْ , فَلَمَّا عَصَتْ قَالَ اللَّه : إنِّي خَلَقَتْك مُطَهَّرَة وَسَأُدْمِيك كَمَا أَدْمَيْت هَذِهِ الشَّجَرَة 459 - وَحُدِّثْت عَنْ عَمَّار , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع عَنْ الْحَسَن فِي قَوْله { وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاج مُطَهَّرَة } قَالَ : يَقُول : مُطَهَّرَة مِنْ الْحَيْض . * حَدَّثَنَا عَمْرو بْن عَلِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا خَالِد بْن يَزِيد , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَر الرَّازِيُّ , عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس , عَنْ الْحَسَن فِي قَوْله : { وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاج مُطَهَّرَة } قَالَ : مِنْ الْحَيْض . 460 - وَحَدَّثَنَا عَمْرو , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَة , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ عَطَاء قَوْله : { لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاج مُطَهَّرَة } قَالَ : مِنْ الْوَلَد وَالْحَيْض وَالْغَائِط وَالْبَوْل , وَذَكَرَ أَشْيَاء مِنْ هَذَا النَّحْو .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } قَالَ أَبُو جَعْفَر : يَعْنِي تَعَالَى ذِكْره بِذَلِكَ : وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات فِي الْجَنَّات خَالِدُونَ , فَالْهَاء وَالْمِيم مِنْ قَوْله { وَهُمْ } عَائِدَة عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات , وَالْهَاء وَالْأَلِف فِي " فِيهَا " عَلَى الْجَنَّات , وَخُلُودهمْ فِيهَا : دَوَام بَقَائِهِمْ فِيهَا عَلَى مَا أَعْطَاهُمْ اللَّه فِيهَا مِنْ الْحِبَرَة وَالنَّعِيم الْمُقِيم .
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَسورة البقرة الآية رقم 26
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { إنَّ اللَّه لَا يَسْتَحْيِ أَنْ يَضْرِب مَثَلًا مَا بَعُوضَة فَمَا فَوْقهَا } قَالَ أَبُو جَعْفَر : اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي الْمَعْنَى الَّذِي أَنَزَلَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِيهِ هَذِهِ الْآيَة وَفِي تَأْوِيلهَا . فَقَالَ بَعْضهمْ بِمَا : 461 - حَدَّثَنِي بِهِ مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة , عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَمَا ضَرَبَ اللَّه هَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ لِلْمُنَافِقِينَ , يَعْنِي قَوْله : { مَثَلهمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } وَقَوْله : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاء } الْآيَات الثَّلَاث , قَالَ الْمُنَافِقُونَ : اللَّه أَعَلَى وَأَجَلّ مِنْ أَنْ يَضْرِب هَذِهِ الْأَمْثَال . فَأَنْزَلَ اللَّه { إنَّ اللَّه لَا يَسْتَحْيِ أَنْ يَضْرِب مَثَلًا مَا بَعُوضَة } إلَى قَوْله : { أُولَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ } . وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا : 462 - حَدَّثَنِي بِهِ أَحْمَد بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : حَدَّثَنَا قُرَاد عَنْ أَبِي جَعْفَر الرَّازِيُّ , عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس , فِي قَوْله تَعَالَى : { إنَّ اللَّه لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِب مَثَلًا مَا بَعُوضَة فَمَا فَوْقهَا } قَالَ : هَذَا مَثَل ضَرَبَهُ اللَّه لِلدُّنْيَا , إنَّ الْبَعُوضَة تَحْيَا مَا جَاعَتْ , فَإِذَا سَمِنَتْ مَاتَتْ , وَكَذَلِكَ مَثَل هَؤُلَاءِ الْقَوْم الَّذِينَ ضَرَبَ اللَّه لَهُمْ هَذَا الْمَثَل فِي الْقُرْآن , إذَا امْتَلَئُوا مِنْ الدُّنْيَا رِيًّا أَخَذَهُمْ اللَّه عِنْد ذَلِكَ . قَالَ : ثُمَّ تَلَا { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَاب كُلّ شَيْء } 6 44 الْآيَة . 463 - وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : حَدَّثَنَا إسْحَاق بْن الْحَجَّاج , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس بِنَحْوِهِ , إلَّا أَنَّهُ قَالَ : فَإِذَا خَلَتْ آجَالَهُمْ , وَانْقَطَعَتْ مُدَّتهمْ , صَارُوا كَالْبَعُوضَةِ تَحْيَا مَا جَاعَتْ وَتَمُوت إذَا رَوِيَتْ ; فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ضَرَبَ اللَّه لَهُمْ هَذَا الْمَثَل إذَا امْتَلَئُوا مِنْ الدُّنْيَا رِيًّا أَخَذَهُمْ اللَّه فَأَهْلَكَهُمْ , فَذَلِكَ قَوْله : { حَتَّى إذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَة فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ } 6 44 وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا : 464 - حَدَّثَنَا بِهِ بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد , عَنْ سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ قَوْله : { إنَّ اللَّه لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِب مَثَلًا مَا بَعُوضَة فَمَا فَوْقهَا } أَيْ إنَّ اللَّه لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقّ أَنْ يَذْكُر مِنْهُ شَيْء مَا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ إنَّ اللَّه حِين ذَكَرَ فِي كِتَابه الذُّبَاب وَالْعَنْكَبُوت , قَالَ أَهْل الضَّلَالَة : مَا أَرَادَ اللَّه مِنْ ذِكْر هَذَا ؟ فَأَنْزَلَ اللَّه : { إنَّ اللَّه لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِب مَثَلًا مَا بَعُوضَة فَمَا فَوْقهَا } . * وَحَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر , عَنْ قَتَادَةَ , قَالَ : لَمَّا ذَكَرَ اللَّه الْعَنْكَبُوت وَالذُّبَاب , قَالَ الْمُشْرِكُونَ : مَا بَال الْعَنْكَبُوت وَالذُّبَاب يُذْكَرَانِ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّه : { إنَّ اللَّه لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِب مَثَلًا مَا بَعُوضَة فَمَا فَوْقهَا } وَقَدْ ذَهَبَ كُلّ قَائِل مِمَّنْ ذَكَرْنَا قَوْله فِي هَذِهِ الْآيَة وَفِي الْمَعْنَى الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ مَذْهَبًا , غَيْر أَنَّ أَوْلَى ذَلِكَ بِالصَّوَابِ وَأَشْبَهَهُ بِالْحَقِّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْل ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس . وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه جَلَّ ذِكْره أَخْبَرَ عِبَاده أَنَّهُ لَا يَسْتَحْيِ أَنْ يَضْرِب مَثَلًا مَا بَعُوضَة فَمَا فَوْقهَا عَقِيب أَمْثَال قَدْ تَقَدَّمَتْ فِي هَذِهِ السُّورَة ضَرْبهَا لِلْمُنَافِقِينَ دُون الْأَمْثَال الَّتِي ضَرَبَهَا فِي سَائِر السُّوَر غَيْرهَا . فَلَأَنْ يَكُون هَذَا الْقَوْل , أَعْنِي قَوْله : { إنَّ اللَّه لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِب مَثَلًا مَا } جَوَابًا لِنَكِيرِ الْكُفَّار وَالْمُنَافِقِينَ مَا ضَرَبَ لَهُمْ مِنْ الْأَمْثَال فِي هَذِهِ السُّورَة أَحَقّ وَأَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُون ذَلِكَ جَوَابًا لِنَكِيرِهِمْ مَا ضَرَبَ لَهُمْ مِنْ الْأَمْثَال فِي غَيْرهَا مِنْ السُّوَر . فَإِنْ قَالَ قَائِل : إنَّمَا أَوَجَبَ أَنْ يَكُون ذَلِكَ جَوَابًا لِنَكِيرِهِمْ مَا ضَرَبَ مِنْ الْأَمْثَال فِي سَائِر السُّوَر ; لِأَنَّ الْأَمْثَال الَّتِي ضَرَبَهَا اللَّه لَهُمْ وَلِآلِهَتِهِمْ فِي سَائِر السُّوَر أَمْثَال مُوَافَقَة الْمَعْنَى , لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبهُ مَثَلًا , إذْ كَانَ بَعْضهَا تَمْثِيلًا لِآلِهَتِهِمْ بِالْعَنْكَبُوتِ وَبَعْضهَا تَشْبِيهًا لَهَا فِي الضَّعْف وَالْمَهَانَة بِالذُّبَابِ , وَلَيْسَ ذِكْر شَيْء مِنْ ذَلِكَ بِمَوْجُودٍ فِي هَذِهِ السُّورَة فَيَجُوز أَنْ يُقَال : إنَّ اللَّه لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِب مَثَلًا مَا فَإِنَّ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا ظَنَّ , وَذَلِكَ أَنَّ قَوْل اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { إنَّ اللَّه لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِب مَثَلًا مَا بَعُوضَة فَمَا فَوْقهَا } إنَّمَا هُوَ خَبَر مِنْهُ جَلَّ ذِكْره أَنَّهُ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِب فِي الْحَقّ مِنْ الْأَمْثَال صَغِيرهَا وَكَبِيرهَا ابْتِلَاء بِذَلِكَ عِبَاده وَاخْتِبَارًا مِنْهُ لَهُمْ لِيُمَيِّز بِهِ أَهْل الْإِيمَان وَالتَّصْدِيق بِهِ مِنْ أَهْل الضَّلَال وَالْكُفْر بِهِ , إضْلَالًا مِنْهُ بِهِ لِقَوْمِ وَهِدَايَة مِنْهُ بِهِ لِآخَرِينَ كَمَا : 465 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِم , عَنْ عِيسَى , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد فِي قَوْله : { مَثَلًا مَا بَعُوضَة } يَعْنِي الْأَمْثَال صَغِيرهَا وَكَبِيرهَا , يُؤْمِن بِهَا الْمُؤْمِنُونَ , وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقّ مِنْ رَبّهمْ , وَيُهْدِيهِمْ اللَّه بِهَا , وَيَضِلّ بِهَا الْفَاسِقِينَ . يَقُول : يَعْرِفهُ الْمُؤْمِنُونَ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ , وَيَعْرِفهُ الْفَاسِقُونَ فَيَكْفُرُونَ بِهِ . * وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَة , قَالَ : حَدَّثَنَا شِبْل , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد بِمِثْلِهِ . * وَحَدَّثَنِي الْقَاسِم , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ مُجَاهِد مِثْله . قَالَ أَبُو جَعْفَر : لَا أَنَّهُ جَلَّ ذِكْره قَصَدَ الْخَبَر عَنْ عَيْن الْبَعُوضَة أَنَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ ضَرْب الْمَثَل بِهَا , وَلَكِنَّ الْبَعُوضَة لَمَّا كَانَتْ أَضْعَف الْخَلْق - كَمَا : 466 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو سُفْيَان , عَنْ مَعْمَر , عَنْ قَتَادَةَ , قَالَ : الْبَعُوضَة أَضَعْف مَا خَلَقَ اللَّه 467 - وَحَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ بِنَحْوِهِ . خَصَّهَا اللَّه بِالذِّكْرِ فِي الْقِلَّة , فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِب أَقَلَّ الْأَمْثَال فِي الْحَقّ وَأَحْقَرهَا وَأَعْلَاهَا إلَى غَيْر نِهَايَة فِي الِارْتِفَاع جَوَابًا مِنْهُ جَلَّ ذِكْره لِمَنْ أَنْكَرَ مِنْ مُنَافِقِي خَلْقه مَا ضَرَبَ لَهُمْ مِنْ الْمَثَل بِمَوْقِدِ النَّار وَالصَّيِّب مِنْ السَّمَاء عَلَى مَا نَعَتَهُمَا بِهِ مِنْ نَعْتهمَا فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِل : وَأَيْنَ ذِكْر نَكِير الْمُنَافِقِينَ الْأَمْثَال الَّتِي وُصِفَتْ الَّذِي هَذَا الْخَبَر جَوَابه , فَنَعْلَم أَنَّ الْقَوْل فِي ذَلِكَ مَا قُلْت ؟ قِيلَ : الدَّلَالَة عَلَى ذَلِكَ بَيْنهَا جَلَّ ذِكْره فِي قَوْله : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقّ مِنْ رَبّهمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّه بِهَذَا مَثَلًا } وَإِنَّ الْقَوْم الَّذِينَ ضَرَبَ لَهُمْ الْأَمْثَال فِي الْآيَتَيْنِ الْمُقَدَّمَتَيْنِ , اللَّتَيْنِ مَثَل مَا عَلَيْهِ الْمُنَافِقُونَ مُقِيمُونَ فِيهِمَا بِمُوقِدِ النَّار وَبِالصَّيِّبِ مِنْ السَّمَاء عَلَى مَا وُصِفَ مِنْ ذَلِكَ قَبْل قَوْله { إنَّ اللَّه لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِب مَثَلًا } قَدْ أَنْكَرُوا الْمَثَل وَقَالُوا : { مَاذَا أَرَادَ اللَّه بِهَذَا مَثَلًا } , فَأَوْضَحَ خَطَأ قَيْلهمْ ذَلِكَ , وَقَبَّحَ لَهُمْ مَا نَطَقُوا بِهِ وَأَخْبَرَهُمْ بِحُكْمِهِمْ فِي قَيْلهمْ مَا قَالُوا مِنْهُ , وَأَنَّهُ ضَلَال وَفُسُوق , وَأَنَّ الصَّوَاب وَالْهُدَى مَا قَالَهُ الْمُؤْمِنُونَ دُون مَا قَالُوهُ . وَأَمَّا تَأْوِيل قَوْله : { إنَّ اللَّه لَا يَسْتَحْيِي } فَإِنَّ بَعْض الْمَنْسُوبِينَ إلَى الْمَعْرِفَة بِلُغَةِ الْعَرَب كَانَ يَتَأَوَّل مَعْنَى : { إنَّ اللَّه لَا يَسْتَحْيِي } إنَّ اللَّه لَا يَخْشَى أَنْ يَضْرِب مَثَلًا , وَيَسْتَشْهِد عَلَى ذَلِكَ مِنْ قَوْله بِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى : { وَتَخْشَى النَّاس وَاَللَّه أَحَقّ أَنْ تَخْشَاهُ } 33 37 وَيَزْعُم أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ : وَتَسْتَحْيِي النَّاس وَاَللَّه أَحَقّ أَنْ تَسْتَحِيهُ ; فَيَقُول : الِاسْتِحْيَاء بِمَعْنَى الْخَشْيَة , وَالْخَشْيَة بِمَعْنَى الِاسْتِحْيَاء وَأَمَّا مَعْنَى قَوْله : { أَنْ يَضْرِب مَثَلًا } فَهُوَ أَنْ يُبَيِّن وَيَصِف , كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسكُمْ } 30 28 بِمَعْنَى وَصَفَ لَكُمْ , وَكَمَا قَالَ الْكُمَيْت : وَذَلِكَ ضَرْب أَخْمَاس أُرِيدَتْ لِأَسْدَاسٍ عَسَى أَنْ لَا تَكُونَا بِمَعْنَى وَصْف أَخْمَاس . وَالْمَثَل : الشَّبَه , يُقَال : هَذَا مَثَل هَذَا وَمِثْله , كَمَا يُقَال : شَبَهه وَشِبْهه , وَمِنْهُ قَوْل كَعْب بْن زُهَيْر : كَانَتْ مَوَاعِيد عُرْقُوب لَهَا مَثَلًا وَمَا مَوَاعِيدهَا إلَّا الْأَبَاطِيل يَعْنِي شَبَهًا . فَمَعْنَى قَوْله إذَا : { إنَّ اللَّه لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِب مَثَلًا } : إنَّ اللَّه لَا يَخْشَى أَنْ يَصِف شَبَهًا لِمَا شُبِّهَ بِهِ ; وَأَمَّا " مَا " الَّتِي مَعَ " مَثَل " فَإِنَّهَا بِمَعْنَى " الَّذِي " , لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَام : إنَّ اللَّه لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِب الَّذِي هُوَ بَعُوضَة فِي الصِّغَر وَالْقِلَّة فَمَا فَوْقهَا مَثَلًا . فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِل : فَإِنْ كَانَ الْقَوْل فِي ذَلِكَ كَمَا قُلْت فَمَا وَجْه نَصْب الْبَعُوضَة , وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ تَأْوِيل الْكَلَام عَلَى مَا تَأَوَّلْت : { إنَّ اللَّه لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِب مَثَلًا } الَّذِي هُوَ بَعُوضَة , فَالْبَعُوضَة عَلَى قَوْلك فِي مَحَلّ الرَّفْع , فَأَنَّى أَتَاهَا النَّصْب ؟ قِيلَ : أَتَاهَا النَّصْب مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا أَنَّ مَا لَمَا كَانَتْ فِي مَحَلّ نَصْب بِقَوْلِهِ : { يَضْرِب } وَكَانَتْ الْبَعُوضَة لَهَا صِلَة أُعْرِبَتْ بِتَعْرِيبِهَا فَأُلْزِمَتْ إعْرَابهَا كَمَا قَالَ حَسَّان بْن ثَابِت : وَكَفَى بِنَا فَضْلًا عَلَى مَنْ غَيْرنَا حُبّ النَّبِيّ مُحَمَّد إيَّانَا فَعُرِّبَتْ غَيْر بِإِعْرَابِ " مَنْ " , فَالْعَرَب تَفْعَل ذَلِكَ خَاصَّة فِي " مَنْ " و " مَا " تُعْرِب صِلَاتهمَا بِإِعْرَابِهِمَا لِأَنَّهُمَا يَكُونَانِ مَعْرِفَة أَحْيَانًا وَنَكِرَة أَحْيَانًا . وَأَمَّا الْوَجْه الْآخَر , فَأَنْ يَكُون مَعْنَى الْكَلَام : إنَّ اللَّه لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِب مَثَلًا مَا بَيْن بَعُوضَة إلَى مَا فَوْقهَا , ثُمَّ حَذَفَ ذِكْر " بَيْن " و " إلَى " , إذْ كَانَ فِي نَصْب الْبَعُوضَة وَدُخُول الْفَاء فِي " مَا " الثَّانِيَة دَلَالَة عَلَيْهِمَا , كَمَا قَالَتْ الْعَرَب : " مُطِرْنَا مَا زُبَالَة فَالثَّعْلَبِيَّة " و " لَهُ عِشْرُونَ مَا نَاقَة فَجَمْلًا " وَهِيَ أَحَسَن النَّاس مَا قَرْنًا فَقَدَمًا يَعْنُونَ : مَا بَيْن قَرْنهَا إلَى قَدَمهَا , وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي كُلّ مَا حَسُنَ فِيهِ مِنْ الْكَلَام دُخُول " مَا بَيْن كَذَا إلَى كَذَا " , يَنْصِبُونَ الْأَوَّل وَالثَّانِي لِيَدُلّ النَّصْب فِيهِمَا عَلَى الْمَحْذُوف مِنْ الْكَلَام . فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْله : { مَا بَعُوضَة فَمَا فَوْقهَا } . وَقَدْ زَعَمَ بَعْض أَهْل الْعَرَبِيَّة أَنَّ " مَا " الَّتِي مَعَ الْمَثَل صِلَة فِي الْكَلَام بِمَعْنَى التَّطَوُّل , وَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَام : إنَّ اللَّه لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِب بَعُوضَة مَثَلًا فَمَا فَوْقهَا . فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيل يَجِب أَنْ تَكُون بَعُوضَة مَنْصُوبَة ب " يَضْرِب " , وَأَنْ تَكُون " مَا " الثَّانِيَة الَّتِي فِي " فَمَا فَوْقهَا " مَعْطُوفَة عَلَى الْبَعُوضَة لَا عَلَى " مَا " . وَأَمَّا تَأْوِيل قَوْله : { فَمَا فَوْقهَا } : فَمَا هُوَ أَعْظَم مِنْهَا عِنْدِي لِمَا ذَكَرْنَا قَبْل مِنْ قَوْل قَتَادَةَ وَابْن جُرَيْجٍ أَنَّ الْبَعُوضَة أَضَعْف خَلْق اللَّه , فَإِذَا كَانَتْ أَضَعْف خَلْق اللَّه فَهِيَ نِهَايَة فِي الْقِلَّة وَالضَّعْف , وَإِذْ كَانَتْ كَذَلِكَ فَلَا شَكَّ أَنَّ مَا فَوْق أَضَعْف الْأَشْيَاء لَا يَكُون إلَّا أَقْوَى مِنْهُ , فَقَدْ يَجِب أَنْ يَكُون الْمَعْنَى عَلَى مَا قَالَاهُ فَمَا فَوْقهَا فِي الْعِظَم وَالْكِبَر , إذْ كَانَتْ الْبَعُوضَة نِهَايَة فِي الضَّعْف وَالْقِلَّة . وَقِيلَ فِي تَأْوِيل قَوْله : { فَمَا فَوْقهَا } فِي الصِّغَر وَالْقِلَّة , كَمَا يُقَال فِي الرَّجُل يَذْكُرهُ الذَّاكِر فَيَصِفهُ بِاللُّؤْمِ وَالشُّحّ , فَيَقُول السَّامِع : نَعَمْ , وَفَوْق ذَاكَ , يَعْنِي فَوْق الَّذِي وُصِفَ فِي الشُّحّ وَاللُّؤْم . وَهَذَا قَوْل خِلَاف تَأْوِيل أَهْل الْعِلْم الَّذِينَ تُرْتَضَى مَعْرِفَتهمْ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآن , فَقَدْ تَبَيَّنَ إذًا بِمَا وَصَفْنَا أَنَّ مَعْنَى الْكَلَام : إنَّ اللَّه لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَصِف شَبَهًا لَمَّا شَبَّهَ بِهِ الَّذِي هُوَ مَا بَيْن بَعُوضَة إلَى مَا فَوْق الْبَعُوضَة . فَأَمَّا تَأْوِيل الْكَلَام لَوْ رُفِعَتْ الْبَعُوضَة فَغَيْر جَائِز فِي مَا إلَّا مَا قُلْنَا مِنْ أَنْ تَكُون اسْمًا لَا صِلَة بِمَعْنَى التَّطَوُّل .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقّ مِنْ رَبّهمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّه بِهَذَا مَثَلًا } قَالَ أَبُو جَعْفَر : يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْره : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا } فَأَمَّا الَّذِينَ صَدَقُوا اللَّه وَرَسُوله . وَقَوْله : { فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقّ مِنْ رَبّهمْ } يَعْنِي فَيَعْرِفُونَ أَنَّ الْمَثَل الَّذِي ضَرَبَهُ اللَّه لَمَا ضَرَبَهُ لَهُ مَثَل . كَمَا . 468 - حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا إسْحَاق بْن الْحَجَّاج قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقّ مِنْ رَبّهمْ } أَنَّ هَذَا الْمَثَل الْحَقّ مِنْ رَبّهمْ أَنَّهُ كَلَام اللَّه وَمِنْ عِنْده . وَكَمَا : 469 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد بْن زُرَيْع , عَنْ سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ , قَوْله : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقّ مِنْ رَبّهمْ } : أَيْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ كَلَام الرَّحْمَن وَأَنَّهُ الْحَقّ مِنْ اللَّه . { وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّه بِهَذَا مَثَلًا } قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَقَوْله : { وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا } يَعْنِي الَّذِينَ جَحَدُوا آيَات اللَّه وَأَنْكَرُوا مَا عَرَفُوا وَسَتَرُوا مَا عَلِمُوا أَنَّهُ حَقّ . وَذَلِكَ صِفَة الْمُنَافِقِينَ , وَإِيَّاهُمْ عَنَى اللَّه جَلَّ وَعَزَّ وَمَنْ كَانَ مِنْ نُظَرَائِهِمْ وَشُرَكَائِهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْل الْكِتَاب وَغَيْرهمْ بِهَذِهِ الْآيَة , فَيَقُولُونَ : مَاذَا أَرَادَ اللَّه بِهَذَا مَثَلًا , كَمَا قَدْ ذَكَرْنَا قَبْل مِنْ الْخَبَر الَّذِي رَوَيْنَاهُ عَنْ مُجَاهِد الَّذِي : 470 - حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّد عَنْ عَمْرو , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِم , عَنْ عِيسَى , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقّ مِنْ رَبّهمْ } الْآيَة , قَالَ : يُؤْمِن بِهَا الْمُؤْمِنُونَ , وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقّ مِنْ رَبّهمْ , وَيَهْدِيهِمْ اللَّه بِهَا وَيُضِلّ بِهَا الْفَاسِقُونَ . يَقُول : يَعْرِفهُ الْمُؤْمِنُونَ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ , وَيَعْرِفهُ الْفَاسِقُونَ فَيَكْفُرُونَ بِهِ . وَتَأْوِيل قَوْله : { مَاذَا أَرَادَ اللَّه بِهَذَا مَثَلًا } مَا الَّذِي أَرَادَ اللَّه بِهَذَا الْمَثَل مَثَلًا , ف " ذَا " الَّذِي مَعَ " مَا " فِي مَعْنَى " الَّذِي " وَأَرَادَ صِلَته , وَهَذَا إشَارَة إلَى الْمَثَل .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { يُضِلّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } قَالَ أَبُو جَعْفَر : يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ : { يُضِلّ بِهِ كَثِيرًا } يُضِلّ اللَّه بِهِ كَثِيرًا مِنْ خَلْقه وَالْهَاء فِي " بِهِ " مِنْ ذِكْر الْمَثَل . وَهَذَا خَبَر مِنْ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ مُبْتَدَأ , وَمَعْنَى الْكَلَام : أَنَّ اللَّه يُضِلّ بِالْمَثَلِ الَّذِي يَضُرّ بِهِ كَثِيرًا مِنْ أَهْل النِّفَاق وَالْكُفْر . كَمَا : 471 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة , عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يُضِلّ بِهِ كَثِيرًا } يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ , { وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ ; فَيَزِيد هَؤُلَاءِ ضَلَالًا إلَى ضَلَالهمْ لِتَكْذِيبِهِمْ بِمَا قَدْ عَلِمُوهُ حَقًّا يَقِينًا مِنْ الْمَثَل الَّذِي ضَرَبَهُ اللَّه لِمَا ضَرَبَهُ لَهُ وَأَنَّهُ لِمَا ضَرَبَهُ لَهُ مُوَافِق , فَذَلِكَ إضْلَال اللَّه إيَّاهُمْ بِهِ . { وَيَهْدِي بِهِ } يَعْنِي بِالْمَثَلِ كَثِيرًا مِنْ أَهْل الْإِيمَان وَالتَّصْدِيق , فَيَزِيدهُمْ هُدًى إلَى هُدَاهُمْ وَإِيمَانًا إلَى إيمَانهمْ , لِتَصْدِيقِهِمْ بِمَا قَدْ عَلِمُوهُ حَقًّا يَقِينًا أَنَّهُ مُوَافِق مَا ضَرَبَهُ اللَّه لَهُ مَثَلًا وَإِقْرَارهمْ بِهِ , وَذَلِكَ هِدَايَة مِنْ اللَّه لَهُمْ بِهِ . وَقَدْ زَعَمَ بَعْضهمْ أَنَّ ذَلِكَ خَبَر عَنْ الْمُنَافِقِينَ , كَأَنَّهُمْ قَالُوا : مَاذَا أَرَادَ اللَّه بِمَثَلٍ لَا يَعْرِفهُ كُلّ أَحَد يُضِلّ بِهِ هَذَا وَيَهْدِي بِهِ هَذَا . ثُمَّ اُسْتُؤْنِفَ الْكَلَام وَالْخَبَر عَنْ اللَّه فَقَالَ اللَّه : { وَمَا يُضِلّ بِهِ إلَّا الْفَاسِقِينَ } وَفِيمَا فِي سُورَة الْمُدَّثِّر - مِنْ قَوْل اللَّه : { وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبهمْ مَرَض وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّه بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلّ اللَّه مَنْ يَشَاء وَيَهْدِي مَنْ يُشَاء } 74 31 مَا يُنْبِئ عَنْ أَنَّهُ فِي سُورَة الْبَقَرَة كَذَلِكَ مُبْتَدَأ , أَعْنِي قَوْله : { يُضِلّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا }

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَمَا يُضِلّ بِهِ إلَّا الْفَاسِقِينَ } وَتَأْوِيل ذَلِكَ مَا : 472 - حَدَّثَنِي بِهِ مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ , عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس وَعَنْ مُرَّة , عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَمَا يُضِلّ بِهِ إلَّا الْفَاسِقِينَ } : هُمْ الْمُنَافِقُونَ . 473 - وَحَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد , عَنْ سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ : { وَمَا يُضِلّ بِهِ إلَّا الْفَاسِقِينَ } فَسَقُوا فَأَضَلَّهُمْ اللَّه عَلَى فِسْقهمْ . 474 - وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا إسْحَاق , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس : { وَمَا يُضِلّ بِهِ إلَّا الْفَاسِقِينَ } : هُمْ أَهْل النِّفَاق . قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَأَصْل الْفِسْق فِي كَلَام الْعَرَب : الْخُرُوج عَنْ الشَّيْء , يُقَال مِنْهُ : فَسَقَتْ الرُّطَبَة , إذَا خَرَجَتْ مِنْ قِشْرهَا ; وَمِنْ ذَلِكَ سُمِّيَتْ الْفَأْرَة فُوَيْسِقَة , لِخُرُوجِهَا عَنْ جُحْرهَا . فَكَذَلِكَ الْمُنَافِق وَالْكَافِر سُمِّيَا فَاسِقَيْنِ لِخُرُوجِهِمَا عَنْ طَاعَة رَبّهمَا , وَلِذَلِكَ قَالَ جَلَّ ذِكْره فِي صِفَة إبْلِيس : { إلَّا إبْلِيس كَانَ مِنْ الْجِنّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْر رَبّه } 18 50 يَعْنِي بِهِ : خَرَجَ عَنْ طَاعَته وَاتِّبَاع أَمْره . كَمَا : 475 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة ة , قَالَ : حَدَّثَنِي ابْن إسْحَاق عَنْ دَاوُد بْن الْحَصِين , عَنْ عِكْرِمَة مَوْلَى ابْن عَبَّاس , عَنْ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله : { بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } 2 59 أَيْ بِمَا بَعِدُوا عَنْ أَمْرِي . فَمَعْنَى قَوْله : { وَمَا يُضِلّ بِهِ إلَّا الْفَاسِقِينَ } : وَمَا يُضِلّ اللَّه بِالْمَثَلِ الَّذِي يَضْرِبهُ لِأَهْلِ الضَّلَال وَالنِّفَاق إلَّا الْخَارِجِينَ عَنْ طَاعَته وَالتَّارِكِينَ اتِّبَاع أَمْره مِنْ أَهْل الْكُفْر بِهِ مِنْ أَهْل الْكِتَاب وَأَهْل الضَّلَال مِنْ أَهْل النِّفَاق .
الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَسورة البقرة الآية رقم 27
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْد اللَّه مِنْ بَعْد مِيثَاقه } قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَهَذَا وَصْف مِنْ اللَّه جَلَّ ذِكْره الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُضِلّ بِالْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبَهُ لِأَهْلِ النِّفَاق غَيْرهمْ , فَقَالَ : { وَمَا يُضِلّ } اللَّه بِالْمَثَلِ الَّذِي يَضْرِبهُ عَلَى مَا وَصَفَ قَبْل فِي الْآيَات الْمُتَقَدِّمَة إلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْد اللَّه مِنْ بَعْد مِيثَاقه . ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْل الْمَعْرِفَة فِي مَعْنَى الْعَهْد الَّذِي وَصَفَ اللَّه هَؤُلَاءِ الْفَاسِقِينَ بِنَقْضِهِ , فَقَالَ بَعْضهمْ : هُوَ وَصِيَّة اللَّه إلَى خَلْقه , وَأَمْره إيَّاهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ طَاعَته , وَنَهْيه إيَّاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ مِنْ مَعْصِيَته فِي كُتُبه وَعَلَى لِسَان رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَنَقْضهمْ ذَلِكَ تَرْكهمْ الْعَمَل بِهِ . وَقَالَ آخَرُونَ : إنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَات فِي كُفَّار أَهْل الْكِتَاب وَالْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ , وَإِيَّاهُمْ عَنَى اللَّه جَلَّ ذِكْره بِقَوْلِهِ { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتهمْ } وَبِقَوْلِهِ : { وَمِنْ النَّاس مَنْ يَقُول آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر } فَكُلّ مَا فِي هَذِهِ الْآيَات فَعَذْل لَهُمْ وَتَوْبِيخ إلَى انْقِضَاء قَصَصهمْ . قَالُوا : فَعَهْد اللَّه الَّذِي نَقَضُوهُ بَعْد مِيثَاقه : هُوَ مَا أَخَذَهُ اللَّه عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاة مِنْ الْعَمَل بِمَا فِيهَا , وَاتِّبَاع مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا بُعِثَ , وَالتَّصْدِيق بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْد رَبّهمْ . وَنَقْضهمْ ذَلِكَ هُوَ جُحُودهمْ بِهِ بَعْد مَعْرِفَتهمْ بِحَقِيقَتِهِ , وَإِنْكَارهمْ ذَلِكَ , وَكِتْمَانهمْ عِلْم ذَلِكَ عَنْ النَّاس , بَعْد إعْطَائِهِمْ اللَّه مِنْ أَنْفُسهمْ الْمِيثَاق لَيُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا يَكْتُمُونَهُ . فَأَخْبَرَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُمْ نَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورهمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا . وَقَالَ بَعْضهمْ : إنَّ اللَّه عَنَى بِهَذِهِ الْآيَة جَمِيع أَهْل الشِّرْك وَالْكُفْر وَالنِّفَاق وَعَهْده إلَى جَمِيعهمْ فِي تَوْحِيده مَا وَضَعَ لَهُمْ مِنْ الْأَدِلَّة الدَّالَّة عَلَى رُبُوبِيَّته وَعَهْده إلَيْهِمْ فِي أَمْره وَنَهْيه مَا احْتَجَّ بِهِ لِرُسُلِهِ مِنْ الْمُعْجِزَات الَّتِي لَا يَقْدِر أَحَد مِنْ النَّاس غَيْرهمْ أَنْ يَأْتِي بِمِثْلِهَا الشَّاهِدَة لَهُمْ عَلَى صَدْقهمْ . قَالُوا : وَنَقْضهمْ ذَلِكَ تَرْكهمْ الْإِقْرَار بِمَا قَدْ تَبَيَّنَتْ لَهُمْ صِحَّته بِالْأَدِلَّةِ , وَتَكْذِيبهمْ الرُّسُل وَالْكُتُب , مَعَ عِلْمهمْ أَنَّ مَا أَتَوْا بِهِ حَقّ وَقَالَ آخَرُونَ : الْعَهْد الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّه جَلَّ ذِكْره , هُوَ الْعَهْد الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ حِين أَخَرَجَهُمْ مِنْ صُلْب آدَم , الَّذِي وَصَفَهُ فِي قَوْله : { وَإِذْ أَخَذَ رَبّك مِنْ بَنِي آدَم مِنْ ظُهُورهمْ ذُرِّيَّتهمْ وَأَشْهَدهُمْ عَلَى أَنْفُسهمْ } 7 172 : 173 الْآيَتَيْنِ , وَنَقْضهمْ ذَلِكَ , تَرْكهمْ الْوَفَاء بِهِ . وَأَوْلَى الْأَقْوَال عِنْدِي بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ , قَوْل مَنْ قَالَ : إنَّ هَذِهِ الْآيَات نَزَلَتْ فِي كُفَّار أَحْبَار الْيَهُود الَّذِينَ كَانُوا بَيْن ظَهْرَانَيْ مُهَاجِر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَمَا قَرُبَ مِنْهَا مِنْ بَقَايَا بَنِي إسْرَائِيل , وَمَنْ كَانَ عَلَى شِرْكه مِنْ أَهْل النِّفَاق الَّذِينَ قَدْ بَيَّنَّا قَصَصهمْ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابنَا هَذَا . وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ قَوْل اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاء عَلَيْهِمْ } وَقَوْله : { وَمِنْ النَّاس مَنْ يَقُول آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر } فِيهِمْ أُنْزِلَتْ , وَفِيمَنْ كَانَ عَلَى مِثْل الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الشِّرْك بِاَللَّهِ . غَيْر أَنَّ هَذِهِ الْآيَات عِنْدِي وَإِنْ كَانَتْ فِيهِمْ نَزَلَتْ , فَإِنَّهُ مَعَنِي بِهَا كُلّ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْل مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الضَّلَال وَمَعَنِي بِمَا وَافَقَ مِنْهَا صِفَة الْمُنَافِقِينَ خَاصَّة جَمِيع الْمُنَافِقِينَ , وَبِمَا وَافَقَ مِنْهَا صِفَة كُفَّار أَحْبَار الْيَهُود جَمِيع مَنْ كَانَ لَهُمْ نَظِيرًا فِي كُفْرهمْ . وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ يَعُمّ أَحْيَانًا جَمِيعهمْ بِالصِّفَّةِ لِتَقْدِيمِهِ ذِكْر جَمِيعهَا فِي أَوَّل الْآيَات الَّتِي ذَكَرَتْ قَصَصهمْ , وَيَخُصّ أَحْيَانًا بِالصِّفَّةِ بَعْضهمْ لِتَفْصِيلِهِ فِي أَوَّل الْآيَات بَيْن فَرِيقَيْهِمْ , أَعْنِي فَرِيق الْمُنَافِقِينَ مِنْ عَبَدَة الْأَوْثَان وَأَهْل الشِّرْك بِاَللَّهِ , وَفَرِيق كُفَّار أَحْبَار الْيَهُود , فَاَلَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْد اللَّه : هُمْ التَّارِكُونَ مَا عَهِدَ اللَّه إلَيْهِمْ مِنْ الْإِقْرَار بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ وَتَبَيَّنَ نُبُوَّته لِلنَّاسِ الْكَاتِمُونَ بَيَان ذَلِكَ بَعْد عِلْمهمْ بِهِ وَبِمَا قَدْ أَخَذَ اللَّه عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ , كَمَا قَالَ اللَّه جَلَّ ذِكْره : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّه مِيثَاق الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورهمْ } 3 187 وَنَبْذهمْ ذَلِكَ وَرَاء ظُهُورهمْ : هُوَ نَقْضهمْ الْعَهْد الَّذِي عَهْد إلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاة الَّذِي وَصَفْنَاهُ , وَتَرْكهمْ الْعَمَل بِهِ . وَإِنَّمَا قُلْت : إنَّهُ عَنَى بِهَذِهِ الْآيَات مَنْ قُلْت إنَّهُ عَنَى بِهَا , لِأَنَّ الْآيَات مِنْ ابْتِدَاء الْآيَات الْخَمْس وَالسِّتّ مِنْ سُورَة الْبَقَرَة فِيهِمْ نَزَلَتْ إلَى تَمَام قَصَصهمْ , وَفِي الْآيَة الَّتِي بَعْد الْخَبَر عَنْ خَلْق آدَم وَبَيَانه فِي قَوْله : { يَا بَنِي إسْرَائِيل اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْت عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } 2 40 وَخِطَابه إيَّاهُمْ جَلَّ ذِكْره بِالْوَفَاءِ فِي ذَلِكَ خَاصَّة دُون سَائِر الْبَشَر مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ قَوْله : { الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْد اللَّه مِنْ بَعْد مِيثَاقه } مَقْصُود بِهِ كُفَّارُهُمْ وَمُنَافِقُوهُمْ , وَمَنْ كَانَ مِنْ أَشْيَاعهمْ مِنْ مُشْرِكِي عَبَدَة الْأَوْثَان عَلَى ضَلَالهمْ . غَيْر أَنَّ الْخِطَاب وَإِنْ كَانَ لِمَنْ وَصَفْت مِنْ الْفَرِيقَيْنِ فَدَاخِل فِي أَحْكَامهمْ وَفِيمَا أَوَجَبَ اللَّه لَهُمْ مِنْ الْوَعِيد وَالذَّمّ وَالتَّوْبِيخ كُلّ مَنْ كَانَ عَلَى سَبِيلهمْ وَمِنْهَاجهمْ مِنْ جَمِيع الْخَلْق وَأَصْنَاف الْأُمَم الْمُخَاطَبِينَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْي فَمَعْنَى الْآيَة إذًا : وَمَا يُضِلّ بِهِ إلَّا التَّارِكِينَ طَاعَة اللَّه , الْخَارِجِينَ عَنْ اتِّبَاع أَمْره وَنَهْيه النَّاكِثِينَ عُهُود اللَّه الَّتِي عَهِدَهَا إلَيْهِمْ فِي الْكُتُب الَّتِي أَنَزَلَهَا إلَى رُسُله وَعَلَى أَلْسُن أَنْبِيَائِهِ بِاتِّبَاعِ أَمْر رَسُوله مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَ بِهِ , وَطَاعَة اللَّه فِيمَا افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاة مِنْ تَبْيِين أَمْره لِلنَّاسِ , وَإِخْبَارهمْ إيَّاهُمْ أَنَّهُمْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدهمْ أَنَّهُ رَسُول مِنْ عِنْد اللَّه مُفْتَرِضَة طَاعَته . وَتَرْك كِتْمَان ذَلِكَ لَهُمْ وَنَكْثهمْ ذَلِكَ وَنَقْضهمْ إيَّاهُ , هُوَ مُخَالَفَتهمْ اللَّه فِي عَهْده إلَيْهِمْ فِيمَا وَصَفْت أَنَّهُ عَهِدَ إلَيْهِمْ بَعْد إعْطَائِهِمْ رَبّهمْ الْمِيثَاق بِالْوَفَاءِ بِذَلِكَ كَمَا وَصَفَهُمْ بِهِ جَلَّ ذِكْره بِقَوْلِهِ : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدهمْ خَلْف وَرِثُوا الْكِتَاب يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَض مِثْله يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذ عَلَيْهِمْ مِيثَاق الْكِتَاب أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّه إلَّا الْحَقّ } 7 169 وَأَمَّا قَوْله : { مِنْ بَعْد مِيثَاقه } فَإِنَّهُ يَعْنِي مِنْ بَعْد تَوَثُّق اللَّه فِيهِ بِأَخَذِ عُهُوده بِالْوَفَاءِ لَهُ بِمَا عَهِدَ إلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ , غَيْر أَنَّ التَّوَثُّق مَصْدَر مِنْ قَوْلك : تَوَثَّقْت مِنْ فُلَان تَوَثُّقًا , وَالْمِيثَاق اسْم مِنْهُ , وَالْهَاء فِي الْمِيثَاق عَائِدَة عَلَى اسْم اللَّه . وَقَدْ يَدْخُل فِي حُكْم هَذِهِ الْآيَة كُلّ مَنْ كَانَ بِالصِّفَّةِ الَّتِي وَصَفَ اللَّه بِهَا هَؤُلَاءِ الْفَاسِقِينَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَالْكُفَّار فِي نَقْضِ الْعَهْد وَقَطْع الرَّحِم وَالْإِفْسَاد فِي الْأَرْض . كَمَا : 476 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد , عَنْ سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ قَوْله : { الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْد اللَّه مِنْ بَعْد مِيثَاقه } فَإِيَّاكُمْ وَنَقْض هَذَا الْمِيثَاق , فَإِنَّ اللَّه قَدْ كَرِهَ نَقْضه وَأَوْعَدَ فِيهِ وَقَدَّمَ فِيهِ فِي آي الْقُرْآن حُجَّة وَمَوْعِظَة وَنَصِيحَة , وَإِنَّا لَا نَعْلَم اللَّه جَلَّ ذِكْره أَوْعَدَ فِي ذَنْب مَا أَوْعَدَ فِي نَقْض الْمِيثَاق , فَمَنْ أَعْطَى عَهْد اللَّه وَمِيثَاقه مِنْ ثَمَرَة قَلْبه فليف بِهِ لِلَّهِ . 477 - وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا إسْحَاق , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ عَنْ الرَّبِيع فِي قَوْله : { الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْد اللَّه مِنْ بَعْد مِيثَاقه وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّه بِهِ أَنْ يُوصَل وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْض أُولَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ } فَهِيَ سِتّ خِلَال فِي أَهْل النِّفَاق إذَا كَانَتْ لَهُمْ الظُّهْرَة أَظَهَرُوا هَذِهِ الْخِلَال السِّتّ جَمِيعًا : إذَا حَدَّثُوا كَذَبُوا , وَإِذَا وَعَدُوا أَخْلَفُوا , وَإِذَا اُؤْتُمِنُوا خَانُوا , وَنَقَضُوا عَهْد اللَّه مِنْ بَعْد مِيثَاقه , وَقَطَعُوا مَا أَمَرَ اللَّه بِهِ أَنْ يُوصَل , وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْض . وَإِذَا كَانَتْ عَلَيْهِمْ الظُّهْرَة أَظَهَرُوا الْخِلَال الثَّلَاث : إذَا حَدَّثُوا كَذَّبُوا , وَإِذَا وَعَدُوا أَخْلَفُوا , وَإِذَا اُؤْتُمِنُوا خَانُوا .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّه بِهِ أَنْ يُوصَل } قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَاَلَّذِي رَغَّبَ اللَّه فِي وَصْله وَذَمَّ عَلَى قَطْعه فِي هَذِهِ الْآيَة : الرَّحِم , وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي كِتَابه فَقَالَ تَعَالَى : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْض وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامكُمْ } 47 22 وَإِنَّمَا عَنَى بِالرَّحِمِ : أَهْل الرَّجُل الَّذِينَ جَمَعَتْهُمْ وَإِيَّاهُ رَحِم وَالِدَة وَاحِدَة , وَقَطَعَ ذَلِكَ ظُلْمه فِي تَرْك أَدَاء مَا أَلْزَمَ اللَّه مِنْ حُقُوقهَا وَأَوْجَبَ مِنْ بِرّهَا وَوَصْلهَا أَدَاء الْوَاجِب لَهَا إلَيْهَا : مِنْ حُقُوق اللَّه الَّتِي أَوَجَبَ لَهَا , وَالتَّعَطُّف عَلَيْهَا بِمَا يَحِقّ التَّعَطُّف بِهِ عَلَيْهَا . و " أَنَّ " الَّتِي مَعَ " يُوصَل " فِي مَحَلّ خَفْض بِمَعْنَى رَدّهَا عَلَى مَوْضِع الْهَاء الَّتِي فِي " بِهِ " فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَام : وَيَقْطَعُونَ الَّذِي أَمَرَ اللَّه بِأَنْ يُوصَل . وَالْهَاء الَّتِي فِي " بِهِ " هِيَ كِنَايَة عَنْ ذِكْر " أَنْ يُوصَل " . وَبِمَا قُلْنَا فِي تَأْوِيل قَوْله : { وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّه بِهِ أَنْ يُوصَل } وَأَنَّهُ الرَّحِم كَانَ قَتَادَةَ يَقُول 478 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد , عَنْ سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ : { وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّه بِهِ أَنْ يُوصَل } فَقَطَعَ وَاَللَّه مَا أَمَرَ اللَّه بِهِ أَنْ يُوصَل بِقَطِيعَةِ الرَّحِم وَالْقَرَابَة . وَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضهمْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّه ذَمَّهُمْ بِقَطْعِهِمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَأَرْحَامهمْ , وَاسْتُشْهِدَ عَلَى ذَلِكَ بِعُمُومِ ظَاهِر الْآيَة , وَأَنْ لَا دَلَالَة عَلَى أَنَّهُ مَعَنِي بِهَا : بَعْض مَا أَمَرَ اللَّه وَصْله دُون بَعْض . قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَهَذَا مَذْهَب مِنْ تَأْوِيل الْآيَة غَيْر بِعِيدٍ مِنْ الصَّوَاب , وَلَكِنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ ذَكَرَ الْمُنَافِقِينَ فِي غَيْر آيَة مِنْ كِتَابه , فَوَصَفَهُمْ بِقَطْعِ الْأَرْحَام . فَهَذِهِ نَظِيرَة تِلْكَ , غَيْر أَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ فَهِيَ دَالَّة عَلَى ذَمّ اللَّه كُلّ قَاطِع قَطَعَ مَا أَمَرَ اللَّه بِوَصْلِهِ رَحَمًا كَانَتْ أَوْ غَيْرهَا .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْض } قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَفَسَادهمْ فِي الْأَرْض هُوَ مَا تَقَدَّمَ وَصَفْنَاهُ قَبْل مِنْ مَعْصِيَتهمْ رَبّهمْ وَكُفْرهمْ بِهِ , وَتَكْذِيبهمْ رَسُوله , وَجَحْدهمْ نُبُوَّته , وَإِنْكَارهمْ مَا أَتَاهُمْ بِهِ مِنْ عِنْد اللَّه أَنَّهُ حَقّ مِنْ عِنْده .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { أُولَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ } قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَالْخَاسِرُونَ جَمْع خَاسِر , وَالْخَاسِرُونَ : النَّاقِصُونَ أَنْفُسهمْ حُظُوظهَا بِمَعْصِيَتِهِمْ اللَّه مِنْ رَحْمَته , كَمَا يَخْسَر الرَّجُل فِي تِجَارَته بِأَنْ يُوضَع مِنْ رَأْس مَاله فِي بَيْعه . فَكَذَلِكَ الْكَافِر وَالْمُنَافِق خَسِرَ بِحِرْمَانِ اللَّه إيَّاهُ رَحْمَته الَّتِي خَلَقَهَا لِعِبَادِهِ فِي الْقِيَامَة أَحْوَج مَا كَانَ إلَى رَحْمَته , يُقَال مِنْهُ : خَسِرَ الرَّجُل يَخْسَر خُسْرًا وَخُسْرَانًا وَخَسَارًا , كَمَا قَالَ جَرِير بْن عَطِيَّة : إنَّ سَلِيطًا فِي الْخَسَار إنَّهُ أَوْلَاد قَوْم خُلِقُوا أَقِنَّهْ يَعْنِي بِقَوْلِهِ فِي الْخَسَار : أَيْ فِيمَا يوكسهم حُظُوظهمْ مِنْ الشَّرَف وَالْكَرَم . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ مَعْنَى { أُولَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ } : أُولَئِكَ هُمْ الْهَالِكُونَ . وَقَدْ يَجُوز أَنْ يَكُون قَائِل ذَلِكَ أَرَادَ مَا قُلْنَا مِنْ هَلَاك الَّذِي وَصَفَ اللَّه صِفَته بِالصِّفَّةِ الَّتِي وَصَفَهُ بِهَا فِي هَذِهِ الْآيَة بِحِرْمَانِ اللَّه إيَّاهُ مَا حَرَمَهُ مِنْ رَحْمَته بِمَعْصِيَتِهِ إيَّاهُ وَكُفْره بِهِ . فَحُمِلَ تَأْوِيل الْكَلَام عَلَى مَعْنَاهُ دُون الْبَيَان عَنْ تَأْوِيل عَيْن الْكَلِمَة بِعَيْنِهَا , فَإِنَّ أَهْل التَّأْوِيل رُبَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ لِعِلَلٍ كَثِيرَة تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ . وَقَالَ بَعْضهمْ فِي ذَلِكَ بِمَا : 479 - حُدِّثْت بِهِ عَنْ المنجاب , قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْر بْن عُمَارَة عَنْ أَبِي رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك , عَنْ ابْن عَبَّاس , قَالَ : كُلّ شَيْء نَسَبَهُ اللَّه إلَى غَيْر أَهْل الْإِسْلَام مِنْ اسْم مِثْل " خَاسِر " , فَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ الْكُفْر , وَمَا نَسَبَهُ إلَى أَهْل الْإِسْلَام فَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ الذَّنْب .
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَسورة البقرة الآية رقم 28
يُمِيتكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ " الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { كَيْف تَكْفُرُونَ بِاَللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ } اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي تَأْوِيل ذَلِكَ . فَقَالَ بَعْضهمْ بِمَا : 480 - حَدَّثَنِي بِهِ مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة , عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { كَيْف تَكْفُرُونَ بِاَللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } يَقُول : لَمْ تَكُونُوا شَيْء فَخَلَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ يَوْم الْقِيَامَة . 481 - وَحَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بَشَّار , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن مَهْدِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَان , عَنْ أَبِي إسْحَاق , عَنْ أَبِي الْأَحْوَص , عَنْ عَبْد اللَّه فِي قَوْله : { أَمَتّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتنَا اثْنَتَيْنِ } 40 11 قَالَ : هِيَ كَاَلَّتِي فِي الْبَقَرَة : { كُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } 482 - وَحَدَّثَنِي أَبُو حُصَيْن عَبْد اللَّه بْن أَحْمَد بْن عَبْد اللَّه بْن يُونُس , قَالَ : حَدَّثَنَا عبثر , قَالَ : حَدَّثَنَا حُصَيْن عَنْ أَبِي مَالِك فِي قَوْله : { أَمَتّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتنَا اثْنَتَيْنِ } 40 11 قَالَ : خَلَقْتنَا وَلَمْ نَكُنْ شَيْء , ثُمَّ أَمَتّنَا , ثُمَّ أَحْيَيْتنَا . * وَحَدَّثَنِي يَعْقُوب بْن إبْرَاهِيم قَالَ : حَدَّثَنَا هُشَيْم , عَنْ حُصَيْن , عَنْ أَبِي مَالِك فِي قَوْله : { أَمَتّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتنَا اثْنَتَيْنِ } 40 11 قَالَ : كَانُوا أَمْوَاتًا فَأَحْيَاهُمْ اللَّه , ثُمَّ أَمَاتَهُمْ , ثُمَّ أَحْيَاهُمْ . 483 - وَحَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن دَاوُد , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , عَنْ مُجَاهِد فِي قَوْله : { كَيْف تَكْفُرُونَ بِاَللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } قَالَ : لَمْ تَكُونُوا شَيْئًا حِين خَلَقَكُمْ , ثُمَّ يُمِيتكُمْ الْمَوْتَة الْحَقّ , ثُمَّ يُحْيِيكُمْ . وَقَوْله : { أَمَتّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتنَا اثْنَتَيْنِ } 40 11 مِثْلهَا . 484 - وَحَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج عَنْ ابْن جُرَيْجٍ قَالَ : حَدَّثَنِي عَطَاء الْخُرَاسَانِيّ , عَنْ ابْن عَبَّاس قَالَ : هُوَ قَوْله : { أَمَتّنَا اثْنَيْنِ وَأَحْيَيْتنَا اثْنَيْنِ } 40 11 485 - وَحُدِّثْت عَنْ عَمَّار بْن الْحَسَن , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع , قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو الْعَالِيَة فِي قَوْل اللَّه : { كَيْف تَكْفُرُونَ بِاَللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا } يَقُول : حِين لَمْ يَكُونُوا شَيْئًا , ثُمَّ أَحْيَاهُمْ حِين خَلَقَهُمْ , ثُمَّ أَمَاتَهُمْ , ثُمَّ أَحْيَاهُمْ يَوْم الْقِيَامَة , ثُمَّ رَجَعُوا إلَيْهِ بَعْد الْحَيَاة . 486 - وَحُدِّثْت عَنْ المنجاب قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْر بْن عُمَارَة , عَنْ أَبِي رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك , عَنْ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله : { أَمَتّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتنَا اثْنَتَيْنِ } قَالَ : كُنْتُمْ تُرَابًا قَبْل أَنْ يَخْلُقكُمْ فَهَذِهِ مَيْتَة , ثُمَّ أَحْيَاكُمْ فَخَلَقَكُمْ فَهَذِهِ إِحْيَاءَة , ثُمَّ يُمِيتكُمْ فَتَرْجِعُونَ إلَى الْقُبُور فَهَذِهِ مَيْتَة أُخْرَى , ثُمَّ يَبْعَثكُمْ يَوْم الْقِيَامَة فَهَذِهِ إِحْيَاءَة ; فَهُمَا مَيْتَتَانِ وَحَيَاتَانِ , فَهُوَ قَوْله : { كَيْف تَكْفُرُونَ بِاَللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ } . وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا 487 - حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا وَكِيع , عَنْ سُفْيَان , عَنْ السُّدِّيّ , عَنْ أَبِي صَالِح : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاَللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ } قَالَ : يُحْيِيكُمْ فِي الْقَبْر , ثُمَّ يُمِيتكُمْ . وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا : 488 - حَدَّثَنَا بِهِ بِشْر بْن مُعَاذ قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد بْن زُرَيْع , عَنْ سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ قَوْله : { كَيْف تَكْفُرُونَ بِاَللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا } الْآيَة . قَالَ : كَانُوا أَمْوَاتًا فِي أَصْلَاب آبَائِهِمْ , فَأَحْيَاهُمْ اللَّه وَخَلَقَهُمْ , ثُمَّ أَمَاتَهُمْ الْمَوْتَة الَّتِي لَا بُدّ مِنْهَا , ثُمَّ أَحْيَاهُمْ لِلْبَعْثِ يَوْم الْقِيَامَة ; فَهُمَا حَيَاتَانِ وَمَوْتَتَانِ . وَقَالَ بَعْضهمْ بِمَا : 489 - حَدَّثَنِي بِهِ يُونُس , قَالَ : أَنْبَأَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : قَالَ ابْن زَيْد فِي قَوْل اللَّه تَعَالَى : { رَبّنَا أَمَتّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتنَا اثْنَتَيْنِ } 40 11 قَالَ : خَلَقَهُمْ مِنْ ظَهْر آدَم حِين أَخَذَ عَلَيْهِمْ الْمِيثَاق . وَقَرَأَ : { وَإِذْ أَخَذَ رَبّك مِنْ بَنِي آدَم مِنْ ظُهُورهمْ ذُرِّيَّتهمْ } حَتَّى بَلَغَ : { أَوْ تَقُولُوا إنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْل وَكُنَّا ذُرِّيَّة مِنْ بَعْدهمْ أَفَتُهْلِكنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ } 7 172 : 173 قَالَ : فَكَسَبَهُمْ الْعَقْل وَأَخَذَ عَلَيْهِمْ الْمِيثَاق . قَالَ : وَانْتَزَعَ ضِلَعًا مِنْ أَضْلَاع آدَم الْقَصِيرَيْ , فَخَلَقَ مِنْهُ حَوَّاء , ذَكَرَهُ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ : وَذَلِكَ قَوْل اللَّه تَعَالَى : { يَا أَيّهَا النَّاس اتَّقُوا رَبّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْس وَاحِدَة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء } 4 1 قَالَ : وَبَثَّ مِنْهُمَا بَعْد ذَلِكَ فِي الْأَرْحَام خَلْقًا كَثِيرًا , وَقَرَأَ : { يَخْلُقكُمْ فِي بُطُون أُمَّهَاتكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْد خَلْق } 39 6 قَالَ : خَلْقًا بَعْد ذَلِكَ . قَالَ : فَلَمَّا أَخَذَ عَلَيْهِمْ الْمِيثَاق أَمَاتَهُمْ ثُمَّ خَلَقَهُمْ فِي الْأَرْحَام , ثُمَّ أَمَاتَهُمْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ يَوْم الْقِيَامَة , فَذَلِكَ قَوْل اللَّه : { رَبّنَا أَمَتّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا } 40 11 وَقَرَأَ قَوْل اللَّه : { وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا } 33 7 قَالَ : يَوْمئِذٍ . قَالَ : وَقَرَأَ قَوْل اللَّه : { وَاذْكُرُوا نِعْمَة اللَّه عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقه الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } 5 7 قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَلِكُلِّ قَوْل مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَال الَّتِي حَكَيْنَاهَا عَمَّنْ رَوَيْنَاهَا عَنْهُ وَجْه وَمَذْهَب مِنْ التَّأْوِيل . فَأَمَّا وَجْه تَأْوِيل مَنْ تَأَوَّلَ قَوْله : { كَيْف تَكْفُرُونَ بِاَللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ } أَيْ لَمْ تَكُونُوا شَيْئًا , فَإِنَّهُ ذَهَبَ إلَى نَحْو قَوْل الْعَرَب لِلشَّيْءِ الدَّارِس وَالْأَمْر الْخَامِل الذِّكْر : هَذَا شَيْء مَيِّت , وَهَذَا أَمْر مَيِّت ; يُرَاد بِوَصْفِهِ بِالْمَوْتِ خُمُول ذِكْره وَدُرُوس أَثَره مِنْ النَّاس . وَكَذَلِكَ يُقَال فِي ضِدّ ذَلِكَ وَخِلَافه : هَذَا أَمْر حَيّ , وَذِكْر حَيّ ; يُرَاد بِوَصْفِهِ بِذَلِكَ أَنَّهُ نَابَهُ مُتَعَالِم فِي النَّاس كَمَا قَالَ أَبُو نُخَيْلَة السَّعْدِيّ : فَأَحْيَيْت لِي ذِكْرِي وَمَا كُنْت خَامِلًا وَلَكِنْ بَعْض الذِّكْر أَنْبَه مِنْ بَعْض يُرِيد بِقَوْلِهِ : " فَأَحْيَيْت لِي ذِكْرِي " : أَيْ رَفَعْته وَشَهَّرْته فِي النَّاس حَتَّى نَبِهَ فَصَارَ مَذْكُورًا حَيًّا بَعْد أَنْ كَانَ خَامِلًا مَيِّتًا . فَكَذَلِكَ تَأْوِيل قَوْل مَنْ قَالَ فِي قَوْله : { وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا } لَمْ تَكُونُوا شَيْئًا : أَيْ كُنْتُمْ خُمُولًا لَا ذِكْر لَكُمْ , وَذَلِكَ كَانَ مَوْتكُمْ , فَأَحْيَاكُمْ فَجَعَلَكُمْ بَشَرًا أَحْيَاء تُذْكَرُونَ وَتُعْرَفُونَ , ثُمَّ يُمِيتكُمْ بِقَبْضِ أَرْوَاحكُمْ وَإِعَادَتكُمْ كَاَلَّذِي كُنْتُمْ قَبْل أَنْ يُحْيِيكُمْ مِنْ دُرُوس ذِكْركُمْ , وَتَعَفِّي آثَاركُمْ , وَخُمُول أُمُوركُمْ ; ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بِإِعَادَةِ أَجْسَامكُمْ إلَى هَيْئَاتهَا وَنَفْخ الرُّوح فِيهَا وَتَصْيِيركُمْ بَشَرًا كَاَلَّذِي كُنْتُمْ قَبْل الْإِمَاتَة لِتَعَارَفُوا فِي بَعْثكُمْ وَعِنْد حَشْركُمْ . وَأَمَّا وَجْه تَأْوِيل مَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ أَنَّهُ الْإِمَاتَة الَّتِي هِيَ خُرُوج الرُّوح مِنْ الْجَسَد , فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُون ذَهَبَ بِقَوْلِهِ : { وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا } إلَى أَنَّهُ خِطَاب لِأَهْلِ الْقُبُور بَعْد إحْيَائِهِمْ فِي قُبُورهمْ . وَذَلِكَ مَعْنًى بَعِيد , لِأَنَّ التَّوْبِيخ هُنَالِكَ إنَّمَا هُوَ تَوْبِيخ عَلَى مَا سَلَف وَفَرْط مِنْ إجْرَامهمْ لَا اسْتِعْتَاب وَاسْتِرْجَاع وَقَوْله جَلَّ ذِكْره : { كَيْف تَكْفُرُونَ بِاَللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا } تَوْبِيخ مُسْتَعْتَب عِبَاده , وَتَأْنِيب مُسْتَرْجَع خَلْقه مِنْ الْمَعَاصِي إلَى الطَّاعَة وَمِنْ الضَّلَالَة إلَى الْإِنَابَة , وَلَا إنَابَة فِي الْقُبُور بَعْد الْمَمَات وَلَا تَوْبَة فِيهَا بَعْد الْوَفَاة . وَأَمَّا وَجْه تَأْوِيل قَوْل قَتَادَةَ ذَلِكَ : أَنَّهُمْ كَانُوا أَمْوَاتًا فِي أَصْلَاب آبَائِهِمْ . فَإِنَّهُ عَنَى بِذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا نُطَفًا لَا أَرْوَاح فِيهَا , فَكَانَتْ بِمَعْنَى سَائِر الْأَشْيَاء الْمَوَات الَّتِي لَا أَرْوَاح فِيهَا . وَإِحْيَاؤُهُ إيَّاهَا تَعَالَى ذِكْره : نَفْخه الْأَرْوَاح فِيهَا وَإِمَاتَته إيَّاهُمْ بَعْد ذَلِكَ قَبْضه أَرْوَاحهمْ , وَإِحْيَاؤُهُ إيَّاهُمْ بَعْد ذَلِكَ : نَفْخ الْأَرْوَاح فِي أَجْسَامهمْ يَوْم يَنْفُخ فِي الصُّوَر وَيَبْعَث الْخَلْق لِلْمَوْعُودِ . وَأَمَّا ابْن زَيْد فَقَدْ أَبَانَ عَنْ نَفْسه مَا قَصَدَ بِتَأْوِيلِهِ ذَلِكَ , وَأَنَّ الْإِمَاتَة الْأُولَى عِنْد إعَادَة اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ عِبَاده فِي أَصْلَاب آبَائِهِمْ بَعْد مَا أَخَذَهُمْ مِنْ صُلْب آدَم , وَأَنَّ الْإِحْيَاء الْآخَر : هُوَ نَفْخ الْأَرْوَاح فِيهِمْ فِي بُطُون أُمَّهَاتهمْ , وَأَنَّ الْإِمَاتَة الثَّانِيَة هِيَ قَبْض أَرْوَاحهمْ لِلْعَوْدِ إلَى التُّرَاب وَالْمَصِير فِي الْبَرْزَخ إلَى الْيَوْم الْبَعْث , وَأَنَّ الْإِحْيَاء الثَّالِث : هُوَ نَفْخ الْأَرْوَاح فِيهِمْ لِبَعْثِ السَّاعَة وَنَشْر الْقِيَامَة . وَهَذَا تَأْوِيل إذَا تَدَبَّرْهُ الْمُتَدَبِّر وَجَدَهُ خِلَافًا لِظَاهِرِ قَوْل اللَّه الَّذِي زَعَمَ مُفَسِّره أَنَّ الَّذِي وَصَفْنَا مِنْ قَوْله تَفْسِيره . وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَ فِي كِتَابه عَنْ الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ مِنْ خَلْقه أَنَّهُمْ قَالُوا : { رَبّنَا أَمَتّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتنَا اثْنَتَيْنِ } 40 11 وَزَعَمَ ابْن زَيْد فِي تَفْسِيره أَنَّ اللَّه أَحْيَاهُمْ ثَلَاث إِحْيَاءَات , وَأَمَاتَهُمْ ثَلَاث إِمَاتَات . وَالْأَمْر عِنْدنَا وَإِنْ كَانَ فِيمَا وَصَفَ مِنْ اسْتِخْرَاج اللَّه جَلَّ ذِكْره مِنْ صُلْب آدَم ذُرِّيَّته , وَأَخْذه مِيثَاقه عَلَيْهِمْ كَمَا وَصَفَ , فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ تَأْوِيل هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ , أَعْنِي قَوْله : { كَيْف تَكْفُرُونَ بِاَللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا } الْآيَة , وَقَوْله : { رَبّنَا أَمَتّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتنَا اثْنَتَيْنِ } 40 11 فِي شَيْء ; لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يَدَّعِ أَنَّ اللَّه أَمَاتَ مَنْ ذَرَأَ يَوْمئِذٍ غَيْر الْإِمَاتَة الَّتِي صَارَ بِهَا فِي الْبَرْزَخ إلَى يَوْم الْبَعْث , فَيَكُون جَائِزًا أَنْ يُوَجَّه تَأْوِيل الْآيَة إلَى مَا وَجَّهَهُ إلَيْهِ ابْن زَيْد . وَقَالَ بَعْضهمْ : الْمَوْتَة الْأُولَى : مُفَارَقَة نُطْفَة الرَّجُل جَسَده إلَى رَحِم الْمَرْأَة , فَهِيَ مَيْتَة مِنْ لَدُنْ فِرَاقهَا جَسَده إلَى نَفْخ الرُّوح فِيهَا , ثُمَّ يُحْيِيهَا اللَّه بِنَفْخِ الرُّوح فِيهَا فَيَجْعَلهَا بَشَرًا سَوِيًّا بَعْد تَارَات تَأْتِي عَلَيْهَا , ثُمَّ يُمِيتهُ الْمَيْتَة الثَّانِيَة بِقَبْضِ الرُّوح مِنْهُ . فَهُوَ فِي الْبَرْزَخ مَيِّت إلَى يَوْم يَنْفُخ فِي الصُّور فَيَرُدّ فِي جَسَده رُوحه , فَيَعُود حَيًّا سَوِيًّا لِبَعْثِ الْقِيَامَة ; فَذَلِكَ مَوْتَتَانِ وَحَيَاتَانِ . وَإِنَّمَا دَعَا هَؤُلَاءِ إلَى هَذَا الْقَوْل لِأَنَّهُمْ قَالُوا : مَوْت ذِي الرُّوح مُفَارَقَة الرُّوح إيَّاهُ , فَزَعَمُوا أَنَّ كُلّ شَيْء مِنْ ابْن آدَم حَيّ مَا لَمْ يُفَارِق جَسَده الْحَيّ ذَا الرُّوح , فَكُلّ مَا فَارَقَ جَسَده الْحَيّ ذَا الرُّوح فَارَقَتْهُ الْحَيَاة فَصَارَ مَيِّتًا , كَالْعُضْوِ مِنْ أَعْضَائِهِ مِثْل الْيَد مِنْ يَدَيْهِ , وَالرِّجْل مِنْ رِجْلَيْهِ لَوْ قُطِعَتْ وَأُبِينَتْ , وَالْمَقْطُوع ذَلِكَ مِنْهُ حَيّ , كَانَ الَّذِي بَانَ مِنْ جَسَده مَيِّتًا لَا رُوح فِيهِ بِفِرَاقِهِ سَائِر جَسَده الَّذِي فِيهِ الرُّوح . قَالُوا : فَكَذَلِكَ نُطْفَته حَيَّة بِحَيَاتِهِ مَا لَمْ تُفَارِق جَسَده ذَا الرُّوح , فَإِذَا فَارَقَتْهُ مُبَايِنَة لَهُ صَارَتْ مَيِّتَة , نَظِير مَا وَصَفْنَا مِنْ حُكْم الْيَد وَالرِّجْل وَسَائِر أَعْضَائِهِ , وَهَذَا قَوْل وَوَجْه مِنْ التَّأْوِيل لَوْ كَانَ بِهِ قَائِل مِنْ أَهْل الْقُدْوَة الَّذِينَ يُرْتَضَى لِلْقُرْآنِ تَأْوِيلهمْ . وَأَوْلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَقْوَال الَّتِي بَيَّنَّا بِتَأْوِيلِ قَوْل اللَّه جَلَّ ذِكْره : { كَيْف تَكْفُرُونَ بِاَللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ } الْآيَة , الْقَوْل الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ ابْن عَبَّاس , مِنْ أَنَّ مَعْنَى قَوْله : { وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا } : أَمْوَات الذِّكْر خُمُولًا فِي أَصْلَاب آبَائِكُمْ نُطَفًا لَا تُعْرَفُونَ وَلَا تُذْكَرُونَ , فَأَحْيَاكُمْ بِإِنْشَائِكُمْ بَشَرًا سَوِيًّا , حَتَّى ذُكِرْتُمْ وَعُرِفْتُمْ وَحَيِيتُمْ , ثُمَّ يُمِيتكُمْ بِقَبْضِ أَرْوَاحكُمْ وَإِعَادَتكُمْ رُفَاتًا لَا تُعْرَفُونَ وَلَا تُذْكَرُونَ فِي الْبَرْزَخ إلَى يَوْم تُبْعَثُونَ , ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بَعْد ذَلِكَ بِنَفْخِ الْأَرْوَاح فِيكُمْ لِبَعْثِ السَّاعَة وَصَيْحَة الْقِيَامَة , ثُمَّ إلَى اللَّه تُرْجَعُونَ بَعْد ذَلِكَ , كَمَا قَالَ : { ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ } لِأَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ يُحْيِيهِمْ فِي قُبُورهمْ قَبْل حَشْرهمْ , ثُمَّ يَحْشُرهُمْ لِمَوْقِفِ الْحِسَاب , كَمَا قَالَ جَلَّ ذِكْره : { يَوْم يَخْرُجُونَ مِنْ الْأَجْدَاث سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إلَى نُصُب يُوفِضُونَ } 70 43 وَقَالَ : { وَنُفِخَ فِي الصُّور فَإِذَا هُمْ مِنْ الْأَجْدَاث إلَى رَبّهمْ يَنْسِلُونَ } 36 51 وَالْعِلَّة الَّتِي مِنْ أَجْلهَا اخْتَرْنَا هَذَا التَّأْوِيل , مَا قَدْ قَدَّمْنَا ذِكْره لِلْقَائِلِينَ بِهِ وَفَسَاد مَا خَالَفَهُ بِمَا قَدْ أَوْضَحْنَاهُ قَبْل . وَهَذِهِ الْآيَة تَوْبِيخ مِنْ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِلْقَائِلَيْنِ : { آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر } الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّه عَنْهُمْ أَنَّهُمْ مَعَ قَيْلهمْ ذَلِكَ بِأَفْوَاهِهِمْ غَيْر مُؤْمِنِينَ بِهِ , وَأَنَّهُمْ إنَّمَا يَقُولُونَ ذَلِكَ خِدَاعًا لِلَّهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ . فَعَذَلَهُمْ اللَّه بِقَوْلِهِ : { كَيْف تَكْفُرُونَ بِاَللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ } وَوَبَّخَهُمْ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ فِي نَكِيرهمْ مَا أَنْكَرُوا مِنْ ذَلِكَ , وَجُحُودهمْ مَا جَحَدُوا بِقُلُوبِهِمْ الْمَرِيضَة فَقَالَ : كَيْف تَكْفُرُونَ بِاَللَّهِ فَتَجْحَدُونَ قُدْرَته عَلَى إحْيَائِكُمْ بَعْد إمَاتَتكُمْ وَإِعَادَتكُمْ بَعْد إفْنَائِكُمْ وَحَشْركُمْ إلَيْهِ لِمُجَازَاتِكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ . ثُمَّ عَدَّدَ رَبُّنَا عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَوْلِيَائِهِمْ مِنْ أَحْبَار الْيَهُود الَّذِينَ جَمَعَ بَيْن قَصَصهمْ وَقَصَص الْمُنَافِقِينَ فِي كَثِير مِنْ آيِ هَذِهِ السُّورَة الَّتِي افْتَتَحَ الْخَبَر عَنْهُمْ فِيهَا بِقَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتهمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } : نِعَمه الَّتِي سَلَفَتْ مِنْهُ إلَيْهِمْ وَإِلَى آبَائِهِمْ الَّتِي عَظُمَتْ مِنْهُمْ مَوَاقِعهَا , ثُمَّ سَلَبَ كَثِيرًا مِنْهُمْ كَثِيرًا مِنْهَا بِمَا رَكِبُوا مِنْ الْآثَام وَاجْتَرَمُوا مِنْ الْإِجْرَام وَخَالَفُوا مِنْ الطَّاعَة إلَى الْمَعْصِيَة , يُحَذِّرهُمْ بِذَلِكَ تَعْجِيل الْعُقُوبَة لَهُمْ كَاَلَّتِي عَجَّلَهَا لِلْأَسْلَافِ وَالْإِفْرَاط قَبْلهمْ , وَيُخَوِّفهُمْ حُلُول مُثُلَاته بِسَاحَتِهِمْ كَاَلَّذِي أَحَلَّ بِأَوَّلِيِّهِمْ , وَيُعَرِّفهُمْ مَا لَهُمْ مِنْ النَّجَاة فِي سُرْعَة الْأَوْبَة إلَيْهِ , وَتَعْجِيل التَّوْبَة مِنْ الْخَلَاص لَهُمْ يَوْم الْقِيَامَة مِنْ الْعِقَاب .
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌسورة البقرة الآية رقم 29
فَبَدَأَ بَعْد تَعْدِيده عَلَيْهِمْ مَا عَدَّدَ مِنْ نِعَمه الَّتِي هُمْ فِيهَا مُقِيمُونَ بِذِكْرِ أَبِينَا وَأَبِيهِمْ آدَم أَبِي الْبَشَر , صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِ , وَمَا سَلَفَ مِنْهُ مِنْ كَرَامَته إلَيْهِ وَآلَائِهِ لَدَيْهِ , وَمَا أَحَلَّ بِهِ وَبِعَدُوِّهِ إبْلِيس مِنْ عَاجِل عُقُوبَته بِمَعْصِيَتِهِمَا الَّتِي كَانَتْ مِنْهُمَا , وَمُخَالِفَتهمَا أَمْره الَّذِي أَمَرَهُمَا بِهِ , وَمَا كَانَ مِنْ تَغَمُّده آدَم بِرَحْمَتِهِ إذْ تَابَ وَأَنَابَ إلَيْهِ , وَمَا كَانَ مِنْ إحْلَاله بِإِبْلِيسَ مِنْ لَعْنَته في الْعَاجِل , وَإِعْدَاده لَهُ مَا أَعَدَّ لَهُ مِنْ الْعَذَاب الْمُقِيم فِي الْآجِل إذْ اسْتَكْبَرَ وَأَبَى التَّوْبَة إلَيْهِ وَالْإِنَابَة , مُنَبِّهًا لَهُمْ عَلَى حُكْمه فِي الْمُنِيبِينَ إلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ , وَقَضَائِهِ فِي الْمُسْتَكْبِرِينَ عَنْ الْإِنَابَة , إعْذَارًا مِنْ اللَّه بِذَلِكَ إلَيْهِمْ وَإِنْذَارًا لَهُمْ , لِيَتَدَبَّرُوا آيَاته وَلِيَتَذَكَّر مِنْهُمْ أُولُو الْأَلْبَاب . وَخَاصًّا أَهْل الْكِتَاب بِمَا ذُكِرَ مِنْ قَصَص آدَم وَسَائِر الْقَصَص الَّتِي ذَكَرَهَا مَعَهَا وَبَعْدهَا مِمَّا عَلِمَهُ أَهْل الْكِتَاب وَجَهِلَتْهُ الْأُمَّة الْأُمِّيَّة مِنْ مُشْرِكِي عَبَدَة الْأَوْثَان , بِالِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ دُون غَيْرهمْ مِنْ سَائِر أَصْنَاف الْأُمَم الَّذِينَ لَا عِلْم عِنْدهمْ بِذَلِكَ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , لِيَعْلَمُوا بِإِخْبَارِهِ إيَّاهُمْ بِذَلِكَ , أَنَّهُ لِلَّهِ رَسُول مَبْعُوث , وَأَنَّ مَا جَاءَهُمْ بِهِ فَمِنْ عِنْده , إذْ كَانَ مَا اقْتَصَّ عَلَيْهِمْ مِنْ هَذِهِ الْقَصَص مِنْ مَكْنُون عُلُومهمْ , وَمَصُون مَا فِي كُتُبهمْ , وَخَفِيَ أُمُورهمْ الَّتِي لَمْ يَكُنْ يَدَّعِي مَعْرِفَة عِلْمهَا غَيْرهمْ وَغَيْر مَنْ أَخَذَ عَنْهُمْ وَقَرَأَ كُتُبهمْ . وَكَانَ مَعْلُومًا مِنْ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَطّ كَاتِبًا وَلَا لِأَسْفَارِهِمْ تَالِيًا , وَلَا لِأَحَدٍ مِنْهُمْ مُصَاحِبًا وَلَا مُجَالِسًا , فَيُمْكِنهُمْ أَنْ يَدَّعُوا أَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ كُتُبهمْ أَوْ عَنْ بَعْضهمْ , فَقَالَ جَلَّ ذِكْره فِي تَعْدِيده عَلَيْهِمْ مَا هُمْ فِيهِ مُقِيمُونَ مِنْ نِعَمه مَعَ كُفْرهمْ بِهِ , وَتَرَكَهُمْ شُكْره عَلَيْهَا مِمَّا يَجِب لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ طَاعَته : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْض جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْع سَمَوَات وَهُوَ بِكُلِّ شَيْء عَلِيم } . فَأَخْبَرَهُمْ جَلَّ ذِكْره أَنَّهُ خَلَقَ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْض جَمِيعًا , لِأَنَّ الْأَرْض وَجَمِيع مَا فِيهَا لِبَنِي آدَم مَنَافِع . أَمَّا فِي الدِّين فَدَلِيل عَلَى وَحْدَانِيَّة رَبّهمْ , وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَمَعَاش وَبَلَاغ لَهُمْ إلَى طَاعَته وَأَدَاء فَرَائِضه ; فَلِذَلِكَ قَالَ جَلَّ ذِكْره : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْض جَمِيعًا } وَقَوْله : " هُوَ " مَكْنِي مِنْ اسْم اللَّه جَلَّ ذِكْره , عَائِد عَلَى اسْمه فِي قَوْله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاَللَّهِ } . وَمَعْنَى خَلْقه مَا خَلَقَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : إنْشَاؤُهُ عَيْنه , وَإِخْرَاجه مِنْ حَال الْعَدَم إلَى الْوُجُود . و " مَا " بِمَعْنَى " الَّذِي " . فَمَعْنَى الْكَلَام إذًا : كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاَللَّهِ وَقَدْ كُنْتُمْ نُطُفًا فِي أَصْلَاب آبَائِكُمْ , فَجَعَلَكُمْ بَشَرًا أَحْيَاء , ثُمَّ يُمِيتكُمْ , ثُمَّ هُوَ مُحْيِيكُمْ بَعْد ذَلِكَ , وَبَاعِثكُمْ يَوْم الْحَشْر لِلثَّوَابِ وَالْعِقَاب , وَهُوَ الْمُنْعِم عَلَيْكُمْ بِمَا خَلَقَ لَكُمْ فِي الْأَرْض مِنْ مَعَايِشكُمْ وَأَدِلَّتكُمْ عَلَى وَحْدَانِيَّة رَبّكُمْ . و " كَيْفَ " بِمَعْنَى التَّعَجُّب وَالتَّوْبِيخ لَا بِمَعْنَى الِاسْتِفْهَام , كَأَنَّهُ قَالَ : وَيْحكُمْ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاَللَّهِ , كَمَا قَالَ : { فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ } 81 26 وَحَلَّ قَوْله : { وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ } مَحَلّ الْحَال , وَفِيهِ إضْمَار " قَدْ " , وَلَكِنَّهَا حُذِفَتْ لِمَا فِي الْكَلَام مِنْ الدَّلِيل عَلَيْهَا . وَذَلِكَ أَنَّ " فَعَلَ " إذَا حَلَّتْ مَحَلّ الْحَال كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهَا مُقْتَضِيَة " قَدْ " , كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { أَوْ جَاءُوكُمْ حُصِرَتْ صُدُورهمْ } 4 90 بِمَعْنَى : قَدْ حُصِرَتْ صُدُورهمْ وَكَمَا تَقُول لِلرَّجُلِ : أَصْبَحَتْ كَثُرَتْ مَاشِيَتك , تُرِيد : قَدْ كَثُرَتْ مَاشِيَتك . وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْض جَمِيعًا } فِي قَوْله : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْض جَمِيعًا } كَانَ قَتَادَةَ يَقُول : 490 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد , عَنْ سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ قَوْله : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْض جَمِيعًا } نَعَمْ وَاَللَّه سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْض .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْع سَمَوَات } قَالَ أَبُو جَعْفَر : اُخْتُلِفَ فِي تَأْوِيل قَوْله : { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاء } فَقَالَ بَعْضهمْ : مَعْنَى اسْتَوَى إلَى السَّمَاء , أَقْبَلَ عَلَيْهَا , كَمَا تَقُول : كَانَ فُلَان مُقْبِلًا عَلَى فُلَان ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى يُشَاتِمنِي واستوى إلي يُشَاتِمنِي , بِمَعْنَى : أَقْبَلَ عَلَيَّ وَإِلَيَّ يُشَاتِمنِي . وَاسْتُشْهِدَ عَلَى أَنَّ الِاسْتِوَاء بِمَعْنَى الْإِقْبَال بِقَوْلِ الشَّاعِر : أَقُول وَقَدْ قَطَعْنَ بِنَا شَرَوْرَي سَوَامِدَ وَاسْتَوَيْنَ مِنْ الضَّجُوع فَزَعَمَ أَنَّهُ عَنَى بِهِ أَنَّهُنَّ خَرَجْنَ مِنْ الضَّجُوع , وَكَانَ ذَلِكَ عِنْده بِمَعْنَى أَقْبَلْنَ . وَهَذَا مِنْ التَّأْوِيل فِي هَذَا الْبَيْت خَطَأ , وَإِنَّمَا مَعْنَى قَوْله : " وَاسْتَوَيْنَ مِنْ الضَّجُوع " عِنْدِي : اسْتَوَيْنَ عَلَى الطَّرِيق مِنْ الضَّجُوع خَارِجَات , بِمَعْنَى اسْتَقَمْنَ عَلَيْهِ . وَقَالَ بَعْضهمْ : لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ اللَّه جَلَّ ذِكْره بِتَحَوُّلٍ , وَلَكِنَّهُ بِمَعْنَى فِعْله , كَمَا تَقُول : كَانَ الْخَلِيفَة فِي أَهْل الْعِرَاق يُوَالِيهِمْ ثُمَّ تَحَوَّلَ إلَى الشَّام , إنَّمَا يُرِيد تَحَوُّل فِعْله . وَقَالَ بَعْضهمْ : قَوْله { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاء } يَعْنِي بِهِ : اسْتَوَتْ كَمَا قَالَ الشَّاعِر : أَقُول لَهُ لَمَا اسْتَوَى فِي تُرَابه عَلَى أَيّ دِين قَتَّلَ النَّاس مُصْعَب وَقَالَ بَعْضهمْ : { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاء } : عَمِدَ إلَيْهَا . وَقَالَ : بَلْ كُلّ تَارِك عَمَلًا كَانَ فِيهِ إلَى آخِره فَهُوَ مُسْتَوٍ لِمَا عَمِدَ وَمُسْتَوٍ إلَيْهِ . وَقَالَ بَعْضهمْ : الِاسْتِوَاء : هُوَ الْعُلُوّ , وَالْعُلُوّ : هُوَ الِارْتِفَاع . وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ الرَّبِيع بْن أَنَس . 491 - حُدِّثْت بِذَلِكَ عَنْ عَمَّار بْن الْحَسَن , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي جَعْفَر عَنْ أَبِيهِ عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس : { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاء } يَقُول : ارْتَفَعَ إلَى السَّمَاء . ثُمَّ اخْتَلَفَ مُتَأَوِّلُو الِاسْتِوَاء بِمَعْنَى الْعُلُوّ وَالِارْتِفَاع فِي الَّذِي اسْتَوَى إلَى السَّمَاء , فَقَالَ بَعْضهمْ : الَّذِي اسْتَوَى إلَى السَّمَاء وَعَلَا عَلَيْهَا : هُوَ خَالِقهَا وَمُنْشَئِهَا . وَقَالَ بَعْضهمْ : بَلْ الْعَالِي إلَيْهَا الدُّخَان الَّذِي جَعَلَهُ اللَّه لِلْأَرْضِ سَمَاء . قَالَ أَبُو جَعْفَر : الِاسْتِوَاء فِي كَلَام الْعَرَب مُنْصَرِف عَلَى وُجُوه : مِنْهَا انْتِهَاء شَبَاب الرَّجُل وَقُوَّته , فَيُقَال إذَا صَارَ كَذَلِكَ : قَدْ اسْتَوَى الرَّجُل , وَمِنْهَا اسْتِقَامَة مَا كَانَ فِيهِ أَوَدٌ مِنْ الْأُمُور وَالْأَسْبَاب , يُقَال مِنْهُ : اسْتَوَى لِفُلَانٍ أَمْره : إذَا اسْتَقَامَ لَهُ بَعْد أَوَدٍ . وَمِنْهُ قَوْل الطِّرِمَّاح بْن حَكِيم : طَالَ عَلَى رَسْم مَهْدَدٍ أَبَدُهْ وَعَفَا وَاسْتَوَى بِهِ بَلَدُهْ يَعْنِي : اسْتَقَامَ بِهِ . وَمِنْهَا الْإِقْبَال عَلَى الشَّيْء بِالْفِعْلِ , كَمَا يُقَال : اسْتَوَى فُلَان عَلَى فُلَان بِمَا يَكْرَههُ وَيَسُوءهُ بَعْد الْإِحْسَان إلَيْهِ . وَمِنْهَا الِاحْتِيَاز وَالِاسْتِيلَاء كَقَوْلِهِمْ : اسْتَوَى فُلَان عَلَى الْمَمْلَكَة , بِمَعْنَى احْتَوَى عَلَيْهَا وَحَازَهَا . وَمِنْهَا الْعُلُوّ وَالِارْتِفَاع , كَقَوْلِ الْقَائِل : اسْتَوَى فُلَان عَلَى سَرِيره , يَعْنِي بِهِ عُلُوّهُ عَلَيْهِ . وَأَوْلَى الْمُعَافِي بِقَوْلِ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ } عَلَا عَلَيْهِنَّ وَارْتَفَعَ فَدَبَّرَهُنَّ بِقُدْرَتِهِ وَخَلَقَهُنَّ سَبْع سَمَوَات . وَالْعَجَب مِمَّنْ أَنْكَرَ الْمَعْنَى الْمَفْهُوم مِنْ كَلَام الْعَرَب فِي تَأْوِيل قَوْل اللَّه : { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاء } الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْعُلُوّ وَالِارْتِفَاع هَرَبًا عِنْد نَفْسه مِنْ أَنْ يُلْزِمهُ بِزَعْمِهِ إذَا تَأَوَّلَهُ بِمَعْنَاهُ الْمُفْهِم كَذَلِكَ أَنْ يَكُون إنَّمَا عَلَا وَارْتَفَعَ بَعْد أَنْ كَانَ تَحْتهَا , إلَى أَنْ تَأَوَّلَهُ بِالْمَجْهُولِ مِنْ تَأْوِيله الْمُسْتَنْكِر , ثُمَّ لَمْ يَنْجُ مِمَّا هَرَبَ مِنْهُ . فَيُقَال لَهُ : زَعَمْت أَنَّ تَأْوِيل قَوْله : { اسْتَوَى } أَقْبَلَ , أَفَكَانَ مُدْبِرًا عَنْ السَّمَاء فَأَقْبَلَ إلَيْهَا ؟ فَإِنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِإِقْبَالِ فِعْل وَلَكِنَّهُ إقْبَال تَدْبِير , قِيلَ لَهُ : فَكَذَلِكَ فَقُلْ : عَلَا عَلَيْهَا عُلُوّ مُلْك وَسُلْطَان لَا عُلُوّ انْتِقَال وَزَوَال . ثُمَّ لَنْ يَقُول فِي شَيْء مِنْ ذَلِكَ قَوْلًا إلَّا أُلْزِمَ فِي الْآخَر مِثْله , وَلَوْلَا أَنَّا كَرِهْنَا إطَالَة الْكِتَاب بِمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسه لَأَنْبَأْنَا عَنْ فَسَاد قَوْل كُلّ قَائِل قَالَ فِي ذَلِكَ قَوْلًا لِقَوْلِ أَهْل الْحَقّ فِيهِ مُخَالِفًا , وَفِيمَا بَيَّنَّا مِنْهُ مَا يُشْرِف بِذِي الْفَهْم عَلَى مَا فِيهِ لَهُ الْكِفَايَة إنَّهُ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِل : أَخْبِرْنَا عَنْ اسْتِوَاء اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ إلَى السَّمَاء , كَانَ قَبْل خَلْق السَّمَاء أَمْ بَعْده ؟ قِيلَ : بَعْده , وَقَبْل أَنْ يُسَوِّيهِنَّ سَبْع سَمَوَات , كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَان فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا } 41 11 وَالِاسْتِوَاء كَانَ بَعْد أَنْ خَلَقَهَا دُخَانًا , وَقَبْل أَنْ يُسَوِّيهَا سَبْع سَمَوَات . وَقَالَ بَعْضهمْ : إنَّمَا قَالَ اسْتَوَى إلَى السَّمَاء وَلَا سَمَاء , كَقَوْلِ الرَّجُل لِآخَر : " اعْمَلْ هَذَا الثَّوْب " وَإِنَّمَا مَعَهُ غَزْل . وَأَمَّا قَوْله { فَسَوَّاهُنَّ } فَإِنَّهُ يَعْنِي هَيَّأَهُنَّ وَخَلَقَهُنَّ وَدَبَّرَهُنَّ وَقَوَّمَهُنَّ , وَالتَّسْوِيَة فِي كَلَام الْعَرَب : التَّقْوِيم وَالْإِصْلَاح وَالتَّوْطِئَة , كَمَا يُقَال : سَوَّى فُلَان لِفُلَانٍ هَذَا الْأَمْر : إذَا قَوَّمَهُ وَأَصْلَحَهُ وَوَطَّأَهُ لَهُ . فَكَذَلِكَ تَسْوِيَة اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ سَمَوَاته : تَقْوِيمه إيَّاهُنَّ عَلَى مُشِيئَته , وَتَدْبِيره لَهُنَّ عَلَى إرَادَته , وَتَفْتِيقهنَّ بَعْد ارْتِتَاقهنَّ كَمَا : 492 - حُدِّثْت عَنْ عَمَّار , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس : { فَسَوَّاهُنَّ سَبْع سَمَوَات } يَقُول : سَوَّى خَلَقَهُنَّ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْء عَلِيم . وَقَالَ جَلَّ ذِكْره : { فَسَوَّاهُنَّ } فَأَخْرَجَ مكنيهن مَخْرَج مكني الْجَمْع . وَقَدْ قَالَ قَبْل : { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاء } فَأَخْرَجَهَا عَلَى تَقْدِير الْوَاحِد . وَإِنَّمَا أَخَرَجَ مكنيهن مَخْرَج مكني الْجَمْع ; لِأَنَّ السَّمَاء جَمْع وَاحِدهَا سَمَاوَة , فَتَقْدِير وَاحِدَتهَا وَجَمْعهَا إذًا تَقْدِير بَقَرَة وَبَقَر وَنَخْلَة وَنَخْل وَمَا أَشَبَه ذَلِكَ ; وَلِذَلِكَ أُنِّثَتْ مَرَّة , فَقِيلَ : هَذِهِ سَمَاء , وَذُكِّرَتْ أُخْرَى فَقِيلَ : { السَّمَاء مُنْفَطِر بِهِ } 73 18 كَمَا يُفْعَل ذَلِكَ بِالْجَمْعِ الَّذِي لَا فَرْق بَيْنه وَبَيْن وَاحِدَة غَيْر دُخُول الْهَاء وَخُرُوجهَا , فَيُقَال : هَذَا بَقَر وَهَذِهِ بَقَر , وَهَذَا نَخْل وَهَذِهِ نَخْل , وَمَا أَشَبَه ذَلِكَ . وَكَانَ بَعْض أَهْل الْعَرَبِيَّة يَزْعُم أَنَّ السَّمَاء وَاحِدَة , غَيْر أَنَّهَا تَدُلّ عَلَى السَّمَوَات , فَقِيلَ : { فَسَوَّاهُنَّ } يُرَاد بِذَلِكَ الَّتِي ذُكِّرَتْ , وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ سَائِر السَّمَوَات الَّتِي لَمْ تَذَّكَّر مَعَهَا . قَالَ : وَإِنَّمَا تُذَكَّر إذا ذُكِّرَتْ وَهِيَ مُؤَنَّثَة , فَيُقَال : { السَّمَاء مُنْفَطِر بِهِ } كَمَا يُذَكَّر الْمُؤَنَّث , وَكَمَا قَالَ الشَّاعِر : فَلَا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا وَلَا أَرْضٌ أَبْقَلَ إبْقَالُهَا وَكَمَا قَالَ أَعْشَى بَنِي ثَعْلَبَة : فَإِمَّا تَرَيْ لِمَّتِي بُدِّلَتْ فَإِنَّ الْحَوَادِث أَزَرَى بِهَا وَقَالَ بَعْضهمْ : السَّمَاء وَإِنْ كَانَتْ سَمَاء فَوْق سَمَاء , وَأَرْضًا فَوْق أَرْض , فَهِيَ فِي التَّأْوِيل وَاحِدَة إنْ شِئْت , ثُمَّ تَكُون تِلْكَ الْوَاحِدَة جِمَاعًا , كَمَا يُقَال : ثَوْب أَخْلَاق وَأَسْمَال , وَبُرْمَة أَعْشَار لِلْمُتَكَسِّرَةِ , وَبُرْمَة أَكْسَار وَأَجْبَار , وَأَخْلَاق : أَيْ أَنَّ نَوَاحِيه أَخْلَاق . فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِل : فَإِنَّك قَدْ قُلْت : إنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ اسْتَوَى إلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَان قَبْل أَنْ يُسَوِّيهَا سَبْع سَمَوَات , ثُمَّ سَوَّاهَا سَبْعًا بَعْد اسْتِوَائِهِ إلَيْهَا , فَكَيْف زَعَمْت أَنَّهَا جِمَاع ؟ قِيلَ : إنَّهُنَّ كُنَّ سَبْعًا غَيْر مُسْتَوِيَات , فَلِذَلِكَ قَالَ جَلَّ ذِكْره : فَسَوَّاهُنَّ سَبْعًا ; كَمَا : 493 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة بْن الْفَضْل , قَالَ : قَالَ مُحَمَّد بْن إسْحَاق : كَانَ أَوَّل مَا خَلَقَ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى : النُّور وَالظُّلْمَة , ثُمَّ مَيَّزَ بَيْنهمَا فَجَعَلَ الظُّلْمَة لَيْلًا أَسْوَد مُظْلِمًا , وَجَعَلَ النُّور نَهَارًا مُضِيئًا مُبْصِرًا , ثُمَّ سَمَكَ السَّمَوَات السَّبْع مِنْ دُخَان - يُقَال وَاَللَّه أَعْلَم مِنْ دُخَان الْمَاء - حَتَّى اسْتَقْلَلْنَ وَلَمْ يَحْبُكهُنَّ , وَقَدْ أَغْطَشَ فِي السَّمَاء الدُّنْيَا لَيْلهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا , فَجَرَى فِيهَا اللَّيْل وَالنَّهَار , وَلَيْسَ فِيهَا شَمْس وَلَا قَمَر وَلَا نُجُوم , ثُمَّ دَحَى الْأَرْض , وَأَرْسَاهَا بِالْجِبَالِ , وَقَدَّرَ فِيهَا الْأَقْوَات , وَبَثَّ فِيهَا مَا أَرَادَ مِنْ الْخَلْق , فَفَرَغَ مِنْ الْأَرْض وَمَا قَدَّرَ فِيهَا مِنْ أَقْوَاتهَا فِي أَرْبَعَة أَيَّام . ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَان كَمَا قَالَ فحبكهن , وَجَعَلَ فِي السَّمَاء الدُّنْيَا شَمْسهَا وَقَمَرهَا وَنُجُومهَا , وَأَوْحَى فِي كُلّ سَمَاء أَمْرهَا , فَأَكْمَلَ خَلْقهنَّ فِي يَوْمَيْنِ . فَفَرَغَ مِنْ خَلْق السَّمَوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام , ثُمَّ اسْتَوَى فِي الْيَوْم السَّابِع فَوْق سَمَوَاته , ثُمَّ قَالَ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْض : { ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا } لَمَّا أَرَدْت بِكُمَا , فَاطْمَئِنَّا عَلَيْهِ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا , قَالَتَا : أَتَيْنَا طَائِعِينَ . فَقَدْ أَخْبَرَ ابْن إسْحَاق أَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ اسْتَوَى إلَى السَّمَاء بَعْد خَلْقه الْأَرْض وَمَا فِيهَا وَهُنَّ سَبْع مِنْ دُخَان , فَسَوَّاهُنَّ كَمَا وَصَفَ . وَإِنَّمَا اسْتَشْهَدْنَا لِقَوْلِنَا الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ ابْن إسْحَاق لِأَنَّهُ أَوْضَح بَيَانًا عَنْ خَبَر السَّمَوَات أَنَّهُنَّ كُنَّ سَبْعًا مِنْ دُخَان قَبْل اسْتِوَاء رَبّنَا إلَيْهَا بِتَسْوِيَتِهَا مِنْ غَيْره , وَأَحْسَن شَرْحًا لِمَا أَرَدْنَا الِاسْتِدْلَال بِهِ مِنْ أَنَّ مَعْنَى السَّمَاء الَّتِي قَالَ اللَّه فِيهَا : { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاء } بِمَعْنَى الْجَمْع عَلَى مَا وَصَفْنَا , وَأَنَّهُ إنَّمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { فَسَوَّاهُنَّ } إذْ كَانَتْ السَّمَاء بِمَعْنَى الْجَمْع عَلَى مَا بَيَّنَّا . قَالَ أَبُو جَعْفَر : فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِل : فَمَا صِفَة تَسْوِيَة اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ السَّمَوَات الَّتِي ذَكَرهَا فِي قَوْله : { فَسَوَّاهُنَّ } إذْ كُنَّ قَدْ خُلِقْنَ سَبْعًا قَبْل تَسْوِيَته إيَّاهُنَّ ؟ وَمَا وَجْه ذِكْر خَلْقهنَّ بَعْد ذِكْر خَلْق الْأَرْض , أَلِأَنَّهَا خُلِقَتْ قَبْلهَا , أَمْ بِمَعْنًى غَيْر ذَلِكَ ؟ قِيلَ : قَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي الْخَبَر الَّذِي رَوَيْنَاهُ عَنْ ابْن إسْحَاق , وَنَزِيد ذَلِكَ تَوْكِيدًا بِمَا انْضَمَّ إلَيْهِ مِنْ أَخْبَار بَعْض السَّلَف الْمُتَقَدِّمِينَ وَأَقْوَالهمْ . 494 - فَحَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة , عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْض جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْع سَمَوَات } : قَالَ : إنَّ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَانَ عَرْشه عَلَى الْمَاء , وَلَمْ يَخْلُق شَيْئًا غَيْر مَا خَلَقَ قَبْل الْمَاء , فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْلُق الْخَلْق أَخَرَجَ مِنْ الْمَاء دُخَانًا , فَارْتَفَعَ فَوْق الْمَاء فَسَمَا عَلَيْهِ , فَسَمَاهُ سَمَاء , ثُمَّ أَيْبَسَ الْمَاء فَجَعَلَهُ أَرْضًا وَاحِدَة , ثُمَّ فَتَقَهَا فَجَعَلَ سَبْع أَرَضِينَ فِي يَوْمَيْنِ فِي الْأَحَد وَالِاثْنَيْنِ , فَخَلَقَ الْأَرْض عَلَى حُوت , وَالْحُوت هُوَ النُّون الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّه فِي الْقُرْآن : { ن وَالْقَلَم } 68 1 وَالْحُوت فِي الْمَاء وَالْمَاء عَلَى ظَهْر صَفَاة , وَالصَّفَاة عَلَى ظَهْر مَلَك , وَالْمَلَك عَلَى صَخْرَة , وَالصَّخْرَة فِي الرِّيح - وَهِيَ الصَّخْرَة الَّتِي ذَكَرَ لُقْمَان - لَيْسَتْ فِي السَّمَاء وَلَا فِي الْأَرْض . فَتَحَرَّكَ الْحُوت فَاضْطَرَبَ , فَتَزَلْزَلَتْ الْأَرْض , فَأَرْسَى عَلَيْهَا الْجِبَال فَقَرَّتْ , فَالْجِبَال تَفْخَر عَلَى الْأَرْض , فَذَلِكَ قَوْله : { وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيد بِكُمْ } وَخَلَقَ الْجِبَال فِيهَا وَأَقْوَات أَهْلهَا وَشَجَرهَا وَمَا يَنْبَغِي لَهَا فِي يَوْمَيْنِ فِي الثُّلَاثَاء وَالْأَرْبِعَاء , وَذَلِكَ حِين يَقُول : { أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِاَلَّذِي خَلَقَ الْأَرْض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقهَا وَبَارَكَ فِيهَا } يَقُول : أَنْبَتَ شَجَرهَا { وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتهَا } يَقُول أَقْوَاتهَا لِأَهْلِهَا { فِي أَرْبَعَة أَيَّام سَوَاء لِلسَّائِلِينَ } يَقُول : قُلْ لِمَنْ يَسْأَلك هَكَذَا الْأَمْر { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَان } 41 11 وَكَانَ ذَلِكَ الدُّخَان مِنْ تَنَفُّس الْمَاء حِين تَنَفَّسَ , فَجَعَلَهَا سَمَاء وَاحِدَة , ثُمَّ فَتَقَهَا فَجَعَلَهَا سَبْع سَمَوَات فِي يَوْمَيْنِ فِي الْخَمِيس وَالْجُمُعَة , وَإِنَّمَا سُمِّيَ يَوْم الْجُمُعَة لِأَنَّهُ جَمَعَ فِيهِ خَلْق السَّمَوَات وَالْأَرْض { وَأَوْحَى فِي كُلّ سَمَاء أَمْرهَا } قَالَ : خَلَقَ فِي كُلّ سَمَاء خَلْقهَا مِنْ الْمَلَائِكَة وَالْخَلْق الَّذِي فِيهَا , مِنْ الْبِحَار وَجِبَال الْبَرَد وَمَا لَا يُعْلَم . ثُمَّ زَيَّنَ السَّمَاء الدُّنْيَا بِالْكَوَاكِبِ , فَجَعَلَهَا زِينَة وَحِفْظًا تُحْفَظ مِنْ الشَّيَاطِين . فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ خَلْق مَا أَحَبَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش , فَذَلِكَ حِين يَقُول : { خَلَقَ السَّمَوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام } 7 54 يَقُول : { كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا } 21 30 495 - وَحَدَّثَنِي الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد فِي قَوْله : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْض جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاء } قَالَ : خَلَقَ الْأَرْض قَبْل السَّمَاء , فَلَمَّا خَلَقَ الْأَرْض ثَارَ مِنْهَا دُخَان , فَذَلِكَ حِين يَقُول : { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْع سَمَوَات } قَالَ : بَعْضهنَّ فَوْق بَعْض , وَسَبْع أَرَضِينَ بَعْضهنَّ تحت بعض . 496 - وحدثنا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَنْبَأَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر , عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله : { فَسَوَّاهُنَّ سَبْع سَمَوَات } قَالَ : بَعْضهنَّ فَوْق بَعْض , بَيْن كُلّ سَمَاءَيْنِ مَسِيرَة خَمْسمِائَةِ عَام . 497 - وَحَدَّثَنَا الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو صَالِح , قَالَ : حَدَّثَنِي مُعَاوِيَة بْن صَالِح , عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة , عَنْ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله حَيْثُ ذَكَرَ خَلْق الْأَرْض قَبْل السَّمَاء , ثُمَّ ذَكَرَ السَّمَاء قَبْل الْأَرْض , وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه خَلَقَ الْأَرْض بِأَقْوَاتِهَا مِنْ غَيْر أَنْ يَدْحُوهَا قَبْل السَّمَاء , ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْع سَمَوَات , ثُمَّ دَحَا الْأَرْض بَعْد ذَلِكَ فَذَلِكَ قَوْله : { وَالْأَرْض بَعْد ذَلِكَ دَحَاهَا } 79 30 498 - وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن صَالِح , قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو مَعْشَر , عَنْ سَعِيد بْن أَبِي سَعِيد , عَنْ عَبْد اللَّه بْن سَلَام أَنَّهُ قَالَ : إنَّ اللَّه بَدَأَ الْخَلْق يَوْم الْأَحَد , فَخَلَقَ الْأَرَضِينَ فِي الْأَحَد وَالِاثْنَيْنِ , وَخَلَقَ الْأَقْوَات وَالرَّوَاسِي فِي الثُّلَاثَاء وَالْأَرْبِعَاء , وَخَلَقَ السَّمَوَات فِي الْخَمِيس وَالْجُمُعَة , وَفَرَغَ فِي آخِر سَاعَة مِنْ يَوْم الْجُمُعَة , فَخَلَقَ فِيهَا آدَم عَلَى عَجَل ; فَتِلْكَ السَّاعَة الَّتِي تَقُوم فِيهَا السَّاعَة . قَالَ أَبُو جَعْفَر : فَمَعْنَى الْكَلَام إذًا : هُوَ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ , فَخَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْض جَمِيعًا وَسَخَّرَهُ لَكُمْ تَفَضُّلًا مِنْهُ بِذَلِكَ عَلَيْكُمْ , لِيَكُونَ لَكُمْ بَلَاغًا فِي دُنْيَاكُمْ , وَمَتَاعًا إلَى مُوَافَاة آجَالكُمْ , وَدَلِيلًا لَكُمْ عَلَى وَحْدَانِيَّة رَبّكُمْ . ثُمَّ عَلَا إلَى السَّمَوَات السَّبْع وَهِيَ دُخَان , فَسَوَّاهُنَّ وحبكهن , وَأَجْرَى فِي بَعْضهنَّ شَمْسه وَقَمَره وَنُجُومه , وَقَدَّرَ فِي كُلّ وَاحِدَة مِنْهُنَّ مَا قَدَّرَ مِنْ خَلْقه .

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْء عَلِيم } . يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ جَلَاله : { وَهُوَ } نَفْسه وَبِقَوْلِهِ : { بِكُلِّ شَيْء عَلِيم } : أَنَّ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْض جَمِيعًا , وَسَوَّى السَّمَوَات السَّبْع بِمَا فِيهِنَّ , فَأَحْكَمَهُنَّ مِنْ دُخَان الْمَاء وَأَتْقَنَ صُنْعهنَّ , لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَيّهَا الْمُنَافِقُونَ وَالْمُلْحِدُونَ الْكَافِرُونَ بِهِ مِنْ أَهْل الْكِتَاب , مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ فِي أَنْفُسكُمْ , وَإِنْ أَبْدَى مُنَافِقُوكُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ قَوْلهمْ : { آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر } وَهُمْ عَلَى التَّكْذِيب بِهِ مُنْطَوُونَ . وَكَذَبَتْ أَحْبَاركُمْ بِمَا أَتَاهُمْ بِهِ رَسُولِي مِنْ الْهُدَى وَالنُّور وَهُمْ بِصِحَّتِهِ عَارِفُونَ , وَجَحَدُوا وَكَتَمُوا مَا قَدْ أَخَذْت عَلَيْهِمْ بِبَيَانِهِ لِخَلْقِي مِنْ أَمْر مُحَمَّد وَنُبُوَّته الْمَوَاثِيق , وَهُمْ بِهِ عَالِمُونَ ; بَلْ أَنَا عَالَم بِذَلِكَ وَغَيْره مِنْ أُمُوركُمْ , وَأُمُور غَيْركُمْ , إنِّي بِكُلِّ شَيْء عَلِيم . وَقَوْله : { عَلِيم } بِمَعْنَى عَالِم . وَرُوِيَ عَنْ ابْن عَبَّاس أَنَّهُ كَانَ يَقُول : هُوَ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عِلْمه . 499 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن صَالِح , قَالَ : حَدَّثَنَا مُعَاوِيَة بْن صَالِح , قَالَ : حَدَّثَنِي عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ ابْن عَبَّاس قَالَ : الْعَالِم الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عِلْمه .
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَسورة البقرة الآية رقم 30
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَإِذْ قَالَ رَبّك } قَالَ أَبُو جَعْفَر : زَعَمَ بَعْض الْمَنْسُوبِينَ إلَى الْعِلْم بِلُغَاتِ الْعَرَب مِنْ أَهْل الْبَصْرَة أَنَّ تَأْوِيل قَوْله : { وَإِذْ قَالَ رَبّك } وَقَالَ رَبّك , وَأَنَّ " إذْ " مِنْ الْحُرُوف الزَّوَائِد , وَأَنَّ مَعْنَاهَا الْحَذْف . وَاعْتَلَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي وَصَفْنَا عَنْهُ فِي ذَلِكَ بِبَيْتِ الْأَسْوَد بْن يَعْفُر : فَإِذَا وَذَلِكَ لَامَهَاهَ لِذِكْرِهِ وَالدَّهْر يُعْقِب صالحا بِفَسَادِ ثم قال : ومعناها : وذلك لَامَهَاهَ لِذِكْرِهِ . وَبِبَيْتِ عبد مَنَاف بن ربع الْهُذَلِيّ : حَتَّى إذَا أَسَلَكُوهُمْ فِي قَتَائِدَة شَلًّا كَمَا تَطْرُد الْجَمَّالَة الشُّرُدَا وَقَالَ : مَعْنَاهُ : حَتَّى أَسَلَكُوهُمْ . قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَالْأَمْر فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا قَالَ ; وَذَلِكَ أَنَّ " إذْ " حَرْف يَأْتِي بِمَعْنَى الْجَزَاء , وَيَدُلّ عَلَى مَجْهُول مِنْ الْوَقْت , وَغَيْر جَائِز إبْطَال حَرْف كَانَ دَلِيلًا عَلَى مَعْنًى فِي الْكَلَام . إذْ سَوَاء قِيلَ قَائِل هُوَ بِمَعْنَى التَّطَوُّل , وَهُوَ فِي الْكَلَام دَلِيل عَلَى مَعْنَى مَفْهُوم . وَقِيلَ آخَر فِي جَمِيع الْكَلَام الَّذِي نَطَقَ بِهِ دَلِيلًا عَلَى مَا أُرِيدَ بِهِ وَهُوَ بِمَعْنَى التَّطَوُّل . وَلَيْسَ لِمُدَّعِي الَّذِي وَصَفْنَا قَوْله فِي بَيْت الْأَسْوَد بْن يَعْفُر , أَنَّ " إذَا " بِمَعْنَى التَّطَوُّل وَجْه مَفْهُوم ; بَلْ ذَلِكَ لَوْ حُذِفَ مِنْ الْكَلَام لَبَطَلَ الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ الْأَسْوَد بْن يَعْفُر مِنْ قَوْله : فَإِذَا وَذَلِكَ لَامَهَاهَ لِذِكْرِهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ : فَإِذَا الَّذِي نَحْنُ فِيهِ , وَمَا مَضَى مِنْ عَيْشنَا . وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ إلَى مَا تَقَدَّمَ وَصْفه مِنْ عَيْشه الَّذِي كَانَ فِيهِ لَامَهَاهَ لِذِكْرِهِ , يَعْنِي لَا طَعْم لَهُ وَلَا فَضْل , لِإِعْقَابِ الدَّهْر صَالِح ذَلِكَ بِفَسَادٍ . وَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْل عَبْد مَنَاف بْن ربع : حَتَّى إذَا أَسَلَكُوهُمْ فِي قَتَائِدَة شَلًّا . . ................ لَوْ أَسَقَطَ مِنْهُ " إذَا " بَطَل مَعْنَى الْكَلَام ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ : حَتَّى إذَا أَسَلَكُوهُمْ فِي قَتَائِدَة سَلَكُوا شَلًّا . فَدَلَّ قَوْله : " وَأَسْلِكُوهُمْ شَلًّا " عَلَى مَعْنَى الْمَحْذُوف , فَاسْتُغْنِيَ عَنْ ذِكْره بِدَلَالَةِ " إذَا " عَلَيْهِ , فَحُذِفَ . كَمَا قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابنَا عَلَى مَا تَفْعَل الْعَرَب فِي نَظَائِر ذَلِكَ , وَكَمَا قَالَ النَّمِر بْن تَوْلَب : فَإِنَّ الْمَنِيَّة مَنْ يَخْشَهَا فَسَوْف تُصَادِفهُ أَيْنَمَا وَهُوَ يُرِيد : أَيْنَمَا ذَهَبَ . وَكَمَا تَقُول الْعَرَب : أَتَيْتُك مِنْ قَبْل وَمِنْ بَعْد ; تُرِيد : مِنْ قَبْل ذَلِكَ وَمِنْ بَعْد ذَلِكَ . فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي " إذَا " كَمَا يَقُول الْقَائِل : إذَا أَكْرَمَك أَخُوك فَأَكْرِمْهُ وَإِذَا لَا فَلَا ; يُرِيد : وَإِذَا لَمْ يُكْرِمك فَلَا تُكْرِمهُ . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل الْآخَر : فَإِذَا وَذَلِكَ لَا يَضُرّك ضُرّه فِي يَوْم أَسْأَل نَائِلًا أَوْ أَنْكَد نَظِير مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى فِي بَيْت الْأَسْوَد بْن يَعْفُر . وَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْل اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { وَإِذْ قَالَ رَبّك لِلْمَلَائِكَةِ } لَوْ أُبْطِلَتْ " إذْ " وَحُذِفَتْ مِنْ الْكَلَام , لَاسْتَحَالَ عَنْ مَعْنَاهُ الَّذِي هُوَ بِهِ وَفِيهِ " إذْ " . فَإِنْ قَالَ قَائِل : فَمَا مَعْنَى ذَلِكَ ؟ وَمَا الْجَالِب ل " إذْ " , إذْ لَمْ يَكُنْ فِي الْكَلَام قَبْله مَا يَعْطِف بِهِ عَلَيْهِ ؟ قِيلَ لَهُ : قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى أَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ خَاطَبَ الَّذِينَ خَاطَبَهُمْ بِقَوْلِهِ : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاَللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ } بِهَذِهِ الْآيَات وَاَلَّتِي بَعْدهَا مُوَبِّخهمْ مُقَبِّحًا إلَيْهِمْ سُوء فِعَالهمْ وَمَقَامهمْ عَلَى ضَلَالهمْ مَعَ النِّعَم الَّتِي أَنْعَمَهَا عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَسْلَافهمْ , وَمُذَكِّرهمْ بِتَعْدِيدِ نِعَمه عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَسْلَافهمْ بَأْسه أَنْ يَسْلُكُوا سَبِيل مَنْ هَلَكَ مِنْ أَسْلَافهمْ فِي مَعْصِيَة اللَّه , فَيَسْلُك بِهِمْ سَبِيلهمْ فِي عُقُوبَته ; وَمُعَرِّفهمْ مَا كَانَ مِنْهُ مِنْ تَعَطُّفه عَلَى التَّائِب مِنْهُمْ اسْتِعْتَابًا مِنْهُ لَهُمْ . فَكَانَ مِمَّا عَدَّدَ مِنْ نِعَمه عَلَيْهِمْ , أَنَّهُ خَلَقَ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْض جَمِيعًا , وَسَخَّرَ لَهُمْ مَا فِي السَّمَوَات مِنْ شَمْسهَا وَقَمَرهَا وَنُجُومهَا وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ مَنَافِعهَا الَّتِي جَعَلَهَا لَهُمْ وَلِسَائِرِ بَنِي آدَم مَعَهُمْ مَنَافِع , فَكَانَ فِي قَوْله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاَللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ } مَعْنَى : اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْت عَلَيْكُمْ , إذْ خَلَقْتُكُمْ وَلَمْ تَكُونُوا شَيْئًا , وَخَلَقْت لَكُمْ مَا فِي الْأَرْض جَمِيعًا , وَسَوَّيْت لَكُمْ مَا فِي السَّمَاء . ثُمَّ عَطْف بِقَوْلِهِ : { وَإِذْ قَالَ رَبّك لِلْمَلَائِكَةِ } عَلَى الْمَعْنَى الْمُقْتَضَى بِقَوْلِهِ : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاَللَّهِ } إذْ كَانَ مُقْتَضِيًا مَا وَصَفْت مِنْ قَوْله : اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ إذْ فَعَلْت بِكُمْ وَفَعَلْت , وَاذْكُرُوا فِعْلِي بِأَبِيكُمْ آدَم , إذْ قُلْت لِلْمَلَائِكَةِ إنِّي جَاعِل فِي الْأَرْض خَلِيفَة . فَإِنْ قَالَ قَائِل : فَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ نَظِير فِي كَلَام الْعَرَب نَعْلَم بِهِ صِحَّة مَا قُلْت ؟ قِيلَ : نَعَمْ , أَكْثَر مِنْ أَنْ يُحْصَى , مِنْ ذَلِكَ قَوْل الشَّاعِر : أَجِدّك لَنْ تَرَى بِثُعَيْلِبَات وَلَا بَيْدَانَ نَاجِيَة ذَمُولَا وَلَا مُتَدَارِك وَالشَّمْس طِفْل بِبَعْضِ نَوَاشِغ الْوَادِي حُمُولَا فَقَالَ : وَلَا مُتَدَارِك , وَلَمْ يَتَقَدَّمهُ فِعْل بِلَفْظٍ يُعْطَف عَلَيْهِ , وَلَا حَرْف مُعْرَب إعْرَابه فَيُرَدّ " مُتَدَارِك " عَلَيْهِ فِي إعْرَابه . وَلَكِنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَهُ فِعْل مَجْحُود ب " لَنْ " يَدُلّ عَلَى الْمَعْنَى الْمَطْلُوب فِي الْكَلَام وَعَلَى الْمَحْذُوف , اُسْتُغْنِيَ بِدَلَالَةِ مَا ظَهَرَ مِنْهُ عَنْ إظْهَار مَا حُذِفَ , وَعَامِل الْكَلَام فِي الْمَعْنَى وَالْإِعْرَاب مُعَامَلَته أَنْ لَوْ كَانَ مَا هُوَ مَحْذُوف مِنْهُ ظَاهِرًا . لِأَنَّ قَوْله : أَجِدّك لَنْ تَرَى بِثُعَيْلِبَات بِمَعْنَى : أَجِدّك لَسْت بَرَاء , فَرُدَّ " مُتَدَارِكًا " عَلَى مَوْضِع " تَرَى " كَأَنَّ " لَسْت " وَالْبَاء مَوْجُودَتَانِ فِي الْكَلَام , فَكَذَلِكَ قَوْله : { وَإِذْ قَالَ رَبّك } لِمَا سَلَف قَبْله تَذْكِير اللَّه الْمُخَاطَبِينَ بِهِ مَا سَلَف قِبَلهمْ وَقِبَل آبَائِهِمْ مِنْ أَيَادِيه وَآلَائِهِ , وَكَانَ قَوْله : { وَإِذْ قَالَ رَبّك لِلْمَلَائِكَةِ } مَعَ مَا بَعْده مِنْ النِّعَم الَّتِي عَدَّدَهَا عَلَيْهِمْ وَنَبَّهَهُمْ عَلَى مَوَاقِعهَا , رُدَّ " إذْ " عَلَى مَوْضِع : { وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ } لِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ : اُذْكُرُوا هَذِهِ مِنْ نِعَمِي , وَهَذِهِ الَّتِي قُلْت فِيهَا لِلْمَلَائِكَةِ . فَلَمَّا كَانَتْ الْأُولَى مُقْتَضِيَة " إذْ " عُطِفَ ب " إذْ " عَلَى مَوْضِعهَا فِي الْأُولَى كَمَا وَصَفْنَا مِنْ قَوْل الشَّاعِر فِي " وَلَا مُتَدَارِك " .


الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { لِلْمَلَائِكَةِ } قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَالْمَلَائِكَة جَمْع مَلَك , غَيْر أَنَّ وَاحِدهمْ بِغَيْرِ الْهَمْز أَكْثَر وَأَشْهَر فِي كَلَام الْعَرَب مِنْهُ بِالْهَمْزِ , وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي وَاحِدهمْ مَلَك مِنْ الْمَلَائِكَة , فَيَحْذِفُونَ الْهَمْز مِنْهُ , وَيُحَرِّكُونَ اللَّامّ الَّتِي كَانَتْ مُسَكَّنَة لَوْ هَمْز الِاسْم . وَإِنَّمَا يُحَرِّكُونَهَا بِالْفَتْحِ , لِأَنَّهُمْ يَنْقُلُونَ حَرَكَة الْهَمْزَة الَّتِي فِيهِ بِسُقُوطِهَا إلَى الْحَرْف السَّاكِن قَبْلهَا , فَإِذَا جَمَعُوا وَاحِدهمْ رَدُّوا الْجَمْع إلَى الْأَصْل وَهَمَزُوا , فَقَالُوا : مَلَائِكَة . وَقَدْ تَفْعَل الْعَرَب نَحْو ذَلِكَ كَثِيرًا فِي كَلَامهَا , فَتَتْرُك الْهَمْز فِي الْكَلِمَة الَّتِي هِيَ مَهْمُوزَة فَيَجْرِي كَلَامهمْ بِتَرْكِ هَمْزهَا فِي حَال , وَبِهَمْزِهَا فِي أُخْرَى , كَقَوْلِهِمْ : رَأَيْت فُلَانًا , فَجَرَى كَلَامهمْ بِهَمْزِ رَأَيْت , ثُمَّ قَالُوا : نَرَى وَتَرَى وَيَرَى , فَجَرَى كَلَامهمْ فِي يَفْعَل وَنَظَائِرهَا بِتَرْكِ الْهَمْز , حَتَّى صَارَ الْهَمْز مَعَهَا شَاذًّا مَعَ كَوْن الْهَمْز فِيهَا أَصْلًا . فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي مَلَك وَمَلَائِكَة , جَرَى كَلَامهمْ بِتَرْكِ الْهَمْز مِنْ وَاحِدهمْ , وَبِالْهَمْزِ فِي جَمِيعهمْ . وَرُبَّمَا جَاءَ الْوَاحِد مَهْمُوزًا كَمَا قَالَ الشَّاعِر : فَلَسْت لِإِنْسِيٍّ وَلَكِنْ لَمِلْأَك تَحَدَّرَ مِنْ جَوّ السَّمَاء يَصُوب وَقَدْ يُقَال فِي وَاحِدهمْ : مَأْلُك , فَيَكُون ذَلِكَ مِثْل قَوْلهمْ : جَبَذَ وَجَذَبَ , وَشَأْمَل وَشَمْأَل , وَمَا أَشَبَه ذَلِكَ مِنْ الْحُرُوف الْمَقْلُوبَة . غَيْر أَنَّ الَّذِي يَجِب إذَا سُمِّيَ وَاحِدهمْ مَأْلُك , أَنْ يُجْمَع إذْ جَمَعَ عَلَى ذَلِكَ : مَالِك , وَلَسْت أَحْفَظ جَمْعهمْ كَذَلِكَ سَمَاعًا , وَلَكِنَّهُمْ قَدْ يَجْمَعُونَ مَلَائِك وَمَلَائِكَة , كَمَا يُجْمَع أَشْعَث : أَشَاعِث وَأَشَاعِثَة , وَمِسْمَع : مَسَامِع وَمَسَامِعَة . قَالَ أُمَيَّة بْن أَبِي الصَّلْت فِي جَمْعهمْ كَذَلِكَ : وَفِيهَا مِنْ عِبَاد اللَّه قَوْم مَلَائِك ذَلِّلُوا وَهُمُ صِعَاب وَأَصْل الْمَلْأَك : الرِّسَالَة , كَمَا قَالَ عَدِيّ بْن زَيْد الْعَبَّادِيّ أَبْلِغْ النُّعْمَان عَنِّي ملأكا أَنَّهُ قَدْ طَالَ حَبْسِي وَانْتِظَارِي وَقَدْ يُنْشَد " مَأْلُكًا " عَلَى اللُّغَة الْأُخْرَى , فَمَنْ قَالَ : ملأكا , فَهُوَ مُفْعِل مِنْ لَأَكَ إلَيْهِ يَلْأَكُ : إذَا أَرْسَلَ إلَيْهِ رِسَالَة ملأكة . وَمَنْ قَالَ : مَأْلُكًا , فَهُوَ مُفْعِل مِنْ أَلَكْت إلَيْهِ آلُك : إذَا أَرْسَلْت إلَيْهِ مَأْلُكَة وَأَلُوكًا , كَمَا قَالَ لَبِيد بْن رَبِيعَة : وَغُلَام أَرْسَلَتْهُ أُمّه بِأَلُوكٍ فَبَذَلْنَا مَا سَأَلَ فَهَذَا مِنْ أَلَكْت . وَمِنْهُ قَوْل نَابِغَة بَنِي ذُبْيَان : أَلِكْنِي يَا عُيَيْنُ إلَيْك قَوْلًا سَتُهْدِيهِ الرِّوَاة إلَيْك عَنِّي وَقَالَ عَبْد بَنِي الحسحاس : أَلِكْنِي إلَيْهَا عَمْرك اللَّه يَا فَتَى بِآيَةِ مَا جَاءَتْ إلَيْنَا تَهَادِيًا يَعْنِي بِذَلِكَ : أَبْلِغْهَا رِسَالَتِي . فَسُمِّيَتْ الْمَلَائِكَة مَلَائِكَة بِالرِّسَالَةِ , لِأَنَّهَا رُسُل اللَّه بَيْنه وَبَيْن أَنْبِيَائِهِ وَمَنْ أُرْسِلَتْ إلَيْهِ مِنْ عِبَاده .


الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { إنِّي جَاعِل فِي الْأَرْض } اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي قَوْله : { إنِّي جَاعِل } , فَقَالَ بَعْضهمْ : إنِّي فَاعِل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 500 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم بْن الْحَسَن , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ جَرِير بْن حَازِم , وَمُبَارَك عَنْ الْحَسَن , وَأَبِي بَكْر , يَعْنِي الْهُذَلِيّ عَنْ الْحَسَن وَقَتَادَةُ , قَالُوا : قَالَ اللَّه لِلْمَلَائِكَةِ : { إنِّي جَاعِل فِي الْأَرْض خَلِيفَة } قَالَ لَهُمْ : إنِّي فَاعِل . وَقَالَ آخَرُونَ : إنِّي خَالِق . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 501 - حُدِّثْت عَنْ المنجاب بْن الْحَارِث قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْر بْن عُمَارَة عَنْ أَبِي رَوْق , قَالَ : كُلّ شَيْء فِي الْقُرْآن " جَعْل " فَهُوَ خَلْق . قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَالصَّوَاب فِي تَأْوِيل قَوْله : { إنِّي جَاعِل فِي الْأَرْض خَلِيفَة } أَيْ مُسْتَخْلَف فِي الْأَرْض خَلِيفَة وَمُصِير فِيهَا خَلَفًا , وَذَلِكَ أَشَبَه بِتَأْوِيلِ قَوْل الْحَسَن وَقَتَادَةُ . وَقِيلَ إنَّ الْأَرْض الَّتِي ذَكَرهَا اللَّه فِي هَذِهِ الْآيَة هِيَ مَكَّة . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 502 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا جَرِير , عَنْ عَطَاء , عَنْ ابْن سَابِطٍ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " دُحِيَتْ الْأَرْض مِنْ مَكَّة . وَكَانَتْ الْمَلَائِكَة تَطُوف بِالْبَيْتِ , فَهِيَ أَوَّل مَنْ طَافَ بِهِ , وَهِيَ الْأَرْض الَّتِي قَالَ اللَّه : { إنِّي جَاعِل فِي الْأَرْض خَلِيفَة } , وَكَانَ النَّبِيّ إذَا هَلَكَ قَوْمه وَنَجَا هُوَ وَالصَّالِحُونَ أَتَى هُوَ وَمَنْ مَعَهُ فَعَبَدُوا اللَّه بِهَا حَتَّى يَمُوتُوا , فَإِنَّ قَبْر نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ بَيْن زَمْزَم وَالرُّكْن وَالْمَقَام "


الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { خَلِيفَة } وَالْخَلِيفَة الْفَعِيلَة , مِنْ قَوْلك : خَلَف فُلَان فُلَانًا فِي هَذَا الْأَمْر إذَا قَامَ مَقَامه فِيهِ بَعْده , كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِف فِي الْأَرْض مِنْ بَعْدهمْ لِنَنْظُر كَيْفَ تَعْمَلُونَ } 10 14 يَعْنِي بِذَلِكَ : أَنَّهُ أَبْدَلَكُمْ فِي الْأَرْض مِنْهُمْ فَجَعَلَكُمْ خُلَفَاء بَعْدهمْ وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ لِلسُّلْطَانِ الْأَعْظَم : خَلِيفَة , لِأَنَّهُ خَلَف الَّذِي كَانَ قَبْله , فَقَامَ بِالْأَمْرِ مَقَامه , فَكَانَ مِنْهُ خَلَفًا , يُقَال مِنْهُ : خَلَف الْخَلِيفَة يَخْلُف خِلَافَة وَخَلِيفًا , وَكَانَ ابْن إسْحَاق يَقُول بِمَا : 503 - حَدَّثَنَا بِهِ ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة , عَنْ ابْن إسْحَاق : { إنِّي جَاعِل فِي الْأَرْض خَلِيفَة } يَقُول : سَاكِنًا وَعَامِرًا يَسْكُنهَا وَيَعْمُرهَا خَلَقًا لَيْسَ مِنْكُمْ . وَلَيْسَ الَّذِي قَالَ ابْن إسْحَاق فِي مَعْنَى الْخَلِيفَة بِتَأْوِيلِهَا , وَإِنْ كَانَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ إنَّمَا أَخْبَرَ مَلَائِكَته أَنَّهُ جَاعِل فِي الْأَرْض خَلِيفَة يَسْكُنهَا , وَلَكِنْ مَعْنَاهَا مَا وَصَفْت قَبْل . فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِل : فَمَا الَّذِي كَانَ فِي الْأَرْض قَبْل بَنِي آدَم لَهَا عَامِرًا فَكَانَ بَنُو آدَم بَدَلًا مِنْهُ وَفِيهَا مِنْهُ خَلَفًا ؟ قِيلَ : قَدْ اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي ذَلِكَ . 504 - فَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَان بْن سَعِيد , قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْر بْن عُمَارَة , عَنْ أَبِي رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك , عَنْ ابْن عَبَّاس , قَالَ : أَوَّل مَنْ سَكَنَ الْأَرْض الْجِنّ , فَأَفْسَدُوا فِيهَا , وَسَفَكُوا فِيهَا الدِّمَاء , وَقَتَلَ بَعْضهمْ بَعْضًا . قَالَ : فَبَعَثَ اللَّه إلَيْهِمْ إبْلِيس فِي جُنْد مِنْ الْمَلَائِكَة , فَقَتَلَهُمْ إبْلِيس وَمَنْ مَعَهُ , حَتَّى أَلْحَقَهُمْ بِجَزَائِر الْبُحُور وَأَطْرَاف الْجِبَال ; ثُمَّ خَلَقَ آدَم فَأَسْكَنَهُ إيَّاهَا , فَلِذَلِكَ قَالَ : { إنِّي جَاعِل فِي الْأَرْض خَلِيفَة } . فَعَلَى هَذَا الْقَوْل إنِّي جَاعِل فِي الْأَرْض خَلِيفَة مِنْ الْجِنّ يَخْلُفُونَهُمْ فِيهَا فَيَسْكُنُونَهَا وَيُعَمِّرُونَهَا . 505 - وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ : حَدَّثَنَا إسْحَاق , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس فِي قَوْله : { إنِّي جَاعِل فِي الْأَرْض خَلِيفَة } الْآيَة , قَالَ : إنَّ اللَّه خَلَقَ الْمَلَائِكَة يَوْم الْأَرْبِعَاء , وَخَلَقَ الْجِنّ يَوْم الْخَمِيس , وَخَلَقَ آدَم يَوْم الْجُمُعَة , فَكَفَرَ قَوْم مِنْ الْجِنّ , فَكَانَتْ الْمَلَائِكَة تَهْبِط إلَيْهِمْ فِي الْأَرْض فَتُقَاتِلهُمْ , فَكَانَتْ الدِّمَاء وَكَانَ الْفَسَاد فِي الْأَرْض . وَقَالَ آخَرُونَ فِي تَأْوِيل قَوْله : { إنِّي جَاعِل فِي الْأَرْض خَلِيفَة } أَيْ خَلَفًا يَخْلُف بَعْضهمْ بَعْضًا , وَهُمْ وَلَد آدَم الَّذِينَ يَخْلُفُونَ أَبَاهُمْ آدَم , وَيَخْلُف كُلّ قَرْن مِنْهُمْ الْقَرْن الَّذِي سَلَف قَبْله . وَهَذَا قَوْل حُكِيَ عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ , وَنَظِير لَهُ مَا : 506 - حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّد بْن بَشَّار , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الزُّبَيْرِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَان عَنْ عَطَاء بْن السَّائِب , عَنْ ابْن سَابِطٍ فِي قَوْله : { إنِّي جَاعِل فِي الْأَرْض خَلِيفَة قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِد فِيهَا وَيَسْفِك الدِّمَاء } قَالَ : يَعْنُونَ بِهِ بَنِي آدَم . 507 - وَحَدَّثَنِي يُونُس قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : قَالَ ابْن زَيْد قَالَ اللَّه لِلْمَلَائِكَةِ : إنِّي أُرِيد أَنْ أَخْلُق فِي الْأَرْض خَلْقًا , وَأَجْعَل فِيهَا خَلِيفَة , وَلَيْسَ لِلَّهِ يَوْمئِذٍ خَلْق إلَّا الْمَلَائِكَة وَالْأَرْض لَيْسَ فِيهَا خَلْق . وَهَذَا الْقَوْل يَحْتَمِل مَا حُكِيَ عَنْ الْحَسَن , وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون أَرَادَ ابْن زَيْد أَنَّ اللَّه أَخْبَرَ الْمَلَائِكَة أَنَّهُ جَاعِل فِي الْأَرْض خَلِيفَة لَهُ , يَحْكُم فِيهَا بَيْن خَلْقه بِحُكْمِهِ , نَظِير مَا : 508 - حَدَّثَنِي بِهِ مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس وَعَنْ مُرَّة عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ : { إنِّي جَاعِل فِي الْأَرْض خَلِيفَة } قَالُوا : رَبّنَا وَمَا يَكُون ذَلِكَ الْخَلِيفَة ؟ قَالَ : يَكُون لَهُ ذُرِّيَّة يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْض وَيَتَحَاسَدُونَ وَيَقْتُل بَعْضهمْ بَعْضًا . فَكَانَ تَأْوِيل الْآيَة عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَة الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْ ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس : إنِّي جَاعِل فِي الْأَرْض خَلِيفَة مِنِّي يَخْلُفنِي فِي الْحُكْم بَيْن خَلْقِي , وَذَلِكَ الْخَلِيفَة هُوَ آدَم وَمَنْ قَامَ مَقَامه فِي طَاعَة اللَّه وَالْحُكْم بِالْعَدْلِ بَيْن خَلْقه . وَأَمَّا الْإِفْسَاد وَسَفْك الدِّمَاء بِغَيْرِ حَقّهَا فَمِنْ غَيْر خُلَفَائِهِ , وَمِنْ غَيْر آدَم وَمَنْ قَامَ مَقَامه فِي عِبَاد اللَّه ; لِأَنَّهُمَا أَخْبَرَا أَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ لِمَلَائِكَتِهِ إذْ سَأَلُوهُ : مَا ذَاكَ الْخَلِيفَة : إنَّهُ خَلِيفَة يَكُون لَهُ ذُرِّيَّة يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْض وَيَتَحَاسَدُونَ وَيَقْتُل بَعْضهمْ بَعْضًا . فَأَضَافَ الْإِفْسَاد وَسَفْك الدِّمَاء بِغَيْرِ حَقّهَا إلَى ذُرِّيَّة خَلِيفَته دُونه وَأَخْرَجَ مِنْهُ خَلِيفَته . وَهَذَا التَّأْوِيل وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا فِي مَعْنَى الْخَلِيفَة مَا حُكِيَ عَنْ الْحَسَن مِنْ وَجْه , فَمُوَافِق لَهُ مِنْ وَجْه . فَأَمَّا مُوَافَقَته إيَّاهُ فَصَرْف مُتَأَوِّلِيهِ إضَافَة الْإِفْسَاد فِي الْأَرْض وَسَفْك الدِّمَاء فِيهَا إلَى غَيْر الْخَلِيفَة . وَأَمَّا مُخَالَفَته إيَّاهَا فَإِضَافَتهمَا الْخِلَافَة إلَى آدَم بِمَعْنَى اسْتِخْلَاف اللَّه إيَّاهُ فِيهَا , وَإِضَافَة الْحَسَن الْخِلَافَة إلَى وَلَده بِمَعْنَى خِلَافَة بَعْضهمْ بَعْضًا , وَقِيَام قَرْن مِنْهُمْ مَقَام قَرْن قَبْلهمْ , وَإِضَافَة الْإِفْسَاد فِي الْأَرْض وَسَفْك الدِّمَاء إلَى الْخَلِيفَة . وَاَلَّذِي دَعَا الْمُتَأَوِّلِينَ قَوْله : { إنِّي جَاعِل فِي الْأَرْض خَلِيفَة } فِي التَّأْوِيل الَّذِي ذُكِرَ عَنْ الْحَسَن إلَى مَا قَالُوا فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا إنَّ الْمَلَائِكَة إنَّمَا قَالَتْ لِرَبِّهَا إذْ قَالَ لَهُمْ رَبّهمْ : { إنِّي جَاعِل فِي الْأَرْض خَلِيفَة قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مِنْ يُفْسِد فِيهَا وَيَسْفِك الدِّمَاء } إخْبَارًا مِنْهَا بِذَلِكَ عَنْ الْخَلِيفَة الَّذِي أَخْبَرَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ جَاعِله فِي الْأَرْض لَا غَيْره ; لِأَنَّ الْمُحَاوَرَة بَيْن الْمَلَائِكَة وَبَيْن رَبّهَا عَنْهُ جَرَتْ . قَالُوا : فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ , وَكَانَ اللَّه قَدْ بَرَّأَ آدَم مِنْ الْإِفْسَاد فِي الْأَرْض وَسَفْك الدِّمَاء وَطَهَّرَهُ مِنْ ذَلِكَ , عُلِمَ أَنَّ الَّذِي عَنَى بِهِ غَيْره مِنْ ذُرِّيَّته , فَثَبَتَ أَنَّ الْخَلِيفَة الَّذِي يُفْسِد فِي الْأَرْض وَيَسْفِك الدِّمَاء هُوَ غَيْر آدَم , وَأَنَّهُمْ وَلَده الَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ , وَأَنَّ مَعْنَى الْخِلَافَة الَّتِي ذَكَرهَا اللَّه إنَّمَا هِيَ خِلَافَة قَرْن مِنْهُمْ قَرْنًا غَيْرهمْ لِمَا وَصَفْنَا . وَأَغْفَلَ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَة وَمُتَأَوِّلُو الْآيَة هَذَا التَّأْوِيل سَبِيل التَّأْوِيل , وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلَائِكَة إذْ قَالَ لَهَا رَبّهَا : { إنِّي جَاعِل فِي الْأَرْض خَلِيفَة } لَمْ تُضْفِ الْإِفْسَاد وَسَفْك الدِّمَاء فِي جَوَابهَا رَبّهَا إلَى خَلِيفَته فِي أَرْضه , بَلْ قَالَتْ : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِد فِيهَا } , وَغَيْر مُنْكَر أَنْ يَكُون رَبّهَا أَعْلَمَهَا أَنَّهُ يَكُون لِخَلِيفَتِهِ ذَلِكَ ذُرِّيَّة يَكُون مِنْهُمْ الْإِفْسَاد وَسَفْك الدِّمَاء , فَقَالَتْ : يَا رَبّنَا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِد فِيهَا وَيَسْفِك الدِّمَاء ؟ كَمَا قَالَ ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس , وَمَنْ حَكَيْنَا ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ أَهْل التَّأْوِيل .


الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِد فِيهَا وَيَسْفِك الدِّمَاء } قَالَ أَبُو جَعْفَر : إنْ قَالَ قَائِل : وَكَيْفَ قَالَتْ الْمَلَائِكَة لِرَبِّهَا إذْ أَخْبَرَهَا أَنَّهُ جَاعِل فِي الْأَرْض خَلِيفَة : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِد فِيهَا وَيَسْفِك الدِّمَاء } وَلَمْ يَكُنْ آدَم بَعْد مَخْلُوقًا وَلَا ذُرِّيَّته , فَيَعْلَمُوا مَا يَفْعَلُونَ عِيَانًا ؟ أَعَلِمَتْ الْغَيْب فَقَالَتْ ذَلِكَ , أَمْ قَالَتْ مَا قَالَتْ مِنْ ذَلِكَ ظَنًّا , فَذَلِكَ شَهَادَة مِنْهَا بِالظَّنِّ وَقَوْل بِمَا لَا تَعْلَم , وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ صِفَتهَا , فَمَا وَجْه قَيْلهَا ذَلِكَ لِرَبِّهَا ؟ قِيلَ : قَدْ قَالَتْ الْعُلَمَاء مِنْ أَهْل التَّأْوِيل فِي ذَلِكَ أَقْوَالًا ; وَنَحْنُ ذَاكِرُو أَقْوَالهمْ فِي ذَلِكَ , ثُمَّ مُخْبِرُونَ بِأَصَحِّهَا بُرْهَانًا وَأَوْضَحَهَا حُجَّةً . فَرُوِيَ عَنْ ابْن عَبَّاس فِي ذَلِكَ مَا : 509 - حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَان بْن سَعِيد , قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْر بْن عُمَارَة , عَنْ أَبِي رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك , عَنْ ابْن عَبَّاس , قَالَ : كَانَ إبْلِيس مِنْ حَيّ مِنْ أَحْيَاء الْمَلَائِكَة , يُقَال لَهُمْ " الْحِنّ " خُلِقُوا مِنْ نَار السَّمُوم مِنْ بَيْن الْمَلَائِكَة , قَالَ : وَكَانَ اسْمه الْحَارِث . قَالَ : وَكَانَ خَازِنًا مِنْ خُزَّانِ الْجَنَّة . قَالَ : وَخُلِقَتْ الْمَلَائِكَة كُلّهمْ مِنْ نُور غَيْر هَذَا الْحَيّ . قَالَ : وَخُلِقَتْ الْجِنّ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي الْقُرْآن مِنْ مَارِج مِنْ نَار , وَهُوَ لِسَان النَّار الَّذِي يَكُون فِي طَرَفهَا إذْ أُلْهِبَتْ . قَالَ : وَخُلِقَ الْإِنْسَان مِنْ طِين , فَأَوَّل مَنْ سَكَنَ الْأَرْض الْجِنّ , فَأَفْسَدُوا فِيهَا وَسَفَكُوا الدِّمَاء , وَقَتَلَ بَعْضهمْ بَعْضًا . قَالَ : فَبَعَثَ اللَّه إلَيْهِمْ إبْلِيس فِي جُنْد مِنْ الْمَلَائِكَة , وَهُمْ هَذَا الْحَيّ الَّذِينَ يُقَال لَهُمْ " الْحِنّ " فَقَتَلَهُمْ إبْلِيس وَمَنْ مَعَهُ حَتَّى أَلْحَقهُمْ بِجَزَائِر الْبُحُور وَأَطْرَاف الْجِبَال . فَلَمَّا فَعَلَ إبْلِيس ذَلِكَ اغْتَرَّ فِي نَفْسه , وَقَالَ : قَدْ صَنَعْت شَيْئًا لَمْ يَصْنَعهُ أَحَد . قَالَ : فَاطَّلَعَ اللَّه عَلَى ذَلِكَ مِنْ قَلْبه , وَلَمْ تَطَّلِع عَلَيْهِ الْمَلَائِكَة الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ ; فَقَالَ اللَّه لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ مَعَهُ : { إنِّي جَاعِل فِي الْأَرْض خَلِيفَة } فَقَالَتْ الْمَلَائِكَة مُجِيبِينَ لَهُ : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِد فِيهَا وَيَسْفِك الدِّمَاء } كَمَا أَفْسَدَتْ الْجِنّ وَسَفَكَتْ الدِّمَاء ؟ وَإِنَّمَا بُعِثْنَا عَلَيْهِمْ لِذَلِكَ . فَقَالَ : { إنِّي أَعْلَم مَا لَا تَعْلَمُونَ } يَقُول : إنِّي قَدْ اطَّلَعْت مِنْ قَلْب إبْلِيس عَلَى مَا لَمْ تَطَّلِعُوا عَلَيْهِ مِنْ كِبْره وَاغْتِرَاره , قَالَ : ثُمَّ أَمَرَ بِتُرْبَةِ آدَم فَرُفِعَتْ , فَخَلَقَ اللَّه آدَم مِنْ طِين لَازِب - وَاللَّازِب : اللَّزِج الصُّلْب مِنْ حَمَأ مَسْنُون - مُنْتِن . قَالَ : وَإِنَّمَا كَانَ حَمَأ مَسْنُونًا بَعْد التُّرَاب . قَالَ : فَخَلَقَ مِنْهُ آدَم بِيَدِهِ . قَالَ فَمَكَثَ أَرْبَعِينَ لَيْلَة جَسَدًا مُلْقًى , فَكَانَ إبْلِيس يَأْتِيه فَيَضْرِبهُ بِرِجْلِهِ فَيُصَلْصِل - أَيْ فَيُصَوِّت - قَالَ : فَهُوَ قَوْل اللَّه : { مِنْ صَلْصَال كَالْفَخَّارِ } 55 14 يَقُول : كَالشَّيْءِ الْمَنْفُوخ الَّذِي لَيْسَ بِمُصْمَتٍ , قَالَ : ثُمَّ يَدْخُل فِي فِيهِ وَيَخْرَج مِنْ دُبُره , وَيَدْخُل مِنْ دُبُره وَيَخْرُج مِنْ فِيهِ , ثُمَّ يَقُول : لَسْت شَيْئًا ! لِلصَّلْصَلَةِ , وَلِشَيْءٍ مَا خُلِقْت ! لَئِنْ سُلِّطْت عَلَيْك لَأَهْلِكَنَّكَ , وَلَئِنْ سُلِّطْت عَلَيَّ لَأَعْصِيَنَّكَ . قَالَ : فَلَمَّا نَفَخَ اللَّه فِيهِ مِنْ رُوحه , أَتَتْ النَّفْخَة مِنْ قِبَل رَأْسه , فَجَعَلَ لَا يَجْرِي شَيْء مِنْهَا فِي جَسَده إلَّا صَارَ لَحْمًا وَدَمًا . فَلَمَّا انْتَهَتْ النَّفْخَة إلَى سُرَّته نَظَرَ إلَى جَسَده , فَأَعْجَبَهُ مَا رَأَى مِنْ حُسْنه , فَذَهَبَ لِيَنْهَض فَلَمْ يَقْدِر , فَهُوَ قَوْل اللَّه : { وَكَانَ الْإِنْسَان عُجُولًا } 17 11 قَالَ : ضَجِرًا لَا صَبْر لَهُ عَلَى سَرَّاء وَلَا ضَرَّاء . قَالَ : فَلَمَّا تَمَّتْ النَّفْخَة فِي جَسَده عَطَسَ فَقَالَ : الْحَمْد لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ , بِإِلْهَامٍ مِنْ اللَّه تَعَالَى . فَقَالَ اللَّه لَهُ : يَرْحَمك اللَّه يَا آدَم . قَالَ : ثُمَّ قَالَ اللَّه لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ إبْلِيس خَاصَّة دُون الْمَلَائِكَة الَّذِينَ فِي السَّمَوَات : اُسْجُدُوا لِآدَم ! فَسَجَدُوا كُلّهمْ أَجْمَعُونَ إلَّا إبْلِيس أَبَى وَاسْتَكْبَرَ لِمَا كَانَ حَدَّثَ بِهِ نَفْسه مِنْ كِبْره وَاغْتِرَاره , فَقَالَ : لَا أَسْجُد لَهُ وَأَنَا خَيْر مِنْهُ وَأَكْبَر سِنًّا وَأَقْوَى خَلْقًا , خَلَقْتَنِي مِنْ نَار وَخَلَقْته مِنْ طِين . يَقُول : إنَّ النَّار أَقْوَى مِنْ الطِّين . قَالَ : فَلَمَّا أَبَى إبْلِيس أَنْ يَسْجُد أَبْلَسَهُ اللَّه , وَآيَسَهُ مِنْ الْخَيْر كُلّه , وَجَعَلَهُ شَيْطَانًا رَجِيمًا عُقُوبَة لِمَعْصِيَتِهِ , ثُمَّ عَلَّمَ آدَم الْأَسْمَاء كُلّهَا , وَهِيَ هَذِهِ الْأَسْمَاء الَّتِي يَتَعَارَف بِهَا النَّاس : إنْسَان وَدَابَّة وَأَرْض وَسَهْل وَبَحْر وَجَبَل وَحِمَار , وَأَشْبَاه ذَلِكَ مِنْ الْأُمَم وَغَيْرهَا . ثُمَّ عَرَضَ هَذِهِ الْأَسْمَاء عَلَى أُولَئِكَ الْمَلَائِكَة , يَعْنِي الْمَلَائِكَة الَّذِينَ كَانُوا مَعَ إبْلِيس الَّذِينَ خُلِقُوا مِنْ نَار السَّمُوم , وَقَالَ لَهُمْ : { أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ } يَقُول : أَخْبِرُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ { إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي لَمْ أَجْعَل فِي الْأَرْض خَلِيفَة . قَالَ : فَلَمَّا عَلِمَتْ الْمَلَائِكَة مُؤَاخَذَة اللَّه عَلَيْهِمْ فِيمَا تَكَلَّمُوا بِهِ مِنْ عِلْم الْغَيْب الَّذِي لَا يَعْلَمهُ غَيْره الَّذِي لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْم , قَالُوا : سُبْحَانك ! تَنْزِيهًا لِلَّهِ مِنْ أَنْ يَكُون أَحَدٌ يَعْلَم الْغَيْب غَيْره , تُبْنَا إلَيْك لَا عِلْم لَنَا إلَّا مَا عَلَّمْتنَا ! تَبَرِّيًا مِنْهُمْ مِنْ عِلْم الْغَيْب , إلَّا مَا عَلَّمْتنَا كَمَا عَلَّمْت آدَم . فَقَالَ : { يَا آدَم أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ } يَقُول : أَخْبِرْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ { فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ } أَيّهَا الْمَلَائِكَة خَاصَّة { إنِّي أَعْلَم غَيْب السَّمَوَات وَالْأَرْض } وَلَا يَعْلَمهُ غَيْرِي { وَأَعْلَم مَا تُبْدُونَ } يَقُول : مَا تُظْهِرُونَ { وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } يَقُول : أَعْلَم السِّرّ كَمَا أَعْلَم الْعَلَانِيَة , يَعْنِي مَا كَتَمَ إبْلِيس فِي نَفْسه مِنْ الْكِبْر وَالِاغْتِرَار . وَهَذِهِ الرِّوَايَة عَنْ ابْن عَبَّاس تُنْبِئ عَنْ أَنَّ قَوْل اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { وَإِذْ قَالَ رَبّك لِلْمَلَائِكَةِ إنِّي جَاعِل فِي الْأَرَصّ خَلِيفَة } خِطَاب مِنْ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِخَاصٍّ مِنْ الْمَلَائِكَة دُون الْجَمِيع , وَأَنَّ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ مِنْ الْمَلَائِكَة كَانُوا قَبِيلَة إبْلِيس خَاصَّة , الَّذِينَ قَاتَلُوا مَعَهُ جِنّ الْأَرْض قَبْل خَلْق آدَم . وَأَنَّ اللَّه إنَّمَا خَصَّهُمْ بِقَيْلِ ذَلِكَ امْتِحَانًا مِنْهُ لَهُمْ وَابْتِلَاء لِيُعَرِّفهُمْ قُصُور عِلْمهمْ وَفَضْل كَثِير مِمَّنْ هُوَ أَضَعْف خَلْقًا مِنْهُمْ مِنْ خَلْقه عَلَيْهِمْ , وَأَنَّ كَرَامَته لَا تُنَال بِقَوَى الْأَبَدَانِ وَشِدَّة الْأَجْسَام كَمَا ظَنَّهُ إبْلِيس عَدُوّ اللَّه . وَيُصَرِّح بِأَنَّ قَيْلهمْ لِرَبِّهِمْ : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِد فِيهَا وَيَسْفِك الدِّمَاء } كَانَتْ هَفْوَة مِنْهُمْ وَرَجْمًا بِالْغَيْبِ , وَأَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَطْلَعَهُمْ عَلَى مَكْرُوه مَا نَطَقُوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ , وَوَقَفَهُمْ عَلَيْهِ حَتَّى تَابُوا وَأَنَابُوا إلَيْهِ مِمَّا قَالُوا وَنَطَقُوا مِنْ رَجْم الْغَيْب بِالظُّنُونِ , وَتَبَرَّءُوا إلَيْهِ أَنْ يُعَلِّم الْغَيْب غَيْره , وَأَظْهَرَ لَهُمْ مِنْ إبْلِيس مَا كَانَ مُنْطَوِيًا عَلَيْهِ مِنْ الْكِبْر الَّذِي قَدْ كَانَ عَنْهُمْ مُسْتَخْفِيًا . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْن عَبَّاس خِلَاف هَذِهِ الرِّوَايَة , وَهُوَ مَا : 510 - حَدَّثَنِي به موسى بن هَارُونَ قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو بن حماد , قال : حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذَكَرَهُ عن أبي مالك , وعن أبي صالح , عن ابن عباس , وعن مرة , عن ابن مسعود , وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : لما فرغ الله من خلق ما أَحَبَّ , استوى على العرش فجعل إبليس عَلَى مُلْك سَمَاء الدُّنْيَا , وَكَانَ مِنْ قَبِيلَة مِنْ الْمَلَائِكَة يُقَال لَهُمْ الْجِنّ ; وَإِنَّمَا سُمُّوا الْجِنّ لِأَنَّهُمْ خُزَّان الْجَنَّة . وَكَانَ إبْلِيس مَعَ مُلْكه خَازِنًا , فَوَقَعَ فِي صَدْره كِبْر وَقَالَ : مَا أَعْطَانِي اللَّه هَذَا إلَّا لِمَزِيَّةٍ لِي - هَكَذَا قَالَ مُوسَى بْن هَارُونَ , وَقَدْ حَدَّثَنِي بِهِ غَيْره وَقَالَ : لِمَزِيَّةٍ لِي عَلَى الْمَلَائِكَة - فَلَمَّا وَقَعَ ذَلِكَ الْكِبْر فِي نَفْسه , اطَّلَعَ اللَّه عَلَى ذَلِكَ مِنْهُ فَقَالَ اللَّه لِلْمَلَائِكَةِ : { إنِّي جَاعِل فِي الْأَرْض خَلِيفَة } قَالُوا : رَبّنَا وَمَا يَكُون ذَلِكَ الْخَلِيفَة ؟ قَالَ : يَكُون لَهُ ذُرِّيَّة يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْض وَيَتَحَاسَدُونَ وَيَقْتُل بَعْضهمْ بَعْضًا { قَالُوا } رَبّنَا { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِد فِيهَا وَيَسْفِك الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّح بِحَمْدِك وَنُقَدِّس لَك قَالَ إنِّي أَعْلَم مَا لَا تَعْلَمُونَ } يَعْنِي مِنْ شَأْن إبْلِيس . فَبَعَثَ جِبْرِيل إلَى الْأَرْض لِيَأْتِيَهُ بِطِينٍ مِنْهَا , فَقَالَتْ الْأَرْض : إنِّي أَعُوذ بِاَللَّهِ مِنْك أَنْ تُنْقِص مِنِّي أَوْ تَشِيننِي ! فَرَجَعَ وَلَمْ يَأْخُذ وَقَالَ : رَبّ إنَّهَا عَاذَتْ بِك فَأَعَذْتهَا . فَبَعَثَ اللَّه مِيكَائِيل , فَعَاذَتْ مِنْهُ فَأَعَاذَهَا , فَرَجَعَ فَقَالَ كَمَا قَالَ جِبْرِيل . فَبَعَثَ مَلَك الْمَوْت , فَعَاذَتْ مِنْهُ فَقَالَ : وَأَنَا أَعُوذ بِاَللَّهِ أَنْ أَرْجِع وَلَمْ أُنَفِّذ أَمْره . فَأَخَذَ مِنْ وَجْه الْأَرْض وَخَلَطَ , فَلَمْ يَأْخُذ مِنْ مَكَان وَاحِد , وَأَخَذَ مِنْ تُرْبَة حَمْرَاء وَبَيْضَاء وَسَوْدَاء ; فَلِذَلِكَ خَرَجَ بَنُو آدَم مُخْتَلِفِينَ , فَصَعِدَ بِهِ فَبَلْ التُّرَاب حَتَّى عَادَ طِينًا لَازِبًا - وَاللَّازِب : هُوَ الَّذِي يَلْتَزِق بَعْضه بِبَعْضٍ - ثُمَّ تُرِكَ حَتَّى أَنْتَنَ وَتَغَيَّرَ , وَذَلِكَ حِين يَقُول : { مِنْ حَمَأ مَسْنُون } 15 28 قَالَ : مُنْتِن , ثُمَّ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ { إنِّي خَالِق بَشَرًا مِنْ طِين فَإِذَا سَوَّيْته وَنَفَخْت فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } 38 71 : 72 فَخَلَقَهُ اللَّه بِيَدَيْهِ لِكَيْلَا يَتَكَبَّر إبْلِيس عَلَيْهِ لِيَقُولَ لَهُ : تَتَكَبَّر عَمَّا عَمِلْت بِيَدَيَّ وَلَمْ أَتَكَبَّر أَنَا عَنْهُ ؟ فَخَلَقَهُ بَشَرًا , فَكَانَ جَسَدًا مِنْ طِين أَرْبَعِينَ سَنَة مِنْ مِقْدَار يَوْم الْجُمُعَة . فَمَرَّتْ بِهِ الْمَلَائِكَة فَفَزِعُوا مِنْهُ لَمَّا رَأَوْهُ , وَكَانَ أَشَدّهمْ مِنْهُ فَزِعًا إبْلِيس , فَكَانَ يَمُرّ فَيَضْرِبهُ , فَيُصَوِّت الْجَسَد كَمَا يُصَوِّت الْفَخَّار وَتَكُون لَهُ صَلْصَلَة , فَذَلِكَ حِين يَقُول : { مِنْ صَلْصَال كَالْفَخَّارِ } 55 14 وَيَقُول لِأَمْرٍ مَا خُلِقْت ! وَدَخَلَ فِيهِ فَخَرَجَ مِنْ دُبُره , فَقَالَ لِلْمَلَائِكَةِ : لَا تَرْهَبُوا مِنْ هَذَا , فَإِنَّ رَبّكُمْ صَمَد وَهَذَا أَجْوَف , لَئِنْ سُلِّطْت عَلَيْهِ لَأَهْلِكَنَّهُ ! فَلَمَّا بَلَغَ الْحِين الَّذِي يُرِيد اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنْ يَنْفُخ فِيهِ الرُّوح , قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ : إذَا نَفَخْت فِيهِ مِنْ رُوحِي فَاسْجُدُوا لَهُ ! فَلَمَّا نَفَخَ فِيهِ الرُّوح , فَدَخَلَ الرُّوح فِي رَأْسه عَطَسَ , فَقَالَتْ لَهُ الْمَلَائِكَة : قُلْ الْحَمْد لِلَّهِ ! فَقَالَ : الْحَمْد لِلَّهِ , فَقَالَ لَهُ اللَّه : رَحِمَك رَبّك ! فَلَمَّا دَخَلَ الرُّوح فِي عَيْنَيْهِ , نَظَرَ إلَى ثِمَار الْجَنَّة , فَلَمَّا دَخَلَ فِي جَوْفه اشْتَهَى الطَّعَام , فَوَثَبَ قَبْل أَنْ تَبْلُغ الرُّوح رِجْلَيْهِ عَجْلَان إلَى ثِمَار الْجَنَّة , فَذَلِكَ حِين يَقُول : { خُلِقَ الْإِنْسَان مِنْ عَجَل } 21 37 فَسَجَدَ الْمَلَائِكَة كُلّهمْ أَجْمَعُونَ إلَّا إبْلِيس أَبَى أَنْ يَكُون مَعَ السَّاجِدِينَ - أَيْ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ - قَالَ اللَّه لَهُ : { مَا مَنَعَك أَنْ تَسْجُد } إذْ أَمَرْتُك { لِمَا خَلَقْت بِيَدَيَّ قَالَ أَنَا خير مِنْهُ } لم أَكُنْ لِأَسْجُد لِبَشَرٍ خَلَقْته مِنْ طِين , قَالَ اللَّهُ لَهُ : { اُخْرُجْ مِنْهَا فَمَا يَكُون لَك } يَعْنِي مَا يَنْبَغِي لَك { أَنْ تَتَكَبَّر فِيهَا فَاخْرُجْ إنَّك مِنْ الصَّاغِرِينَ } وَالصَّغَار هُوَ الذُّلّ . قَالَ : وَعَلَّمَ آدَم الْأَسْمَاء كُلّهَا , ثُمَّ عَرَضَ الْخَلْق عَلَى الْمَلَائِكَة فَقَالَ : { أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أَنَّ بَنِي آدَم يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْض وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاء , فَقَالُوا لَهُ : { سُبْحَانك لَا عِلْم لَنَا إلَّا مَا عَلَّمْتنَا إنَّك أَنْتَ الْعَلِيم الْحَكِيم } اللَّه : { قَالَ يَا آدَم أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إنِّي أَعْلَم غَيْب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَأَعْلَم مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } قَالَ : قَوْلهمْ : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِد فِيهَا } فَهَذَا الَّذِي أَبَدَوْا , وَأَعْلَم مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ , يَعْنِي مَا أَسَرَّ إبْلِيس فِي نَفْسه مِنْ الْكِبْر . قَالَ أَبُو جَعْفَر : فَهَذَا الْخَبَر أَوَّله مَخَالِف مَعْنَاهُ مَعْنَى الرِّوَايَة الَّتِي رُوِيَتْ عَنْ ابْن عَبَّاس مِنْ رِوَايَة الضَّحَّاك الَّتِي قَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرهَا قَبْل , وَمُوَافِق مَعْنَى آخِره مَعْنَاهَا ; وَذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي أَوَّله أَنَّ الْمَلَائِكَة سَأَلَتْ رَبّهَا : مَا ذَاكَ الْخَلِيفَة ؟ حِين قَالَ لَهَا : { إنِّي جَاعِل فِي الْأَرْض خَلِيفَة } فَأَجَابَهَا أَنَّهُ تَكُون لَهُ ذُرِّيَّة يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْض وَيَتَحَاسَدُونَ وَيَقْتُل بَعْضهمْ بَعْضًا . فَقَالَتْ الْمَلَائِكَة حِينَئِذٍ : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِد فِيهَا وَيَسْفِك الدِّمَاء } ؟ فَكَانَ قَوْل الْمَلَائِكَة مَا قَالَتْ مِنْ ذَلِكَ لِرَبِّهَا بَعْد إعْلَام اللَّه إيَّاهَا أَنَّ ذَلِكَ كَائِن مِنْ ذُرِّيَّة الْخَلِيفَة الَّذِي يَجْعَلهُ فِي الْأَرْض , فَذَلِكَ مَعْنَى خِلَاف أَوَّله مَعْنَى خَبَر الضَّحَّاك الَّذِي ذَكَرْنَاهُ . وَأَمَّا مُوَافَقَته إيَّاهُ فِي آخِره , فَهُوَ قَوْلهمْ فِي تَأْوِيل قَوْله : { أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أَنَّ بَنِي آدَم يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْض وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاء . وَأَنَّ الْمَلَائِكَة قَالَتْ إذْ قَالَ لَهَا رَبّهَا ذَلِكَ , تَبَرِّيًا مِنْ عِلْم الْغَيْب : { سُبْحَانك لَا عِلْم لَنَا إلَّا مَا عَلَّمْتنَا إنَّك أَنْتَ الْعَلِيم الْحَكِيم } . وَهَذَا إذَا تَدَبَّرَهُ ذُو الْفَهْم , عَلِمَ أَنَّ أَوَّله يُفْسِد آخِره , وَأَنَّ آخِره يبطل معنى أَوَّله ; وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ إنْ كَانَ أَخْبَرَ الْمَلَائِكَة أَنَّ ذُرِّيَّة الْخَلِيفَة الَّذِي يَجْعَلهُ فِي الْأَرْض تُفْسِد فِيهَا وَتَسْفِك الدِّمَاء , فَقَالَتْ الْمَلَائِكَة لِرَبِّهَا : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِد فِيهَا وَيَسْفِك الدِّمَاء } فَلَا وَجْه لِتَوْبِيخِهَا عَلَى أَنْ أُخْبِرَتْ عَمَّنْ أَخْبَرَهَا اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ يُفْسِد فِي الْأَرْض وَيَسْفِك الدِّمَاء بِمِثْلِ الَّذِي أَخْبَرَهَا عَنْهُمْ رَبّهَا , فَيَجُوز أَنْ يُقَال لَهَا فِيمَا طُوِيَ عَنْهَا مِنْ الْعُلُوم إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِيمَا عَلِمْتُمْ بِخَبَرِ اللَّه إيَّاكُمْ أَنَّهُ كَائِن مِنْ الْأُمُور , فَأُخْبِرْتُمْ بِهِ , فَأَخْبِرُونَا بِاَلَّذِي قَدْ طَوَى اللَّه عَنْكُمْ عِلْمه , كَمَا قَدْ أَخْبَرْتُمُونَا بِاَلَّذِي قَدْ أَطْلَعَكُمْ اللَّه عَلَيْهِ . بَلْ ذَلِكَ خُلْف مِنْ التَّأْوِيل , وَدَعْوَى عَلَى اللَّه مَا لَا يَجُوز أَنْ يَكُون لَهُ صِفَة . وَأَخْشَى أَنْ يَكُون بَعْض نَقَلَة هَذَا الْخَبَر هُوَ الَّذِي غَلَط عَلَى مَنْ رَوَاهُ عَنْهُ مِنْ الصَّحَابَة , وَأَنْ يَكُون التَّأْوِيل مِنْهُمْ كَانَ عَلَى ذَلِكَ : أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِيمَا ظَنَنْتُمْ أَنَّكُمْ أَدْرَكْتُمُوهُ مِنْ الْعِلْم بِخَبَرِي إيَّاكُمْ أَنَّ بَنِي آدَم يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْض وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاء , حَتَّى اسْتَجَرْتُمْ أَنْ تَقُولُوا : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِد فِيهَا وَيَسْفِك الدِّمَاء } فَيَكُون التَّوْبِيخ حِينَئِذٍ وَاقِعًا عَلَى مَا ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ أَدْرَكُوا بِقَوْلِ اللَّه لَهُمْ : إنَّهُ يَكُون لَهُ ذُرِّيَّة يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْض وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاء , لَا عَلَى إخْبَارهمْ بِمَا أَخْبَرَهُمْ اللَّه بِهِ أَنَّهُ كَائِن . وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ أَخْبَرَهُمْ عَمَّا يَكُون مِنْ بَعْض ذُرِّيَّة خَلِيفَته فِي الْأَرْض مَا يَكُون مِنْهُ فِيهَا مِنْ الْفَسَاد وَسَفْك الدِّمَاء , فَقَدْ كَانَ طَوَى عَنْهُمْ الْخَبَر عَمَّا يَكُون مِنْ كَثِير مِنْهُمْ مَا يَكُون مِنْ طَاعَتهمْ رَبّهمْ وَإِصْلَاحهمْ فِي أَرْضه وَحَقْن الدِّمَاء وَرَفْعه مَنْزِلَتهمْ وَكَرَامَتهمْ عَلَيْهِ , فَلَمْ يُخْبِرهُمْ بِذَلِكَ , فَقَالَتْ الْمَلَائِكَة : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِد فِيهَا وَيَسْفِك الدِّمَاء } عَلَى ظَنّ مِنْهَا عَلَى تَأْوِيل هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْت , وَظَاهِرهمَا أَنَّ جَمِيع ذُرِّيَّة الْخَلِيفَة الَّذِي يَجْعَلهُ فِي الْأَرْض يُفْسِدُونَ فِيهَا وَيَسْفِكُونَ فِيهَا الدِّمَاء . فَقَالَ اللَّه لَهُمْ إذْ عَلَّمَ آدَم الْأَسْمَاء كُلّهَا : { أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أَنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ جَمِيع بَنِي آدَم يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْض وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاء عَلَى مَا ظَنَنْتُمْ فِي أَنْفُسكُمْ , إنْكَارًا مِنْهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِقِيلِهِمْ مَا قَالُوا مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْجَمِيع وَالْعُمُوم , وَهُوَ مِنْ صِفَة خَاصّ ذُرِّيَّة الْخَلِيفَة مِنْهُمْ . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ صِفَة مِنَّا لِتَأْوِيلِ الْخَبَر لَا الْقَوْل الَّذِي نَخْتَارهُ فِي تَأْوِيل الْآيَة . وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَوْجِيه خَبَر الْمَلَائِكَة عَنْ إفْسَاد ذُرِّيَّة الْخَلِيفَة وَسَفْكهَا الدِّمَاء عَلَى الْعُمُوم , مَا : 511 - حَدَّثَنَا بِهِ أَحْمَد بْن إسْحَاق الْأَهْوَازِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الزُّبَيْرِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَان عَنْ عَطَاء بْن السَّائِب , عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن سَابِطٍ , قَوْله : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِد فِيهَا وَيَسْفِك الدِّمَاء } قَالَ : يَعْنُونَ النَّاس . وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ بِمَا : 512 - حَدَّثَنَا بِهِ بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد بْن زُرَيْع , عَنْ سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ قَوْله : { وَإِذْ قَالَ رَبّك لِلْمَلَائِكَةِ إنِّي جَاعِل فِي الْأَرْض خَلِيفَة } فَاسْتَخَارَ الْمَلَائِكَة فِي خَلْق آدَم , فَقَالُوا : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِد فِيهَا وَيَسْفِك الدِّمَاء } وَقَدْ عَلِمَتْ الْمَلَائِكَة مِنْ عِلْم اللَّه أَنَّهُ لَا شَيْء أَكْرَه إلَى اللَّه مِنْ سَفْك الدِّمَاء وَالْفَسَاد فِي الْأَرْض ; { وَنَحْنُ نُسَبِّح بِحَمْدِك وَنُقَدِّس لَك قَالَ إنِّي أَعْلَم مَا لَا تَعْلَمُونَ } فَكَانَ فِي عِلْم اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ ذَلِكَ الْخَلِيفَة أَنْبِيَاء وَرُسُل , وَقَوْم صَالِحُونَ , وَسَاكِنُو الْجَنَّة . قَالَ : وَذَكَر لَنَا أَنَّ ابْن عَبَّاس كَانَ يَقُول : إنَّ اللَّه لَمَا أَخَذَ فِي خَلْق آدَم قَالَتْ الْمَلَائِكَة : مَا اللَّه خَالِق خَلْقًا أَكْرَم عَلَيْهِ مِنَّا وَلَا أَعْلَم مِنَّا ! فَابْتُلُوا بِخَلْقِ آدَم , وَكُلّ خَلْق مُبْتَلَى , كَمَا اُبْتُلِيَتْ السَّمَوَات وَالْأَرْض بِالطَّاعَةِ فَقَالَ اللَّه : { ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } 41 11 وَهَذَا الْخَبَر عَنْ قَتَادَةَ يَدُلّ عَلَى أَنَّ قَتَادَةَ كَانَ يَرَى أَنَّ الْمَلَائِكَة قَالَتْ مَا قَالَتْ مِنْ قَوْلهَا : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِد فِيهَا وَيَسْفِك الدِّمَاء } عَلَى غَيْر يَقِين عِلْم تَقَدَّمَ مِنْهَا بِأَنَّ ذَلِكَ كَائِن ; وَلَكِنْ عَلَى الرَّأْي مِنْهَا وَالظَّنّ , وَأَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنْ قِيلهَا وَرَدَّ عَلَيْهَا مَا رَأَتْ بِقَوْلِهِ : { إنِّي أَعْلَم مَا لَا تَعْلَمُونَ } مِنْ أَنَّهُ يَكُون مِنْ ذُرِّيَّة ذَلِكَ الْخَلِيفَة الْأَنْبِيَاء وَالرَّسْل وَالْمُجْتَهِد فِي طَاعَة اللَّه . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ خِلَاف هَذَا التَّأْوِيل , وَهُوَ مَا : 513 - حَدَّثَنَا بِهِ الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر , عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِد فِيهَا } قَالَ : كَانَ اللَّه أَعْلَمَهُمْ إذَا كَانَ فِي الْأَرْض خَلْق أَفْسَدُوا فِيهَا وَسَفَكُوا الدِّمَاء , فَذَلِكَ قَوْله : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِد فِيهَا } . وَبِمِثْلِ قَوْل قَتَادَةَ قَالَ جَمَاعَة مِنْ أَهْل التَّأْوِيل , مِنْهُمْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ . 514 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج , عَنْ جَرِير بْن حَازِم , وَمُبَارَك عَنْ الْحَسَن وَأَبِي بَكْر عَنْ الْحَسَن , وَقَتَادَةُ قَالَا : قَالَ اللَّه لِمَلَائِكَتِهِ : { إنِّي جَاعِل فِي الْأَرْضَ خَلِيفَة } قَالَ لَهُمْ إنِّي فَاعِل . فَعَرَضُوا بِرَأْيِهِمْ , فَعَلَّمَهُمْ عِلْمًا وَطَوَى عَنْهُمْ عِلْمًا عَلِمَهُ لَا يَعْلَمُونَهُ . فَقَالُوا بِالْعِلْمِ الَّذِي عَلَّمَهُمْ : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِد فِيهَا وَيَسْفِك الدِّمَاء } - وَقَدْ كَانَتْ الْمَلَائِكَة عَلِمَتْ مِنْ عِلْم اللَّه أَنَّهُ لَا ذَنْب أَعْظَم عِنْد اللَّه مِنْ سَفْك الدِّمَاء - { وَنَحْنُ نُسَبِّح بِحَمْدِك وَنُقَدِّس لَك قَالَ إنِّي أَعْلَم مَا لَا تَعْلَمُونَ } . فَلَمَّا أَخَذَ فِي خَلْق آدَم , هَمَسَتْ الْمَلَائِكَة فِيمَا بَيْنهَا , فَقَالُوا : لِيَخْلُق رَبّنَا مَا شَاءَ أَنْ يَخْلُق , فَلَنْ يَخْلُق خَلْقًا إلَّا كُنَّا أَعْلَم مِنْهُ , وَأَكْرَم عَلَيْهِ مِنْهُ . فَلَمَّا خَلَقَهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحه , أَمَرَهُمْ أَنْ يَسْجُدُوا لَهُ لَمَّا قَالُوا , فَفَضْله عَلَيْهِمْ , فَعَلِمُوا أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِخَيْرٍ مِنْهُ , فَقَالُوا : إنْ لَمْ نَكُنْ خَيْرًا منه فَنَحْنُ أَعْلَم مِنْهُ , لِأَنَّا كُنَّا قَبْله , وَخُلِقَتْ الْأُمَم قَبْله , فَلَمَّا أُعْجِبُوا بِعِلْمِهِمْ اُبْتُلُوا { فَعَلَّمَ آدَم الْأَسْمَاء كُلّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَة فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } إِنِّي لَا أَخْلُق خَلْقًا إلَّا كُنْتُمْ أَعْلَم مِنْهُ , فَأَخْبِرُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ! قَالَ : فَفَزِعَ الْقَوْم إلَى التَّوْبَة - وَإِلَيْهَا يَفْزَع كُلّ مُؤْمِن - فَقَالُوا : { سُبْحَانك لَا عِلْم لَنَا إلَّا مَا عَلَّمْتنَا إنَّك أَنْتَ الْعَلِيم الْحَكِيم قَالَ يَا آدَم أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إنِّي أَعْلَم غَيْب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَأَعْلَم مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } لِقَوْلِهِمْ : لِيَخْلُق رَبّنَا مَا شَاءَ فَلَنْ يَخْلُق خَلْقًا أَكْرَم عَلَيْهِ مِنَّا وَلَا أَعْلَم مِنَّا . قَالَ : عَلَّمَهُ اسْم كُلّ شَيْء , هَذِهِ الْجِبَال وَهَذِهِ الْبِغَال , وَالْإِبِل , وَالْجِنّ , وَالْوَحْش , وَجَعَلَ يُسَمِّي كُلّ شَيْء بِاسْمِهِ , وَعُرِضَتْ عَلَيْهِ كُلّ أُمَّة ف { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إنِّي أَعْلَم غَيْب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَأَعْلَم مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } . قَالَ : أَمَّا مَا أَبْدَوْا فَقَوْلهمْ : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِد فِيهَا وَيَسْفِك الدِّمَاء } . وَأَمَّا مَا كَتَمُوا فَقَوْل بَعْضهمْ لِبَعْضٍ : نَحْنُ خَيْر مِنْهُ وَأَعْلَم . 515 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : حَدَّثَنَا إسْحَاق بْن الْحَجَّاج , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس فِي قَوْله : { إنِّي جَاعِل فِي الْأَرْض خَلِيفَة } الْآيَة . قَالَ : إنَّ اللَّه خَلَقَ الْمَلَائِكَة يَوْم الْأَرْبِعَاء وَخَلَقَ الْجِنّ يَوْم الْخَمِيس , وَخَلَقَ آدَم يَوْم الْجُمُعَة . قَالَ : فَكَفَرَ قَوْم مِنْ الْجِنّ , فَكَانَتْ الْمَلَائِكَة تَهْبِط إلَيْهِمْ فِي الْأَرْض فَتُقَاتِلهُمْ , فَكَانَتْ الدِّمَاء , وَكَانَ الْفَسَاد فِي الْأَرْض . فَمِنْ ثَمَّ قَالُوا : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِد فِيهَا وَيَسْفِك الدِّمَاء } . . . الْآيَة . 516 - وَحُدِّثْت عَنْ عَمَّار بْن الْحَسَن , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي جَعْفَر , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ الرَّبِيع , بِمِثْلِهِ . { ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَة فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إنَّ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } إلَى قَوْله : { إنَّك أَنْتَ الْعَلِيم الْحَكِيم } قَالَ : وَذَلِكَ حِين قَالُوا : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِد فِيهَا وَيَسْفِك الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّح بِحَمْدِك وَنُقَدِّس لَك } قَالَ : فَلَمَّا عَرَفُوا أَنَّهُ جَاعِل فِي الْأَرْض خَلِيفَة قَالُوا بَيْنهمْ : لَنْ يَخْلُق اللَّه خَلْقًا إلَّا كُنَّا نَحْنُ أَعْلَم مِنْهُ وَأَكْرَم ! فَأَرَادَ اللَّه أَنْ يُخْبِرهُمْ أَنَّهُ قَدْ فَضَّلَ عَلَيْهِمْ آدَم , وَعَلَّمَ آدَم الْأَسْمَاء كُلّهَا , فَقَالَ لِلْمَلَائِكَةِ : { أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } إلَى قَوْله : { وَأَعْلَم مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } وَكَانَ الَّذِي أَبْدَوْا حِين { قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِد فِيهَا وَيَسْفِك الدِّمَاء } وَكَانَ الَّذِي كَتَمُوا بَيْنهمْ قَوْلهمْ : لَنْ يَخْلُق اللَّه خَلْقًا إلَّا كُنَّا نَحْنُ أَعْلَم مِنْهُ وَأَكْرَم . فَعَرَفُوا أَنَّ اللَّه فَضَّلَ عَلَيْهِمْ آدَم فِي الْعِلْم وَالْكَرَم . وَقَالَ ابْن زَيْد بِمَا : 517 - حَدَّثَنِي بِهِ يُونُس بْن عَبْد الْأَعْلَى قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن وَهْب , قَالَ : قَالَ ابْن زَيْد : لَمَّا خَلَقَ اللَّه النَّار ذَعَرَتْ مِنْهَا الْمَلَائِكَة ذُعْرًا شَدِيدًا , وَقَالُوا : رَبّنَا لِمَ خَلَقْت هَذِهِ النَّار , وَلِأَيِّ شَيْء خَلَقْتهَا ؟ قَالَ : لِمَنْ عَصَانِي مِنْ خَلْقِي . قَالَ : وَلَمْ يَكُنْ لِلَّهِ خَلْق يَوْمئِذٍ إلَّا الْمَلَائِكَة وَالْأَرْض , لَيْسَ فِيهَا خَلْق , إنَّمَا خَلَقَ آدَم بَعْد ذَلِكَ . وَقَرَأَ قَوْل اللَّه : { هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَان حِين مِنْ الدَّهْر لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا } 76 1 قَالَ : قَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب : يَا رَسُول اللَّه لَيْتَ ذَلِكَ الْحِين . ثُمَّ قَالَ : قَالَتْ الْمَلَائِكَة : يَا رَبّ أَوَ يَأْتِي عَلَيْنَا دَهْر نَعْصِيك فِيهِ ! لَا يَرَوْنَ لَهُ خَلْقًا غَيْرهمْ . قَالَ : لَا , إنِّي أُرِيد أَنْ أَخْلُق فِي الْأَرْض خَلْقًا وَأَجْعَل فِيهَا خَلِيقَة يَسْفِكُونَ الدِّمَاء وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْض . فَقَالَتْ الْمَلَائِكَة : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِد فِيهَا وَيَسْفِك الدِّمَاء } وَقَدْ اخْتَرْتنَا ؟ فَاجْعَلْنَا نَحْنُ فِيهَا فَنَحْنُ نُسَبِّح بِحَمْدِك وَنُقَدِّس لَك وَنَعْمَل فِيهَا بِطَاعَتِك ! وَأَعْظَمَتْ الْمَلَائِكَة أَنْ يَجْعَل اللَّه فِي الْأَرْض مَنْ يَعْصِيه . فَقَالَ : إنِّي أَعْلَم مَا لَا تَعْلَمُونَ , يَا آدَم أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ! فَقَالَ : فُلَان , وَفُلَان . قَالَ : فَلَمَّا رَأَوْا مَا أَعْطَاهُ اللَّه مِنْ الْعِلْم , أَقَرُّوا لِآدَم بِالْفَضْلِ عَلَيْهِمْ , وَأَبَى الْخَبِيث إبْلِيس أَنْ يُقِرّ لَهُ , قَالَ : { أَنَا خَيْر مِنْهُ خَلَقْتنِي مِنْ نَار وَخَلَقْته مِنْ طِين قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُون لَك أَنْ تَتَكَبَّر فِيهَا } . وَقَالَ ابْن إسْحَاق بِمَا : 518 - حَدَّثَنَا بِهِ ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة بْن الْفَضْل عَنْ مُحَمَّد بْن إسْحَاق , قَالَ : لَمَّا أَرَادَ اللَّه أَنْ يَخْلُق آدَم بِقُدْرَتِهِ لِيَبْتَلِيَهُ وَيَبْتَلِي بِهِ , لِعِلْمِهِ بِمَا فِي مَلَائِكَته وَجَمِيع خَلْقه - وَكَانَ أَوَّل بَلَاء اُبْتُلِيَتْ بِهِ الْمَلَائِكَة مِمَّا لَهَا فِيهِ مَا تُحِبّ وَمَا تَكْرَه لِلْبَلَاءِ وَالتَّمْحِيص لِمَا فِيهِمْ مِمَّا لَمْ يَعْلَمُوا وَأَحَاطَ بِهِ عِلْم اللَّه مِنْهُمْ - جَمَعَ الْمَلَائِكَة مِنْ سُكَّان السَّمَوَات وَالْأَرْض , ثُمَّ قَالَ : { إنِّي جَاعِل فِي الْأَرْض خَلِيفَة } يَقُول : عَامِر أَوْ سَاكِن يَسْكُنهَا وَيَعْمُرهَا خَلْقًا لَيْسَ مِنْكُمْ . ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ بِعِلْمِهِ فِيهِمْ , فَقَالَ : يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْض وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاء وَيَعْمَلُونَ بِالْمَعَاصِي , فَقَالُوا جَمِيعًا : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِد فِيهَا وَيَسْفِك الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّح بِحَمْدِك وَنُقَدِّس لَك } لَا نَعْصِي وَلَا نَأْتِي شَيْئًا كَرِهْته ؟ قَالَ : { إنِّي أَعْلَم مَا لَا تَعْلَمُونَ } - قَالَ : إنِّي أَعْلَم فِيكُمْ وَمِنْكُمْ , وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ - مِنْ الْمَعْصِيَة وَالْفَسَاد وَسَفْك الدِّمَاء وَإِتْيَان مَا أُكْرِهَ مِنْهُمْ , مِمَّا يَكُون فِي الْأَرْض , مِمَّا ذُكِرَتْ فِي بَنِي آدَم . قَالَ اللَّه لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْم بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى إذْ يَخْتَصِمُونَ إنْ يُوحَى إلَيَّ إلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِير مُبِين } إلَى قَوْله : { فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } 38 69 : 71 فَذَكَرَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي كَانَ مِنْ ذِكْره آدَم حِين أَرَادَ خَلْقه وَمُرَاجَعَة الْمَلَائِكَة إيَّاهُ فِيمَا ذَكَرَ لَهُمْ مِنْهُ . فَلَمَّا عَزَمَ اللَّه تَعَالَى ذِكْره عَلَى خَلْق آدَم قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ : { إنِّي خَالِق بَشَرًا مِنْ صَلْصَال مِنْ حَمَإٍ مَسْنُون } 15 28 بِيَدَيَّ تَكْرِمَة لَهُ , وَتَعْظِيمًا لِأَمْرِهِ , وَتَشْرِيفًا لَهُ ; حَفِظَتْ الْمَلَائِكَة عَهْده , وَوَعَوْا قَوْله , وَأَجْمَعُوا الطَّاعَة , إلَّا مَا كَانَ مِنْ عَدُوّ اللَّه إبْلِيس , فَإِنَّهُ صَمَتَ عَلَى مَا كَانَ فِي نَفْسه مِنْ الْحَسَد وَالْبَغْي وَالتَّكَبُّر وَالْمَعْصِيَة . وَخَلْق اللَّه آدَم مِنْ أَدَمَة الْأَرْض , مِنْ طِين لَازِب مِنْ حَمَأ مَسْنُون , بَيْدَيْهِ تَكْرِمَة لَهُ وَتَعْظِيمًا لِأَمْرِهِ وَتَشْرِيفًا لَهُ عَلَى سَائِر خَلْقه . قَالَ ابْن إسْحَاق : فَيُقَال وَاَللَّه أَعْلَم : خَلَقَ اللَّه آدَم ثُمَّ وَضَعَهُ يَنْظُر إلَيْهِ أَرْبَعِينَ عَامًا قَبْل أَنْ يَنْفُخ فِيهِ الرُّوح حَتَّى عَادَ صَلْصَالًا كَالْفَخَّارِ , وَلَمْ تَمَسّهُ نَار . قَالَ : فَيُقَال وَاَللَّه أَعْلَم : إنَّهُ لَمَّا انْتَهَى الرُّوح إلَى رَأْسه عَطَسَ , فَقَالَ : الْحَمْد لِلَّهِ ! فَقَالَ لَهُ رَبّه : يَرْحَمك رَبّك ! وَوَقَعَ الْمَلَائِكَة حِين اسْتَوَى سُجُودًا لَهُ حِفْظًا لِعَهْدِ اللَّه الَّذِي عَهِدَ إلَيْهِمْ , وَطَاعَة لِأَمْرِهِ الَّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ . وَقَامَ عَدُوّ اللَّه إبْلِيس مِنْ بَيْنهمْ , فَلَمْ يَسْجُد مُكَابِرًا مُتَعَظِّمًا بَغْيًا وَحَسَدًا , فَقَالَ لَهُ : { يَا إبْلِيس مَا مَنَعَك أَنْ تَسْجُد لِمَا خَلَقْت بِيَدَيَّ } إلَى : { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّم مِنْك وَمِمَّنْ تَبِعَك مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } 38 75 : 85 قَالَ : فَلَمَّا فَرَغَ اللَّه مِنْ إبْلِيس وَمُعَاتَبَته وَأَبَى إلَى الْمَعْصِيَة , أَوَقَعَ عَلَيْهِ اللَّعْنَة وَأَخْرَجَهُ مِنْ الْجَنَّة . ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى آدَم , وَقَدْ عَلَّمَهُ الْأَسْمَاء كُلّهَا , فَقَالَ : { يَا آدَم أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إنِّي أَعْلَم غَيْب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَأَعْلَم مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ قَالُوا سُبْحَانك لَا عِلْم لَنَا إلَّا مَا عَلَّمْتنَا إنَّك أَنْتَ الْعَلِيم الْحَكِيم } أَيْ إنَّمَا أَجَبْنَاك فِيمَا عَلَّمْتنَا , فَأَمَّا مَا لَمْ تُعَلِّمنَا فَأَنْت أَعْلَم بِهِ . فَكَانَ مَا سَمَّى آدَم مِنْ شَيْء كَانَ اسْمه الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ إلَى يَوْم الْقِيَامَة . وَقَالَ ابْن جُرَيْجٍ بِمَا : 519 - حَدَّثَنَا بِهِ الْقَاسِم , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاج عَنْ ابْن جُرَيْجٍ , قَالَ : إنَّمَا تَكَلَّمُوا بِمَا أَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ كَائِن مِنْ خَلْق آدَم , فَقَالُوا : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِد فِيهَا وَيَسْفِك الدِّمَاء } . وَقَالَ بَعْضهمْ : إنَّمَا قَالَتْ الْمَلَائِكَة مَا قَالَتْ : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِد فِيهَا وَيَسْفِك الدِّمَاء } لِأَنَّ اللَّه أَذِنَ لَهَا فِي السُّؤَال عَنْ ذَلِكَ بَعْد مَا أَخْبَرَهَا أَنَّ ذَلِكَ كَائِن مِنْ بَنِي آدَم , فَسَأَلَتْهُ الْمَلَائِكَة فَقَالَتْ عَلَى التَّعَجُّب مِنْهَا : وَكَيْفَ يَعْصُونَك يَا رَبّ وَأَنْت خَالِقهمْ ! فَأَجَابَهُمْ رَبّهمْ : { إنِّي أَعْلَم مَا لَا تَعْلَمُونَ } يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ كَائِن مِنْهُمْ وَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوهُ أَنْتُمْ , وَمِنْ بَعْض مَنْ تَرَوْنَهُ لِي طَائِعًا . يَعْرِفهُمْ بِذَلِكَ قُصُور عِلْمهمْ عَنْ عِلْمه وَقَالَ بَعْض أَهْل الْعَرَبِيَّة : قَوْل الْمَلَائِكَة : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِد فِيهَا } عَلَى غَيْر وَجْه الْإِنْكَار مِنْهُمْ عَلَى رَبّهمْ , وَإِنَّمَا سَأَلُوهُ لِيَعْلَمُوا , وَأَخْبَرُوا عَنْ أَنْفُسهمْ أَنَّهُمْ يُسَبِّحُونَ . وَقَالَ : قَالُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَرِهُوا أَنْ يُعْصَى اللَّه , لِأَنَّ الْجِنّ قَدْ كَانَتْ أُمِرَتْ قَبْل ذَلِكَ فَعَصَتْ . وَقَالَ بَعْضهمْ : ذَلِكَ مِنْ الْمَلَائِكَة عَلَى وَجْه الِاسْتِرْشَاد عَمَّا لَمْ يَعْلَمُوا مِنْ ذَلِكَ , فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا : يَا رَبّ خَبِّرْنَا ; مَسْأَلَة اسْتِخْبَار مِنْهُمْ لِلَّهِ لَا عَلَى وَجْه مَسْأَلَة التَّوْبِيخ . قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَأَوْلَى هَذِهِ التَّأْوِيلَات بِقَوْلِ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ مُخْبِرًا عَنْ مَلَائِكَته قِيلهَا لَهُ : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِد فِيهَا وَيَسْفِك الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّح بِحَمْدِك وَنُقَدِّس لَك } تَأْوِيل مَنْ قَالَ : إنَّ ذَلِكَ مِنْهَا اسْتِخْبَار لِرَبِّهَا ; بِمَعْنَى : أَعْلِمْنَا يَا رَبّنَا , أَجَاعِل أَنْتَ فِي الْأَرْض مِنْ هَذِهِ صِفَته وَتَارِك أَنْ تَجْعَل خُلَفَاءَك مِنَّا , وَنَحْنُ نُسَبِّح بِحَمْدِك , وَنُقَدِّس لَك ؟ لَا إنْكَار مِنْهَا لِمَا أَعْلَمَهَا رَبّهَا أَنَّهُ فَاعِل , وَإِنْ كَانَتْ قَدْ اسْتَعْظَمَتْ لَمَّا أُخْبِرَتْ بِذَلِكَ أَنْ يكون لله خلق يعصيه . وأما دعوى مَنْ زعم أن الله جل ثناؤه كان أَذِنَ لها بالسؤال عن ذلك فسألته على وجه التَّعَجُّب , فَدَعْوَى لَا دَلَالَة عَلَيْهَا فِي ظَاهِر التَّنْزِيل وَلَا خَبَر بِهَا مِنْ الْحُجَّة يَقْطَع الْعُذْر , وَغَيْر حَائِز أَنْ يُقَال فِي تَأْوِيل كِتَاب اللَّه بِمَا لَا دَلَالَة عَلَيْهِ مِنْ بَعْض الْوُجُوه الَّتِي تَقُوم بِهَا الْحُجَّة . وَأَمَّا وَصْف الْمَلَائِكَة مِنْ وَصَفَتْ فِي اسْتِخْبَارهَا رَبّهَا عَنْهُ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْض وَسَفْك الدِّمَاء , فَغَيْر مُسْتَحِيل فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود مِنْ الْقَوْل الَّذِي رَوَاهُ السُّدِّيّ وَوَافَقَهُمَا عَلَيْهِ قَتَادَةَ مِنْ التَّأْوِيل . وَهُوَ أَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ جَاعِل فِي الْأَرْض خَلِيفَة تَكُون لَهُ ذُرِّيَّة يَفْعَلُونَ كَذَا وَكَذَا , فَقَالُوا : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِد فِيهَا } عَلَى مَا وَصَفَتْ مِنْ الِاسْتِخْبَار . فَإِنَّ قَالَ لَنَا قَائِل : وَمَا وَجْه اسْتِخْبَارهَا وَالْأَمْر عَلَى مَا وَصَفَتْ مِنْ أَنَّهَا قَدْ أُخْبِرَتْ أَنَّ ذَلِكَ كَائِن ؟ قِيلَ : وَجْه اسْتِخْبَارهَا حِينَئِذٍ يَكُون عَنْ حَالهمْ عَنْ وُقُوع ذَلِكَ , وَهَلْ ذَلِكَ مِنْهُمْ ؟ وَمَسْأَلَتهمْ رَبّهمْ أَنْ يَجْعَلهُمْ الْخُلَفَاء فِي الْأَرْض حَتَّى لَا يَعْصُوهُ . وَغَيْر فَاسِد أَيْضًا مَا رَوَاهُ الضَّحَّاك عَنْ ابْن عَبَّاس وَتَابِعه عَلَيْهِ الرَّبِيع بْن أَنَس مِنْ أَنَّ الْمَلَائِكَة قَالَتْ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ عِنْدهَا مِنْ عِلْم سُكَّان الْأَرْض قَبْل آدَم مِنْ الْجِنّ , فَقَالَتْ لِرَبِّهَا : أَجَاعِل فِيهَا أَنْتَ مِثْلهمْ مِنْ الْخَلْق يَفْعَلُونَ مِثْل الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَ ؟ عَلَى وَجْه الِاسْتِعْلَام مِنْهُمْ لِرَبِّهِمْ , لَا عَلَى وَجْه الْإِيجَاب أَنَّ ذَلِكَ كَائِن كَذَلِكَ , فَيَكُون ذَلِكَ مِنْهَا إخْبَارًا عَمَّا لَمْ تَطْلُع عَلَيْهِ مِنْ عِلْم الْغَيْب . وَغَيْر خَطَأ أَيْضًا مَا قَالَهُ ابْن زَيْد مِنْ أَنْ يَكُون قِيلَ الْمَلَائِكَة مَا قَالَتْ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْه التَّعَجُّب مِنْهَا مِنْ أَنْ يَكُون لِلَّهِ خَلْق يَعْصِي خَالِقه . وَإِنَّمَا تَرَكْنَا الْقَوْل بِاَلَّذِي رَوَاهُ الضَّحَّاك عَنْ ابْن عَبَّاس وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ الرَّبِيع بْن أَنَس وَبِاَلَّذِي قَالَهُ ابْن زَيْد فِي تَأْوِيل ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَا خَبَر عِنْدنَا بِاَلَّذِي قَالُوهُ مِنْ وَجْه يَقْطَع مَجِيئَهُ الْعُذْر وَيَلْزَم سَامِعه بِهِ الْحُجَّة . وَالْخَبَر عَمَّا مَضَى وَمَا قَدْ سَلَف , لَا يُدْرِك عِلْم صِحَّته إلَّا بِمَجِيئِهِ مَجِيئًا يمتنع منه التَّشَاغُب وَالتَّوَاطُؤ , وَيَسْتَحِيل منه الْكَذِب وَالْخَطَأ وَالسَّهْو . وليس ذلك بِمَوْجُودٍ كَذَلِكَ فِيمَا حَكَاهُ الضَّحَّاك عَنْ ابْن عَبَّاس وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ الرَّبِيع , وَلَا فِيمَا قَالَهُ ابْن زَيْد . فَأَوْلَى التَّأْوِيلَات إذْ كَانَ الْأَمْر كَذَلِكَ بِالْآيَةِ , مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ ظَاهِر التَّنْزِيل دَلَالَة مِمَّا يَصِحّ مَخْرَجه فِي الْمَفْهُوم . فَإِنْ قَالَ قَائِل : فَإِنْ كَانَ أَوْلَى التَّأْوِيلَات بِالْآيَةِ هُوَ مَا ذَكَرْت مِنْ أَنَّ اللَّه أَخْبَرَ الْمَلَائِكَة بِأَنَّ ذُرِّيَّة خَلِيفَته فِي الْأَرْض يُفْسِدُونَ فِيهَا وَيَسْفِكُونَ فِيهَا الدِّمَاء , فَمِنْ أَجْل ذَلِكَ قَالَتْ الْمَلَائِكَة : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِد فِيهَا } فَأَيْنَ ذِكْر إخْبَار اللَّه إيَّاهُمْ فِي كِتَابه بِذَلِكَ ؟ قِيلَ لَهُ : اكْتَفِي بِدَلَالَةِ مَا قَدْ ظَهَرَ مِنْ الْكَلَام عَلَيْهِ عَنْهُ , كَمَا قَالَ الشَّاعِر : فَلَا تَدْفِنُونِي إنَّ دَفْنِي مُحَرَّم عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ خَامِرِي أُمَّ عَامِرٍ فَحَذَفَ قَوْله دَعُونِي لِلَّتِي يُقَال لَهَا عِنْد صَيْدهَا خَامِرِي أُمَّ عَامِر , إذْ كَانَ فِيمَا أَظَهَرَ مِنْ كَلَامه دَلَالَة عَلَى مَعْنَى مُرَاده . فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْله : { قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِد فِيهَا } لَمَّا كَانَ فِيهِ دَلَالَة عَلَى مَا تَرَكَ ذِكْره بَعْد قَوْله : { إنِّي جَاعِل فِي الْأَرْض خَلِيفَة } مِنْ الْخَبَر عَمَّا يَكُون مِنْ إفْسَاد ذُرِّيَّته فِي الْأَرْض اكْتَفَى بِدَلَالَتِهِ وَحَذَفَ , فَتَرَك ذِكْره كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْل الشَّاعِر وَنَظَائِر ذَلِكَ فِي الْقُرْآن وَأَشْعَار الْعَرَب وَكَلَامهَا أَكْثَر مِنْ أَنْ يُحْصَى . فَلَمَّا ذَكَرْنَا مِنْ ذَلِكَ اخْتَرْنَا مَا اخْتَرْنَا مِنْ الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله : { قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِد فِيهَا وَيَسْفِك الدِّمَاء } .


الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَنَحْنُ نُسَبِّح بِحَمْدِك وَنُقَدِّس لَك } قَالَ أَبُو جَعْفَر : أَمَّا قَوْله : { وَنَحْنُ نُسَبِّح بِحَمْدِك } فَإِنَّهُ يَعْنِي : إنَّا نُعَظِّمك بِالْحَمْدِ لَك وَالشُّكْر , كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبّك } 110 3 وَكَمَا قَالَ : { وَالْمَلَائِكَة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهمْ } 42 5 وَكُلّ ذِكْر لِلَّهِ عِنْد الْعَرَب فَتَسْبِيح وَصَلَاة , يَقُول الرَّجُل مِنْهُمْ : قَضَيْت سُبْحَتِي مِنْ الذِّكْر وَالصَّلَاة . وَقَدْ قِيلَ إنَّ التَّسْبِيح صَلَاة الْمَلَائِكَة . 520 - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا يَعْقُوب الْقُمِّيّ , عَنْ جَعْفَر بْن أَبِي الْمُغِيرَة , عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر قَالَ : كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي , فَمَرَّ رَجُل مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى رَجُل مِنْ الْمُنَافِقِينَ , فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَأَنْت جَالِس ! فَقَالَ لَهُ : امْضِ إلَى عَمَلك إنْ كَانَ لَك عَمَل , فَقَالَ : مَا أَظُنّ إلَّا سَيَمُرُّ عَلَيْك مَنْ يُنْكِر عَلَيْك فَمَرَّ عَلَيْهِ عُمَر بْن الْخَطَّاب , فَقَالَ لَهُ : يَا فُلَان النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَأَنْت جَالِس ! فَقَالَ لَهُ مِثْلهَا فَقَالَ : هَذَا مِنْ عَمَلِي . فَوَثَبَ عَلَيْهِ فَضَرَبَهُ حَتَّى انْتَهَى . ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِد فَصَلَّى مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا انْفَتَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ إلَيْهِ عُمَر , فَقَالَ : يَا نَبِيّ اللَّه مَرَرْت آنِفًا عَلَى فُلَان وَأَنْت تُصَلِّي , فَقُلْت لَهُ : النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَأَنْت جَالِس ! فَقَالَ : سِرْ إلَى عَمَلك إنْ كَانَ لَك عَمَل . فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فَهَلَّا ضَرَبْت عُنُقه " فَقَامَ . ... عُمَر مُسْرِعًا . فَقَالَ : " يَا عُمَر ارْجِعْ فَإِنَّ غَضَبك عِزّ وَرِضَاك حُكْم , إنَّ لِلَّهِ فِي السَّمَوَات السَّبْع مَلَائِكَة يُصَلُّونَ لَهُ غِنًى عَنْ صَلَاة فُلَان " . فَقَالَ عُمَر : يَا نَبِيّ اللَّه وَمَا صَلَاتهمْ ؟ فَلَمْ يَرُدّ عَلَيْهِ شَيْئًا . فَأَتَاهُ جِبْرِيل , فَقَالَ : يَا نَبِيّ اللَّه سَأَلَك عُمَر عَنْ صَلَاة أَهْل السَّمَاء ؟ قَالَ : " نَعَمْ " , فَقَالَ : اقْرَأْ عَلَى عُمَر السَّلَام , وَأَخْبِرْهُ أَنَّ أَهْل السَّمَاء الدُّنْيَا سُجُود إلَى يَوْم الْقِيَامَة يَقُولُونَ : سُبْحَان ذِي الْمَلِك وَالْمَلَكُوت , وَأَهْل السَّمَاء الثَّانِيَة رُكُوع إلَى يَوْم الْقِيَامَة يَقُولُونَ : سُبْحَان ذِي الْعِزَّة وَالْجَبَرُوت , وَأَهْل السَّمَاء الثَّالِثَة قِيَام إلَى يَوْم الْقِيَامَة يَقُولُونَ : سُبْحَان الْحَيّ الَّذِي لَا يَمُوت صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسَلَّمَ . قَالَ أَبُو جَعْفَر : 521 - وَحَدَّثَنِي يَعْقُوب بْن إبْرَاهِيم , وَسَهْل بْن مُوسَى الرَّازِيُّ , قَالَا : حَدَّثَنَا ابْن عُلَيَّة , قَالَ : أَخْبَرَنَا الْجَرِيرِيّ , عَنْ أَبِي عَبْد اللَّه الْجَسْرِيّ , عَنْ عَبْد اللَّه بْن الصَّامِت , عَنْ أَبِي ذَرّ : أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَادَهُ - أَوْ أَنَّ أَبَا ذَرّ عَادَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسَلَّمَ - فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه بِأَبِي أَنْتَ , أَيْ الْكَلَام أَحَبّ إلَى اللَّه ؟ فَقَالَ : " مَا اصْطَفَى اللَّه لِمَلَائِكَتِهِ : سُبْحَان رَبِّي وَبِحَمْدِهِ , سُبْحَان رَبِّي وَبِحَمْدِهِ " صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسَلَّمَ فِي أَشْكَال لَمَّا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَخْبَار كَرِهْنَا إطَالَة الْكِتَاب بِاسْتِقْصَائِهَا . وَأَصْل التَّسْبِيح لِلَّهِ عِنْد الْعَرَب التَّنْزِيه لَهُ مِنْ إضَافَة مَا لَيْسَ مِنْ صِفَاته إلَيْهِ وَالتَّبْرِئَة لَهُ مِنْ ذَلِكَ , كَمَا قَالَ أَعْشَى بَنِي ثَعْلَبَة : أَقُول لَمَّا جَاءَنِي فَخْره سُبْحَان مِنْ عَلْقَمَة الْفَاخِر يُرِيد : سُبْحَان اللَّه مِنْ فَخْر عَلْقَمَة ! أَيْ تَنْزِيهًا لِلَّهِ مِمَّا أَتَى عَلْقَمَة مِنْ الِافْتِخَار عَلَى وَجْه النَّكِير مِنْهُ لِذَلِكَ . وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي مَعْنَى التَّسْبِيح وَالتَّقْدِيس فِي هَذَا الْمَوْضِع . فَقَالَ بَعْضهمْ : قَوْلهمْ : نُسَبِّح بِحَمْدِك : نُصَلِّي لَك . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 522 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن هَارُونَ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو بْن حَمَّاد , قَالَ حَدَّثَنَا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس وَعَنْ مُرَّة , عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسَلَّمَ : { وَنَحْنُ نُسَبِّح بِحَمْدِك وَنُقَدِّس لَك } قَالَ : يَقُولُونَ : نُصَلِّي لَك . وَقَالَ آخَرُونَ : { نُسَبِّح بِحَمْدِك } التَّسْبِيح الْمَعْلُوم . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 523 - حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر , عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله : { وَنَحْنُ نُسَبِّح بِحَمْدِك } قَالَ التَّسْبِيح التَّسْبِيح . الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَنُقَدِّس لَك } . قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَالتَّقْدِيس هُوَ التَّطْهِير وَالتَّعْظِيم ; وَمِنْهُ قَوْلهمْ : سُبُّوح قُدُّوس , يَعْنِي بِقَوْلِهِمْ سُبُّوح : تَنْزِيهًا لِلَّهِ ; وَبِقَوْلِهِمْ قُدُّوس : طَهَارَة لَهُ وَتَعْظِيمًا ; وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلْأَرْضِ : أَرْض مُقَدَّسَة , يَعْنِي بِذَلِكَ الْمُطَهَّرَة . فَمَعْنَى قَوْل الْمَلَائِكَة إذًا { وَنَحْنُ نُسَبِّح بِحَمْدِك } نُنَزِّهك وَنُبَرِّئك مِمَّا يُضِيفهُ إلَيْك أَهْل الشِّرْك بِك , وَنُصَلِّي لَك . وَنُقَدِّس لَك : نَنْسُبك إلَى مَا هُوَ مِنْ صِفَاتك مِنْ الطَّهَارَة مِنْ الْأَدْنَاس وَمَا أَضَافَ إلَيْك أَهْل الْكُفْر بِك . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ تَقْدِيس الْمَلَائِكَة لِرَبِّهَا صَلَاتهَا لَهُ كَمَا : 524 - حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر , عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله : { وَنُقَدِّس لَك } قَالَ : التَّقْدِيس : الصَّلَاة . وَقَالَ بَعْضهمْ : نُقَدِّس لَك : نُعَظِّمك وَنُمَجِّدك . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 525 حَدَّثَنِي يَعْقُوب بْن إبْرَاهِيم , قَالَ : حَدَّثَنَا هَاشِم بْن الْقَاسِم , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيد الْمُؤَدِّب , قَالَ : حَدَّثَنَا إسْمَاعِيل , عَنْ أَبِي صَالِح فِي قَوْله : { وَنَحْنُ نُسَبِّح بِحَمْدِك وَنُقَدِّس لَك } قَالَ : نُعَظِّمك وَنُمَجِّدك . 526 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِم , قَالَ : حَدَّثَنِي عِيسَى . وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَة , قَالَ : حَدَّثَنَا شِبْل جَمِيعًا , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد فِي قَوْل اللَّه : { وَنُقَدِّس لَك } قَالَ : نُعَظِّمك وَنُكَبِّرك . 527 - وَحَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة بْن الْفَضْل , عَنْ ابْن إسْحَاق : { وَنَحْنُ نُسَبِّح بِحَمْدِك وَنُقَدِّس لَك } لَا نَعْصِي وَلَا نَأْتِي شَيْئًا تَكْرَههُ . 528 - وَحُدِّثْت عَنْ المنجاب , قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْر , عَنْ أَبِي رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك فِي قَوْله : { وَنُقَدِّس لَك } قَالَ : التَّقْدِيس : التَّطْهِير . وَأَمَّا قَوْل مَنْ قَالَ : إنَّ التَّقْدِيس الصَّلَاة أَوْ التَّعْظِيم , فَإِنَّ مَعْنَى قَوْله ذَلِكَ رَاجِع إلَى الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ التَّطْهِير ; مِنْ أَجْل أَنَّ صَلَاتهَا لِرَبِّهَا تَعْظِيم مِنْهَا لَهُ وَتَطْهِير مِمَّا يَنْسُبهُ إلَيْهِ أَهْل الْكُفْر بِهِ . وَلَوْ قَالَ مَكَان : " وَنُقَدِّس لَك " : " وَنُقَدِّسك " , كَانَ فَصِيحًا مِنْ الْكَلَام , وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَب تَقُول : فُلَان يُسَبِّح اللَّه وَيُقَدِّسهُ , وَيُسَبِّح لِلَّهِ وَيُقَدِّس لَهُ بِمَعْنًى وَاحِد , وَقَدْ جَاءَ بِذَلِكَ الْقُرْآن , قَالَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { كَيْ نُسَبِّحك كَثِيرًا وَنَذْكُرك كَثِيرًا } 20 33 : 34 صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسَلَّمَ وَقَالَ فِي مَوْضِع آخَر : { يُسَبِّح لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الْأَرْض } 62 1


الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { قَالَ إنِّي أَعْلَم مَا لَا تَعْلَمُونَ } قَالَ أَبُو جَعْفَر : اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي تَأْوِيل ذَلِكَ ; فَقَالَ بَعْضهمْ : يَعْنِي بِقَوْلِهِ : { أَعْلَم مَا لَا تَعْلَمُونَ } مِمَّا اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ إبْلِيس , وَإِضْمَاره الْمَعْصِيَة لِلَّهِ وَإِخْفَائِهِ الْكِبْر , مِمَّا اطَّلَعَ عَلَيْهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْهُ وَخَفِيَ عَلَى مَلَائِكَته . ذِكْر مِنْ قَالَ ذَلِكَ : 529 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْعَلَاء , قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَان بْن سَعِيد , قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْر بْن عُمَارَة عَنْ أَبِي رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك , عَنْ ابْن عَبَّاس : { إنِّي أَعْلَم مَا لَا تَعْلَمُونَ } يَقُول إنِّي قَدْ اطَّلَعْت مِنْ قَلْب إبْلِيس عَلَى مَا لَمْ تَطَّلِعُوا عَلَيْهِ مِنْ كِبْره وَاغْتِرَاره . 530 - وَحَدَّثَنِي مُوسَى , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِك وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ ابْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة عَنْ ابْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسَلَّمَ : { إنِّي أَعْلَم مَا لَا تَعْلَمُونَ } يَعْنِي مِنْ شَأْن إبْلِيس . 531 - وَحَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إسْحَاق الْأَهْوَازِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد . وَحَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بَشَّار , قَالَ : حَدَّثَنَا مُؤَمَّل , قَالَا جَمِيعًا : حَدَّثَنَا سُفْيَان , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد : { إنِّي أَعْلَم مَا لَا تَعْلَمُونَ } قَالَ : عَلِمَ مِنْ إبْلِيس الْمَعْصِيَة وَخَلَقَهُ لَهَا . وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْن عَبْد الرَّحْمَن الْمَسْرُوقِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بِشْر , قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَان عَنْ عَلِيّ بْن بَذِيمَة , عَنْ مُجَاهِد بِمِثْلِهِ . حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا ابْن يَمَانِ , عَنْ سُفْيَان , عَنْ عَلِيّ بْن بَذِيمَة , عَنْ مُجَاهِد مِثْله وَحَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا حَكَّام عَنْ عَنْبَسَة , عَنْ مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ الْقَاسِم بْن أَبِي بزة عَنْ مُجَاهِد فِي قَوْله : { إنِّي أَعْلَم مَا لَا تَعْلَمُونَ } قَالَ : عَلِمَ مِنْ إبْلِيس الْمَعْصِيَة وَخَلَقَهُ لَهَا . وَحَدَّثَنِي جَعْفَر بْن مُحَمَّد البزوري , قَالَ : حَدَّثَنَا حَسَن بْن بِشْر عَنْ حَمْزَة الزَّيَّات , عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد فِي قَوْله : { إنِّي أَعْلَم مَا لَا تَعْلَمُونَ } قَالَ : عَلِمَ مِنْ إبْلِيس كِتْمَانه الْكِبْر أَنْ لَا يَسْجُد لِآدَم . * وَحَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِم , قَالَ : حَدَّثَنَا عِيسَى بْن مَيْمُون , قَالَ : وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَة , قَالَ : حَدَّثَنَا شِبْل جَمِيعًا عَنْ ابْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد فِي قَوْل اللَّه : { إنِّي أَعْلَم مَا لَا تَعْلَمُونَ } قَالَ : عَلِمَ مِنْ إبْلِيس الْمَعْصِيَة . وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا وَكِيع , عَنْ سُفْيَان , عَنْ رَجُل , عَنْ مُجَاهِد , مِثْله . وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا سُوَيْدُ , قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْن الْمُبَارَك , عَنْ سُفْيَان , قَالَ : قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله : { إنِّي أَعْلَم مَا لَا تَعْلَمُونَ } قَالَ : عَلِمَ مِنْ إبْلِيس الْمَعْصِيَة وَخَلَقَهُ لَهَا . وَقَالَ مُرَّة آدَم . وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا حَجَّاج بْن الْمِنْهَال , قَالَ : حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِر بْن سُلَيْمَان , قَالَ : سَمِعْت عَبْد الْوَهَّاب بْن مُجَاهِد يُحَدِّث عَنْ أَبِيهِ فِي قَوْله : { إنِّي أَعْلَم مَا لَا تَعْلَمُونَ } قَالَ : عَلِمَ مِنْ إبْلِيس الْمَعْصِيَة وَخَلَقَهُ لَهَا , وَعَلِمَ مِنْ آدَم الطَّاعَة وَخَلَقَهُ لَهَا . وَحَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , عَنْ مَعْمَر , عَنْ ابْن طَاوُس , عَنْ أَبِيهِ وَالثَّوْرِيّ عَنْ عَلِيّ بْن بَذِيمَة , عَنْ مُجَاهِد فِي قَوْله : { إنِّي أَعْلَم مَا لَا تَعْلَمُونَ } قَالَ : عَلِمَ مِنْ إبْلِيس الْمَعْصِيَة وَخَلَقَهُ لَهَا . 532 - وَحَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة , عَنْ ابْن إسْحَاق : { إنِّي أَعْلَم مَا لَا تَعْلَمُونَ } أَيْ فِيكُمْ وَمِنْكُمْ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ مِنْ الْمَعْصِيَة وَالْفَسَاد وَسَفْك الدِّمَاء . وَقَالَ آخَرُونَ : مَعْنَى ذَلِكَ أَنِّي أَعْلَم مَا لَا تَعْلَمُونَ مِنْ أَنَّهُ يَكُون مِنْ ذَلِكَ الْخَلِيفَة أَهْل الطَّاعَة وَالْوِلَايَة لِلَّهِ . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 533 - حَدَّثَنَا بِشْر بْن مُعَاذ , قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيد بْن زُرَيْع , قَالَ : حَدَّثَنَا سَعِيد , عَنْ قَتَادَةَ قَالَ : { إنِّي أَعْلَم مَا لَا تَعْلَمُونَ } فَكَانَ فِي عِلْم اللَّه أَنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ ذَلِكَ الْخَلِيفَة أَنْبِيَاء وَرُسُل وَقَوْم صَالِحُونَ وَسَاكِنُو الْجَنَّة . وَهَذَا الْخَبَر مِنْ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ , يُنْبِئ عَنْ أَنَّ الْمَلَائِكَة الَّتِي قَالَتْ : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِد فِيهَا وَيَسْفِك الدِّمَاء } اسْتَفْظَعَتْ أَنْ يَكُون لِلَّهِ خَلْق يَعْصِيه , وَعَجِبَتْ مِنْهُ إذْ أُخْبِرَتْ أَنَّ ذَلِكَ كَائِن ; فَلِذَلِكَ قَالَ لَهُمْ رَبّهمْ : { إنِّي أَعْلَم مَا لَا تَعْلَمُونَ } يَعْنِي بِذَلِكَ وَاَللَّه أَعْلَم : إنَّكُمْ لَتَعْجَبُونَ مِنْ أَمْر اللَّه وتستفظعونه وَأَنَا أَعْلَم أَنَّهُ فِي بَعْضكُمْ , وَتَصِفُونَ أَنْفُسكُمْ بِصِفَةٍ أَعْلَم خِلَافهَا مِنْ بَعْضكُمْ وَتَعْرِضُونَ بِأَمْرٍ قَدْ جَعَلْته لِغَيْرِكُمْ . وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلَائِكَة لَمَّا أَخْبَرَهَا رَبّهَا بِمَا هُوَ كَائِن مِنْ ذُرِّيَّة خَلِيفَته مِنْ الْفَسَاد وَسَفْك الدِّمَاء قَالَتْ لِرَبِّهَا : يَا رَبّ أَجَاعِل أَنْتَ فِي الْأَرْض خَلِيفَة مِنْ غَيْرنَا يَكُون مِنْ ذُرِّيَّته مِنْ يَعْصِيك أَمْ مِنَّا ؟ فَإِنَّا نُعَظِّمك وَنُصَلِّي لَك وَنُطِيعك وَلَا نَعْصِيك ! وَلَمْ يَكُنْ عِنْدهَا عِلْم بِمَا قَدْ انْطَوَى عَلَيْهِ كَشْحًا إبْلِيس مِنْ اسْتِكْبَاره عَلَى رَبّه . فَقَالَ لَهُمْ رَبّهمْ : إنِّي أَعْلَم غَيْر الَّذِي تَقُولُونَ مِنْ بَعْضكُمْ . وَذَلِكَ هُوَ مَا كَانَ مَسْتُورًا عَنْهُمْ مِنْ أَمْر إبْلِيس وَانْطِوَائِهِ عَلَى مَا قَدْ كَانَ انْطَوَى عَلَيْهِ مِنْ الْكِبْر . وَعَلَى قِيلهمْ ذَلِكَ وَوَصْفهمْ أَنْفُسهمْ بِالْعُمُومِ مِنْ الْوَصْف عُوتِبُوا .
الصفحة 1الصفحة 2الصفحة 3الصفحة 4الصفحة 5الصفحة 6الصفحة 7الصفحة 8الصفحة 9الصفحة 10