لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُسورة البينة الآية رقم 1
و قَدْ جَاءَ فِي فَضْلهَا حَدِيث لَا يَصِحّ , رُوِّينَاهُ عَنْ مُحَمَّد بْن مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه الْحَضْرَمِيّ قَالَ : قَالَ لِي أَبُو عَبْد الرَّحْمَن بْن نُمَيْر : اِذْهَبْ إِلَى أَبِي الْهَيْثَم الْخَشَّاب , فَاكْتُبْ عَنْهُ فَإِنَّهُ قَدْ كَتَبَ , فَذَهَبَ إِلَيْهِ , فَقَالَ : حَدَّثَنَا مَالِك بْن أَنَس , عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد , عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب , عَنْ أَبِي الدَّرْدَاء , قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَوْ يَعْلَم النَّاس مَا فِي [ لَمْ يَكُنْ ] الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْل الْكِتَاب , لَعَطَّلُوا الْأَهْل وَالْمَال , فَتَعَلَّمُوهَا ) فَقَالَ رَجُل مِنْ خُزَاعَة : وَمَا فِيهَا مِنْ الْأَجْر يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ : ( لَا يَقْرَؤُهَا مُنَافِق أَبَدًا , وَلَا عَبْد فِي قَلْبه شَكّ فِي اللَّه . وَاَللَّه إِنَّ الْمَلَائِكَة الْمُقَرَّبِينَ يَقْرَءُونَهَا مُنْذُ خَلَقَ اللَّه السَّمَاوَات وَالْأَرْض مَا يَفْتُرُونَ مِنْ قِرَاءَتهَا . وَمَا مِنْ عَبْد يَقْرَؤُهَا إِلَّا بَعَثَ اللَّه إِلَيْهِ مَلَائِكَة يَحْفَظُونَهُ فِي دِينه وَدُنْيَاهُ , وَيَدْعُونَ لَهُ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَة ) . قَالَ الْحَضْرَمِيّ : فَجِئْت إِلَى أَبِي عَبْد الرَّحْمَن بْن نُمَيْر , فَأَلْقَيْت هَذَا الْحَدِيث عَلَيْهِ , فَقَالَ : هَذَا قَدْ كَفَانَا مَئُونَته , فَلَا تَعُدْ إِلَيْهِ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : " رَوَى إِسْحَاق بْن بِشْر الْكَاهِلِيّ عَنْ مَالِك بْن أَنَس , عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد , عَنْ اِبْن الْمُسَيِّب : عَنْ أَبِي الدَّرْدَاء , عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَوْ يَعْلَم النَّاس مَا فِي [ لَمْ يَكُنْ ] الَّذِينَ كَفَرُوا لَعَطَّلُوا الْأَهْل وَالْمَال وَلَتَعَلَّمُوهَا ) . حَدِيث بَاطِل ; وَإِنَّمَا الْحَدِيث الصَّحِيح مَا رُوِيَ عَنْ أَنَس : أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأُبَيّ بْن كَعْب : ( إِنَّ اللَّه أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأ عَلَيْك " لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا " قَالَ : وَسَمَّانِي لَك ! قَالَ " نَعَمْ " فَبَكَى ) . قُلْت : خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم . وَفِيهِ مِنْ الْفِقْه قِرَاءَة الْعَالِم عَلَى الْمُتَعَلِّم . قَالَ بَعْضهمْ : إِنَّمَا قَرَأَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُبَيّ , لِيُعَلِّم النَّاس التَّوَاضُع ; لِئَلَّا يَأْنَف أَحَد مِنْ التَّعَلُّم وَالْقِرَاءَة عَلَى مَنْ دُونه فِي الْمَنْزِلَة . وَقِيلَ : لِأَنَّ أُبَيًّا كَانَ أَسْرَع أَخْذًا لِأَلْفَاظِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَأَرَادَ بِقِرَاءَتِهِ عَلَيْهِ , أَنْ يَأْخُذ أَلْفَاظه وَيَقْرَأ كَمَا سَمِعَ مِنْهُ , وَيُعَلِّم غَيْره . وَفِيهِ فَضِيلَة عَظِيمَة لِأُبَيّ ; إِذْ أَمَرَ اللَّه رَسُوله أَنْ يَقْرَأ عَلَيْهِ . قَالَ أَبُو بَكْر الْأَنْبَارِيّ : وَحَدَّثَنَا أَحْمَد بْن الْهَيْثَم بْن خَالِد , قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن الْجَعْد , قَالَ حَدَّثَنَا عِكْرِمَة عَنْ عَاصِم عَنْ زِرّ بْن حُبَيْش قَالَ : فِي قِرَاءَة أُبَيّ بْن كَعْب : اِبْن آدَم لَوْ أُعْطِيَ وَادِيًا مِنْ مَال لَالْتَمَسَ ثَانِيًا وَلَوْ أُعْطِيَ وَادِيَيْنِ مِنْ مَال لَالْتَمَسَ ثَالِثًا , وَلَا يَمْلَأ جَوْف اِبْن آدَم إِلَّا التُّرَاب , وَيَتُوب اللَّه عَلَى مَنْ تَابَ . قَالَ عِكْرِمَة . قَرَأَ عَلَيَّ عَاصِم " لَمْ يَكُنْ " ثَلَاثِينَ آيَة , هَذَا فِيهَا . قَالَ أَبُو بَكْر : هَذَا بَاطِل عِنْد أَهْل الْعِلْم ; لِأَنَّ قِرَاءَتَيْ اِبْن كَثِير وَأَبِي عَمْرو مُتَّصِلَتَانِ بِأُبَيّ بْن كَعْب , لَا يُقْرَأ فِيهِمَا هَذَا الْمَذْكُور فِي " لَمْ يَكُنْ " مِمَّا هُوَ مَعْرُوف فِي حَدِيث رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَام الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام , لَا يَحْكِيه عَنْ رَبّ الْعَالَمِينَ فِي الْقُرْآن . وَمَا رَوَاهُ اِثْنَانِ مَعَهُمَا الْإِجْمَاع أَثْبَت مِمَّا يَحْكِيه وَاحِد مُخَالِف مَذْهَب الْجَمَاعَة .

" لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا " كَذَا قِرَاءَة الْعَامَّة , وَخَطّ الْمُصْحَف . وَقَرَأَ اِبْن مَسْعُود " لَمْ يَكُنْ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْل الْكِتَاب مُنْفَكِّينَ " وَهَذِهِ قِرَاءَة عَلَى التَّفْسِير . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : " وَهِيَ جَائِزَة فِي مَعْرِض الْبَيَان لَا فِي مَعْرِض التِّلَاوَة ; فَقَدْ قَرَأَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِوَايَة الصَّحِيح " فَطَلِّقُوهُنَّ لِقَبْلِ عِدَّتهنَّ " وَهُوَ تَفْسِير ; فَإِنَّ التِّلَاوَة : هُوَ مَا كَانَ فِي خَطّ الْمُصْحَف " .

يَعْنِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى

فِي مَوْضِع جَرّ عَطْفًا عَلَى " أَهْل الْكِتَاب " . قَالَ اِبْن عَبَّاس " أَهْل الْكِتَاب " : الْيَهُود الَّذِينَ كَانُوا بِيَثْرِب , وَهُمْ قُرَيْظَة وَالنَّضِير وَبَنُو قَيْنُقَاع . وَالْمُشْرِكُونَ : الَّذِينَ كَانُوا بِمَكَّة وَحَوْلهَا , وَالْمَدِينَة وَاَلَّذِينَ حَوْلهَا ; وَهُمْ مُشْرِكُو قُرَيْش .

أَيْ مُنْتَهِينَ عَنْ كُفْرهمْ , مَائِلِينَ عَنْهُ .

أَيْ أَتَتْهُمْ الْبَيِّنَة ; أَيْ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقِيلَ : الِانْتِهَاء بُلُوغ الْغَايَة أَيْ لَمْ يَكُونُوا لِيَبْلُغُوا نِهَايَة أَعْمَارهمْ فَيَمُوتُوا , حَتَّى تَأْتِيهُمْ الْبَيِّنَة . فَالِانْفِكَاك عَلَى هَذَا بِمَعْنَى الِانْتِهَاء . وَقِيلَ : " مُنْفَكِّينَ " زَائِلِينَ ; أَيْ لَمْ تَكُنْ مُدَّتهمْ لِتَزُولَ حَتَّى يَأْتِيهُمْ رَسُول . وَالْعَرَب تَقُول : مَا اِنْفَكَكْت أَفْعَل كَذَا : أَيْ مَا زِلْت . وَمَا اِنْفَكَّ فُلَان قَائِمًا , أَيْ مَا زَالَ قَائِمًا . وَأَصْل الْفَكّ : الْفَتْح ; وَمِنْهُ فَكّ الْكِتَاب , وَفَكّ الْخَلْخَال , وَفَكّ السَّالِم . قَالَ طَرَفَة : فَآلَيْت لَا يَنْفَكّ كَشْحِي بِطَانَة لِعَضْبٍ رَقِيق الشَّفْرَتَيْنِ مُهَنَّد وَقَالَ ذُو الرُّمَّة : حَرَاجِيج مَا تَنْفَكّ إِلَّا مُنَاخَة عَلَى الْخُفّ أَوْ نَرْمِي بِهَا بَلَدًا قَفْرًا يُرِيد : مَا تَنْفَكّ مُنَاخَة ; فَزَادَ " إِلَّا " . وَقِيلَ : " مُنْفَكِّينَ " : بَارِحِينَ ; أَيْ لَمْ يَكُونُوا لِيَبْرَحُوا وَيُفَارِقُوا الدُّنْيَا , حَتَّى تَأْتِيهُمْ الْبَيِّنَة . وَقَالَ اِبْن كَيْسَان : أَيْ لَمْ يَكُنْ أَهْل الْكِتَاب تَارِكِينَ صِفَة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابهمْ , حَتَّى بُعِثَ ; فَلَمَّا بُعِثَ حَسَدُوهُ وَجَحَدُوهُ . وَهُوَ كَقَوْلِهِ : " فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ " [ الْبَقَرَة : 89 ] . وَلِهَذَا قَالَ : " وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب " [ الْبَيِّنَة : 4 ] . .. الْآيَة . وَعَلَى هَذَا فَقَوْله " وَالْمُشْرِكِينَ " أَيْ مَا كَانُوا يُسِيئُونَ الْقَوْل فِي مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , حَتَّى بُعِثَ ; فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَهُ الْأَمِين , حَتَّى أَتَتْهُمْ الْبَيِّنَة عَلَى لِسَانه , وَبُعِثَ إِلَيْهِمْ , فَحِينَئِذٍ عَادُوهُ . وَقَالَ بَعْض اللُّغَوِيِّينَ : " مُنْفَكِّينَ " هَالِكِينَ ; مِنْ قَوْلهمْ : اِنْفَكَّ صَلَا الْمَرْأَة عِنْد الْوِلَادَة ; وَهُوَ أَنْ يَنْفَصِل , فَلَا يَلْتَئِم فَتَهْلِك الْمَعْنَى : لَمْ يَكُونُوا مُعَذَّبِينَ وَلَا هَالِكِينَ إِلَّا بَعْد قِيَام الْحُجَّة عَلَيْهِمْ , بِإِرْسَالِ الرُّسُل وَإِنْزَال الْكُتُب . وَقَالَ قَوْم فِي الْمُشْرِكِينَ : إِنَّهُمْ مِنْ أَهْل الْكِتَاب ; فَمِنْ الْيَهُود مَنْ قَالَ : عُزَيْر اِبْن اللَّه . وَمِنْ النَّصَارَى مَنْ قَالَ : عِيسَى هُوَ اللَّه . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ اِبْنه . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : ثَالِث ثَلَاثَة . وَقِيلَ : أَهْل الْكِتَاب كَانُوا مُؤْمِنِينَ , ثُمَّ كَفَرُوا بَعْد أَنْبِيَائِهِمْ . وَالْمُشْرِكُونَ وُلِدُوا عَلَى الْفِطْرَة , فَكَفَرُوا حِين بَلَغُوا . فَلِهَذَا قَالَ : " وَالْمُشْرِكِينَ " . وَقِيلَ : الْمُشْرِكُونَ وَصْف أَهْل الْكِتَاب أَيْضًا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِكِتَابِهِمْ , وَتَرَكُوا التَّوْحِيد . فَالنَّصَارَى مُثَلِّثَة , وَعَامَّة الْيَهُود مُشَبِّهَة ; وَالْكُلّ شِرْك . وَهُوَ كَقَوْلِك : جَاءَنِي الْعُقَلَاء وَالظُّرَفَاء ; وَأَنْتَ تُرِيد أَقْوَامًا بِأَعْيَانِهِمْ , تَصِفهُمْ بِالْأَمْرَيْنِ . فَالْمَعْنَى : مِنْ أَهْل الْكِتَاب الْمُشْرِكِينَ . وَقِيلَ : إِنَّ الْكُفْر هُنَا هُوَ الْكُفْر بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; أَيْ لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ مِنْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى , الَّذِينَ هُمْ أَهْل الْكِتَاب , وَلَمْ يَكُنْ الْمُشْرِكُونَ , الَّذِينَ هُمْ عَبَدَة الْأَوْثَان مِنْ الْعَرَب وَغَيْرهمْ - وَهُمْ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ كِتَاب - مُنْفَكِّينَ . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَفِيهِ بُعْد ; لِأَنَّ الظَّاهِر مِنْ قَوْله " حَتَّى تَأْتِيهُمْ الْبَيِّنَة . رَسُول مِنْ اللَّه " أَنَّ هَذَا الرَّسُول هُوَ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَيَبْعُد أَنْ يُقَال : لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى يَأْتِيهُمْ مُحَمَّد ; إِلَّا أَنْ يُقَال : أَرَادَ : لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا الْآن بِمُحَمَّدٍ - وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْل مُعَظِّمِينَ لَهُ - بِمُنْتَهِينَ عَنْ هَذَا الْكُفْر , إِلَى أَنْ يَبْعَث اللَّه مُحَمَّدًا إِلَيْهِمْ وَيُبَيِّن لَهُمْ الْآيَات ; فَحِينَئِذٍ يُؤْمِن قَوْم . وَقَرَأَ الْأَعْمَش وَإِبْرَاهِيم " وَالْمُشْرِكُونَ " رَفْعًا , عَطْفًا عَلَى " الَّذِينَ " . وَالْقِرَاءَة الْأُولَى أَبْيَن ; لِأَنَّ الرَّفْع يَصِير فِيهِ الصِّنْفَانِ كَأَنَّهُمْ مِنْ غَيْر أَهْل الْكِتَاب . وَفِي حَرْف أُبَيّ : " فَمَا كَانَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْل الْكِتَاب وَالْمُشْرِكُونَ مُنْفَكِّينَ " . وَفِي مُصْحَف اِبْن مَسْعُود : " لَمْ يَكُنْ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْل الْكِتَاب مُنْفَكِّينَ " . وَقَدْ تَقَدَّمَ . " حَتَّى تَأْتِيهُمْ الْبَيِّنَة "

قِيلَ حَتَّى أَتَتْهُمْ . وَالْبَيِّنَة : مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةًسورة البينة الآية رقم 2
أَيْ بُعِثَ مِنْ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ . قَالَ الزَّجَّاج : " رَسُول " رُفِعَ عَلَى الْبَدَل مِنْ " الْبَيِّنَة " . وَقَالَ الْفَرَّاء : أَيْ هِيَ رَسُول مِنْ اللَّه , أَوْ هُوَ رَسُول مِنْ اللَّه ; لِأَنَّ الْبَيِّنَة قَدْ تُذَكَّر فَيُقَال : بَيِّنَتِي فُلَان . وَفِي حَرْف أُبَيّ وَابْن مَسْعُود " رَسُولًا " بِالنَّصْبِ عَلَى الْقَطْع .

أَيْ يَقْرَأ . يُقَال : تَلَا يَتْلُو تِلَاوَة .

جَمْع صَحِيفَة , وَهِيَ ظَرْف الْمَكْتُوب .

قَالَ اِبْن عَبَّاس : مِنْ الزُّور , وَالشَّكّ , وَالنِّفَاق , وَالضَّلَالَة . وَقَالَ قَتَادَة : مِنْ الْبَاطِل . وَقِيلَ : مِنْ الْكَذِب , وَالشُّبُهَات . وَالْكُفْر ; وَالْمَعْنَى وَاحِد . أَيْ يَقْرَأ مَا تَتَضَمَّن الصُّحُف مِنْ الْمَكْتُوب ; وَيَدُلّ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَتْلُو عَنْ ظَهْر قَلْبه , لَا عَنْ كِتَاب ; لِأَنَّهُ كَانَ أُمِّيًّا , لَا يَكْتُب وَلَا يَقْرَأ . وَ " مُطَهَّرَة " : مِنْ نَعْت الصُّحُف ; وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " فِي صُحُف مُكَرَّمَة . مَرْفُوعَة مُطَهَّرَة " [ عَبَسَ : 13 - 14 ] , فَالْمُطَهَّرَة نَعْت لِلصُّحُفِ فِي الظَّاهِر , وَهِيَ نَعْت لِمَا فِي الصُّحُف مِنْ الْقُرْآن . وَقِيلَ : " مُطَهَّرَة " أَيْ يَنْبَغِي أَلَّا يَمَسّهَا إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ; كَمَا قَالَ فِي سُورَة " الْوَاقِعَة " حَسَب مَا تَقَدَّمَ بَيَانه . وَقِيلَ : الصُّحُف الْمُطَهَّرَة : هِيَ الَّتِي عِنْد اللَّه فِي أُمّ الْكِتَاب , الَّذِي مِنْهُ نُسِخَ مَا أُنْزِلَ عَلَى الْأَنْبِيَاء مِنْ الْكُتُب ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : " بَلْ هُوَ قُرْآن مَجِيد . فِي لَوْح مَحْفُوظ " [ الْبُرُوج : 21 - 22 ] . قَالَ الْحَسَن : يَعْنِي الصُّحُف الْمُطَهَّرَة فِي السَّمَاء .
فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌسورة البينة الآية رقم 3
أَيْ مُسْتَقِيمَة مُسْتَوِيَة مُحْكَمَة ; مِنْ قَوْل الْعَرَب : قَامَ يَقُوم إِذَا اِسْتَوَى وَصَحَّ . وَقَالَ بَعْض أَهْل الْعِلْم : الصُّحُف هِيَ الْكُتُب ; فَكَيْف قَالَ فِي صُحُف فِيهَا كُتُب ؟ فَالْجَوَاب : أَنَّ الْكُتُب هُنَا بِمَعْنَى الْأَحْكَام ; قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " كَتَبَ اللَّه لَأَغْلِبَنَّ " [ الْمُجَادَلَة : 21 ] بِمَعْنَى حَكَمَ . وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَاَللَّه لَأَقْضِيَنَّ بَيْنكُمَا بِكِتَابِ اللَّه ) ثُمَّ قَضَى بِالرَّجْمِ , وَلَيْسَ ذِكْر الرَّجْم مَسْطُورًا فِي الْكِتَاب ; فَالْمَعْنَى : لَأَقْضِيَنَّ بَيْنكُمَا بِحُكْمِ اللَّه تَعَالَى . وَقَالَ الشَّاعِر : وَمَا الْوَلَاء بِالْبَلَاءِ فَمِلْتُمُ وَمَا ذَاكَ قَالَ اللَّه إِذْ هُوَ يَكْتُب وَقِيلَ : الْكُتُب الْقَيِّمَة : هِيَ الْقُرْآن ; فَجَعَلَهُ كُتُبًا لِأَنَّهُ يَشْتَمِل عَلَى أَنْوَاع مِنْ الْبَيَان .
وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُسورة البينة الآية رقم 4
أَيْ مِنْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى . خَصَّ أَهْل الْكِتَاب بِالتَّفْرِيقِ دُون غَيْرهمْ وَإِنْ كَانُوا مَجْمُوعِينَ مَعَ الْكَافِرِينَ ; لِأَنَّهُمْ مَظْنُون بِهِمْ عِلْم فَإِذَا تَفَرَّقُوا كَانَ غَيْرهمْ مِمَّنْ لَا كِتَاب لَهُ أُدْخِلَ فِي هَذَا الْوَصْف .

أَيْ أَتَتْهُمْ الْبَيِّنَة الْوَاضِحَة . وَالْمَعْنِيّ بِهِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; أَيْ الْقُرْآن مُوَافِقًا لِمَا فِي أَيْدِيهمْ مِنْ الْكِتَاب بِنَعْتِهِ وَصِفَته . وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ عَلَى نُبُوَّته , فَلَمَّا بُعِثَ جَحَدُوا نُبُوَّته وَتَفَرَّقُوا , فَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ بَغْيًا وَحَسَدًا , وَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْد مَا جَاءَهُمْ الْعِلْم بَغْيًا بَيْنهمْ " [ الشُّورَى : 14 ] . وَقِيلَ : " الْبَيِّنَة " : الْبَيَان الَّذِي فِي كُتُبهمْ أَنَّهُ نَبِيّ مُرْسَل . قَالَ الْعُلَمَاء : مِنْ أَوَّل السُّورَة إِلَى قَوْله " قَيِّمَة " [ الْبَيِّنَة : 5 ] : حُكْمهَا فِيمَنْ آمَنَ مِنْ أَهْل الْكِتَاب وَالْمُشْرِكِينَ . وَقَوْله : " وَمَا تَفَرَّقَ " : حُكْمه فِيمَنْ لَمْ يُؤْمِن مِنْ أَهْل الْكِتَاب بَعْد قِيَام الْحُجَج .
وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِسورة البينة الآية رقم 5
أَيْ وَمَا أُمِرَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّار فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل

أَيْ لِيُوَحِّدُوهُ . وَاللَّام فِي " لِيَعْبُدُوا " بِمَعْنَى " أَنْ " ; كَقَوْلِهِ : " يُرِيد اللَّه لِيُبَيِّن لَكُمْ " [ النِّسَاء : 26 ] أَيْ أَنْ يُبَيِّن . وَ " يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُور اللَّه " [ الصَّفّ : 8 ] . وَ " أُمِرْنَا لِنُسْلِم لِرَبِّ الْعَالَمِينَ " [ الْأَنْعَام : 71 ] . وَفِي حَرْف عَبْد اللَّه : " وَمَا أُمِرُوا إِلَّا أَنْ يَعْبُدُوا اللَّه " .

أَيْ الْعِبَادَة ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : " قُلْ إِنِّي أُمِرْت أَنْ أَعْبُد اللَّه مُخْلِصًا لَهُ الدِّين " [ الزُّمَر : 11 ] . وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى وُجُوب النِّيَّة فِي الْعِبَادَات فَإِنَّ الْإِخْلَاص مِنْ عَمَل الْقَلْب وَهُوَ الَّذِي يُرَاد بِهِ وَجْه اللَّه تَعَالَى لَا غَيْره .

أَيْ مَائِلِينَ عَنْ الْأَدْيَان كُلّهَا , إِلَى دِين الْإِسْلَام , وَكَانَ اِبْن عَبَّاس يَقُول : حُنَفَاء : عَلَى دِين إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام . وَقِيلَ : الْحَنِيف : مَنْ اِخْتَتَنَ وَحَجَّ ; قَالَهُ سَعِيد بْن جُبَيْر . قَالَ أَهْل اللُّغَة : وَأَصْله أَنَّهُ تَحَنَّفَ إِلَى الْإِسْلَام ; أَيْ مَالَ إِلَيْهِ .

أَيْ بِحُدُودِهَا فِي أَوْقَاتهَا .

أَيْ يُعْطُوهَا عِنْد مَحَلّهَا .

أَيْ ذَلِكَ الدِّين الَّذِي أُمِرُوا بِهِ دِين الْقِيَامَة ; أَيْ الدِّين الْمُسْتَقِيم . وَقَالَ الزَّجَّاج : أَيْ ذَلِكَ دِين الْمِلَّة الْمُسْتَقِيمَة . وَ " الْقَيِّمَة " : نَعْت لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوف . أَوْ يُقَال : دِين الْأُمَّة الْقَيِّمَة بِالْحَقِّ ; أَيْ الْقَائِمَة بِالْحَقِّ . وَفِي حَرْف عَبْد اللَّه " وَذَلِكَ الدِّين الْقَيِّم " . قَالَ الْخَلِيل : " الْقَيِّمَة " جَمْع الْقَيِّم , وَالْقَيِّم وَالْقَائِم : وَاحِد . وَقَالَ الْفَرَّاء : أَضَافَ الدِّين إِلَى الْقَيِّمَة وَهُوَ نَعْته , لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ . وَعَنْهُ أَيْضًا : هُوَ مِنْ بَاب إِضَافَة الشَّيْء إِلَى نَفْسه , وَدَخَلَتْ الْهَاء لِلْمَدْحِ وَالْمُبَالَغَة . وَقِيلَ : الْهَاء رَاجِعَة إِلَى الْمِلَّة أَوْ الشَّرِيعَة . وَقَالَ مُحَمَّد بْن الْأَشْعَث , الطَّالْقَانِيّ " الْقَيِّمَة " هَاهُنَا : الْكُتُب الَّتِي جَرَى ذِكْرهَا , وَالدِّين مُضَاف إِلَيْهَا .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِسورة البينة الآية رقم 6
" الْمُشْرِكِينَ " : مَعْطُوف عَلَى " الَّذِينَ " , أَوْ يَكُون مَجْرُورًا مَعْطُوفًا عَلَى " أَهْل " .

قَرَأَ نَافِع وَابْن ذَكْوَان بِالْهَمْزِ عَلَى الْأَصْل فِي الْمَوْضِعَيْنِ ; مِنْ قَوْلهمْ : بَرَأَ اللَّه الْخَلْق , وَهُوَ الْبَارِئ الْخَالِق , وَقَالَ : " مِنْ قَبْل أَنْ نَبْرَأهَا " [ الْحَدِيد : 22 ] . الْبَاقُونَ بِغَيْرِ هَمْز , وَشَدّ الْيَاء عِوَضًا مِنْهُ . قَالَ الْفَرَّاء : إِنْ أُخِذَتْ الْبَرِيَّة مِنْ الْبَرَى , وَهُوَ التُّرَاب , فَأَصْله غَيْر الْهَمْز ; تَقُول مِنْهُ : بَرَاهُ اللَّه يَبْرُوهُ بَرْوًا ; أَيْ خَلَقَهُ . قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَمَنْ قَالَ الْبَرِيَّة مِنْ الْبَرَى , وَهُوَ التُّرَاب , قَالَ : لَا تَدْخُل الْمَلَائِكَة تَحْت هَذِهِ اللَّفْظَة . وَقِيلَ : الْبَرِيَّة : مِنْ بَرَيْت الْقَلَم , أَيْ قَدَّرْته ; فَتَدْخُل فِيهِ الْمَلَائِكَة . وَلَكِنَّهُ قَوْل ضَعِيف ; لِأَنَّهُ يَجِب مِنْهُ تَخْطِئَة مَنْ هَمَزَ . وَقَوْله " شَرّ الْبَرِيَّة " أَيْ شَرّ الْخَلِيقَة . فَقِيلَ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون عَلَى التَّعْمِيم . وَقَالَ قَوْم : أَيْ هُمْ شَرّ الْبَرِيَّة الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : " وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ " [ الْبَقَرَة : 47 ] أَيْ عَلَى عَالِمِي زَمَانكُمْ . وَلَا يَبْعُد أَنْ يَكُون فِي كُفَّار الْأُمَم قَبْل هَذَا مَنْ هُوَ شَرّ مِنْهُمْ ; مِثْل فِرْعَوْن وَعَاقِر نَاقَة صَالِح .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِسورة البينة الآية رقم 7
وَكَذَا " خَيْر الْبَرِيَّة " : إِمَّا عَلَى التَّعْمِيم , أَوْ خَيْر بَرِيَّة عَصْرهمْ . وَقَدْ اِسْتَدَلَّ بِقِرَاءَةِ الْهَمْز مَنْ فَضَّلَ بَنِي آدَم عَلَى الْمَلَائِكَة , وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة " الْبَقَرَة " الْقَوْل فِيهِ . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : الْمُؤْمِن أَكْرَم عَلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مِنْ بَعْض الْمَلَائِكَة الَّذِينَ عِنْده .
جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُسورة البينة الآية رقم 8
أَيْ ثَوَابهمْ .

أَيْ خَالِقهمْ وَمَالِكهمْ .

أَيْ بَسَاتِين .

أَيْ إِقَامَة . وَالْمُفَسِّرُونَ يَقُولُونَ : " جَنَّات عَدْن " بُطْنَان الْجَنَّة , أَيْ وَسَطهَا ; تَقُول : عَدَنَ بِالْمَكَانِ يَعْدِن [ عَدْنًا وَعُدُونًا ] : أَقَامَ . وَمَعْدِن الشَّيْء : مَرْكَزه وَمُسْتَقَرّه . قَالَ الْأَعْشَى : وَإِنْ يُسْتَضَافُوا إِلَى حُكْمه يُضَافُوا إِلَى رَاجِح قَدْ عَدَن

لَا يَظْعَنُونَ وَلَا يَمُوتُونَ .

أَيْ رَضِيَ أَعْمَالهمْ ; كَذَا قَالَ اِبْن عَبَّاس .

أَيْ رَضُوا هُمْ بِثَوَابِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ .

أَيْ الْجَنَّة .

أَيْ خَافَ رَبّه , فَتَنَاهَى عَنْ الْمَعَاصِي