أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَسورة الشرح الآية رقم 1
شَرْح الصَّدْر : فَتْحه أَيْ أَلَمْ نَفْتَحْ صَدْرك لِلْإِسْلَامِ . وَرَوَى أَبُو صَالِح عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : أَلَمْ نُلَيِّنْ لَك قَلْبك . وَرَوَى الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : قَالُوا يَا رَسُول اللَّه , أَيَنْشَرِحُ الصَّدْر ؟ قَالَ : [ نَعَمْ وَيَنْفَسِحُ ] . قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه , وَهَلْ لِذَلِكَ عَلَامَة ؟ قَالَ : [ نَعَمْ التَّجَافِي عَنْ دَار الْغُرُور , وَالْإِنَابَة إِلَى دَار الْخُلُود , وَالِاعْتِدَاد لِلْمَوْتِ , قَبْل نُزُول الْمَوْت ] . وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي " الزُّمَر " عِنْد قَوْله تَعَالَى : " أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّه صَدْره لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُور مِنْ رَبّه " . وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَن قَالَ : " أَلَمْ نَشْرَح لَك صَدْرك " قَالَ : مُلِئَ حِكَمًا وَعِلْمًا . وَفِي الصَّحِيح عَنْ أَنَس بْن مَالِك , عَنْ مَالِك بْن صَعْصَعَة - رَجُل مِنْ قَوْمه - أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : ( فَبَيْنَا أَنَا عِنْد الْبَيْت بَيْن النَّائِم وَالْيَقِظَانِ إِذْ سَمِعْت قَائِلًا يَقُول : أَحَد الثَّلَاثَة فَأُتِيت بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَب , فِيهَا مَاء زَمْزَم , فَشَرَحَ صَدْرِي إِلَى كَذَا وَكَذَا ) قَالَ قَتَادَة قُلْت : مَا يَعْنِي ؟ قَالَ : إِلَى أَسْفَل بَطْنِي , قَالَ : [ فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي , فَغُسِلَ قَلْبِي بِمَاءِ زَمْزَم , ثُمَّ أُعِيدَ مَكَانه , ثُمَّ حُشِيَ إِيمَانًا وَحِكْمَة ] . وَفِي الْحَدِيث قِصَّة . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : ( جَاءَنِي مَلَكَانِ فِي صُورَة طَائِر , مَعَهُمَا مَاء وَثَلْج , فَشَرَحَ أَحَدهمَا صَدْرِي , وَفَتَحَ الْآخَر بِمِنْقَارِهِ فِيهِ فَغَسَلَهُ ) . وَفِي حَدِيث آخَر قَالَ : [ جَاءَنِي مَلَك فَشَقَّ عَنْ قَلْبِي , فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عُذْرَة , وَقَالَ : قَلْبك وَكِيع , وَعَيْنَاك بَصِيرَتَانِ , وَأُذُنَاك سَمِيعَتَانِ , أَنْتَ مُحَمَّد رَسُول اللَّه , لِسَانك صَادِق , وَنَفْسك مُطْمَئِنَّة , وَخُلُقك قُثَم , وَأَنْتَ قَيِّم ] . قَالَ أَهْل اللُّغَة : قَوْله [ وَكِيع ] أَيْ يَحْفَظ مَا يُوضَع فِيهِ . يُقَال : سِقَاء وَكِيع أَيْ قَوِيّ يَحْفَظ مَا يُوضَع فِيهِ . وَاسْتَوْكَعَتْ مَعِدَتُهُ , أَيْ قَوِيَتْ وَقَوْله : [ قُثَم ] أَيْ جَامِع . يُقَال : رَجُل قَثُوم لِلْخَيْرِ أَيْ جَامِع لَهُ . وَمَعْنَى " أَلَمْ نَشْرَحْ " قَدْ شَرَحْنَا الدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ قَوْله فِي النَّسَق عَلَيْهِ : " وَوَضَعْنَا عَنْك وِزْرك " , فَهَذَا عَطْف عَلَى التَّأْوِيل , لَا عَلَى التَّنْزِيل ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى التَّنْزِيل لَقَالَ : وَنَضَعْ عَنْك وِزْرَك . فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ مَعْنَى " أَلَمْ نَشْرَحْ " : قَدْ شَرَحْنَا . و " لَمْ " جَحْد , وَفِي الِاسْتِفْهَام طَرَف مِنْ الْجَحْد , وَإِذَا وَقَعَ جَحْد , رَجَعَ إِلَى التَّحْقِيق كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " أَلَيْسَ اللَّه بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ " [ التِّين : 8 ] . وَمَعْنَاهُ : اللَّه أَحْكَم الْحَاكِمِينَ . وَكَذَا " أَلَيْسَ اللَّه بِكَافٍ عَبْده " [ الزُّمَر : 36 ] . وَمِثْله قَوْل جَرِير يَمْدَح عَبْد الْمَلِك بْن مَرْوَان : أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحٍ الْمَعْنَى : أَنْتُمْ كَذَا .
وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَسورة الشرح الآية رقم 2
أَيْ حَطَطْنَا عَنْك ذَنْبك . وَقَرَأَ أَنَس " وَحَلَلْنَا , وَحَطَطْنَا " . وَقَرَأَ اِبْن مَسْعُود : " وَحَلَلْنَا عَنْك وَقْرك " . هَذِهِ الْآيَة مِثْل قَوْله تَعَالَى : " لِيَعْفِر لَك اللَّه مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبك وَمَا تَأَخَّرَ " [ الْفَتْح : 2 ] . قِيلَ : الْجَمِيع كَانَ قَبْل النُّبُوَّة . وَالْوِزْر : الذَّنْب أَيْ وَضَعْنَا عَنْك مَا كُنْت فِيهِ مِنْ أَمْر الْجَاهِلِيَّة ; لِأَنَّهُ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كَثِير مِنْ مَذَاهِب قَوْمه , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَبَدَ صَنَمًا وَلَا وَثَنًا . قَالَ قَتَادَة وَالْحَسَن وَالضَّحَّاك : كَانَتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذُنُوب أَثْقَلَتْهُ فَغَفَرَهَا اللَّه لَهُ " الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرك " أَيْ أَثْقَلَهُ حَتَّى سَمِعَ نَقِيضَهُ أَيْ صَوْته . وَأَهْل اللُّغَة يَقُولُونَ : أَنْقَضَ الْحَمْل ظَهْر النَّاقَة : إِذَا سَمِعْت لَهُ صَرِيرًا مِنْ شِدَّة الْحَمْل . وَكَذَلِكَ سَمِعْت نَقِيض الرَّحْل أَيْ صَرِيره . قَالَ جَمِيل : وَحَتَّى تَدَاعَتْ بِالنَّقِيضِ حِبَالُهُ وَهَمَّتْ بِوَانِي زُورِهِ أَنْ تُحَطَّمَا بِوَانِي زُوره : أَيْ أُصُول صَدْره . فَالْوِزْر : الْحَمْل الثَّقِيل . قَالَ الْمُحَاسِبِيّ : يَعْنِي ثِقَل الْوِزْر لَوْ لَمْ يَعْفُ اللَّهُ عَنْهُ -

وَقَالَ السُّدِّيّ : " وَوَضَعْنَا عَنْك وِزْرك " أَيْ وَحَطَطْنَا عَنْك ثِقَلَك . وَهِيَ فِي قِرَاءَة عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود " وَحَطَطْنَا عَنْك وَقْرك " . وَقِيلَ : أَيْ حَطَطْنَا عَنْك ثِقَل آثَام الْجَاهِلِيَّة . قَالَ الْحُسَيْن بْن الْمُفَضَّل : يَعْنِي الْخَطَأ وَالسَّهْو . وَقِيلَ : ذُنُوب أُمَّتك , أَضَافَهَا إِلَيْهِ لِاشْتِغَالِ قَلْبه . بِهَا . وَقَالَ عَبْد الْعَزِيز بْن يَحْيَى وَأَبُو عُبَيْدَة : خَفَّفْنَا عَنْك أَعْبَاء النُّبُوَّة وَالْقِيَام بِهَا , حَتَّى لَا تَثْقُلَ عَلَيْك . وَقِيلَ : كَانَ فِي الِابْتِدَاء يَثْقُل عَلَيْهِ الْوَحْي , حَتَّى كَادَ يَرْمِي نَفْسه مِنْ شَاهِق الْجَبَل , إِلَى أَنْ جَاءَهُ جِبْرِيل وَأَرَاهُ نَفْسه وَأُزِيلَ عَنْهُ مَا كَانَ يَخَاف مِنْ تَغَيُّر الْعَقْل . وَقِيلَ : عَصَمْنَاك عَنْ اِحْتِمَال الْوِزْر , وَحَفِظْنَاك قَبْل النُّبُوَّة فِي الْأَرْبَعِينَ مِنْ الْأَدْنَاس حَتَّى نَزَلَ عَلَيْك الْوَحْي وَأَنْتَ مُطَهَّر مِنْ الْأَدْنَاس .
الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَسورة الشرح الآية رقم 3
أَيْ أَثْقَلَهُ وَأَوْهَنَهُ . قَالَ : وَإِنَّمَا وُصِفَتْ ذُنُوب , الْأَنْبِيَاء بِهَذَا الثِّقَل , مَعَ كَوْنهَا مَغْفُورَة , لِشِدَّةِ اِهْتِمَامهمْ بِهَا , وَنَدِمَهُمْ مِنْهَا , وَتَحَسُّرهمْ عَلَيْهَا .
وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَسورة الشرح الآية رقم 4
قَالَ مُجَاهِد : يَعْنِي بِالتَّأْذِينِ . وَفِيهِ يَقُول حَسَّان بْن ثَابِت : أَغَرّ عَلَيْهِ لِلنُّبُوَّةِ خَاتَمٌ مِنْ اللَّه مَشْهُودٌ يَلُوحُ وَيَشْهَدُ وَضَمَّ الْإِلَهُ اِسْمَ النَّبِيِّ إِلَى اِسْمِهِ إِذَا قَالَ فِي الْخَمْسِ الْمُؤَذِّنُ أَشْهَدُ وَرُوِيَ عَنْ الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس , قَالَ : يَقُول لَهُ لَا ذُكِرْتُ إِلَّا ذُكِرْتَ مَعِي فِي الْأَذَان , وَالْإِقَامَة وَالتَّشَهُّد , وَيَوْم الْجُمْعَة عَلَى الْمَنَابِر , وَيَوْم الْفِطْر , وَيَوْم الْأَضْحَى : وَأَيَّام التَّشْرِيق , وَيَوْم عَرَفَة , وَعِنْد الْجِمَار , وَعَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَة , وَفِي خُطْبَة النِّكَاح , وَفِي مَشَارِق الْأَرْض وَمَغَارِبهَا . وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا عَبَدَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ , وَصَدَّقَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّار وَكُلّ شَيْء , وَلَمْ يَشْهَد أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه , لَمْ يَنْتَفِع بِشَيْءٍ وَكَانَ كَافِرًا . وَقِيلَ : أَيْ أَعْلَيْنَا ذِكْرَك , فَذَكَرْنَاك فِي الْكُتُب الْمُنَزَّلَة عَلَى الْأَنْبِيَاء قَبْلَك , وَأَمَرْنَاهُمْ بِالْبِشَارَةِ بِك , وَلَا دِين إِلَّا وَدِينك يَظْهَر عَلَيْهِ . وَقِيلَ : رَفَعْنَا ذِكْرَك عِنْد الْمَلَائِكَة فِي السَّمَاء , وَفِي الْأَرْض عِنْد الْمُؤْمِنِينَ , وَنَرْفَع فِي الْآخِرَة ذِكْرك بِمَا نُعْطِيك مِنْ الْمَقَام الْمَحْمُود , وَكَرَائِم الدَّرَجَات .
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًاسورة الشرح الآية رقم 5
أَيْ إِنَّ مَعَ الضِّيقَة وَالشِّدَّة يُسْرًا , أَيْ سَعَةً وَغِنًى . ثُمَّ كَرَّرَ فَقَالَ : " إِنَّ مَعَ الْعُسْر يُسْرًا " , فَقَالَ قَوْم : هَذَا التَّكْرِير تَأْكِيد لِلْكَلَامِ كَمَا يُقَال : اِرْمِ اِرْمِ , اِعْجَلْ اِعْجَلْ قَالَ اللَّه تَعَالَى : " كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ . ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ " [ التَّكَاثُر : 3 - 4 ] . وَنَظِيره فِي تَكْرَار الْجَوَاب : بَلَى بَلَى , لَا لَا . وَذَلِكَ لِلْإِطْنَابِ وَالْمُبَالَغَة قَالَهُ الْفَرَّاء . وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : هَمَمْت بِنَفْسِيَ بَعْض الْهُمُوم فَأَوْلَى لِنَفْسِيَ أَوْلَى لَهَا وَقَالَ قَوْم : إِنَّ مِنْ عَادَة الْعَرَب إِذَا ذَكَرُوا اِسْمًا مُعَرَّفًا ثُمَّ كَرَّرُوهُ , فَهُوَ هُوَ . وَإِذَا نَكَّرُوهُ ثُمَّ كَرَّرُوهُ فَهُوَ غَيْره . وَهُمَا اِثْنَانِ , لِيَكُونَ أَقْوَى لِلْأَمَلِ , وَأَبْعَثَ عَلَى الصَّبْر قَالَهُ ثَعْلَب . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : يَقُول اللَّه تَعَالَى خَلَقْت عُسْرًا وَاحِدًا , وَخَلَقْت يُسْرَيْنِ , وَلَنْ يَغْلِبَ عُسْر يُسْرَيْنِ . وَجَاءَ فِي الْحَدِيث عَنْ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ السُّورَة : أَنَّهُ قَالَ : [ لَنْ يَغْلِب عُسْرٌ يُسْرَيْنِ ] . وَقَالَ اِبْن مَسْعُود : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ , لَوْ كَانَ الْعُسْر فِي حَجَرٍ , لَطَلَبَهُ الْيُسْر حَتَّى يَدْخُل عَلَيْهِ وَلَنْ يَغْلِب عُسْر يُسْرَيْنِ . وَكَتَبَ أَبُو عُبَيْدَة بْن الْجَرَّاح إِلَى عُمَر بْن الْخَطَّاب يَذْكُر لَهُ جُمُوعًا مِنْ الرُّوم , وَمَا يَتَخَوَّف مِنْهُمْ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : أَمَّا بَعْد , فَإِنَّهُمْ مَهْمَا يَنْزِل بِعَبْدِ مُؤْمِن مِنْ مَنْزِل شِدَّة , يَجْعَل اللَّه بَعْده فَرَجًا , وَإِنَّهُ لَنْ يَغْلِب عُسْر يُسْرَيْنِ , وَإِنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُول فِي كِتَابه : " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " [ آل عِمْرَان : 200 ] . وَقَالَ قَوْم مِنْهُمْ الْجُرْجَانِيّ : هَذَا قَوْل مَدْخُول ; لِأَنَّهُ يَجِب عَلَى هَذَا التَّدْرِيج إِذَا قَالَ الرَّجُل : إِنَّ مَعَ الْفَارِس سَيْفًا , إِنَّ مَعَ الْفَارِس سَيْفًا , أَنْ يَكُون الْفَارِس وَاحِدًا وَالسَّيْف اِثْنَانِ . وَالصَّحِيح أَنْ يُقَال : إِنَّ اللَّه بَعَثَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُقِلًّا مُخِفًّا , فَعَيَّرَهُ الْمُشْرِكُونَ بِفَقْرِهِ , حَتَّى قَالُوا لَهُ : نَجْمَع لَك مَالًا فَاغْتَمَّ وَظَنَّ أَنَّهُمْ كَذَّبُوهُ لِفَقْرِهِ فَعَزَّاهُ اللَّه , وَعَدَّدَ نِعَمه عَلَيْهِ , وَوَعَدَهُ الْغِنَى بِقَوْلِهِ : " فَإِنَّ مَعَ الْعُسْر يُسْرًا " أَيْ لَا يَحْزُنْك مَا عَيَّرُوك بِهِ مِنْ الْفَقْر فَإِنَّ مَعَ ذَلِكَ الْعُسْر يُسْرًا عَاجِلًا أَيْ فِي الدُّنْيَا . فَأَنْجَزَ لَهُ مَا وَعَدَهُ فَلَمْ يَمُتْ حَتَّى فَتَحَ عَلَيْهِ الْحِجَاز وَالْيَمَن , وَوَسَّعَ ذَات يَده , حَتَّى كَانَ يُعْطِي الرَّجُل الْمِائَتَيْنِ مِنْ الْإِبِل , وَيَهَب الْهِبَات السَّنِيَّة , وَيُعِدّ لِأَهْلِهِ قُوت سَنَة . فَهَذَا الْفَضْل كُلّه مِنْ أَمْر الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ خَاصًّا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - , فَقَدْ يَدْخُل فِيهِ بَعْض أُمَّته إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . ثُمَّ اِبْتَدَأَ فَضْلًا آخِرًا مِنْ الْآخِرَة وَفِيهِ تَأْسِيَةٌ وَتَعْزِيَةٌ لَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ مُبْتَدِئًا : " إِنَّ مَعَ الْعُسْر يُسْرًا " فَهُوَ شَيْء آخَر . وَالدَّلِيل عَلَى اِبْتِدَائِهِ , تَعَرِّيه مِنْ فَاء أَوْ وَاو أَوْ غَيْرهَا مِنْ حُرُوف النَّسَق الَّتِي تَدُلّ عَلَى الْعَطْف . فَهَذَا وَعْد عَامّ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ , لَا يَخْرُج أَحَد مِنْهُ أَيْ إِنَّ مَعَ الْعُسْر فِي الدُّنْيَا لِلْمُؤْمِنِينَ يُسْرًا فِي الْآخِرَة لَا مَحَالَة . وَرُبَّمَا اِجْتَمَعَ يُسْر الدُّنْيَا وَيُسْر الْآخِرَة . وَاَلَّذِي فِي الْخَبَر : [ لَنْ يَغْلِب عُسْرٌ يُسْرَيْنِ ] يَعْنِي الْعُسْر الْوَاحِد لَنْ يَغْلِبهُمَا , وَإِنَّمَا يَغْلِب أَحَدهمَا إِنْ غَلَبَ , وَهُوَ يُسْر الدُّنْيَا فَأَمَّا يُسْر الْآخِرَة فَكَائِن لَا مَحَالَة , وَلَنْ يَغْلِبَهُ شَيْء . أَوْ يُقَال : " إِنَّ مَعَ الْعُسْر " وَهُوَ إِخْرَاج أَهْل مَكَّة النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مَكَّة " يُسْرًا " , وَهُوَ دُخُوله يَوْم فَتْح مَكَّة مَعَ عَشْرَة آلَاف رَجُل , مَعَ عِزّ وَشَرَف .
إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًاسورة الشرح الآية رقم 6
أَيْ إِنَّ مَعَ الضِّيقَة وَالشِّدَّة يُسْرًا , أَيْ سَعَة وَغِنًى . ثُمَّ كَرَّرَ فَقَالَ : " إِنَّ مَعَ الْعُسْر يُسْرًا " , فَقَالَ قَوْم : هَذَا التَّكْرِير تَأْكِيد لِلْكَلَامِ كَمَا يُقَال : اِرْمِ اِرْمِ , اِعْجَلْ اِعْجَلْ قَالَ اللَّه تَعَالَى : " كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ . ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ " [ التَّكَاثُر : 3 - 4 ] . وَنَظِيره فِي تَكْرَار الْجَوَاب : بَلَى بَلَى , لَا لَا . وَذَلِكَ لِلْإِطْنَابِ وَالْمُبَالَغَة قَالَهُ الْفَرَّاء . وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : هَمَمْت بِنَفْسِيَ بَعْض الْهُمُوم فَأَوْلَى لِنَفْسِيَ أَوْلَى لَهَا وَقَالَ قَوْم : إِنَّ مِنْ عَادَة الْعَرَب إِذَا ذَكَرُوا اِسْمًا مُعَرَّفًا ثُمَّ كَرَّرُوهُ , فَهُوَ هُوَ . وَإِذَا نَكَّرُوهُ ثُمَّ كَرَّرُوهُ فَهُوَ غَيْره . وَهُمَا اِثْنَانِ , لِيَكُونَ أَقْوَى لِلْأَمَلِ , وَأَبْعَثَ عَلَى الصَّبْر قَالَهُ ثَعْلَب . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : يَقُول اللَّه تَعَالَى خَلَقْت عُسْرًا وَاحِدًا , وَخَلَقْت يُسْرَيْنِ , وَلَنْ يَغْلِب عُسْر يُسْرَيْنِ . وَجَاءَ فِي الْحَدِيث عَنْ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ السُّورَة : أَنَّهُ قَالَ : [ لَنْ يَغْلِب عُسْر يُسْرَيْنِ ] . وَقَالَ اِبْن مَسْعُود : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ , لَوْ كَانَ الْعُسْر فِي حَجَر , لَطَلَبَهُ الْيُسْر حَتَّى يَدْخُل عَلَيْهِ وَلَنْ يَغْلِب عُسْر يُسْرَيْنِ . وَكَتَبَ أَبُو عُبَيْدَة بْن الْجِرَاح إِلَى عُمَر بْن الْخَطَّاب يَذْكُر لَهُ جُمُوعًا مِنْ الرُّوم , وَمَا يَتَخَوَّف مِنْهُمْ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : أَمَّا بَعْد , فَإِنَّهُمْ مَهْمَا يَنْزِلْ بِعَبْدِ مُؤْمِن مِنْ مَنْزِل شِدَّة , يَجْعَل اللَّه بَعْده فَرَجًا , وَإِنَّهُ لَنْ يَغْلِب عُسْر يُسْرَيْنِ , وَإِنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُول فِي كِتَابه : " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " [ آل عِمْرَان : 200 ] . وَقَالَ قَوْم مِنْهُمْ الْجُرْجَانِيّ : هَذَا قَوْل مَدْخُول ; لِأَنَّهُ يَجِب عَلَى هَذَا التَّدْرِيج إِذَا قَالَ الرَّجُل : إِنَّ مَعَ الْفَارِس سَيْفًا , إِنَّ مَعَ الْفَارِس سَيْفًا , أَنْ يَكُون الْفَارِس وَاحِدًا وَالسَّيْف اِثْنَانِ . وَالصَّحِيح أَنْ يُقَال : إِنَّ اللَّه بَعَثَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُقِلًّا مُخِفًّا , فَعَيَّرَهُ الْمُشْرِكُونَ بِفَقْرِهِ , حَتَّى قَالُوا لَهُ : نَجْمَع لَك مَالًا فَاغْتَمَّ وَظَنَّ أَنَّهُمْ كَذَّبُوهُ لِفَقْرِهِ فَعَزَّاهُ اللَّه , وَعَدَّدَ نِعَمَهُ عَلَيْهِ , وَوَعَدَهُ الْغِنَى بِقَوْلِهِ : " فَإِنَّ مَعَ الْعُسْر يُسْرًا " أَيْ لَا يَحْزُنْك مَا عَيَّرُوك بِهِ مِنْ الْفَقْر فَإِنَّ مَعَ ذَلِكَ الْعُسْر يُسْرًا عَاجِلًا أَيْ فِي الدُّنْيَا . فَأَنْجَزَ لَهُ مَا وَعَدَهُ فَلَمْ يَمُتْ حَتَّى فَتَحَ عَلَيْهِ الْحِجَاز وَالْيَمَن , وَوَسَّعَ ذَات يَده , حَتَّى كَانَ يُعْطِي الرَّجُل الْمِائَتَيْنِ مِنْ الْإِبِل , وَيَهَب الْهِبَات السَّنِيَّة , وَيُعِدّ لِأَهْلِهِ قُوت سَنَة . فَهَذَا الْفَضْل كُلّه مِنْ أَمْر الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ خَاصًّا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ يَدْخُل فِيهِ بَعْض أُمَّته إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . ثُمَّ اِبْتَدَأَ فَضْلًا آخِرًا مِنْ الْآخِرَة وَفِيهِ تَأْسِيَة وَتَعْزِيَة لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ مُبْتَدِئًا : " إِنَّ مَعَ الْعُسْر يُسْرًا " فَهُوَ شَيْء آخَر . وَالدَّلِيل عَلَى اِبْتِدَائِهِ , تَعَرِّيه مِنْ فَاء أَوْ وَاو أَوْ غَيْرهَا مِنْ حُرُوف النَّسَق الَّتِي تَدُلّ عَلَى الْعَطْف . فَهَذَا وَعْد عَامّ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ , لَا يَخْرُج أَحَد مِنْهُ أَيْ إِنَّ مَعَ الْعُسْر فِي الدُّنْيَا لِلْمُؤْمِنِينَ يُسْرًا فِي الْآخِرَة لَا مَحَالَة . وَرُبَّمَا اِجْتَمَعَ يُسْر الدُّنْيَا وَيُسْر الْآخِرَة . وَاَلَّذِي فِي الْخَبَر : [ لَنْ يَغْلِبَ عُسْر يُسْرَيْنِ ] يَعْنِي الْعُسْر الْوَاحِد لَنْ يَغْلِبهُمَا , وَإِنَّمَا يَغْلِب أَحَدهمَا إِنْ غَلَبَ , وَهُوَ يُسْر الدُّنْيَا فَأَمَّا يُسْر الْآخِرَة فَكَائِن لَا مَحَالَة , وَلَنْ يَغْلِبَهُ شَيْء . أَوْ يُقَال : " إِنَّ مَعَ الْعُسْر " وَهُوَ إِخْرَاج أَهْل مَكَّة النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مَكَّة " يُسْرًا " , وَهُوَ دُخُوله يَوْم فَتْح مَكَّة مَعَ عَشْرَة آلَاف رَجُل , مَعَ عِزّ وَشَرَف .
فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْسورة الشرح الآية رقم 7
قَالَ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة : فَإِذَا فَرَغْت مِنْ صَلَاتك " فَانْصَبْ " أَيْ بَالِغْ فِي الدُّعَاء وَسَلْهُ حَاجَتَك . وَقَالَ اِبْن مَسْعُود : إِذَا فَرَغْت مِنْ الْفَرَائِض فَانْصَبْ فِي قِيَام اللَّيْل . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : إِذَا فَرَغْت مِنْ تَبْلِيغ الرِّسَالَة " فَانْصَبْ " أَيْ اِسْتَغْفِرْ لِذَنْبِك وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات . وَقَالَ الْحَسَن وَقَتَادَة أَيْضًا : إِذَا فَرَغْت مِنْ جِهَاد عَدُوّك , فَانْصَبْ لِعِبَادَةِ رَبّك . وَعَنْ مُجَاهِد : " فَإِذَا فَرَغْت " مِنْ دُنْيَاك , " فَانْصَبْ " فِي صَلَاتك . وَنَحْوه عَنْ الْحَسَن . وَقَالَ الْجُنَيْد : إِذَا فَرَغْت مِنْ أَمْر الْخَلْق , فَاجْتَهِدْ فِي عِبَادَة الْحَقّ . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : " وَمِنْ الْمُبْتَدِعَة مَنْ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَة " فَأَنْصِبْ " بِكَسْرِ الصَّاد , وَالْهَمْز مِنْ أَوَّله , وَقَالُوا : مَعْنَاهُ : أَنْصِبْ الْإِمَامَ الَّذِي تَسْتَخْلِفُهُ . وَهَذَا بَاطِل فِي الْقِرَاءَة , بَاطِل فِي الْمَعْنَى ; لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْتَخْلِف أَحَدًا . وَقَرَأَهَا بَعْض : الْجُهَّال " فَانْصَبَّ " بِتَشْدِيدِ الْبَاء , مَعْنَاهُ : إِذَا فَرَغْت مِنْ الْجِهَاد , فَجِدِّ فِي الرُّجُوع إِلَى بَلَدك . . وَهَذَا بَاطِل أَيْضًا قِرَاءَةً , لِمُخَالَفَةِ الْإِجْمَاع , لَكِنَّ مَعْنَاهُ صَحِيح لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : [ السَّفَر قِطْعَة مِنْ الْعَذَاب , يَمْنَع أَحَدكُمْ نَوْمه وَطَعَامه وَشَرَابه , فَإِذَا قَضَى أَحَدكُمْ نَهِمَتَهُ , فَلْيُعَجِّلْ , الرُّجُوع إِلَى أَهْله ] . وَأَشَدّ النَّاس عَذَابًا وَأَسْوَءُهُمْ مُبَاء وَمَآبًا , مَنْ أَخَذَ مَعْنَى صَحِيحًا , فَرَكَّبَ عَلَيْهِ مِنْ قِبَل نَفْسه قِرَاءَة أَوْ حَدِيثًا , فَيَكُون كَاذِبًا عَلَى اللَّه , كَاذِبًا عَلَى رَسُوله " وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ اِفْتَرَى عَلَى اللَّه كَذِبًا " . قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَرُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَر الْمَنْصُور : أَنَّهُ قَرَأَ " أَلَمْ نَشْرَحَ لَك صَدْرك " بِفَتْحِ الْحَاء وَهُوَ بَعِيد , وَقَدْ يُؤَوَّلُ عَلَى تَقْدِير النُّون الْخَفِيفَة , ثُمَّ أُبْدِلَتْ النُّون أَلِفًا فِي الْوَقْف , ثُمَّ حُمِلَ الْوَصْل عَلَى الْوَقْف , ثُمَّ حُذِفَ الْأَلِف . وَأَنْشَدَ عَلَيْهِ : اِضْرِبْ عَنْك الْهُمُومَ طَارِقَهَا ضَرْبَك بِالسَّوْطِ قَوْنَسَ الْفَرَسِ أَرَادَ : اِضْرِبَنَّ .
وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْسورة الشرح الآية رقم 8
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي السِّمَال " فَإِذَا فَرِغْت " بِكَسْرِ الرَّاء , وَهِيَ لُغَة فِيهِ . وَقُرِئَ " فَرَغِّبْ " أَيْ فَرَغِّبْ النَّاس إِلَى مَا عِنْده .

قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : رُوِيَ عَنْ شُرَيْح أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ يَلْعَبُونَ يَوْم عِيد , فَقَالَ مَا بِهَذَا أَمَرَ الشَّارِع . وَفِيهِ نَظَرٌ , فَإِنَّ الْحَبَش كَانُوا يَلْعَبُونَ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَاب فِي الْمَسْجِد يَوْم الْعِيد , وَالنَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْظُر . وَدَخَلَ أَبُو بَكْر فِي بَيْت رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى عَائِشَة - رَضِيَ اللَّه عَنْهَا وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ مِنْ جِوَارِي الْأَنْصَار تُغْنِيَانِ فَقَالَ أَبُو بَكْر : أَبِمَزْمُورِ الشَّيْطَان فِي بَيْت رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؟ فَقَالَ : [ دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْر , فَإِنَّهُ يَوْم عِيد ] . وَلَيْسَ يَلْزَم الدُّءُوب عَلَى الْعَمَل , بَلْ هُوَ مَكْرُوه لِلْخَلْقِ .