وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَاسورة الشمس الآية رقم 1
قَالَ مُجَاهِد : " وَضُحَاهَا " أَيْ ضَوْءُهَا وَإِشْرَاقهَا . وَهُوَ قَسَم ثَانٍ . وَأَضَافَ الضُّحَى إِلَى الشَّمْس ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُون بِارْتِفَاعِ الشَّمْس . وَقَالَ قَتَادَة : بَهَاؤُهَا . السُّدِّيّ : حَرّهَا . وَرَوَى الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس : " وَضُحَاهَا " قَالَ : جَعَلَ فِيهَا الضَّوْء وَجَعَلَهَا حَارَّة . وَقَالَ الْيَزِيدِيّ : هُوَ اِنْبِسَاطهَا . وَقِيلَ : مَا ظَهَرَ بِهَا مِنْ كُلّ مَخْلُوق فَيَكُون الْقَسَم بِهَا وَبِمَخْلُوقَاتِ الْأَرْض كُلّهَا . حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ وَالضُّحَا : مُؤَنَّثَة . يُقَال : اِرْتَفَعَتْ الضُّحَا , وَهِيَ فَوْق الضَّحْو . وَقَدْ تُذَكَّر . فَمَنْ أَنَّثَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا جَمْع ضَحْوَة . وَمَنْ ذَكَّرَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ اِسْم عَلَى فِعْل , نَحْو صُرَد وَنُغَر . وَهُوَ ظَرْف غَيْر مُتَمَكِّن مِثْل سَحَر . تَقُول : لَقِيته ضُحًا وَضُحَا إِذَا أَرَدْت بِهِ ضُحَا يَوْمك لَمْ تُنَوِّنْهُ . وَقَالَ الْفَرَّاء : الضُّحَا هُوَ النَّهَار كَقَوْلِ قَتَادَة . وَالْمَعْرُوف عِنْد الْعَرَب أَنَّ الضُّحَا : النَّهَار كُلّه , فَذَلِكَ لِدَوَامِ نُور الشَّمْس , وَمَنْ قَالَ : إِنَّهُ نُور الشَّمْس أَوْ حَرّهَا , فَنُور الشَّمْس لَا يَكُون إِلَّا مَعَ حَرّ الشَّمْس . وَقَدْ اِسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ : إِنَّ الضُّحَى حَرّ الشَّمْس بِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَلَا تَضْحَى " [ طه : 119 ] أَيْ لَا يُؤْذِيك الْحَرّ . وَقَالَ الْمُبَرِّد : أَصْل الضُّحَا مِنْ الضِّحّ , وَهُوَ نُور الشَّمْس , وَالْأَلِف مَقْلُوبَة مِنْ الْحَاء الثَّانِيَة . تَقُول : " ضَحْوَة وَضَحَوَات , وَضَحَوَات وَضُحَا , فَالْوَاو مِنْ ضَحْوَة مَقْلُوبَة عَنْ الْحَاء الثَّانِيَة , وَالْأَلِف فِي ضُحَا مَقْلُوبَة عَنْ الْوَاو . وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَم : الضِّحّ : نَقِيض الظِّلّ , وَهُوَ نُور الشَّمْس عَلَى وَجْه الْأَرْض , وَأَصْله الضُّحَا فَاسْتَثْقَلُوا الْيَاء مَعَ سُكُون الْحَاء , فَقَلَبُوهَا أَلِفًا .
وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَاسورة الشمس الآية رقم 2
أَيْ تَبِعَهَا : وَذَلِكَ إِذَا سَقَطَتْ رِيءَ الْهِلَال . يُقَال : تَلَوْت فُلَانًا : إِذَا تَبِعْته . قَالَ قَتَادَة : إِنَّمَا ذَلِكَ لَيْلَة الْهِلَال , إِذَا سَقَطَتْ الشَّمْس رِيءَ الْهِلَال . وَقَالَ اِبْن زَيْد : إِذَا غَرَبَتْ الشَّمْس فِي النِّصْف الْأَوَّل مِنْ الشَّهْر , تَلَاهَا الْقَمَر بِالطُّلُوعِ , وَفِي آخِر الشَّهْر يَتْلُوهَا بِالْغُرُوبِ . الْقُرَّاء : " تَلَاهَا " : أَخَذَ مِنْهَا , يَذْهَب إِلَى أَنَّ الْقَمَر يَأْخُذ مِنْ ضَوْء الشَّمْس . وَقَالَ قَوْم : " وَالْقَمَر إِذَا تَلَاهَا " حِين اِسْتَوَى وَاسْتَدَارَ , فَكَانَ مِثْلهَا فِي الضِّيَاء وَالنُّور وَقَالَهُ الزَّجَّاج .
وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَاسورة الشمس الآية رقم 3
أَيْ كَشَفَهَا . فَقَالَ قَوْم : جَلَّى الظُّلْمَة وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْر كَمَا تَقُول : أَضْحَتْ بَارِدَة , تُرِيد أَضْحَتْ غَدَاتُنَا بَارِدَة . وَهَذَا قَوْل الْفَرَّاء وَالْكَلْبِيّ وَغَيْرهمَا . وَقَالَ قَوْم : الضَّمِير فِي " جَلَّاهَا " لِلشَّمْسِ وَالْمَعْنَى : أَنَّهُ يُبَيِّن بِضَوْئِهِ جِرْمهَا . وَمِنْهُ قَوْل قَيْس بْن الْخَطِيم : تَجَلَّتْ لَنَا كَالشَّمْسِ تَحْتَ غَمَامَةً بَدَا حَاجِبٌ مِنْهَا وَضَنَّتْ بِحَاجِبِ وَقِيلَ : جَلَّى مَا فِي الْأَرْض مِنْ حَيَوَانهَا حَتَّى ظَهَرَ , لِاسْتِتَارِهِ لَيْلًا وَانْتِشَاره نَهَارًا . وَقِيلَ : جَلَّى الدُّنْيَا . وَقِيلَ : جَلَّى الْأَرْض وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْر وَمِثْله قَوْله تَعَالَى : " حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ " [ ص : 32 ] عَلَى مَا تَقَدَّمَ آنِفًا .
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَاسورة الشمس الآية رقم 4
أَيْ يَغْشَى الشَّمْس , فَيَذْهَب بِضَوْئِهَا عِنْد سُقُوطهَا قَالَهُ مُجَاهِد وَغَيْره . وَقِيلَ : يَغْشَى الدُّنْيَا بِالظُّلْمِ , فَتُظْلِم الْآفَاق . فَالْكِنَايَة تَرْجِع إِلَى غَيْر مَذْكُور .
وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَاسورة الشمس الآية رقم 5
أَيْ وَبُنْيَانِهَا . فَمَا مَصْدَرِيَّة كَمَا قَالَ : " بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي " [ يس : 27 ] أَيْ بِغُفْرَانِ رَبِّي قَالَهُ قَتَادَة , وَاخْتَارَهُ الْمُبَرِّد . وَقِيلَ : الْمَعْنَى وَمَنْ بَنَاهَا قَالَهُ الْحَسَن وَمُجَاهِد وَهُوَ اِخْتِيَار الطَّبَرِيّ . أَيْ وَمَنْ خَلَقَهَا وَرَفَعَهَا , وَهُوَ اللَّه تَعَالَى . وَحُكِيَ عَنْ أَهْل الْحِجَاز : سُبْحَانَ مَا سَبَّحْت لَهُ أَيْ سُبْحَانَ مَنْ سَبَّحْت لَهُ .
وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَاسورة الشمس الآية رقم 6
أَيْ وَطَحْوِهَا . وَقِيلَ : وَمَنْ طَحَاهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا . أَيْ بَسَطَهَا كَذَا قَالَ عَامَّة الْمُفَسِّرِينَ مِثْل دَحَاهَا . قَالَ الْحَسَن وَمُجَاهِد وَغَيْرهمَا : طَحَاهَا وَدَحَاهَا : وَاحِد أَيْ بَسَطَهَا مِنْ كُلّ جَانِب . وَالطَّحْو : الْبَسْط طَحَا يَطْحُو طَحْوًا , وَطَحَى يَطْحَى طَحْيًا , وَطُحِيَتْ : اِضْطَجَعَتْ عَنْ أَبِي عَمْرو . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس : طَحَاهَا : قَسَمَهَا . وَقِيلَ : خَلَقَهَا قَالَ الشَّاعِر : وَمَا تَدْرِي جَذِيمَة مَنْ طَحَاهَا وَلَا مِنْ سَاكِن الْعَرْش الرَّفِيع الْمَاوَرْدِيّ : وَيَحْتَمِل أَنَّهُ مَا خَرَجَ مِنْهَا مِنْ نَبَات وَعُيُون وَكُنُوز ; لِأَنَّهُ حَيَاة لِمَا خَلَقَ عَلَيْهَا . وَيُقَال فِي بَعْض أَيْمَان الْعَرَب : لَا , وَالْقَمَر الطَّاحِي أَيْ الْمُشْرِف الْمَشْرِق الْمُرْتَفِع . قَالَ أَبُو عَمْرو : طَحَا الرَّجُل : إِذَا ذَهَبَ فِي الْأَرْض . يُقَال : مَا أَدْرِي أَيْنَ طَحَا ! وَيُقَال : طَحَا بِهِ قَلْبه : إِذَا ذَهَبَ بِهِ فِي كُلّ شَيْء . قَالَ عَلْقَمَة : طَحَا بِك قَلْب فِي الْحِسَانِ طَرُوبُ بُعَيْد الشَّبَاب عَصْر حَانَ مَشِيبُ
وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَاسورة الشمس الآية رقم 7
قِيلَ : الْمَعْنَى وَتَسْوِيَتِهَا . " فَمَا " : بِمَعْنَى الْمَصْدَر . وَقِيلَ : الْمَعْنَى وَمَنْ سَوَّاهَا , وَهُوَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ . وَفِي النَّفْس قَوْلَانِ : أَحَدهمَا آدَم . الثَّانِي : كُلّ نَفْس مَنْفُوسَة . وَسَوَّى : بِمَعْنَى هَيَّأَ . وَقَالَ مُجَاهِد : سَوَّاهَا : سَوَّى خَلْقهَا وَعَدَّلَ . وَهَذِهِ الْأَسْمَاء كُلّهَا مَجْرُورَة عَلَى الْقَسَم . أَقْسَمَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِخَلْقِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ عَجَائِب الصَّنْعَة الدَّالَّة عَلَيْهِ .
فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَاسورة الشمس الآية رقم 8
قَوْله تَعَالَى : " فَأَلْهَمَهَا " أَيْ عَرَّفَهَا كَذَا رَوَى اِبْن أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد . أَيْ عَرَّفَهَا طَرِيق الْفُجُور وَالتَّقْوَى وَقَالَهُ اِبْن عَبَّاس . وَعَنْ مُجَاهِد أَيْضًا : عَرَّفَهَا الطَّاعَة وَالْمَعْصِيَة . وَعَنْ مُحَمَّد بْن كَعْب قَالَ : إِذَا أَرَادَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدِهِ خَيْرًا , أَلْهَمَهُ الْخَيْر فَعَمِلَ بِهِ , وَإِذَا أَرَادَ بِهِ السُّوء , أَلْهَمَهُ الشَّرّ فَعَمِلَ بِهِ . وَقَالَ الْفَرَّاء : " فَأَلْهَمَهَا " قَالَ : عَرَّفَهَا طَرِيق الْخَيْر وَطَرِيق الشَّرّ كَمَا قَالَ : " وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ " [ الْبَلَد : 10 ] . وَرَوَى الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : أَلْهَمَ الْمُؤْمِنَ الْمُتَّقِيَ تَقْوَاهُ , وَأَلْهَمَ الْفَاجِر فُجُوره . وَعَنْ سَعِيد عَنْ قَتَادَة قَالَ : بَيَّنَ لَهَا فُجُورهَا وَتَقْوَاهَا . وَالْمَعْنَى مُتَقَارِب . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَرَأَ رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " فَأَلْهَمَهَا فُجُورهَا وَتَقْوَاهَا " قَالَ : [ اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا , وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْر مَنْ زَكَّاهَا , أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا ] . وَرَوَاهُ جُوَيْبِر عَنْ الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس : أَنَّ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَة : " فَأَلْهَمَهَا فُجُورهَا وَتَقْوَاهَا " رَفَعَ صَوْته بِهَا , وَقَالَ : [ اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا , أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا , وَأَنْتَ خَيْر مَنْ زَكَّاهَا ] . وَفِي صَحِيح مُسْلِم , عَنْ أَبِي الْأَسْوَد الدُّؤَلِيّ قَالَ : قَالَ لِي عِمْرَان بْن حُصَيْن : أَرَأَيْت مَا يَعْمَل النَّاس الْيَوْم , وَيَكْدَحُونَ فِيهِ , أَشَيْء قُضِيَ وَمَضَى عَلَيْهِمْ مِنْ قَدَر سَبَقَ , أَوْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيّهمْ , وَثَبَتَتْ الْحُجَّة عَلَيْهِمْ ؟ فَقُلْت : بَلْ شَيْء قُضِيَ عَلَيْهِمْ , وَمَضَى عَلَيْهِمْ . قَالَ فَقَالَ : أَفَلَا يَكُون ظُلْمًا ؟ قَالَ : فَفَزِعْت مِنْ ذَلِكَ فَزَعًا شَدِيدًا , وَقُلْت : كُلّ شَيْء خَلْق اللَّه وَمِلْك يَده , فَلَا يُسْأَل عَمَّا يَفْعَل وَهُمْ يُسْأَلُونَ . فَقَالَ لِي : يَرْحَمُك اللَّه إِنِّي لَمْ أُرِدْ بِمَا سَأَلْتُك إِلَّا لِأَحْزِرَ عَقْلَك , إِنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ مُزَيْنَة أَتَيَا رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَا : يَا رَسُول اللَّه , أَرَأَيْت مَا يَعْمَل النَّاس الْيَوْم وَيَكْدَحُونَ فِيهِ : أَشَيْء قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى فِيهِمْ مِنْ قَدَر قَدْ سَبَقَ , أَوْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ بِهِ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيّهمْ . وَثَبَتَتْ الْحُجَّة عَلَيْهِمْ ؟ فَقَالَ : ( لَا بَلْ شَيْء قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى فِيهِمْ . وَتَصْدِيق ذَلِكَ فِي كِتَاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " وَنَفْس وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورهَا وَتَقْوَاهَا " ) . وَالْفُجُور وَالتَّقْوَى : مَصْدَرَانِ فِي مَوْضِع الْمَفْعُول بِهِ .
قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَاسورة الشمس الآية رقم 9
" قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا " هَذَا جَوَاب الْقَسَم , بِمَعْنَى : لَقَدْ أَفْلَحَ . قَالَ الزَّجَّاج : اللَّام حُذِفَتْ ; لِأَنَّ الْكَلَام طَالَ , فَصَارَ طُوله عِوَضًا مِنْهَا . وَقِيلَ : الْجَوَاب مَحْذُوف أَيْ وَالشَّمْس وَكَذَا وَكَذَا لَتُبْعَثُنَّ . الزَّمَخْشَرِيّ : تَقْدِيره لَيُدَمْدِمَنَّ اللَّه عَلَيْهِمْ أَيْ عَلَى أَهْل مَكَّة , لِتَكْذِيبِهِمْ رَسُولَ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا دَمْدَمَ عَلَى ثَمُود ; لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا صَالِحًا . وَأَمَّا " قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا " فَكَلَام تَابِع لِأَوَّلِهِ لِقَوْلِهِ : " فَأَلْهَمَهَا فُجُورهَا وَتَقْوَاهَا " عَلَى سَبِيل الِاسْتِطْرَاد , وَلَيْسَ مِنْ جَوَاب الْقَسَم فِي شَيْء . وَقِيلَ : هُوَ عَلَى التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير بِغَيْرِ حَذْف وَالْمَعْنَى : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا , وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا , وَالشَّمْس وَضُحَاهَا . " أَفْلَحَ " فَازَ . " مَنْ زَكَّاهَا " أَيْ مَنْ زَكَّى اللَّهُ نَفْسه بِالطَّاعَةِ .
وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَاسورة الشمس الآية رقم 10
أَيْ خَسِرَتْ نَفْسٌ دَسَّهَا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِالْمَعْصِيَةِ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : خَابَتْ نَفْس أَضَلَّهَا وَأَغْوَاهَا . وَقِيلَ : أَفْلَحَ مَنْ زَكَّى نَفْسه بِطَاعَةِ اللَّه , وَصَالِح الْأَعْمَال , وَخَابَ مَنْ دَسَّ نَفْسه فِي الْمَعَاصِي قَالَهُ قَتَادَة وَغَيْره . وَأَصْل الزَّكَاة : النُّمُوّ وَالزِّيَادَة , وَمِنْهُ زَكَا الزَّرْع : إِذَا كَثُرَ رِيعُهُ , وَمِنْهُ تَزْكِيَة الْقَاضِي لِلشَّاهِدِ ; لِأَنَّهُ يَرْفَعهُ بِالتَّعْدِيلِ , وَذِكْر الْجَمِيل . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي أَوَّل سُورَة " الْبَقَرَة " مُسْتَوْفًى . فَمُصْطَنِع الْمَعْرُوف وَالْمُبَادِر إِلَى أَعْمَال الْبِرّ , شَهَرَ نَفْسه وَرَفَعَهَا . وَكَانَتْ أَجْوَاد الْعَرَب تَنْزِلُ الرُّبَا وَارْتِفَاع الْأَرْض , لِيَشْتَهِرَ مَكَانهَا لِلْمُعْتِفِينَ , وَتُوقَد النَّار فِي اللَّيْل لِلطَّارِقِينَ . وَكَانَتْ اللِّئَام تَنْزِل الْأَوْلَاج وَالْأَطْرَاف وَالْأَهْضَام , لِيَخْفَى مَكَانهَا عَنْ الطَّالِبِينَ . فَأُولَئِكَ عَلَّوْا أَنْفُسهمْ وَزَكَّوْهَا , وَهَؤُلَاءِ أَخْفَوْا أَنْفُسهمْ وَدَسُّوهَا . وَكَذَا الْفَاجِر أَبَدًا خَفِيُّ الْمَكَان , زَمِر الْمُرُوءَة غَامِض الشَّخْص , نَاكِس الرَّأْس بِرُكُوبِ الْمَعَاصِي . وَقِيلَ : دَسَّاهَا : أَغْوَاهَا . قَالَ : وَأَنْتَ الَّذِي دَسَّيْتَ عَمْرًا فَأَصْبَحَتْ حَلَائِلُهُ مِنْهُ أَرَامِلَ ضُيَّعَا قَالَ أَهْل اللُّغَة : وَالْأَصْل : دَسَّسَهَا , مِنْ التَّدْسِيس , وَهُوَ إِخْفَاء الشَّيْء , فَأُبْدِلَتْ سِينُهُ يَاء كَمَا يُقَال : قَصَّيْتُ أَظْفَارِي وَأَصْله قَصَّصْتُ أَظْفَارِي . وَمِثْله قَوْلهمْ فِي تَقَضَّضَ : تَقَضَّى . وَقَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيِّ : " وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا " أَيْ دَسَّ نَفْسه فِي جُمْلَة الصَّالِحِينَ وَلَيْسَ مِنْهُمْ .
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَاسورة الشمس الآية رقم 11
أَيْ بِطُغْيَانِهَا , وَهُوَ خُرُوجهَا عَنْ الْحَدّ فِي الْعِصْيَان قَالَهُ مُجَاهِد وَقَتَادَة وَغَيْرهمَا . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس " بِطَغْوَاهَا " أَيْ بِعَذَابِهَا الَّذِي وُعِدَتْ بِهِ . قَالَ : وَكَانَ اِسْم الْعَذَاب الَّذِي جَاءَهَا الطَّغْوَى ; لِأَنَّهُ طَغَى عَلَيْهِمْ . وَقَالَ مُحَمَّد بْن كَعْب : " بِطَغْوَاهَا " بِأَجْمَعِهَا . وَقِيلَ : هُوَ مَصْدَر , وَخَرَجَ عَلَى هَذَا الْمَخْرَج ; لِأَنَّهُ أَشْكَلَ بِرُءُوسِ الْآي . وَقِيلَ : الْأَصْل بِطَغْيَاهَا , إِلَّا أَنَّ " فَعَلَى " إِذَا كَانَتْ مِنْ ذَوَات الْيَاء أُبْدِلَتْ فِي الِاسْم وَاوًا , لِيُفْصَل بَيْن الِاسْم وَالْوَصْف . وَقِرَاءَة الْعَامَّة بِفَتْحِ الطَّاء . وَقَرَأَ الْحَسَن وَالْجَحْدَرِيّ وَحَمَّاد بْن سَلَمَة ( بِضَمِّ الطَّاء ) عَلَى أَنَّهُ مَصْدَر كَالرُّجْعَى وَالْحُسْنَى وَشِبْهِهِمَا فِي الْمَصَادِر . وَقِيلَ : هُمَا لُغَتَانِ .
إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَاسورة الشمس الآية رقم 12
أَيْ نَهَضَ .

لِعَقْرِ النَّاقَة . وَاسْمه قُدَارُ بْن سَالِف . وَقَدْ مَضَى فِي " الْأَعْرَاف " بَيَان هَذَا , وَهَلْ كَانَ وَاحِدًا أَوْ جَمَاعَة . وَفِي الْبُخَارِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن زَمْعَة أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُب , وَذَكَرَ النَّاقَة وَاَلَّذِي عَقَرَهَا , فَقَالَ رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : [ أَتَدْرِي مَنْ أَشْقَى الْأَوَّلِينَ ] قُلْت : اللَّه وَرَسُوله أَعْلَم . قَالَ : [ عَاقِرُ النَّاقَة , قَالَ : أَتَدْرِي مَنْ أَشْقَى الْآخِرِينَ ؟ قُلْت اللَّه وَرَسُوله أَعْلَم . قَالَ : قَاتِلُك ] .
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَاسورة الشمس الآية رقم 13
يَعْنِي صَالِحًا .

" نَاقَةَ " مَنْصُوب عَلَى التَّحْذِير كَقَوْلِك : الْأَسَدَ الْأَسَدَ , وَالصَّبِيَّ الصَّبِيَّ , وَالْحِذَارَ الْحِذَارَ . أَيْ أَحُذِرُوا نَاقَةَ اللَّه أَيْ عَقْرَهَا . وَقِيلَ : ذَرُوا نَاقَة اللَّه , كَمَا قَالَ : " هَذِهِ نَاقَة اللَّه لَكُمْ آيَة فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْض اللَّه وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَاب أَلِيم " . [ الْأَعْرَاف : 73 ] .

أَيْ ذَرُوهَا وَشِرْبَهَا . وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة " الشُّعَرَاء " بَيَانه وَالْحَمْد لِلَّهِ . وَأَيْضًا فِي سُورَة " اِقْتَرَبَتْ السَّاعَة " [ الْقَمَر : 1 ] . فَإِنَّهُمْ لَمَّا اِقْتَرَحُوا النَّاقَة , وَأَخْرَجَهَا لَهُمْ مِنْ الصَّخْرَة , جَعَلَ لَهُمْ شِرْب يَوْم مِنْ بِئْرهمْ , وَلَهَا شِرْب يَوْم مَكَان ذَلِكَ , فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ .
فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَاسورة الشمس الآية رقم 14
أَيْ كَذَّبُوا صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَام فِي قَوْله لَهُمْ : [ إِنَّكُمْ تُعَذَّبُونَ إِنْ عَقَرْتُمُوهَا ] .

أَيْ عَقَرَهَا الْأَشْقَى . وَأُضَيِّف إِلَى الْكُلّ ; لِأَنَّهُمْ رَضُوا بِفِعْلِهِ . وَقَالَ قَتَادَة : ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ لَمْ يَعْقِرْهَا حَتَّى تَابَعَهُ صَغِيرُهُمْ وَكَبِيرُهُمْ , ذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ . وَقَالَ الْفَرَّاء : عَقَرَهَا اِثْنَانِ : وَالْعَرَب تَقُول : هَذَانِ أَفْضَل النَّاس , وَهَذَانِ خَيْر النَّاس , وَهَذِهِ الْمَرْأَة أَشْقَى الْقَوْم فَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ : أَشْقَيَاهَا .

أَيْ أَهْلَكَهُمْ وَأَطْبَقَ عَلَيْهِمْ الْعَذَاب بِذَنْبِهِمْ الَّذِي هُوَ الْكُفْر وَالتَّكْذِيب وَالْعَقْر . وَرَوَى الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : دَمْدَمَ عَلَيْهِمْ قَالَ : دَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَبّهمْ بِذَنْبِهِمْ أَيْ بِجُرْمِهِمْ . وَقَالَ الْفَرَّاء : دَمْدَمَ أَيْ أَرْجَفَ . وَحَقِيقَة الدَّمْدَمَة تَضْعِيف الْعَذَاب وَتَرْدِيده . وَيُقَال : دَمَمْت عَلَى الشَّيْء أَيْ أَطْبَقْت عَلَيْهِ , وَدَمَمَ عَلَيْهِ الْقَبْر : أَطْبَقَهُ . وَنَاقَة مَدُومَة : أَلْبَسَهَا الشَّحْم . فَإِذَا كَرَّرْت الْإِطْبَاق قُلْت : دَمْدَمْت . وَالدَّمْدَمَة : إِهْلَاك بِاسْتِئْصَالِ قَالَهُ الْمُؤَرِّج . وَفِي الصِّحَاح : وَدَمْدَمْت الشَّيْء : إِذَا أَلْزَقْتُهُ بِالْأَرْضِ وَطَحْطَحْته . وَدَمْدَمَ اللَّه عَلَيْهِمْ : أَيْ أَهْلَكَهُمْ . الْقُشَيْرِيّ : وَقِيلَ دَمْدَمْت عَلَى الْمَيِّت التُّرَاب : أَيْ سَوَّيْت عَلَيْهِ . فَقَوْله : " فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ " أَيْ أَهْلَكَهُمْ , فَجَعَلَهُمْ تَحْت التُّرَاب . وَقَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ : دَمْدَمَ أَيْ غَضِبَ . وَالدَّمْدَمَة : الْكَلَام الَّذِي يُزْعِج الرَّجُل . وَقَالَ بَعْض اللُّغَوِيِّينَ : الدَّمْدَمَة : الْإِدَامَة تَقُول الْعَرَب : نَاقَة مُدَمْدَمَة أَيْ سَمِينَة .

أَيْ سَوَّى عَلَيْهِمْ الْأَرْض . وَعَلَى الْأَوَّل " فَسَوَّاهَا " أَيْ فَسَوَّى الدَّمْدَمَة وَالْإِهْلَاك عَلَيْهِمْ . وَذَلِكَ أَنَّ الصَّيْحَة أَهْلَكَتْهُمْ , فَأَتَتْ عَلَى صَغِيرهمْ وَكَبِيرهمْ . وَقِيلَ : " فَسَوَّاهَا " أَيْ فَسَوَّى الْأُمَّة فِي إِنْزَال الْعَذَاب بِهِمْ , صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ , وَضِيعِهِمْ وَشَرِيفِهِمْ , وَذَكَرِهِمْ وَأُنْثَاهُمْ . وَقَرَأَ اِبْن الزُّبَيْر " فَدَهْدَمَ " وَهُمَا , لُغَتَانِ كَمَا يُقَال : اِمْتَقَعَ لَوْنه وَانْتَقَعَ .
وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَاسورة الشمس الآية رقم 15
أَيْ فَعَلَ اللَّه ذَلِكَ بِهِمْ غَيْرَ خَائِف أَنْ تَلْحَقَهُ تَبِعَة الدَّمْدَمَة مِنْ أَحَد قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَالْحَسَن وَقَتَادَة وَمُجَاهِد . وَالْهَاء فِي " عُقْبَاهَا " تَرْجِع إِلَى الْفِعْلَة كَقَوْلِهِ : ( مَنْ اِغْتَسَلَ يَوْم الْجُمْعَة فَبِهَا وَنِعْمَتْ ) أَيْ بِالْفِعْلَةِ وَالْخَصْلَة . قَالَ السُّدِّيّ وَالضَّحَّاك وَالْكَلْبِيّ : تَرْجِع إِلَى الْعَاقِر أَيْ لَمْ يَخَفْ الَّذِي عَقَرَهَا عُقْبَى مَا صَنَعَ . وَقَالَهُ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا . وَفِي الْكَلَام تَقْدِيم وَتَأْخِير , مَجَازه : إِذْ اِنْبَعَثَ أَشْقَاهَا وَلَا يَخَاف عُقْبَاهَا . وَقِيلَ : لَا يَخَاف رَسُول اللَّه صَالِح عَاقِبَة إِهْلَاك قَوْمه , وَلَا يَخْشَى ضَرَرًا يَعُود عَلَيْهِ مِنْ عَذَابهمْ ; لِأَنَّهُ قَدْ أَنْذَرَهُمْ , وَنَجَّاهُ اللَّه تَعَالَى حِين أَهْلَكَهُمْ . وَقَرَأَ نَافِع وَابْن عَامِر " فَلَا " بِالْفَاءِ , وَهُوَ الْأَجْوَد ; لِأَنَّهُ يَرْجِع إِلَى الْمَعْنَى الْأَوَّل أَيْ فَلَا يَخَاف اللَّه عَاقِبَة إِهْلَاكهمْ . وَالْبَاقُونَ بِالْوَاوِ , وَهِيَ أَشْبَهُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي أَيْ وَلَا يَخَاف الْكَافِر عَاقِبَة مَا صَنَعَ . وَرَوَى اِبْن وَهْب وَابْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك قَالَا : أَخْرَجَ إِلَيْنَا مَالِك مُصْحَفًا لِجَدِّهِ , وَزَعَمَ أَنَّهُ كَتَبَهُ فِي أَيَّام عُثْمَان بْن عَفَّان حِين كَتَبَ الْمَصَاحِف , وَفِيهِ : " وَلَا يَخَاف " بِالْوَاوِ . وَكَذَا هِيَ فِي مَصَاحِف أَهْل مَكَّة وَالْعِرَاقِيِّينَ بِالْوَاوِ , وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْد وَأَبُو حَاتِم , اِتِّبَاعًا لِمُصْحَفِهِمْ .