تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّسورة المسد الآية رقم 1
فِيهِ ثَلَاث مَسَائِل : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَب " فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرهمَا وَاللَّفْظ لِمُسْلِمٍ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ " وَأَنْذِرْ عَشِيرَتك الْأَقْرَبِينَ " [ الشُّعَرَاء : 214 ] وَرَهْطك مِنْهُمْ الْمُخْلِصِينَ , خَرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا , فَهَتَفَ : يَا صَبَاحَاهُ ! فَقَالُوا : مَنْ هَذَا الَّذِي يَهْتِف ؟ قَالُوا مُحَمَّد . فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ . فَقَالَ : [ يَا بَنِي فُلَان , يَا بَنِي فُلَان , يَا بَنِي فُلَان , يَا بَنِي عَبْد مَنَاف , يَا بَنِي عَبْد الْمُطَّلِب ] فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ . فَقَالَ : [ أَرَأَيْتُكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا تَخْرُج بِسَفْحِ هَذَا الْجَبَل أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ ] ؟ قَالُوا : مَا جَرَّبْنَا عَلَيْك كَذِبًا . قَالَ : [ فَإِنِّي نَذِير لَكُمْ بَيْن يَدَيَّ عَذَاب شَدِيد ] . فَقَالَ أَبُو لَهَب : تَبًّا لَك , أَمَا جَمَعْتنَا إِلَّا لِهَذَا ! ثُمَّ قَامَ , فَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَة : " تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَب وَقَدْ تَبَّ " كَذَا قَرَأَ الْأَعْمَش إِلَى آخِر السُّورَة . زَادَ الْحُمَيْدِيّ وَغَيْره : فَلَمَّا سَمِعَتْ اِمْرَأَته مَا نَزَلَ فِي زَوْجهَا وَفِيهَا مِنْ الْقُرْآن , أَتَتْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِس فِي الْمَسْجِد عِنْد الْكَعْبَة , وَمَعَهُ أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ , وَفِي يَدهَا فِهْر مِنْ حِجَارَة , فَلَمَّا وَقَفَتْ عَلَيْهِ أَخَذَ اللَّه بَصَرهَا عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَلَا تَرَى إِلَّا أَبَا بَكْر . فَقَالَتْ : يَا أَبَا بَكْر , إِنَّ صَاحِبك قَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ يَهْجُونِي , وَاَللَّه لَوْ وَجَدْته لَضَرَبْت بِهَذَا الْفِهْر فَاهُ , وَاَللَّه إِنِّي لَشَاعِرَة : مُذَمَّمًا عَصَيْنَا وَأَمْره أَبَيْنَا وَدِينه قَلَيْنَا ثُمَّ اِنْصَرَفَتْ . فَقَالَ أَبُو بَكْر : يَا رَسُول اللَّه , أَمَا تَرَاهَا رَأَتْك ؟ قَالَ : [ مَا رَأَتْنِي , لَقَدْ أَخَذَ اللَّه بَصَرهَا عَنِّي ] . وَكَانَتْ قُرَيْش إِنَّمَا تُسَمِّي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُذَمَّمًا ; يَسُبُّونَهُ , وَكَانَ يَقُول : [ أَلَا تَعْجَبُونَ لِمَا صَرَفَ اللَّه عَنِّي مِنْ أَذَى قُرَيْش , يَسُبُّونَ وَيَهْجُونَ مُذَمَّمًا وَأَنَا مُحَمَّد ] . وَقِيلَ : إِنَّ سَبَب نُزُولهَا مَا حَكَاهُ عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد أَنَّ أَبَا لَهَب أَتَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَاذَا أَعْطَى إِنْ آمَنْت بِك يَا مُحَمَّد ؟ فَقَالَ : [ كَمَا يُعْطَى الْمُسْلِمُونَ ] قَالَ مَا لِي عَلَيْهِمْ فَضْل ؟ . قَالَ : [ وَأَيّ شَيْء تَبْغِي ] ؟ قَالَ : تَبًّا لِهَذَا مِنْ دِين , أَنْ أَكُون أَنَا وَهَؤُلَاءِ سَوَاء ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى فِيهِ . " تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَب وَتَبَّ " . وَقَوْل ثَالِث حَكَاهُ عَبْد الرَّحْمَن بْن كَيْسَان قَالَ : كَانَ إِذَا وَفَدَ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ اِنْطَلَقَ إِلَيْهِمْ أَبُو لَهَب فَيَسْأَلُونَهُ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُونَ لَهُ : أَنْتَ أَعْلَم بِهِ مِنَّا . فَيَقُول لَهُمْ أَبُو لَهَب : إِنَّهُ كَذَّاب سَاحِر . فَيَرْجِعُونَ عَنْهُ وَلَا يَلْقَوْنَهُ . فَأَتَى وَفْد , فَفَعَلَ مَعَهُمْ مِثْل ذَلِكَ , فَقَالُوا : لَا نَنْصَرِف حَتَّى نَرَاهُ , وَنَسْمَع كَلَامه . فَقَالَ لَهُمْ أَبُو لَهَب : إِنَّا لَمْ نَزَلْ نُعَالِجهُ فَتَبًّا لَهُ وَتَعْسًا . فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاكْتَأَبَ لِذَلِكَ ; فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَب " ... السُّورَة . وَقِيلَ : إِنَّ أَبَا لَهَب أَرَادَ أَنْ يَرْمِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَجَرٍ , فَمَنَعَهُ اللَّه مِنْ ذَلِكَ , وَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : " تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَب وَتَبَّ " لِلْمَنْع الَّذِي وَقَعَ بِهِ . وَمَعْنَى " تَبَّتْ " : خَسِرَتْ ; قَالَ قَتَادَة . وَقِيلَ : خَابَتْ ; قَالَ اِبْن عَبَّاس . وَقِيلَ : ضَلَّتْ ; قَالَهُ عَطَاء . وَقِيلَ : هَلَكَتْ ; قَالَهُ اِبْن جُبَيْر . وَقَالَ يَمَان بْن رِئَاب : صَفِرَتْ مِنْ كُلّ خَبَر . حَكَى الْأَصْمَعِيّ عَنْ أَبِي عَمْرو بْن الْعَلَاء أَنَّهُ لَمَّا قُتِلَ عُثْمَان رَحِمَهُ اللَّه سَمِعَ النَّاس هَاتِفًا يَقُول : لَقَدْ خَلَّوْك وَانْصَرَفُوا فَمَا أَبَوْا وَلَا رَجَعُوا وَلَمْ يُوفُوا بِنَذْرِهِمْ فَيَا تَبًّا لِمَا صَنَعُوا وَخَصَّ الْيَدَيْنِ بِالتَّبَابِ , لِأَنَّ الْعَمَل أَكْثَر مَا يَكُون بِهِمَا ; أَيْ خَسِرَتَا وَخَسِرَ هُوَ . وَقِيلَ : الْمُرَاد بِالْيَدَيْنِ نَفْسه . وَقَدْ يُعَبَّر عَنْ النَّفْس بِالْيَدِ , كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى : " بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاك " [ الْحَجّ : 10 ] . أَيْ نَفْسك . وَهَذَا مَهْيَع كَلَام الْعَرَب ; تُعَبِّر بِبَعْضِ الشَّيْء عَنْ كُلّه ; تَقُول : أَصَابَتْهُ يَد الدَّهْر , وَيَد الرَّزَايَا وَالْمَنَايَا ; أَيْ أَصَابَهُ كُلّ ذَلِكَ . قَالَ الشَّاعِر : لَمَّا أَكَبَّتْ يَد الرَّزَايَا عَلَيْهِ نَادَى أَلَا مُجِير " وَتَبَّ " قَالَ الْفَرَّاء : التَّبّ الْأَوَّل : دُعَاء وَالثَّانِي خَبَر ; كَمَا يُقَال : أَهْلَكَهُ اللَّه وَقَدْ هَلَكَ . وَفِي قِرَاءَة عَبْد اللَّه وَأُبَيّ " وَقَدْ تَبَّ " وَأَبُو لَهَب اِسْمه عَبْد الْعُزَّى , وَهُوَ اِبْن عَبْد الْمُطَّلِب عَمّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَامْرَأَته الْعَوْرَاء أُمّ جَمِيل , أُخْت أَبِي سُفْيَان بْن حَرْب , وَكِلَاهُمَا , كَانَ شَدِيد الْعَدَاوَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ طَارِق بْن عَبْد اللَّه الْمُحَارِبِيّ : إِنِّي بِسُوقِ ذِي الْمَجَاز , إِذْ أَنَا بِإِنْسَانٍ يَقُول : [ يَأَيُّهَا النَّاس , قُولُوا لَا إِلَه إِلَّا اللَّه تُفْلِحُوا ] , وَإِذَا رَجُل خَلْفه يَرْمِيه , قَدْ أَدْمَى سَاقَيْهِ وَعُرْقُوبَيْهِ وَيَقُول : يَأَيُّهَا النَّاس , إِنَّهُ كَذَّاب فَلَا تُصَدِّقُوهُ . فَقُلْت مَنْ هَذَا ؟ فَقَالُوا : مُحَمَّد , زَعَمَ أَنَّهُ نَبِيّ . وَهَذَا عَمّه أَبُو لَهَب يَزْعُم أَنَّهُ كَذَّاب . وَرَوَى عَطَاء عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : قَالَ أَبُو لَهَب : سَحَرَكُمْ مُحَمَّد إِنَّ أَحَدنَا لَيَأْكُل الْجَذَعَة , وَيَشْرَب الْعُسّ مِنْ اللَّبَن فَلَا يَشْبَع , وَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ أَشْبَعَكُمْ مِنْ فَخِذ شَاة , وَأَرْوَاكُمْ مِنْ عُسّ لَبَن .

الثَّانِيَة : قَوْله تَعَالَى : " أَبِي لَهَب " قِيلَ : سُمِّيَ بِاللَّهَبِ لِحُسْنِهِ , وَإِشْرَاق وَجْهه . وَقَدْ ظَنَّ قَوْم أَنَّ فِي هَذَا دَلِيلًا عَلَى تَكْنِيَة الْمُشْرِك ; وَهُوَ بَاطِل , وَإِنَّمَا كَنَّاهُ اللَّه بِأَبِي لَهَب - عِنْد الْعُلَمَاء - لِمَعَانٍ أَرْبَعَة : الْأَوَّل : أَنَّهُ كَانَ اِسْمه عَبْد الْعُزَّى , وَالْعُزَّى : صَنَم , وَلَمْ يُضِفْ اللَّه فِي كِتَابه الْعُبُودِيَّة إِلَى صَنَم . الثَّانِي : أَنَّهُ كَانَ بِكُنْيَتِهِ أَشْهَر مِنْهُ بِاسْمِهِ ; فَصَرَّحَ بِهَا . الثَّالِث : أَنَّ الِاسْم أَشْرَف مِنْ الْكُنْيَة , فَحَطَّهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَنْ الْأَشْرَف إِلَى الْأَنْقَص ; إِذَا لَمْ يَكُنْ بُدّ مِنْ الْإِخْبَار عَنْهُ , وَلِذَلِكَ دَعَا اللَّه تَعَالَى الْأَنْبِيَاء بِأَسْمَائِهِمْ , وَلَمْ يَكُنْ عَنْ أَحَد مِنْهُمْ . وَيَدُلّك عَلَى شَرَف الِاسْم عَلَى الْكُنْيَة : أَنَّ اللَّه تَعَالَى يُسَمَّى وَلَا يُكَنَّى , وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِظُهُورِهِ وَبَيَانه ; وَاسْتِحَالَة نِسْبَة الْكُنْيَة إِلَيْهِ , لِتَقَدُّسِهِ عَنْهَا . الرَّابِع - أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يُحَقِّق نِسْبَته , بِأَنْ يُدْخِلهُ النَّار , فَيَكُون أَبًا لَهَا , تَحْقِيقًا لِلنَّسَبِ , وَإِمْضَاء لِلْفَأْلِ وَالطِّيَرَة الَّتِي اِخْتَارَهَا لِنَفْسِهِ . وَقَدْ قِيلَ : اِسْمه كُنْيَته . فَكَانَ أَهْله يُسَمُّونَهُ أَبَا لَهَب , لِتَلَهُّبِ وَجْهه وَحُسْنه ; فَصَرَفَهُمْ اللَّه عَنْ أَنْ يَقُولُوا : أَبُو النُّور , وَأَبُو الضِّيَاء , الَّذِي هُوَ الْمُشْتَرَك بَيْن الْمَحْبُوب وَالْمَكْرُوه , وَأَجْرَى عَلَى أَلْسِنَتهمْ أَنْ يُضِيفُوهُ إِلَى لَهَب الَّذِي هُوَ مَخْصُوص بِالْمَكْرُوهِ الْمَذْمُوم , وَهُوَ النَّار . ثُمَّ حُقِّقَ ذَلِكَ بِأَنْ يَجْعَلهَا مَقَرّه . وَقَرَأَ مُجَاهِد وَحُمَيْد وَابْن كَثِير وَابْن مُحَيْصِن . " أَبِي لَهْب " بِإِسْكَانِ الْهَاء . وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي " ذَات لَهَب " إِنَّهَا مَفْتُوحَة ; لِأَنَّهُمْ رَاعُوا فِيهَا رُءُوس الْآي .

الثَّالِثَة : قَالَ اِبْن عَبَّاس : لَمَّا خَلَقَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ الْقَلَم قَالَ لَهُ : اُكْتُبْ مَا هُوَ كَائِن , وَكَانَ فِيمَا كَتَبَ " تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَب " . وَقَالَ مَنْصُور : سُئِلَ الْحَسَن عَنْ قَوْله تَعَالَى : " تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَب " . هَلْ كَانَ فِي أُمّ الْكِتَاب ؟ وَهَلْ كَانَ أَبُو لَهَب يَسْتَطِيع أَلَّا يَصْلَى النَّار ؟ فَقَالَ : وَاَللَّه مَا كَانَ يَسْتَطِيع أَلَّا يَصْلَاهَا , وَإِنَّهَا لَفِي كِتَاب اللَّه مِنْ قَبْل أَنْ يُخْلَق أَبُو لَهَب وَأَبَوَاهُ . وَيُؤَيِّدهُ قَوْل مُوسَى لِآدَم : ( أَنْتَ الَّذِي خَلَقَك اللَّه بِيَدِهِ , وَنَفَخَ فِيك مِنْ رُوحه , وَأَسْكَنَك جَنَّته , وَأَسْجَدَ لَك مَلَائِكَته , خَيَّبْت النَّاس , وَأَخْرَجْتهمْ مِنْ الْجَنَّة . قَالَ آدَم : وَأَنْتَ مُوسَى الَّذِي اِصْطَفَاك بِكَلَامِهِ , وَأَعْطَاك التَّوْرَاة , تَلُومنِي عَلَى أَمْر كَتَبَهُ اللَّه عَلَيَّ قَبْل أَنْ يَخْلُق اللَّه السَّمَوَات وَالْأَرْض . قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَحَجَّ آدَم مُوسَى ) . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا . وَفِي حَدِيث هَمَّام عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ آدَم قَالَ لِمُوسَى : ( بِكُمْ وَجَدْت اللَّه كَتَبَ التَّوْرَاة قَبْل أَنْ يَخْلُقنِي ) ؟ قَالَ : بِأَلْفَيْ عَام قَالَ : فَهَلْ وَجَدْت فِيهَا : " وَعَصَى آدَم رَبّه فَغَوَى " قَالَ : نَعَمْ قَالَ : أَفَتَلُومنِي عَلَى أَمْر وَكَتَبَ اللَّه عَلَيَّ أَنْ أَفْعَلهُ مِنْ قَبْل أَنْ أُخْلَق بِأَلْفَيْ عَام . فَحَجَّ آدَم مُوسَى ) . وَفِي حَدِيث طَاوُس وَابْن هُرْمُز وَالْأَعْرَج عَنْ أَبِي هُرَيْرَة : [ بِأَرْبَعِينَ عَامًا ] .
مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَسورة المسد الآية رقم 2
أَيْ مَا دَفَعَ عَنْهُ عَذَاب اللَّه مَا جَمَعَ مِنْ الْمَال , وَلَا مَا كَسَبَ مِنْ جَاه . وَقَالَ مُجَاهِد : مِنْ الْوَلَد ; وَوَلَد الرَّجُل مِنْ كَسْبه . وَقَرَأَ الْأَعْمَش " وَمَا اِكْتَسَبَ " وَرَوَاهُ عَنْ اِبْن مَسْعُود . وَقَالَ أَبُو الطُّفَيْل : جَاءَ بَنُو أَبِي لَهَب يَخْتَصِمُونَ عِنْد اِبْن عَبَّاس , فَاقْتَتَلُوا , فَقَامَ لِيَحْجِز بَيْنهمْ , فَدَفَعَهُ بَعْضهمْ , فَوَقَعَ عَلَى الْفِرَاش , فَغَضِبَ اِبْن عَبَّاس وَقَالَ : أَخْرِجُوا عَنِّي الْكَسْب الْخَبِيث ; يَعْنِي وَلَده . وَعَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : [ إِنَّ أَطْيَب مَا أَكَلَ الرَّجُل مِنْ كَسْبه , وَإِنَّ وَلَده مِنْ كَسْبه ] . خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : لَمَّا أَنْذَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشِيرَته بِالنَّارِ , قَالَ أَبُو لَهَب : إِنْ كَانَ مَا يَقُول اِبْن أَخِي حَقًّا فَإِنِّي أَفْدِي نَفْسِي بِمَالِي وَوَلَدِي ; فَنَزَلَ : " مَا أَغْنَى عَنْهُ مَاله وَمَا كَسَبَ " . و " مَا " فِي قَوْله : " مَا أَغْنَى " : يَجُوز أَنْ تَكُون نَفْيًا , وَيَجُوز أَنْ تَكُون اِسْتِفْهَامًا ; أَيْ أَيّ شَيْء أَغْنَى عَنْهُ ؟ و " مَا " الثَّانِيَة : يَجُوز أَنْ تَكُون بِمَعْنَى الَّذِي , وَيَجُوز أَنْ تَكُون مَعَ الْفِعْل مَصْدَرًا ; أَيْ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَاله وَكَسْبه .
سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍسورة المسد الآية رقم 3
أَيْ ذَات اِشْتِعَال وَتَلَهُّب . وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة " الْمُرْسَلَات " الْقَوْل فِيهِ . وَقِرَاءَة الْعَامَّة : " سَيَصْلَى " بِفَتْحِ الْيَاء . وَقَرَأَ أَبُو رَجَاء وَالْأَعْمَش : بِضَمِّ الْيَاء . وَرَوَاهَا مَحْبُوب عَنْ إِسْمَاعِيل عَنْ اِبْن كَثِير , وَحُسَيْن عَنْ أَبِي بَكْر عَنْ عَاصِم , وَرُوِيَتْ عَنْ الْحَسَن . وَقَرَأَ أَشْهَب الْعُقَيْلِيّ وَأَبُو سَمَّال الْعَدَوِيّ وَمُحَمَّد بْن السَّمَيْقَع " سَيُصَلَّى " بِضَمِّ الْيَاء , وَفَتْح الصَّاد , وَتَشْدِيد اللَّام ; وَمَعْنَاهَا سَيُصْلِيهِ اللَّه ; مِنْ قَوْله : " وَتَصْلِيَة جَحِيم " [ الْوَاقِعَة : 94 ] . وَالثَّانِيَة مِنْ الْإِصْلَاء ; أَيْ يُصْلِيه اللَّه ; مِنْ قَوْله : " فَسَوْفَ نُصْلِيه نَارًا " [ النِّسَاء : 30 ] . وَالْأُولَى هِيَ الِاخْتِيَار ; لِإِجْمَاع النَّاس عَلَيْهَا ; وَهِيَ مِنْ قَوْله : " إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيم " [ الصَّافَّات : 163 ] .
وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِسورة المسد الآية رقم 4
قَوْله تَعَالَى : " وَامْرَأَته " أُمّ جَمِيل . وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : الْعَوْرَاء أُمّ قَبِيح , وَكَانَتْ عَوْرَاء . " حَمَّالَة الْحَطَب " قَالَ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَقَتَادَة وَالسُّدِّيّ : كَانَتْ تَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ بَيْن النَّاس ; تَقُول الْعَرَب : فُلَان يَحْطِب عَلَى فُلَان : إِذَا وَرَّشَ عَلَيْهِ . قَالَ الشَّاعِر : إِنَّ بَنِي الْأَدْرَم حَمَّالُو الْحَطَبْ هُمُ الْوُشَاة فِي الرِّضَا وَفِي الْغَضَبْ عَلَيْهِمْ اللَّعْنَة تَتْرَى وَالْحَرَب وَقَالَ آخَر : مِنْ الْبِيض لَمْ تُصْطَدْ عَلَى ظَهْر لِأُمَّةٍ وَلَمْ تَمْشِ بَيْن الْحَيّ بِالْحَطَبِ الرَّطْب يَعْنِي : لَمْ تَمْشِ بِالنَّمَائِمِ , وَجَعَلَ الْحَطَب رَطْبًا لِيَدُلّ عَلَى التَّدْخِين , الَّذِي هُوَ زِيَادَة فِي الشَّرّ . وَقَالَ أَكْثَم بْن صَيْفِيّ لِبَنِيهِ : إِيَّاكُمْ وَالنَّمِيمَة فَإِنَّهَا نَار مُحْرِقَة , وَإِنَّ النَّمَّام لِيَعْمَل فِي سَاعَة مَا لَا يَعْمَل السَّاحِر فِي شَهْر . أَخَذَهُ بَعْض الشُّعَرَاء فَقَالَ : إِنَّ النَّمِيمَة نَار وَيْك مُحْرِقَة فَقِرَّ عَنْهَا وَجَانِبْ مَنْ تَعَاطَاهَا وَلِذَلِكَ قِيلَ : نَار الْحِقْد لَا تَخْبُو . وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ لَا يَدْخُل الْجَنَّة نَمَّام ] . وَقَالَ : [ ذُو الْوَجْهَيْنِ لَا يَكُون عِنْد اللَّه وَجِيهًا ] . وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام : [ مِنْ شَرّ النَّاس ذُو الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ , وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ ] . وَقَالَ كَعْب الْأَحْبَار : أَصَابَ بَنِي إِسْرَائِيل قَحْط , فَخَرَجَ بِهِمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام ثَلَاث مَرَّات فَلَمْ يَسْتَسْقُوا . فَقَالَ مُوسَى : [ إِلَهِي عِبَادك ] فَأَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ : [ إِنِّي لَا أَسْتَجِيب لَك وَلَا لِمَنْ مَعَك لِأَنَّ فِيهِمْ رَجُلًا نَمَّامًا , قَدْ أَصَرَّ عَلَى النَّمِيمَة ] . فَقَالَ مُوسَى : [ يَا رَبّ مَنْ هُوَ حَتَّى نُخْرِجهُ مِنْ بَيْننَا ] ؟ فَقَالَ : [ يَا مُوسَى أَنْهَاك عَنْ النَّمِيمَة وَأَكُون نَمَّامًا ] قَالَ : فَتَابُوا بِأَجْمَعِهِمْ , فَسُقُوا . وَالنَّمِيمَة مِنْ الْكَبَائِر , لَا خِلَاف فِي ذَلِكَ ; حَتَّى قَالَ الْفُضَيْل بْن عِيَاض : ثَلَاث تَهُدّ الْعَمَل الصَّالِح وَيُفْطِرْنَ الصَّائِم , وَيَنْقُضْنَ الْوُضُوء : الْغِيبَة , وَالنَّمِيمَة , وَالْكَذِب . وَقَالَ عَطَاء بْن السَّائِب : ذَكَرْت لِلشَّعْبِيِّ قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ لَا يَدْخُل الْجَنَّة سَافِك دَم , وَلَا مَشَّاء بِنَمِيمَةٍ , وَلَا تَاجِر يُرْبِي ] فَقُلْت : يَا أَبَا عَمْرو , قَرَنَ النَّمَّام بِالْقَاتِلِ وَآكِل الرِّبَا ؟ فَقَالَ : وَهَلْ تُسْفَك الدِّمَاء , وَتُنْتَهَب الْأَمْوَال , وَتُهَيَّج الْأُمُور الْعِظَام , إِلَّا مِنْ أَجْل النَّمِيمَة . وَقَالَ قَتَادَة وَغَيْره : كَانَتْ تُعَيِّر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَقْرِ . ثُمَّ كَانَتْ مَعَ كَثْرَة مَالهَا تَحْمِل الْحَطَب عَلَى ظَهْرهَا ; لِشِدَّةِ بُخْلهَا , فَعُيِّرَتْ بِالْبُخْلِ . وَقَالَ اِبْن زَيْد وَالضَّحَّاك : كَانَتْ تَحْمِل الْعِضَاه وَالشَّوْك , فَتَطْرَحهُ بِاللَّيْلِ عَلَى طَرِيق النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه ; وَقَالَهُ اِبْن عَبَّاس . قَالَ الرَّبِيع : فَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطَؤُهُ كَمَا يَطَأ الْحَرِير . وَقَالَ مُرَّة الْهَمْدَانِيّ : كَانَتْ أُمّ جَمِيل تَأْتِي كُلّ يَوْم بِإِبَالَةٍ مِنْ الْحَسَك , فَتَطْرَحهَا عَلَى طَرِيق الْمُسْلِمِينَ , فَبَيْنَمَا هِيَ حَامِلَة ذَات يَوْم حُزْمَة أَعْيَتْ , فَقَعَدَتْ عَلَى حَجَر لِتَسْتَرِيحَ , فَجَذَبَهَا الْمَلَك مِنْ خَلْفهَا فَأَهْلَكَهَا . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : حَمَّالَة الْخَطَايَا وَالذُّنُوب ; مِنْ قَوْلهمْ : فُلَان يَحْتَطِب عَلَى ظَهْره ; دَلِيله قَوْله تَعَالَى : " وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارهمْ عَلَى ظُهُورهمْ " [ الْأَنْعَام : 31 ] . وَقِيلَ : الْمَعْنَى حَمَّالَة الْحَطَب فِي النَّار ; وَفِيهِ بُعْد . وَقِرَاءَة الْعَامَّة " حَمَّالَة " بِالرَّفْع , عَلَى أَنْ يَكُون خَبَرًا " وَامْرَأَته " مُبْتَدَأ . وَيَكُون " فِي جِيدهَا حَبْل مِنْ مَسَد " جُمْلَة فِي مَوْضِع الْحَال مِنْ الْمُضْمَر فِي " حَمَّالَة " . أَوْ خَبَرًا ثَانِيًا . أَوْ يَكُون " حَمَّالَة الْحَطَب " نَعْتًا لِامْرَأَتِهِ . وَالْخَبَر " فِي جِيدهَا حَبْل مِنْ مَسَد " ; فَيُوقَف - عَلَى هَذَا - عَلَى " ذَات لَهَب " . وَيَجُوز أَنْ يَكُون " وَامْرَأَته " مَعْطُوفَة عَلَى الْمُضْمَر فِي " سَيَصْلَى " فَلَا يُوقَف عَلَى " ذَات لَهَب " وَيُوقَف عَلَى " وَامْرَأَته " وَتَكُون " حَمَّالَة الْحَطَب " خَبَر اِبْتِدَاء مَحْذُوف . وَقَرَأَ عَاصِم " حَمَّالَة الْحَطَب " بِالنَّصْبِ عَلَى الذَّمّ , كَأَنَّهَا اُشْتُهِرَتْ بِذَلِكَ , فَجَاءَتْ الصِّفَة لِلذَّمِّ لَا لِلتَّخْصِيصِ , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا " [ الْأَحْزَاب : 61 ] . وَقَرَأَ أَبُو قِلَابَةَ " حَامِلَة الْحَطَب " .
فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍسورة المسد الآية رقم 5
قَوْله تَعَالَى : " فِي جِيدهَا " أَيْ عُنُقهَا . وَقَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : وَجِيد كَجِيدِ الرِّيم لَيْسَ بِفَاحِشٍ إِذَا هِيَ نَصَّتْهُ وَلَا بِمُعَطَّلِ " حَبْل مِنْ مَسَد " أَيْ مِنْ لِيف ; قَالَ النَّابِغَة : مَقْذُوفَة بِدَخِيسِ النَّحْض بَازِلُهَا لَهُ صَرِيف صَرِيف الْقَعْو بِالْمَسَدِ وَقَالَ آخَر : يَا مَسَدَ الْخُوصِ تَعَوَّذْ مِنِّي إِنْ كُنْت لَدْنًا لَيِّنًا فَإِنِّي مَا شِئْت مِنْ أَشَمَط مُقْسَئِنَّ وَقَدْ يَكُون مِنْ جُلُود الْإِبِل , أَوْ مِنْ أَوْبَارهَا ; قَالَ الشَّاعِر : وَمَسَدٍ أُمِرَّ مِنْ أَيَانِقِ لَسْنَ بِأَنْيَابٍ وَلَا حَقَائِق وَجَمْع الْجِيد أَجْيَاد , وَالْمَسَد أَمْسَاد . أَبُو عُبَيْدَة : هُوَ حَبْل يَكُون مِنْ صُوف . قَالَ الْحَسَن : هِيَ حِبَال مِنْ شَجَر تَنْبُت بِالْيَمَنِ تُسَمَّى الْمَسَد , وَكَانَتْ تُفْتَل . قَالَ الضَّحَّاك وَغَيْره : هَذَا فِي الدُّنْيَا ; فَكَانَتْ تُعَيِّر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَقْرِ وَهِيَ تَحْتَطِب فِي حَبْل تَجْعَلهُ فِي جِيدهَا مِنْ لِيف , فَخَنَقَهَا اللَّه جَلَّ وَعَزَّ بِهِ فَأَهْلَكَهَا ; وَهُوَ فِي الْآخِرَة حَبْل مِنْ نَار . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس فِي رِوَايَة أَبِي صَالِح : " فِي جِيدهَا حَبْل مِنْ مَسَد " قَالَ : سِلْسِلَة ذَرْعهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا - وَقَالَهُ مُجَاهِد وَعُرْوَة بْن الزُّبَيْر : تَدْخُل مِنْ فِيهَا , وَتَخْرُج مِنْ أَسْفَلهَا , وَيُلْوَى سَائِرهَا عَلَى عُنُقهَا . وَقَالَ قَتَادَة . " حَبْل مِنْ مَسَد " قَالَ : قِلَادَة مِنْ وَدَع . الْوَدَع : خَرَز بِيض تَخْرُج مِنْ الْبَحْر , تَتَفَاوَت فِي الصِّغَر وَالْكِبَر . قَالَ الشَّاعِر : وَالْحِلْم حِلْم صَبِيّ يَمْرِثُ الْوَدَعَهْ وَالْجَمْع : وَدَعَات . الْحَسَن : إِنَّمَا كَانَ خَرَزًا فِي عُنُقهَا . سَعِيد بْن الْمَسِيب : كَانَتْ لَهَا قِلَادَة فَاخِرَة مِنْ جَوْهَر , فَقَالَتْ : وَاللَّات وَالْعُزَّى لَأَنْفَقْتهَا فِي عَدَاوَة مُحَمَّد . وَيَكُون ذَلِكَ عَذَابًا فِي جِيدهَا يَوْم الْقِيَامَة . وَقِيلَ : إِنَّ ذَلِكَ إِشَارَة إِلَى الْخِذْلَان ; يَعْنِي أَنَّهَا مَرْبُوطَة عَنْ الْإِيمَان بِمَا سَبَقَ لَهَا مِنْ الشَّقَاء , كَالْمَرْبُوطِ فِي جِيده بِحَبْلٍ مِنْ مَسَد . وَالْمَسَد : الْفَتْل . يُقَال : مَسَدَ حَبْله يَمْسِدُهُ مَسْدًا ; أَيْ أَجَادَ فَتْله . قَالَ : يَمْسِدُ أَعْلَى لَحْمه وَيَأْرِمُهْ يَقُول : إِنَّ الْبَقْل يُقَوِّي ظَهْر هَذَا الْحِمَار وَيَشُدّهُ . وَدَابَّة مَمْسُودَة الْخَلْق : إِذَا كَانَتْ شَدِيدَة الْأَسْر . قَالَ الشَّاعِر : وَمَسَد أُمِرَّ مِنْ أَيَانِق صُهْب عِتَاق ذَات مُخّ زَاهِق لَسْنَ بِأَنْيَابٍ وَلَا حَقَائِق وَيُرْوَى : وَلَا ضِعَاف مُخّهنَّ زَاهِق قَالَ الْفَرَّاء : هُوَ مَرْفُوع وَالشِّعْر مُكْفَأ . يَقُول : بَلْ مُخّهنَّ مُكْتَنِز ; رَفَعَهُ عَلَى الِابْتِدَاء . قَالَ : وَلَا يَجُوز أَنْ يُرِيد وَلَا ضِعَاف زَاهِق مُخّهنَّ . كَمَا لَا يَجُوز أَنْ تَقُول : مَرَرْت بِرَجُلٍ أَبُوهُ قَائِم ; بِالْخَفْضِ . وَقَالَ غَيْره : الزَّاهِق هُنَا : بِمَعْنَى الذَّاهِب كَأَنَّهُ قَالَ : وَلَا ضِعَاف مُخّهنَّ , ثُمَّ رَدَّ الزَّاهِق عَلَى الضِّعَاف . وَرَجُل مَمْسُود : أَيْ مَجْدُول الْخَلْق . وَجَارِيَة حَسَنَة الْمَسَد وَالْعَصَب وَالْجَدَل وَالْأَرْم ; وَهِيَ مَمْسُودَة وَمَعْصُوبَة وَمَجْدُولَة وَمَأْرُومَة . وَالْمِسَاد , عَلَى فِعَال : لُغَة فِي الْمِسَاب , وَهِيَ نَحِيّ السَّمْن , وَسِقَاء الْعَسَل . قَالَ جَمِيعه الْجَوْهَرِيّ . وَقَدْ اِعْتَرَضَ فَقِيلَ : إِنْ كَانَ ذَلِكَ حَبْلهَا الَّذِي تَحْتَطِب بِهِ , فَكَيْفَ يَبْقَى فِي النَّار ؟ وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَادِر عَلَى تَجْدِيده كُلَّمَا اِحْتَرَقَ . وَالْحُكْم بِبَقَاءِ أَبِي لَهَب وَامْرَأَته فِي النَّار مَشْرُوط بِبَقَائِهِمَا عَلَى الْكُفْر إِلَى الْمُوَافَاة ; فَلَمَّا مَاتَا عَلَى الْكُفْر صَدَقَ الْإِخْبَار عَنْهُمَا . فَفِيهِ مُعْجِزَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَامْرَأَته خَنَقَهَا اللَّه بِحَبْلِهَا , وَأَبُو لَهَب رَمَاهُ اللَّه بِالْعَدَسَةِ بَعْد وَقْعَة بَدْر بِسَبْع لَيَالٍ , بَعْد أَنْ شَجَّتْهُ أُمّ الْفَضْل . وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا قَدَّمَ الْحَيْسُمَان مَكَّة يُخْبِر خَبَر بَدْر ; قَالَ لَهُ أَبُو لَهَب : أَخْبَرَنِي خَبَر النَّاس . قَالَ : نَعَمْ , وَاَللَّه مَا هُوَ إِلَّا أَنْ لَقِينَا الْقَوْم , فَمَنَحْنَاهُمْ أَكْتَافنَا , يَضَعُونَ السِّلَاح مِنَّا حَيْثُ شَاءُوا , وَمَعَ ذَلِكَ مَا لَمَسْت النَّاس . لَقِينَا رِجَالًا بِيضًا عَلَى خَيْل بُلْق , لَا وَاَللَّه مَا تُبْقِي مِنَّا ; يَقُول : مَا تُبْقِي شَيْئًا . قَالَ أَبُو رَافِع : وَكُنْت غُلَامًا لِلْعَبَّاسِ أَنْحِت الْأَقْدَاح فِي صِفَة زَمْزَم , وَعِنْدِي أُمّ الْفَضْل جَالِسَة , وَقَدْ سِرْنَا مَا جَاءَنَا مِنْ الْخَبَر , فَرَفَعْت طُنُب الْحُجْرَة , فَقُلْت : تِلْكَ وَاَللَّه الْمَلَائِكَة . قَالَ : فَرَفَعَ أَبُو لَهَب يَده , فَضَرَبَ وَجْهِي ضَرْبَة مُنْكَرَة , وَثَاوَرْتُهُ , وَكُنْت رَجُلًا ضَعِيفًا , فَاحْتَمَلَنِي , فَضَرَبَ بِي الْأَرْض , وَبَرَكَ عَلَى صَدْرِي يَضْرِبنِي . وَتَقَدَّمَتْ أُمّ الْفَضْل إِلَى عَمُود مِنْ عُمُد الْحُجْرَة , فَتَأْخُذهُ وَتَقُول : اِسْتَضْعَفْته أَنْ غَابَ عَنْهُ سَيِّده ! وَتَضْرِبهُ بِالْعَمُودِ عَلَى رَأْسه فَتَفْلِقهُ شَجَّة مُنْكَرَة . فَقَامَ يَجُرّ رِجْلَيْهِ ذَلِيلًا , وَرَمَاهُ اللَّه بِالْعَدَسَةِ , فَمَاتَ , وَأَقَامَ ثَلَاثَة أَيَّام يُدْفَن حَتَّى أَنْتَنَ ; ثُمَّ إِنَّ وَلَده غَسَّلُوهُ بِالْمَاءِ , قَذْفًا مِنْ بَعِيد , مَخَافَة عَدْوَى الْعَدَسَة . وَكَانَتْ قُرَيْش تَتَّقِيهَا كَمَا يُتَّقَى الطَّاعُون . ثُمَّ اِحْتَمَلُوهُ إِلَى أَعْلَى مَكَّة , فَأَسْنَدُوهُ إِلَى جِدَار , ثُمَّ رَضَمُوا عَلَيْهِ الْحِجَارَة